لقد فرّع علماء الطبّ علمهم إلى فروع وتقسيمات عديدة ، إلاّ أ نّه في علم الطبّ الحديث تنتظم فروع الطبّ الرئيسة إلى:
1 ـ دراسة الجسم البشري.
2 ـ الأمراض وعلاجها.
أمّا الأوّل فيتمّ من طريق علم التشريح Anatomy الذي يعنى بدرس بنية الجسم الأساسية ، وعلم الفيسيولوجيا Physiology الذي يعنى بدراسة وظائف الأعضاء ونشاطاتها ، وعلم التشريح Histology الذي يعنى بدراسة أنسجة الجسم.
وأمّا الثاني فتتمّ دراسته من طريق علم الأمراض أو الباتالوجيا Pathology الذي يبحث في طبيعة الأمراض وأسبابها وتطوّرها ، وأمّا معالجة الأمراض فيلزم أن نلمّ بعلم العقاقير Pharmacology ، وبراعة في الجراحة Surgery.
ومن فروع
علم الطبّ أيضاً طبّ النفس أو الطبّ العقلي وهو يعنى بمعالجة
الاضطرابات
العقلية . وعلم المناعة Immunology وهو يدرس ظواهر المناعة من الأمراض
وأسبابها . وعلم البكتيريا Bacteriology وهو يدرس الجراثيم وعلاقتها بالأمراض ، والطبّ الوقائي Preventive Medicine
وهو يبحث في أساليب الوقاية من الأمراض ، ويحتلّ اليوم
مكاناً بارزاً في الطبّ الحديث ، وقد عرفه الإنسان منذ عهد
بعيد عندما عرف ضرورة عزل المصابين بالأمراض المعدية دفعاً لانتشار هذه
الأمراض ، ولكنّه لم ينشأ بمعناه الدقيق إلاّ في أواخر القرن الثامن عشر
عندما استحدث جَنَر Jenner التقيح . ثمّ خطا خطوات واسعة عندما كشف باستور في أواخر
القرن التاسع عشر دور الجراثيم في الإصابة بمختلف الأمراض ، وفي مطلع
الثلاثينيات من القرن العشرين استحدثت عقاقير السلفا ثمّ المرديات
Antibiotics
فلعبت دوراً كبيراً في معالجة الأمراض والوقاية منها ، وفتح استخدام أشعّة
أكس والموادّ ذات النشاط الإشعاعي في تشخيص الأمراض ( كالسلّ والسرطان )
ومعالجتها آفاقاً جديدة في حقل الطبّ الوقائي[1].
ومن فروع
الطبّ : الطبّ الشرعي ، وهو يعنى بدراسة بعض المشكلات القانونية
والقضائية في مثل إثبات البنوّة والجنون ، وتحديد الإصابات ومدى
خطورتها ، وتشريح الجثث لتعيين أسباب الوفاة الناشئة عن أعمال العنف على
اختلافها . وقد عرف الطبّ الشرعي في أوربا منذ القرن السادس للميلاد ،
وفي عام 1532 م أجاز قانون العقوبات الصادر في عهد الامبراطور شارل الخامس
( شارلمان ) استعانة القضاة بشهادة الأطباء في حالات القتل والجرح
والتسميم والشنق والإجهاض وغيرها . ونشر أوّل كتاب ضخم في الطبّ الشرعي
الأوربي سنة 1602 للطبيب الإيطالي فورتوناتو فيديلي Fortunato
Fedele ، وفي سنة
1808 اُنشئ في جامعة
أدنبرة كرسي خاصّ بتدريس الطبّ الشرعي[2].
وهناك فروع وتشعّبات للطبّ ، منها باعتبار التخصّص في أعضاء الجسد كطبّ الأسنان[3] وطبّ الأسنان الترقيعي[4] وطبّ العيون والقلب وغير ذلك ، ومنها طبّ الأطفال[5] والطبّ البيطري[6] لمعالجة الحيوانات ، والطبّ الجوي[7] ، والطبّ السيكوسوماتي أي الطبّ الجسدي النفسي[8] ، والطبّ الشعبي[9] الذي يكون التداوي فيه بالأعشاب والنباتات ، وطبّ النساء[10] يتعلّق بالجهاز التناسلي وما يختصّ بالنساء.
ثمّ يعدّ علم الطبّ من الصناعات أيضاً ، لأ نّه ( عُرّف الطبّ لغةً : بعلاج الجسم والنفس ، واصطلاحاً : يطلق على معرفة أدواء المرضى ومعالجتهم ، فهو علم لأ نّه دراسة أوّلا ، وفنّ بطريقة ممارسته تبعاً لناموس الارتقاء ، وهو صناعة لأ نّه مورد رزق لمحترفيه )[11].
