العفّة

من كان متّقياً لا محالة يكون عفيفاً ، فإذا أعددنا التقوى من أوّل أخلاق الطبيب ، يعني اشترطنا عفّته أيضاً ، وكذلك باقي الصفات ، فإنّ التقوى سيّد الأخلاق ورأسها ، ولكن نذكر بعض الصفات ونفرد له عنواناً ، لأهمّيته البالغة في حياة الطبيب ، ولأ نّه لا بدّ أن يتجلّى فيه أكثر من غيره ، ومن تلك الصفات : العفّة.

وهي تعمّ كلّ الأعضاء والجوارح والجوانح ، فالعفّة لا تنحصر بعضو دون عضو ، بل على المرء أن يكون عفيفاً في بصره ، بأن لا ينظر إلى ما حرّمه الله سبحانه ، وعفيفاً في سمعه بأن لا يسمع المحرّمات ، وعفيفاً في كلامه ، وعفيفاً في بطنه وفرجه ويده ورجله ، وحتّى فكره وسلوكه وقلبه وجوانحه.

وربما أكثر الناس ابتلاءً بالنظر إلى ما يحرم في الأحوال العاديّة النظر إليه هم الأطبّاء . فإنّما يجوز للطبيب أن ينظر بمقدار ما ترتفع به الضرورة ، فإذا أمكنه أن يعالج المريض من خلال وصفه ، فإنّه يقتصر على ذلك ، ولا يجوز النظر ، وإذا كان بإمكانه أن يعالج بالنظر إلى دائرة أضيق ، فلا يحقّ له أن يتعدّى إلى ما زاد ، وإذا كان بالإمكان أن يعالج بالنظر إلى المرآة دون المباشرة ، فلا يباشر ـ كما ورد ذلك في الروايات ـ وإذا كانت المعالجة تتحقّق بالنظر فلا يحقّ له أن يلمس ما حرّم الله عليه.

يقول عليّ بن العباس ناصحاً : « وأن لا ينظر إلى النساء بريبة سواء كان النظر للسيّدة أم للخادمة ، ولا يدخل إلى منازلهنّ إلاّ للمداواة ... وعليه أن يكون رحيماً بريء النظرة »[1].

وجاء في قسم أبقراط : « وأحفظ نفسي في تدبيري على الزكاة والطهارة ـ إلى أن قال ـ وكلّ المنازل التي أدخلها ، إنّما أدخل إليها لمنفعة المرضى ، وأنا بحال خارجة عن كلّ جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في سائر الأشياء ، وفي الجماع للنساء والرجال الأحرار منهم والعبيد ».

وقال محمد بن زكريا : وإذا عالج من نسائه أو جواريه أو غلمانه أحداً فيجب أن يحفظ طرفه ـ أي بصره ـ ولا يجاوز موضع العلّة . فقد قال الحكيم جالينوس في وصيّته للمتعلّمين : ولعمري لقد صدق فيما قال : على الطبيب أن يكون مخلصاً لله ، وأن يغضّ طرفه عن النسوة ذوات الحسن والجمال ، وأن يتجنّب لمس شيء من أبدانهنّ ، وإذا أراد علاجهنّ أن يقصد الموضع الذي فيه معنى علاجه ، ويترك إجالة عينه إلى سائر بدنها ، ورأيت من يتجنّب ما ذكرت فكبر في أعين الناس ، واجتمعت إليه أقاويل الخاصّة والعامّة . قال : ورأيت من تعاطى النساء ، فكثرت قالة الناس فيه فتجنّبوه ورفضوه ».

فالنظر إلى غير موضع الحاجة عند المعالجة يعدّ من الخيانة في أعراض الناس ، فلا يجوز للطبيب أن ينظر إلى ما حرّم الله وكذلك الطبيبة ، قال الله تعالى:

( قُلْ لِلـْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصارِهِمْ وَيَحْفَظوا فُروجَهُمْ ذلِكَ أزْكى لَهُمْ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعونَ * وَقُلْ لِلـْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ... )[2].

ويحرم على الطبيب أن يخلو مع الأجنبية ، ويوجب بطلان الصلاة لو أرادها في ذلك المكان كما أفتى الفقهاء بذلك ، حسب الشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.

ولا بأس أن نذكر نماذج من الآيات الكريمة والروايات الشريفة في العفّة.

قال الله تعالى:

(وَمَنْ كانَ غَنِيَّاً فَلـْيَسْتَعْفِفْ)[3].

(يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسيماهُمْ)[4].

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

« إنّ الله يحبّ الحييّ المتعفّف ، ويبغض البذيّ السائل الملحف ».

« أحبّ العفاف إلى الله عفّة البطن والفرج ».

« أمّا العفاف ، فيتشعّب منه الرضا والاستكانة والحظّ والراحة والتفقّد والخشوع والتذكّر والتفكّر والجود والسخاء ، فهذا ما يتشعّب للعاقل بعفافه رضىً بالله وبقسمه ».

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً ، يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد ».

« ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممّن قدر فعفّ ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة ».

« العفّة شيمة الأكياس ، الشره سجيّة الأرجاس ».

« العفّة رأس كلّ خير ».

كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول:

« أفضل العبادة العفاف ».

« العفاف أفضل شيمة ».

« العفاف يصون النفس وينزّهها عن الدنيا ».

« عليك بالعفاف فإنّه أفضل شيمة الأشراف ».

« زكاة الجمال العفاف ».

« عفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤكم ».

« كانت امرأة على عهد داود (عليه السلام) يأتيها رجل يستكرهها على نفسها ، فألقى الله عزّ وجلّ في قلبها ، فقالت له : إنّك لا تأتيني مرّة إلاّ وعند أهلك من يأتيهم ، فذهب إلى أهله فوجد عند أهله رجلا ، فأتى به داود (عليه السلام) ، فقال : يا نبيّ الله ، أتى إليَّ ما يؤتَ إلى أحد ! قال : وما ذاك ؟ قال : وجدت هذا الرجل عند أهلي . فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) : قل له : كما تدين تدان ».

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

« الحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور ».

وفي صفة المتّقين ، قال (عليه السلام):

« حاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة ».

« إذا أراد الله بعبد خيراً عفّ بطنه وفرجه ».

« أصل العفاف القناعة ، وثمرتها قلّة الأحزان ».

« الرضا بالكفاف يؤدّي إلى العفاف ».

« قدر الرجل على قدر همّته ، وعفّته على قدر غيرته ».

« من عقل عفّ ».

« ثمرة العفّة الصيانة ».

« من عفّ خفّ وزره ، وعظم عند الله قدره ».

« من عفّت أطرافه حسنت أوصافه »

« بالعفاف تزكوا الأعمال ».

« من اُتحف العزّة والقناعة حالفه العزّ ».

« ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفّة ».

« إنّ أفضل العفّة الورع في دين الله والعمل بطاعته ، وإنّي اُوصيك بتقوى الله في أمر سرّك وعلانيتك »[5].


[1] الآداب الطبية : 119.

[2] النور : 30 ـ 31.

[3] النساء : 6.

[4] البقرة : 273.

[5] الروايات من ميزان الحكمة 6 : 358.

( 9 )