أهمّ أوصاف الطبيب الحميدة على ضوء القرآن والسنّة

(1)

الإيمان والتقوى

إنّ الله قد حثّ في كثير من آياته على أصالة التقوى الفردية والاجتماعية ، وما أكثر الروايات في ذلك ، فكلّ واحد من المجتمع عليه أن يراعي التقوى وصيانة النفس من الذنوب والمعاصي ، إلاّ أنّ هذه الخصلة الربّانية لا بدّ وأن تتجلّى في رجل الدين والطبيب أكثر من غيرهما.

فالطبيب من خلال علمه وتشريحه للإنسان ، يعتقد في قلبه بالمبدأ والمعاد ، فيؤمن بالله سبحانه ، بأنّ الإنسان وما فيه من العجائب والغرائب من تعدّد القوى واختلاف النفوس ، لا بدّ أن يكون له من مدبّر حيّ قيّوم عالم قدير ، فمن المستحيل أن يكون مثل هذا النظام الدقيق في وجود الإنسان العظيم ، الذي ربما يزعم أ نّه جرم صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر ، ففيه ما في الكون وزيادة ، وهي روحه التي من النفخة الإلهية:

قال الله تعالى : (يَسْألونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَما اُوتيتُمْ مِنَ العِلـْمِ إلاّ قَليلا)[1].

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِنْ روحِهِ)[2].

فروحه ممّـا وراء المادّة ـ ميتافيزيقية ـ ومن عالم الغيب والأمر ، فمن المستحيل أن يكون مثل هذا النظام من خلق الصدفة ـ كما يدلّ عليه برهان حساب الاحتمالات ـ .

فالطبيب المؤمن بالله يلزمه التقوى والعمل الصالح ، فيكون من مصاديق الخطابات الإلهية في كتابه الكريم:

(الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ)[3].

وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من تطبّب فليتّقِ الله وليصحّ وليجتهد »[4].

فيلزم الطبيب صيانة النفس كما قال محمد بن زكريا الرازي : « فأوّل ما يجب عليك : صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب ، والمواظبة على تصفّح الكتب »[5].

فالطبيب لا بدّ أن يكون متّقياً عادلا ، ومن عدالته أن يشهد بالحقّ ، ولا يكتم الشهادة ، قال الله تعالى:

(وَلا تَكْتُموا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلـْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلونَ عَليمٌ)[6].

وعن أمير المؤمنين في ذيل الآية الشريفة قال : « من كان في عنقه شهادة فلا يأبَ إذا دُعي لإقامتها وليقمها ، ولينصح فيها ، ولا تأخذه فيها لومة ، وليأمر بالمعروف ولينهَ عن المنكر »[7].

ثمّ شعب الإيمان وفروع التقوى ومصاديقها كثيرة ، وما أعظم التقوى[8] ؟ !

يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمي أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء عشى أبصاركم »[9].

ومن مصاديق التقوى ضبط النفس في الكلام والرأي والعمل ، ويكون شعاره : إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب.

كما عليه أن يكون صادقاً في قوله وفعله ويخلص في العمل والمعالجة ، ويتخيّر إخوان الصفا من عباد الله الصالحين ، فإذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ، ولا تصحب الأردى فتردى مع الرديء.

والتقوى ذو أبعاد ، كالتقوى الأخلاقية والمالية والسياسية وغيرها ، وجمعها التقوى الإلهية . ولو كانت ملكة راسخة في وجود الإنسان ، فإنّه يصان من حملات الشياطين ، كما قال سبحانه:

(إنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّروا فَإذا هُمْ مُبْصِرونَ)[10].

ولقد اهتمّ الإسلام العظيم بالتقوى في حياة المسلم ، وما أكثر الآيات الكريمة
التي تحرّض الإنسان على كسب التقوى والتحلّي بها ، وإنّما توجب سعادة الدارين:

(إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ)[11].

(إنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقينَ)[12].

(إنَّ اللهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنونَ)[13].

(إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ)[14].

(تِلـْكَ الجَنَّةُ الَّتي نورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيَّاً)[15].

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ)[16].

(وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)[17].

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب)[18].

(أمَّا الَّذينَ سعدوا فَفي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها)[19].

(إنْ تَتَّقوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)[20].

(ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لُلـْمُتَّقينَ)[21].

(وَنَفْس وَما سَوَّاها فَألـْهَمَها فُجورَها وَتَقْواها قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)[22].

هذا كلّه من بركات وثمرات التقوى والتزكية ، وإنّها تعني : التطهير ، وهو إزالة الأدناس والقذرات والأوساخ الظاهرية والباطنية ، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة ، كالشرك والكفر ، وإزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق ، كالكبر والشحّ ، وإزالة الأعمال والأفعال الشنيعة ، كالقتل والزنا وشرب الخمر ، وكلّ ما حرّم الله سبحانه.