كما هو فنّ
من الفنون ، ويرى ابن أبي اُصيبعة : أنّ اختراع هذا الفنّ لا يجوز
نسبته
إلى بلد خاصّ أو مملكة معيّنة أو قوم مخصوصين ، إذ من الممكن وجوده عند اُمّة
قد انقرضت ولم يبقَ من آثارها شيء ، ثمّ ظهر عند قوم آخرين ، ثمّ انحطّ
عندهم حتّى نسي ، ثمّ ظهر على أساس هؤلاء لدى غيرهم ، فنسب إليهم
اختراعه أو اكتشافه.
هذا ... وثمّة رأي آخر يقول : إنّ صناعة الطبّ مبدؤها الوحي والإلهام ، وقد قال الشيخ المفيد قدّس الله نفسه الزكيّة:
« الطبّ صحيح والعلم به ثابت ، وطريقه الوحي ، وإنّما أخذه العلماء به عن الأنبياء ، وذلك أ نّه لا طريق إلى علم حقيقة الداء إلاّ بالسمع ، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلاّ بالتوفيق ... »[12].
والظاهر أنّ تأريخ الطبّ يرجع إلى تأريخ الإنسان ، فولد معه ، فإنّه عانى من الداء ووفّق بإلهام من الله إلى كثير من الاُمور التي يمكن أن تعتبر دواء ، وربما كان معظمه من إرشادات الأنبياء (عليهم السلام) ، وبعضه من التجارب أو الصدفة أو الفكر والتأمّل في الأشياء وطبائعها ، وما يتلائم مع طبيعة الإنسان وما بينهما التنافر.
وقد ذكرنا مجمل السير التأريخي لعلم الطبّ المدوّن بالخصوص عند الاُمم السالفة من المصريين والكلدانيين والبابليين والهنود والصينيين والفرس واليونان والرومان ، وعند العرب قبل الإسلام ، فإنّ الطبّ كان ولا يزال يقطع مراحل طفولته وكان العرب في علم الطبّ خاصّة أضعف من سائر الاُمم[13].
إلاّ أ نّه بعد الإسلام ، فقد نشط عند المسلمين الحركة الطبيّة وفاقوا كثير من الاُمم ، فإنّ الإسلام يعتبر العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان ، ويرى الطبّ وظيفة شرعية ، وأحد الواجبات التي لا يمكن التساهل فيها ، وأ نّه من الواجب الكفائي ، فإن لم يتصدّ من به الكفاية والقدرة ، فإنّه يأثم الجميع.
وقد خلّف لنا النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ثروة عظيمة في الطبّ والعلاج تتّسم بالشمولية والعمق والدقّة ، ولا بدّ لنا من دراسة وسيعة وعميقة لتلك الثروة العلمية الهائلة واستخراج الكنوز الرائعة والحقائق الناصعة تنفع البشرية جمعاء ، والإسلام دين الله الحنيف هو العامل الأساسي في تفجير الطاقات المكمونة في النفوس ، وتحقيق الطموحات التي تكمن في الإنسان ، فإنّ الإسلام دين الفطرة التي تتلائم مع العقول الإنسانية والنفوس البشرية.
فعلم الطبّ بعد ظهور الإسلام كان يعتبر في كلّ البلاد الإسلامية شرقها وغربها ، من أرفع العلوم شأناً ، وأسماها مقاماً ، ثمّ كان للمسلمين بحوث قيّمة وعميقة في الطبّ ، وقد طوّروا علمه وفنّ الجراحة إلى أعلى الدرجات[14] . وبقيت أوربا تعتمد على تصانيف المسلمين في الطبّ والجراحة حتّى الأزمنة المتأخّرة ، فإنّ الرازي اكتشف السبيرتو ( الكحول ) وأسيد السولفوريك ، وشرح تشعّبات الأعصاب في الرأس والرقبة بشكل واضح ، واكتشف الطبّ المفصلي ، وعشرات من الخدمات الطبية ، كما جاء في تأريخ الطبّ.
ولقد سبق الرازي في اكتشاف الحركة الدموية هارفي الذي لا يزال الكثيرون يهلّلون ويكبّرون ويهتفون باسمه ، على أ نّه هو مكتشف الدورة الدموية ، وقد سبق بها غيره.
بل الحقيقة
أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) هو أوّل من نبّه إلى حقيقة الدورة
الدموية وشرحها وأوضحها بشكل واف وكامل ، كما أثبته الخليلي في كتابه
« طبّ الإمام
الصادق
(عليه
السلام) »[15].
