على الطبيب أن يجتهد في طبابته ولا يتهاون في معالجة المرضى ، أو يجعلهم مخبراً للامتحانات ، ويجري عليهم اختبارات وتجارب لنظريّاته وكشفيّاته الظنية والوهمية ، فإنّه لا يجوز لمن لم يكن من أهل الخبرة أن يبدي نظراً في غير ما عنده ، فإنّ ذلك يعدّ من الخيانة وليست الخدمة ، فبعض العوامّ يتطبّبون من تلقاء أنفسهم ، ويجوّزون نسخ طبّية للمرضى ، وكأ نّهم خبراء وأطباء حاذقين ، بل الطبيب يصعب عليه ذلك من دون الممارسة والمجاهدة والاجتهاد في تشخيص المرض وكيفية علاجه . كما إذا احتاج الطبيب إلى مشورة طبية فلا يغفل عن ذلك ، ولا يغترّ بنفسه ويعجب بها ، فيفقد اتّزانه ووقاره ، ويتهاون في معالجة مريضه ، ومن شاور العقلاء كسب عقولهم ، وفي بعض الموارد يحتاج الطبيب إلى اللجنة الطبية ومشاورة زملائه والدكاترة الآخرين.
كما أ نّه يحاول ابتداء أن يكشف الأمراض من خلال خبرته الطبية وحدسه وعقله ، فإن لم يصل إلى التشخيص الكامل عندئذ يستعين بالمختبرات والتحاليل الطبية وما شابه ذلك . فإنّه في قديم الزمان كان الأطباء بعقولهم وحدسيّاتهم يشاهد منهم ما يحيّر العقول في فنّ الطبّ ، ولا اختيار للإنسان إلاّ بعقله وثقافته.
ويقبح بالطبيب أن يكون كسولا عاجزاً فرحاً أشراً بطراً:
(إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحينَ)[1].
وفي الخبر الشريف : « المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف » ، وقد تزوّج التواني بالكسل فولد بينهما الفقر ، وإنّ الله يبغض الشابّ الفارغ ، فلا بدّ من المثابرة والاجتهاد ، ويغدو الإنسان عالماً ربانياً أو متعلّماً على سبيل النجاة.
ولا تقفُ ما ليس لكَ به علم ، وقد وردت الآيات والروايات الكثيرة في المنع عن القول بغير علم والردع عنه ، وهذا واضح لا يحتاج إلى برهان ودليل.
ثمّ إذا كان الطبيب مختصّاً في عضو من أعضاء بدن الإنسان كأمراض العين ، فلا يحقّ له أن يبدي نظره في أمراض القلب مثلا ، فإنّه لو فعل يعدّ من جهّال الأطباء.
فلا بدّ للطبيب من الاجتهاد في علمه وعمله ، فعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من تطبّب فليتّقِ الله ولينصح وليجتهد »[2].
فلا يجوز للطبيب أن يتعلّل ويتساهل في معالجة المريض ، ومن يفعل ذلك فإنّه يكون من المرضى ، بل أكثر مرضاً من مريضه ، لأنّ مثل هذا الطبيب يكون مريض الروح ، وعلاجه أصعب من علاج مرض الجسد ، ويصدق عليه المثل المعروف « طبيب يداوي الناس وهو عليل ».
فعلى الطبيب أن يراعي جميع الأخلاقيات الحسنة الفردية والاجتماعية ، وفي مقدّمتها تقوى الله سبحانه ، وما أدراك ما التقوى ، فإنّه بتقوى الله يندفع الإنسان ويسعى بكلّ جهده وجهوده إلى القيام بواجباته الإنسانية والدينية على النحو الأفضل والأكمل والأتمّ ، ولهذا قدّم أمير المؤمنين (عليه السلام) التقوى على النصح والاجتهاد.
ومن
الاجتهاد الاستحكام في العمل وإنّ « الله يحبّ عبداً إذا عمل عملا
أحكمه
وأتقنه » ، كما روي ذلك عن النبيّ الأكرم في قصّة دفن سعد بن
معاذ.
ويقول علي بن العباس ناصحاً : « على الطبيب أن يجدّ في معالجة المرضى وحسن تدبيرهم ومعالجتهم سواء بالغذاء أو بالدواء ».
