الحمد لله المعافي الذي قدّر الداء ودبّر الدواء ، وجعل إسمه دواء وذكره شفاء ، والصلاة والسلام على طبيب النفوس ومربّي الأرواح ومزكّيها ، محمّد المصطفى ، وعلى آله الأطهار ، الهداة الميامين أئمة الحقّ والدين وسادة الخلق أجمعين.
أمّا بعد:
فإنّ الطبّ من العلوم القديمة[1] Medicine ، يعنى بدراسة الأمراض ومعالجتها والوقاية منها ، وهو أحد أقدم العلوم في العالم ، أمّا متى وكيف كان مبدأ علم الطبّ وظهوره ، ففيه اختلاف بين أرباب التأريخ ، ففي سومر وُضع أوّل دستور أخلاقي للطبّ والجراحة ، وفي بابل وضع حمورابي أنظمة خاصّة بممارسة الطبّ . ولقد عرف قدامى الهنود حركة الدمّ والصلة بين الجرذان والطاعون ، والصلة بين البعوض والملاريا.
وكان للمصريين القدماء اهتمام خاصّ بعلم الشفاء . ومنذ أقدم العصور مارس الصينيون التطبيب بطريقة الوخز الاُبري Acupunciune ، وأسهم اليونان إسهاماً كبيراً في علم الطبّ ، وبقراط الذي ينسب إليه الطبّ عني بالفحص السريري ومهّد الطريق لفهم الجسم البشري ، وإنّ أرسطو درس علم الأحياء وشرّح الحيوانات . وأنجبت الامبراطورية الرومانية جالينوس Galen الذي عُني بدراسة علم التشريح وعلم الفيسيولوجيا.
وفي ظلّ الحضارة العربية الإسلامية وصفت أمراض جديدة وركّبت أدوية نباتية عديدة ، ولمع نجم الشيخ الرئيس ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي ، وترجمت كتبهما كالقانون والحاوي إلى اللاتينية ، فكانت مرجعاً لطلاب الطبّ في أوربا طوال قرون عديدة ولا زالت ، وفي عصر أوربا برز اسم فيزيليوس Vesulius الذي يعدّ أبا علم التشريح الحديث ، واكتشف وليم هارفي Hurvey الدورة الدموية ، واكتشف إدورد جنر Jenner لقاحاً ضدّ الجدري ، وفي القرن التاسع عشر وثب الطبّ وثبات عريضة ، وقفزات سريعة ، فاستخدم جوزيف ليستر Lister مضادّات العفونة ، واستخدم وليم مورتون Morton الأثير Ether كمخدّر ، فكان بذلك بمثابة ثورة في الجراحة ، وتعقّب لويس باستور Pasteur وروبرت كوخ Koch الجراثيم وأنشأ علم البكتريا ، ثمّ كان القرن العشرين فخطا طبّ النفس أو الطبّ العقلي Psychiatny خطوات سريعة وواسعة إلى الأمام ، وشاع استخدام المهدّئات وعقاقير السلفا والمرديات والهرمونات الصنعية والفيتامينات ، ولا يمرّ يوم إلاّ وتطالعنا الصحف ووسائل الإعلام بأنباء تطوّر جديد في علم الطبّ.
وإنّ هذا العلم الجليل لا يزال يواكب المسيرة الحضارية والتقدّم والازدهار ، حتّى كاد أن يكون نتائجه وحاصله أشبه بالخوارق والكرامات ، ودخل في عالم الكومبيوتر والتكنولوجيا الجديدة وعصر الذرّة ، فأوجد ثورة علمية هائلة.
