الطبّ من الواجبات الكفائية ، وقيل : يشكل أخذ الاُجرة على الواجبات الكفائية ، فالأولى للطبيب أن لا يأخذ الاُجرة على نفس طبابته ، إنّما يأخذها للمقدّمات وحقّ القدم ، ولا يجحف في حقّ المرضاء حينئذ ، فإنّ علمه من الله ، وليكن استعمال العلم في خدمة خلق الله ، فإنّ خير الناس من نفع الناس ، ومن الفقهاء من جوّز أخذ الاُجرة على الطبابة ، لما جاء في الأخبار ، فعن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : « سألته عن الرجل يعالج الدواء للناس فيأخذ عليه جُعلا ، قال : لا بأس »[1].
وقال العلاّمة (قدس سره) في المنتهى : يجوز الاستيجار للختان وخفض الجواري والمداواة وقطع السلع وأخذ الاُجرة عليه ، لا نعلم فيه خلافاً ، لأ نّه فعل مأذون فيه شرعاً ، يحتاج إليه ويضطرّ إلى فعله ، فجاز الاستيجار عليه كسائر الأفعال المباحة[2].
فالإسلام لا ينظر إلى الطبّ باعتباره حرفة يهدف منها جمع المال والتجارة والحصول على حطام الدنيا ، بل الطبّ رسالة إنسانية ومسؤولية شرعية بالدرجة الاُولى.
فلا يحقّ للطبيب أن يتساهل أو يتعلّل في معالجة مريضه انتظاراً للاُجرة أو لزيادتها ، فإنّ التارك لشفاء المجروح من جرحه شريك جارحه ـ كما ورد في خبر عيسى بن مريم ـ ولكن هذا لا يعني أن لا يأخذ الاُجرة ويكون عالة على الآخرين ، بل لا يكون هدفه المال ، بحيث لولاه أو زيادته لما كان العلاج والتداوي.
فهدفية المال والثروة في الطبّ ، إنّما يجعل علمه وبالا على الإنسانية ، وبالنهاية يضرّ بالبشرية ، ويموت الإبداع والاكتشافات الطبية حينئذ ، ونتيجة ذلك السطحية والقشرية والهامشية في علم الطبّ.
كما لا يجوز للطبيب التعلّل بعدم الاُجرة أو بقلّتها في مقام العلاج والتداوي ، فإنّ التارك شفاء المجروح من وجرحه شريك جارحه لا محالة ، كما ورد في الخبر الشريف ، فإنّ الجارح أراد فساده والتارك أراد عدم إصلاحه ، فهما شريكان في دم المجروح.
فالمبادرة إلى العلاج أوّلا هو ما تفرضه الأخلاق الطبية والإنسانية الرفيعة والفطرة السليمة في حياة الطبيب ، وتنسجم مع عواطفه الإنسانية وأخلاقه النبيلة وسجاياه الكريمة.
ثمّ مطالبة الاُجرة المعقولة لا إشكال فيها ، فقد وردت النصوص الشرعيّة على جواز ذلك.
قال الله تعالى:
(نُحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعيشَتَهُمْ في الحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَتَّخِذَ بَعْضَهُمْ بَعْضاً سُخْرِيَّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّـا يَجْمَعونَ)[3].
(قالَتْ إحْداهُما يا أبَتِ اسْتَأجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأجَرْتَ القَوِيَّ الأمينَ)[4].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرّم عليه الجنّة ، وريحها لتوجد من مسيرة خمسمئة عام ».
« إنّ الله غافر كلّ ذنب إلاّ من أحدث ديناً ، أو اغتصب أجيراً أجره ، أو رجل باع حرّاً ».
إنّ الله غافر كلّ ذنب إلاّ رجلٌ اغتصب أجيراً أجره ، أو مهر امرأة ».
« ظلم الأجير أجره من الكبائر ».
« ألا من ظلم أجيراً اُجرته فلعنة الله عليه ».
« إذا استأجر أحدكم أجيراً فليُعلمه أجره ».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في قوله تعالى:
( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعيشَتَهُمْ):
« فأخبرنا أنّ الإجارة أحد معايش الخلق ، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم ، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق ، وهو الرجل يستأجر الرجل ... ولو كان الرجل منّا يضطرّ إلى أن يكون بنّاءً لنفسه ، أو نجّاراً أو صانعاً في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه ، ما استقامت أحوال العالم بتلك ، ولا اتّسعوا له ، ولعجزوا عنه ، ولكنّه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم ، وكلّما يطلب ممّـا تنصرف إليه همّته ممّـا يقوم به بعضهم لبعض ، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعائش التي بها صلاح أحوالهم ».
قال الإمام الرضا (عليه السلام):
« اعلم أ نّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثمّ زدته لذك الشيء ثلاثة أضعاف على اُجرته ، إلاّ ظنّ أ نّك قد نقصته اُجرته ، وإذا قاطعته ، ثمّ أعطيته اُجرته حمدك على الوفاء ، فإن زدته حقّه عرف ذلك ورأى أ نّك قد زدته »[5].
[1] البحار 59 : 72.
[2] البحار 59 : 65.
[3] الزخرف : 32.
[4] القصص : 26.
[5] ميزان الحكمة 1 : 18.
( 20 )