وإنّما يلزم الطبيب التقوى من بداية أمره ، وأوّل شبابه وبلوغه ، بأن يخلّي قلبه من الرذائل والصفات الذميمة ، ثمّ يحلّيه بالأخلاق الحميدة ، ثمّ يجلّيها ويصقلها حتّى يكون مظهراً لأسماء الله وصفاته الوجودية البحتة ، فلا يغفل ولا يضجر ولا يكسل ، بل يتعبّد لله سبحانه في كلّ حركاته وسكناته طيلة حياته.

ثمّ التقوى كلّي مشكّك ذو مراتب طولية وعرضية ، اُمّهات المراتب والمراحل ثلاثة ، كما ورد في الخبر الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : « التقوى على ثلاثة أوجه : تقوى من خوف النار والعقاب وهو ترك الحرام وهو تقوى العامّ ، وتقوى من الله وهو ترك الشبهات فضلا عن الحرام وهو تقوى الخاصّ ، وتقوى في الله وهو ترك الحلال فضلا عن الشبهة » ، وإلى هذه المراتب الثلاث اُشير في الكتاب الإلهي بقوله:

(لَيْسَ عَلى الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فيما طَعِموا إذا ما اتَّقَوْا وَآمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأحْسَنوا وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ)[23].

فعلى الطبيب أن يتّقي الله في كلّ حالاته ، لا سيّما في مجال عمله ، وفيما يفعله بالمريض ، وينصح فيه ، فيجتهد في معالجته ولا يتململ ولا يتساهل على الإطلاق ، ويكون ناصحاً لا يغشّ مريضه ، وذلك من تقوى الله في المريض ، فالتقوى من أهمّ العوامل والدوافع ليقوم الإنسان بواجباته الشرعية والإنسانية على النحو الأتمّ والأفضل والأكمل.

ولمثل هذا يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من تطبّب فليتّقِ الله ولينصح وليجتهد »[24] ، فقدّم التقوى على النصح والاجتهاد ، وهذا يعني أنّ الطبيب بأمسّ الحاجة إلى هذه التقوى حتّى لا يفرّط فيما اُلقي على عاتقه من المسؤولية الكبرى.

وإليك بعض الروايات الشريفة من معدن الوحي وبيت الرسالة الأطهار (عليهم السلام) في عظمة التقوى وأهمّيتها البالغة في حياة المسلم.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

« من رزق التقوى ، رزق خير الدنيا والآخرة ».

« من اتّفى الله عاش قويّاً ، وسار في بلاد عدوّه آمناً ».

« إنّ ربّكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، ودينكم واحد ، ونبيّكم واحد ، ولا فضل لعربيّ على عجميّ ، ولا عجمي على عربيّ ، ولا أحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر ، إلاّ بالتقوى ».

« الحمد لله الذي صدق عبده ... إنّ الله أذهب نخوة العرب وتكبّرها بآبائها ، وكلّكم آدم وآدم من تراب ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ».

« لا كرم إلاّ بالتقوى ، لو أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً على عبد ، ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما فرجاً ومخرجاً ».

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):

« التقوى رئيس الأخلاق ».

« عليك بالتُقى ، فإنّه خُلق الأنبياء ».

« التقوى أقوى أساس ، والصبر أقوى لباس ».

« التقوى أفضل الأعمال ».

« التقوى لا عوض عنها ولا خلف ».

« التقوى أفضل كنز ، وأحرز حرز ، وأعزّ عزّ ».

« والتقوى فيه نجاة كلّ هارب ، ودرك كلّ طالب ، وظفر كلّ غالب ».

« إنّ من فارق التقوى اُغري باللذات والشهوات ووقع في تيه السيّئات ، ولزمه كثير التبعات ».

« أيسرّكَ أن تكون من حزب الله الغالبين ؟ اتّقِ الله سبحانه وأحسن في كلّ اُمورك ، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون ».

« أوصاكم الله بالتقوى ، وجعلها منتهى رضاه ، وحاجته من خلقه ، فاتّقوا الله الذي أنتم بعينه ، ونواصيكم بيده ».

« التقوى منتهى رضا الله من عباده ، وحاجته من خلقه ».

« اُوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها خير ما تواصى العباد به ، وخير عواقب الاُمور عند الله ».

« اُوصيكم عباد الله بتقوى الله ، فإنّها الزمام والقوام ، فتمسّكوا بوثائقها ، واعتصموا بحقائقها ».

« اُوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنّه غبطة الطالب ، وثقة الهارب اللاجي ، واستشعروا التقوى شعاراً باطناً ».