هذا وعدد الأطباء طيلة فترة الحكم الإسلامي كثير جدّاً لا يمكن حصره ، ولا استطاع مؤلّفو الموسوعات والتراجم حتّى ذكر أسماء أقلّ القليل منهم ...
ويكفي أن نذكر : أ نّهم قد أحصوا أطباء بغداد وحدها في زمن المقتدر بالله من الخلفاء العباسيين سنة 309 وامتحنوهم ، فاُجيز منهم 860 طبيباً ، فأعطوهم الإذن في التطبيب ، سوى من استغنى عن الامتحان لشهرته ، وسوى من كان في خدمة السلطان.
وكان سيف الدولة إذا جلس على المائدة حضر معه أربعة وعشرون طبيباً ، وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين . وكان في خدمة المتوكّل 56 طبيباً.
وكان يخدم في المستشفى العضدي 24 طبيباً من مختلف الاختصاصات ، وحين بنى المعتضد المستشفى أراد أن يكون فيه جماعة من أفاضل الأطباء وأعيانهم ، فأمر أن يحضر له لائحة بأسماء الأطباء المشهورين حينئذ ببغداد وأعمالها ، فكانوا متوافرين على المئة فاختار منهم نحو خمسين[16] ...
ويمكن أن يقال أنّ أوّل مستشفى خصّص لنزول المرضى ومعالجتهم بعد ظهور الإسلام كان مسجد رسول الله في المدينة المنوّرة منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وكان الرسول والصحابة يتفقّدون المرضى النازلين به ، وكان في المسجد خيمة لرفيدة أو كعيبة بنت سعيد تداوي فيها الجرحى[17].
فالإسلام
العظيم دين الله القويم الشامل لكلّ ما فيه سعادة الإنسان وتكامله
في
إنسانيّته وفوزه برضا الله سبحانه ، وذلك بكلّ دقّة وشمول لجميع حقول الحياة
وشؤون الإنسان ومختلف أحواله ، سياسية كانت ، أو ثقافية أو فردية أو
اجتماعية أو غير ذلك ، ولم يغفل عن الإنسان حتّى في مأكله
ومشربه ومشيه وجلوسه وصوته ، وحتّى تقليم أظفاره ، وترجيل شعره في كمّه
وكيفه.
ومن هذا المنطلق اعتبر علم الطبّ من أهمّ العلوم ، وأنّ الطبّ مسؤولية دينية ووظيفة شرعية ، وواجباً كفائياً ، يأثم ويعاقب الكلّ على تركه ، ويسقط عنهم بقيام بعضهم به ، كما جاء ذلك في النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة.
وليس الطبّ وظيفة شرعية ، بل ضرورة اجتماعية وتحتّم إنساني ورسالة أخلاقية ومسؤولية عقلية ، كما على كلّ ذلك الشواهد الكثيرة والواضحة.
ثمّ على الطبيب من يومه الأوّل ، وأيامه الاُولى في كلية الطبّ ، أن يتحلّى أوّلا قبل تعلّمه الطبّ بجميع مواصفات الإنسان المسلم ، الذي يمثّل الإسلام وعياً وعمقاً وخلقاً وسلوكاً ، ويعيش أهداف الإسلام وتعاليمه وقيمه بكلّ جهات وجوده ومختلف شؤون حياته.
فعليه أن يزكّي نفسه ويتحلّى بالأخلاق السامية والصفات الحميدة ، ويتجنّب الرذائل ومساوئ الأخلاق وما يتنافى مع الفطرة السليمة.
هذا ومقصودنا من هذه الرسالة المختصرة أن نشير إلى أهمّ الصفات الحميدة والأخلاق الطيّبة التي على الطبيب الحاذق أن يتحلّى ويتّصف بها ، وذلك من خلال النصوص الإسلامية ، وفي رحاب الإسلام الحنيف ، وجعلتها في مقدّمة وفصول ثلاثة وخاتمة ، ومن الله التوفيق والسداد.
[1] خلاصة مع تصرّف من كتاب موسوعة المورد 6 : 221.
[2] المصدر : 103.
[3] موسوعة المورد 3 : 177.
[4] المصدر 8 : 88 .
[5] المصدر 7 : 220.
[6] 10 : 92.
[7] 1 : 46.
[8] 8 : 92.
[9] 4 : 146.
[10] 5 : 50.
[11] أخلاق الطبيب : 18 ، عن كتاب فلسفة الطبّ للدكتور حسني سبح.
[12] الآداب الطبية في الإسلام : 10 ، عن بحار الأنوار 62 : 75.
[13] المصدر : 26.
[14] المصدر : 48.
[15] الآداب الطبية : 50.
[16] المصدر : 63 ، عن عيون الأنباء : 302.
[17] المصدر : 70.