إنّ من أخلاق الطبيب أن يراعي الشؤون الاقتصادية في حياة مريضه ، فلا يحمّله ما لا طاقة له أو يقع في عسر وحرج ، وإذا كان المريض يعالج بالمأكولات والمشروبات من دون الدواء ، فلا يسرع في إعطاء الدواء ، فإنّ ( الدواء ينقي وينكي ) كما أ نّه يوجب الشفاء ، وربما على أثر مفاعلات كيمياوية يولّد عوارض جانبيّة اُخرى في الجسد ، فعلى الطبيب الحاذق أن يتمهّل في تجويز الدواء ، وإذا اقتضت الضرورة فإنّما يكتفي بمقدارها ، من دون إفراط وتفريط ، وإذا كان المرض يزول بدواء أقلّ قيمة فليكتفي به ، كما أ نّه لو كان يكتفى برفع المرض من خلال الدواء ، فلا يقدم على العملية الجراحية ، ومن يتجاوز هذه الحدود فإنّه يكون ضامناً فيما لو تلف المريض أو نقص منه عضو أو غير ذلك ، كما إنّه يجوز للمريض ما يكفيه من الدواء ، فلا يزيد حتّى يوجب الإسراف والتبذير.
كما لو كانت معالجة المريض تتمّ بدواء طاهر فلا يستعمل النجس والحرام ، فما جعل الله في الحرام من شفاء ، إلاّ عند الضرورة ، فكلّ ما حرّم الله أحلّه الاضطرار ، والمحذورات تباح عند الضرورة ، إلاّ أنّ تشخيص المصاديق وجزئيات الاضطرار ومواردها صعب ومشكل ، لا يقف عليها بالتمام إلاّ الأوحديّ الحاذق.
كما لا يجهّز على موت المريض بتزريق أو حبّة أو غير ذلك ، عندما يحسّ بموته ، تصوّراً منه أ نّه يريحه من الأوجاع والأسقام ، فإنّ ذلك يعدّ قتلا عمداً ، ويوجب القصاص أو الدية ، كما هو مسطور في كتب الفقهاء.
كما لا يستعمل الأدوية أو العمليّة الجراحية لعقم النساء وعدم الإنجاب والحمل ، إلاّ إذا كان هلاك المرأة في ذلك ، لولا ذلك.
كما يحرم عليه إسقاط الجنين ، فإنّه يعدّ من قتل النفس . وعليه الدية حسب تكوّن الجنين من استقرار النطفة في الرحم ، وحتّى ولوج الروح حيث له دية كاملة ، كما عليه الكفّارة الكاملة كما هو مذكور في الكتب الفقهية والقانونية.
كما يحرم عليه تشريح بدن المسلم حتّى في مقام تعليم تلامذته ، بل يجب عليه الدية فيما لو قطع عضواً من الميّت أو أورد جرحاً ، كما قد تقرّر في محلّه.
كما لا يجوز في الشريعة الإسلامية تلقيح نطفة أجنبي في رحم أجنبي.
كما على الطبيب أن يكون متفقّهاً وعارفاً بمسائل الحرام والحلال وما يتعلّق بعلمه ككتاب الأطعمة والأشربة ، فعليه أن يكون ملمّـاً بفقه الطبّ ، كما أ نّه ملتزماً بالأحكام الشرعيّة.
وإذا عجز عن معالجته ويئس من فنّه ، فلا ييأس من روح الله ، فإنّ أزمّة الاُمور طرّاً بيده ، فليدعو الله جلّ جلاله بالشفاء ، ويتوسّل بأنبيائه وأوصيائه وعباده الصالحين ، كما سنذكر تفصيل ذلك في الخاتمة ، إن شاء الله تعالى.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « أنّ نبيّاً من الأنبياء مرض ، فقال : لا أتداوى حتّى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني ، فأوحى الله تعالى إليه : لا أشفيك حتّى تداوى ، فإنّ الشفاء منّي ».
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع المداواة عنكم ، فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره »[1].
وفي الحديث النبويّ الشريف : « تجنّب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم يتحمّل الداء فالدواء »[2].
وعن أبي الحسن (عليه السلام) : « ليس من دواء إلاّ وهو يهيج داء ، وليس شيء في البدن أنفع من إمساك اليد عمّـا يحتاج إليه »[3].
وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « تجنّب الدواء ما احتمل بدنك الداء ، فإذا لم يحتمل الداء فالدواء ».
« من ظفرت صحّته على سقمه فشرب الدواء فقد أعان على نفسه »[4].
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا يتداوى المسلم حتّى يغلب مرضه صحّته »[5].
وقال : « امشِ بدائك ما مشى بك ».
وقال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكلّ داء دواء ، فتداوا وما تداووا بحرام »[6].
عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « المضطرّ لا يشرب الخمر ، فإنّها لا تزيد إلاّ شرّاً ، فلا تشرب منها قطرة »[7].
وعن أبي
جعفر (عليه
السلام) :
« إنّ الله تعالى جعل في الدواء بركة وشفاء وخيراً
كثيراً ».
كتاب المسائل ، بإسناده عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى ، قال : سألته عن الداء هل يصلح بالنبيذ ؟ قال : لا »[8].
وعقد العلاّمة المجلسي في البحار باب حول التداوي بالحرام ، يذكر فيه الآيات و 26 حديثاً فراجع البحار 59 : 79.
قال الله تعالى:
(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنَّما الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحونَ * إنَّما يُريدُ الشَّيْطانُ أنْ يوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ وَالبِغْضاءَ في الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهونَ)[9].
قال رسول الله : تداووا ، فإنّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء . وقال : ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل له شفاء.
عن يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشرب الدواء وربما قتله ، وربما يسلم منه ، وما يسلم أكثر . قال : فقال : أنزل الله الداء وأنزل الشفاء ، وما خلق الله داءً إلاّ جعل له دواء ، فاشرب وسمّ الله تعالى[10].
الكافي ، بسنده عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : الرجل يشرب الدواء ويقطع العرق ، وربما انتفع به وربما قتله . قال : يقطع ويشرب[11].
الدعائم ، عن جعفر
بن محمد (عليهما
السلام) ،
أ نّه سئل عن الرجل يداويه اليهودي
والنصراني .
قال : لا بأس ، إنّما الشفاء بيد الله.
وعن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ، أ نّه سئل عن المرأة تصيبها العلل في جسدها ، أيصلح أن يعالجها الرجل ؟ قال (عليه السلام) : إذا اضطرّت إلى ذلك فلا بأس[12].
ثمّ من الروايات التي تدلّ على عدم شرب الدواء للتجربة ، ما جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ثلاثة لا ينبغي للمرء الحازم أن يقدم عليها : شرب السمّ للتجربة وإن نجا منه ... »[13].
كما لا يصحّ شرب الدواء من دون علّة ، فإنّه غير صالح ، كما ورد في بعض النصوص « عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ثلاثة تعقب مكروهاً ... وشرب الدواء من غير علّة وإن سلم منه ... »[14].
كما على المريض أن لا يسرف في الدواء ، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : « ادفعوا معالجة الأطباء ما اندفع الداء عنكم ، فإنّه بمنزلة البناء قليله يجرّ إلى كثيره »[15].
و « لا يتداوى المسلم حتّى يغلب مرضه على صحّته » ، « شرب الدواء للجسد كالصابون للثوب ينقّيه ، ولكن يخلّقه ».
وممّـا يعين على سرعة العلاج لو عرف المريض منافع دواءه من طبيبه ، بأن يبيّن له ذلك ولو على نحو الإجمال ، كما نجد في رواياتنا عن الرسول الأكرم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، عندما يذكرون الدواء يذكرون منافعه وآثاره ، فإنّ للاعتقاد دور هامّ في تأثير الدواء ودفعه للمرض ، ومن هذا المنطلق نرى الإمام الصادق (عليه السلام)حينما يذكر دواء لوجع الجوف يعترض عليه البعض بأ نّهم فعلوا ذلك ولم ينفعهم ، فيقول غاضباً (عليه السلام) : « إنّما ينفع الله بهذا أهل الإيمان به والتصديق لرسوله ، ولا ينفع به أهل النفاق ، ومن أخذه على غير تصديق منه للرسول »[16].
ويطعم المريض عند اشتهائه طعاماً ، فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) : « فإذا اشتهى الطعام فأطعموه ، فلربما فيه الشفاء ».
وعن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : « لا تكرهوا مرضاكم على الطعام ، فإنّ الله يطعمهم ويسقيهم »[17].
ولا يكلّف المريض المشي ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : « المشي للمريض نكس » . كما يستحبّ للمسافر أن يحمل معه الدواء ، فإنّ لقمان ينصح ولده عند إرادته السفر قائلا : تزوّد معك الأدوية فتنتفع بها أنت ومن معك ».
ثمّ على الإنسان أن يهتمّ بصحّته أوّلا قبل أن يمرض ، فإنّ الوقاية خير من العلاج ، وقد ورد عن النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) : « إنّ في صحّة البدن فرح الملائكة ومرضاة الربّ وتثبيت السنّة » ، وقال : « لا خير في الحياة إلاّ مع الصحّة ».
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّ عامّة هذه الأرواح من المرّة الغالبة أو دم محترق أو بلغم غالب ، فليشتغل الرجل بمراعاة نفسه قبل أن تغلب عليه شيء من هذه الطبائع فيهلكه ».
وما أروع ما جاء في الحديث الشريف : « لا تأكل ما قد عرفت مضرّته ، ولا تؤثر هواك على راحة بدنك »[18].