وكلّ ناصح عليه أن يبدأ بنفسه أوّلا ، حتّى يكون كلامه مؤثّراً في غيره ، فإنّ الكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب ، وإذا خرج من اللسان فإنّه لم يتجاوز الآذان.
يقول أبو الأسود الدؤلي:
يا أ يّها الرجل المعلّم غيره *** هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي الأسقام وذي الضنا *** كيما يصحّ به وأنت سقيم
ومن يجرّ الداء إلى نفسه كيف يكون ناصحاً لغيره ، فإنّه لن يحبّ غيره أكثر من محبّته لنفسه كما هو واضح ، فلن يستطيع أن ينفع غيره ويضرّ نفسه.
وعن عيسى بن مريم (عليه السلام) : « فإذا رأيتم الطبيب يجرّ الداء إلى نفسه فاتّهموه واعلموا أ نّه غير ناصح لغيره »[3].
وهذه بعض الروايات في الاجتهاد والمشورة :
فمن الأوّل:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
« من بلغ جُهد طاقته بلغ كُنه إرادته ».
« من طلب شيئاً ناله أو بعضه ».
عن الإمام الرضا (عليه السلام):
« سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء : من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه ، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه ... ».
عن الأمير (عليه السلام):
« من قصّر في العمل ابتلاه الله سبحانه بالهمّ ».
« من قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمره وضرّه أجله ».
« التفريط مصيبة القادر ».
« من استدام قرع الباب ولجّ ، ولج ».
« عليكم بالجدّ والاجتهاد ، التأهّب والاستعداد ، والتزوّد في منزل الزاد ، ولا تغرّنكم الدنيا كما غرّت من كان قبلكم من الاُمم الماضية والقرون الخالية ».
« اجتهدوا في العمل ... ».
قال الله تعالى:
(وَمَنْ يُجاهِدْ فَإنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ)[4].
ومن الثاني:
قال الله تعالى:
(وَأمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ)[5].
(وَشاوِرْهُمْ في الأمْرِ)[6].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« ما حار من استخار ، ولا ندم من استشار ».
« الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطيع أمره ».
« ما من رجل شاور أحد إلاّ هُدي إلى الرشد ».
« لا مظاهرة أوثق من المشاورة ».
« لا تشاور جباناً فإنّه يضيّق عليك المخرج ، ولا تشاور البخيل فإنّه يقصر بك عن غايتك ، ولا تشاور حريصاً فإنّه يزيّن لك شرّها ».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول ».
« المستشير متحصّن من السقط ».
« المستشير على طرف النجاح ».
« المشاورة راحة لك وتعب لغيرك ».
« شاور قبل أن تعزم ، وفكّر قبل أن تقدم ».
« لا يستغني العاقل عن المشاورة ».
« حقّ على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ، ويضمّ إلى علمه علوم الحكماء ».
« لا تستشر الكذّاب فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعّد عليك القريب ».
« شاور في اُمورك الذين يخشون الله ترشد ».
قال الإمام الكاظم (عليه السلام):
« من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً ، وعند الخطأ عاذراً ».
« مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله ، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإيّاك والخلاف ، فإنّ في ذلك العطب ».
« أفضل من شاورت ذوي التجارب ».
« خير من شاورت ذوو النُهى والعلم واُولو التجارب والحزم »[7].
هذه بعض الروايات الدالّة على الاجتهاد والمشورة ، وهي عامّة ونافعة لكلّ الناس ، ولكن الحريّ بها أكثر من غيره هو الطبيب ، فإنّه الأولى له أن يجتهد أوّلا ثمّ يستشير ذوي النهى والعلم واُولو التجارب والحزم ثانياً ، حتّى يكون موفّقاً في حياته العلمية والعملية ، ويعرف الداء والدواء ، وإلاّ فإنّه يكون كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ربما كان الدواء داء والداء دواء » ، ويقول زين العابدين : « من لم يعرف داءه أفسده دواؤه ».
[1] القصص : 76.
[2] البحار 62 : 74.
[3] البحار 2 : 107.
[4] الروايات من ميزان الحكمة 2 : 147 ، والآية من سورة العنكبوت : 6.
[5] الشورى : 38.
[6] آل عمران : 159.
[7] الروايات من ميزان الحكمة 5 : 210 ، فراجع.
( 5 )