« ألا فصونونها وتصوّنوا بها ، من تعرّى عن لباس التقوى لم يستتر بشيء من أسباب الدنيا ».

« التقوى حصن المؤمن ، وأمنع حصون الدين التقوى ».

« إلجأوا إلى التقوى ، فإنّه جُنّة منيعة من لجأ إليها حصنته ، ومن اعتصم بها عصمته ، فاعتصموا بتقوى الله ، فإنّ لها حبلا وثيقاً عروته ، ومقعلا منيعاً ذروته ».

« التقوى مفتاح الصلاح ».

« ما أصلح الدين كالتقوى ».

« إنّ تقوى الله عمارة الدين وعماد اليقين ».

« وإنّها لمفتاح صلاح ومصباح نجاح ».

« إنّ تقوى الله مفتاح سداد وذخيرة معاد ، وعتق من كلّ ملكة ، ونجاة من كلّ هلكة ، بها ينجح الطالب ، وينجو الهارب ، وتنال الرغائب ».

« سبب صلاح الإيمان التقوى ».

« إنّ تقوى الله حمت أولياء الله محارمه ، وألزمت قلوبهم مخافته ، حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم ، فأخذوا الراحة بالنصب ، والرِّيّ بالظمأ ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل ».

« ومن غرس أجار التقى جنى ثمار الهُدى ».

« للمتّقي هدىً في رشاد ، وتحرّج عن فساد ، وحرص في إصلاح ».

« معاد التقوى ظاهره شرف الدنيا وباطنه شرف الآخرة ».

« لا كرم أعزّ من التقوى ».

« إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء غشاء أبصاركم ، وأمن فزع جأشكم ، وضياء سواد ظلمتكم ».

« داووا بالتقوى الأسقام ، وبادروا بها الحمام ».

« التقوى آكد سبب بينك وبين الله إن أخذت به ، وجُنّة من عذاب أليم ».

« لا يقلّ مع التقوى عمل ، وكيف يقلّ ما يتقبّل ؟ ».

« صفتان لا يقبل الله سبحانه الأعمال إلاّ بهما : التقى والإخلاص ».

« من اتّقى الله سبحانه جعل له من كلّ همّ فرجاً ومن كلّ ضيق مخرجاً ».

« من أخذ بالتقوى غَرَبت عنه الشدائد بعد دنوّها ، واحلولت له الاُمور بعد مرارتها ، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها ، وأسهلت له الصعاب بعد إنصابها ».

« اعلموا أ نّه ( من يتّقِ الله يجعل له مخرجاً ) من الفتن ، ونوراً من الظلم ، ويخلّده فيما اشتهت نفسه ، وينزل منزل الكرامة عنده ، في دار اصطنعها لنفسه ، ظلّها عرشه ، ونورها بهجته ، وزوّارها ملائكته ، ورفقاؤها رسله ».

قال الله تعالى:

(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إلاّ وَأنْتُمْ مُسْلِمونَ)[25].

لا يخفى ما ذكرناه عن الرسول الأكرم وأمير المؤمنين (عليهما السلام) إنّما هو غيض من فيض ، فعندنا الاُلوف من الأخبار في التقوى من جوانب عديدة من الرسول الأكرم وعترته الطاهرين (عليهم السلام)[26] ، إلاّ أ نّه نكتفي بهذا المقدار طلباً للاختصار.


[1] الإسراء : 80 .

[2] السجدة : 9.

[3] الرعد : 29.

[4] البحار 59 : 74 ، المستدرك 3 : 127.

[5] أخلاق الطبيب : 19.

[6] البقرة : 282.

[7] الوسائل ، الجزء 18.

[8] لقد تعرّضنا إلى شيء من التفصيل حول التقوى في رسالة « كلمة التقوى في القرآن الكريم » ، وهي مطبوعة ، فراجع.

[9] ميزان الحكمة 8 : 243.

[10] الأعراف : 201.

[11] آل عمران : 76.

[12] المائدة : 27.

[13] النحل : 128.

[14] الحجرات : 13.

[15] مريم : 63.

[16] الزمر : 61.

[17] الأعراف : 26.

[18] الطلاق : 5.

[19] هود : 108.

[20] الأنفال : 29.

[21] البقرة : 2.

[22] الشمس : 7 ـ 10.

[23] جامع السعادات 2 : 186 ، والآية من سورة المائدة : 96.

[24] البحار 62 : 74.

[25] آل عمران : 102.

[26] نقلت الروايات من ميزان الحكمة 10 : 618 ـ 664 ، عن البحار 73 ، وغرر الحكم ، ونهج البلاغة ، فراجع.

( 2 )

( 2 )