[1] الطب لغة : علاج الجسم ، والنفس ، والرفق ، والسحر . وفي الاصطلاح : علم باُصول تعرف بها أحوال أبدان البشر من جهة الصحّة وعدمها لتحفظ حاصلة ، وتحصل غير حاصلة ، وقد يقال بالاختصار : هو علم دفع الداء واجتنابه ، وقال الأقدمون : علم الشفاء ، وهو بلا ريب أوّل علم سعى الإنسان إلى تحصيله على أثر سعيه وراء الغذاء والكساء والمأوى . على أنّ هذا السعي لم يكن يتناول في أوّل الأمر ، إلاّ ما برّح بظاهر الجسم من جرح وكسر وصدع وما أشبه ، لأنّ الأدواء والأوبئة والعلل الباطنة ، لم تكن في نظر الإنسان لأوّل عهده إلاّ عقوبات يقتصّ بها الخالق من المخلوق ، أو فواعل روح خبيثة ، أو عين شريرة فيلجأ لدفعها إلى الكهانة والرقية والنذر والقربان ، لأ نّها لا تتأتّى عن سبب محسوس ، فلا يمكن دفعها بعلاج محسوس حالة كون الجرح وما هو من قبيله إن لم يكن ناشئاً عن فعل يد بشرية ، فالفاعل فيه سبب مشهود لا مانع من معالجته بيد البشر ولهذا سارت الجراحة شوطاً بعيداً أمام فروع الطبّ ، بل بلغت مبلغاً مذكوراً من الإتقان عند القدماء ، وهم لا يكادون يعرفون شيئاً من علاج الأمراض. ( دائرة المعارف ، البستاني 11 : 203 ) . ثمّ قال المصنّف:
وليس لدينا في التأريخ ما يرشدنا إلى كيفية تدرّج الاُمم القديمة في مراقي التقدّم بهذا الفنّ ، ولا سيّما ما غمض تأريخها منهنّ كقدماء الصينيين والهنود والفرس ... ثمّ يذكر الطبّ عند البابليين وإنّهم وصلوا إليه بالتجارب ، ثمّ ازدهاره عند المصريين وكشفهم العقاقير والأدوية والحجامات والضمادات والمسهلات والمقيّئات ، ثمّ العبرانيين واليونانيين من عهد هوميروس وعظّموا الأطباء حتّى نسب الطبّ إليهم حتّى نظموا خيرون القنطوري طبيبهم الأوّل وتلميذه اسقليبيوس في سلك الآلهة ، وشادوا لهما المعابد . واستمرّ الحال حتّى ظهر أبقراط المولود سنة 460 قبل الميلاد فألّف وصنّف في الطبّ ، حتّى لقّب بأبي الطبّ وذهب مذهب من تقدّمه أنّ العناصر أربعة ، وأنّ الأمزجة أربعة أيضاً دموية وبلغمية وصفراوية وسوداوية ، وإنّه يجب على الطبيب أن يراقب المرض في سيره منذ ظهوره إلى نهايته ، وإنّ الأمراض تتأتّى عن الغذاء والهواء فينبغي أن نتحرّى أسبابها في الماء والهواء والمنازل والفصول وألّف في ذلك كتابه « الماء والهواء والأمكنة » وكتب في الأمراض الحادّة وألّف كتابه « الفصول » وأودع فيه حكمته القائلة : « الصناعة طويلة والعمر قصير والوقت ضيّق والتجربة حظر والقضاء عسر » ، وله تآليف كثيرة ، ثمّ نبغ جالينوس في الطبّ من الرومانيين المولود سنة 130 بعد الميلاد وهو القائل : « إنّ الإنسان إلى اجتناب ما يضرّه أحوج منه إلى تناول ما ينفعه » ، وألّف كثيراً في الطبّ والفلسفة وشرح تآليف أبقراط ، ثمّ بزغ شموس الطبّ من بين المسلمين كمحمد بن زكريا الرازي والفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا حتّى قيل : « كان الطبّ معدوماً فأوجده أبقراط ، وميّتاً فأحياه جالينوس ، ومتفرّقاً فجمعه الرازي ، وناقصاً فكمّله ابن سينا البخاري » . وبُنيت المستشفيات في زمن الخلفاء العباسيين قبل أوربا بقرون ، كما تكلّم النبيّ الأكرم محمد وأهل بيته الأطهار في الطبّ والمعالجات ، والتأريخ يشهد على ذلك.