وهناك المئات بل الاُلوف من الأحاديث الشريفة الدالّة على حفظ الصحّة والوقاية الصحيّة أوّلا ، حتّى الوقاية والمعالجة بالخضار والفواكه واللحوم والبقول والحبوب والأطعمة والألبان ، وذلك بذكر الخصائص والمزايا التي فيها ، والاستيعاب إلى بيان هذا الموضوع والبحث عنه من جميع جوانبه يحتاج إلى خبرات كبيرة ، ومؤلفات عديدة ، ومجلّدات كثيرة ، ووقت طويل للكاتب والباحث والمطالع على حدّ سواء.
وكذلك ما يتعلّق بالنظافة الجسدية كالسواك والخلال والوضوء والغسل ونظافة الثياب ، وأ نّه يذهب الهمّ الذي يورث الهرم والأوجاع ، وكذلك نظافة الدور والأواني والمحيط والبيئة والمجتمع ، وما يتعلّق بالعلاقة الجنسية ، وغير ذلك مـن المبـاحث المهمّـة والمتشـعّبة التي يجمعـها عنوان ( حفظ الصحّة ) للفرد والمجتمع.
وقد اهتمّ الإسلام بكلّ هذه المباحث غاية الاهتمام ، بل يفوق حدّ التصوّر ، حتّى قال الرسول الأكرم : « النظافة من الإيمان » ، وإنّ الإيمان مع صاحبه في الجنّة ، وإنّما يدخل الجنّة من كان سعيداً ، كما في قوله تعالى:
(وَأمَّا الَّذينَ سعدوا فَفي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها)[19].
وهذا يعني أنّ النظافة من علائم سعادة الإنسان في حياته وبعد مماته.
وإنّ الله:
(يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ)[20].
كما إنّه يبغض من عباده القاذورة ... وأنّ الله نظيف ويحبّ النظافة ويحبّ النظيفين ، وعلى المسلم أن يراعي النظافة في كلّ شيء ، في ملبسه ومأكله ومشربه وصلاته وصومه وفي كلّ جوانب حياته العلمية والعملية ، الفردية والاجتماعية ، فيراعي التقوى والنظافة الجسدية والروحية ، فإنّه سبحانه وتعالى يحبّ المتّقين ويحبّ المتطهّرين ، ومن ثمّ لا يبتلى بالداء حتّى يحتاج إلى الدواء.
فالنظافة بالمعنى الأعمّ والأخصّ أصل مهمّ في حياة المسلمين.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« إنّ الله طيّب يحبّ الطيب ، نظيف يحبّ النظافة ».
« بئس العبد القاذورة ».
عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال:
« أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا شعثاً شعر رأسه ، وسخة ثيابه ، سيّئة حاله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من الدين المتعة وإظهار النعمة ».
« لا تبيّتوا القمامة في بيوتكم ، وأخرجوها نهاراً ، فإنّها مقعد الشيطان ».
« تنظّفوا بكلّ ما استطعتم ، فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ، ولن يدخل الجنّة إلاّ كلّ نظيف ».
« إنّ الإسلام نظيف فتنظّفوا ، فإنّه لا يدخل الجنّة إلاّ نظيف ».
« من اتّخذ ثوباً فلينظّفه ».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« تنظّفوا بالماء من النتن الريح الذي يتأذّى به ، تعهّدوا أنفسكم ، فإنّ الله عزّ وجلّ يبغض من عباده القاذورة الذي يتأنّف به من جلس إليه ».
« نظّفوا بيوتكم من حوك العنكبوت ، فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر ».
« النظيف من الثياب يذهب الهمّ والحزن ، وهو طهور للصلاة ».
قال الإمام الباقر (عليه السلام):
« كنس البيوت ينفي الفقر ».
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
« غسل الإناء وكنس الفناء مجلبة للرزق ».
قال الإمام الرضا (عليه السلام):
« من أخلاق الأنبياء التنظّف »[21].
[1] علل الشرائع 2 : 151.
[2] مكارم الأخلاق : 148.
[3] روضة الكافي : 273.
[4] طبّ الأئمة : 61.
[5] البحار 59 : 65.
[6] طبّ الأئمة : 62.
[7] علل الشرائع 2 : 164.
[8] البحار 59 : 83 .
[9] المائدة : 90 ـ 91.
[10] البحار 59 : 66.
[11] البحار 78 : 235.
[12] المصدر : 67.
[13] المصدر : 74.
[14] البحار 78 : 234 ، عن تحف العقول.
[15] البحار 81 : 207.
[16] البحار 62 : 73.
[17] البحار 62 : 142.
[18] الآداب الطبية في الإسلام : 200.
[19] هود : 108.
[20] البقرة : 222.
[21] ميزان الحكمة 10 : 92.
( 19 )