من أهمّ أخلاق الطبيب حسن الخلق وطلاقة الوجه والبشاشة ، فإنّها محبّذة من كلّ واحد ، فإنّ المؤمن هشّ بشّ ، بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، وما أكثر الآيات والروايات الشريفة الدالّة على ذلك.
فإنّ حسن الخلق يوجب سعادة الدارين ، ويزيد في الرزق ، ويجلب حبّ الناس ومودّتهم ، ويعين على التقدّم والازدهار ، ومن ساء خلقه فرّ الناس منه ، وأضرّ بصرح سعادته ، وفي الحديث الشريف : « ليس شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق ».
« والخُلق بمعنى الطبيعة والنظرة والسجيّة ، وهو الدين والطبع ، وحقيقته أ نّه لصورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة ، والثواب والعقاب يتعلّقان بأوصاف الصورة الباطنة ، أكثر ممّـا يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة ، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع كقوله : « من أكثر ما يدخل الناس الجنّة تقوى الله وحسن الخلق » ، وقوله : « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً » ، وقوله : « إنّ العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم » ، وقوله : « بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق » وكذلك ورد في ذمّ سوء الخلق أيضاً أحاديث كثيرة ، وفي حديث عائشة عن رسول الله : « كان خلقه القرآن » أي كان متمسّكاً به وبآدابه وأوامره ونواهيه وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف ....
وخالق الناس : عاشرهم على أخلاقهم ، قال:
خالق الناس بخلق حسن *** لا تكن كلباً على الناس يهرّ »[1]
فالخَلق ـ بفتح الخاء المعجمة ـ والخُلق ـ بضمّها ـ يشتركان في الأصل ، إلاّ أ نّها مع الفتح بمعنى الهيئة الظاهرية ، ومع الضمّ بمعنى البواطن والسجايا ، وتطلق على الأفعال والملكات والصفات ، وبإضافتها إلى الحسن والسوء تميّز الأخلاق الطيّبة من الذميمة والسيّئة ، وربما يقال هذا عمل أخلاقي ويراد به الحسن ، وهذا غير أخلاقي ويراد به السوء . ويمتاز العمل الأخلاقي عن العادي ، أ نّه يكون ممدوحاً ويصدر من الإنسان لرغبة ومن دون ترديد وشكّ وإكراه ، يرافقه المدح العقلائي كالعفّة والتقوى وحسن الخلق والوفاء والسخاء وما شابه ذلك ، وهو إمّا أن يكون ذاتياً أو كسبيّاً ، تفصيل ذلك في علم الأخلاق وفلسفته ، ثمّ الدين الإسلامي ليحثّ الناس إلى التخلّق بالأخلاق الحميدة والسجايا الحسنة وحسن الخلق ، ويهتمّ بذلك غاية الاهتمام ، حتّى قيل من أوجب الواجبات تعلّم الأخلاق والتحلّي بها ، فإنّ الله سبحانه بعد أحد عشر قسماً يقول:
(قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)[2].
وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على عظمة علم الإخلاق وأهميّته البالغة على الفرد وفي المجتمع ، فلولا ذلك لانهار وانحطّ ، حتّى يؤدّي ذلك إلى هلاكه وانهدامه.
والطبيب إنّما يحتاج إلى الأخلاق الفاضلة ، لأ نّه من الأركان الأساسية في تعمير المدينة الفاضلة ودوامها وسعادتها ، كما إنّه يفتقر إلى التكامل في سيره وسلوكه ، وإنّه مكلّف بحفظ سلامة الناس ، فإذا لم يكن متخلّقاً بالأخلاق الحسنة ، كما لو تبع شهواته وملاذّه ، وغرّته الدنيا في مقامها ومالها ووجاهتها ، فإنّه يوجب الإخلال في حفظ النظام وسلامة المجتمع ، فلا بدّ أن يكون الطبيب مؤمناً ومعتقداً ومتّقياً ، يحمل الأخلاق الطيّبة ، والسجايا الجميلة.
ومع ظهور الطبّ وعلمه الشريف كان الحديث حول أخلاق الطبيب وما يلزمه في مقام العمل والحرفة . كما جاء ذلك في قسم بقراط اليوناني وفي الطبّ الهندي القديم . كما جاء ذلك في الحمورابية قبل ميلاد المسيح بألفين ومائتي سنة ، كما كتب الرازي الطبّ الروحاني وابن سينا في علم الأخلاق وغيرهما من علماء الإسلام.
فحسن الخلق حسن من كلّ أحد ، إلاّ أ نّه من الطبيب أحسن ، لا سيّما في مجال فنّه وعلمه ، فما أحوج المريض إلى ابتسامة من طبيبه المعالج لأمراضه ؟ ! وربّ كلمة حلوة بلسم لجراحه ، كما أنّ الكلمة الجارحة وكلمة السوء أمضى من جرح السيف ، كما يقول الشاعر:
جراحات السنان لها التيامٌ *** ولا يلتام ما جرح اللسان
ومن حسن الخلق أن لا يذمّ مريضه ، ويفرط في ملامته ، بل يتكلّم معه بقول ليّن وكلام لطيف ، فإنّ الله يأمر نبيّه موسى وأخاه هارون في قصّة فرعون ودعوته إلى الله قائلا:
( إذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى فَقولا لَهُ قَوْلا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرَ أوْ يَخْشى )[3].
فإذا كان
الحديث مع مثل فرعون الطاغية الذي ادّعى الربوبية بلين ولطافة وحكمة ، فما
بال الطبيب يغلظ في كلامه ، ويجرح عواطف مريضه ، ويزيد في المرض
الجسدي
مرضاً روحيّاً.
فلا يكثر ملامة المريض ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « الإفراط في الملامة يشبّ نار اللجاجة »[4] ، فكثرة الملامة يوجب تهييج العناد ولجاجة الآخر ، ممّـا يمنعه عن استماع الحقّ والانصياع له.
فعلى الطبيب أن يتجنّب المناقشات التي لا تعنيه والقضايا التي لا تخصّه ، ويحسن خلقه وسلوكه بتطهير النفس من الأخلاق الذميمة ، ثمّ الاتّصاف بالأخلاق الحميدة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق ».
فمن حسن الخلق السخاء وعدم الغضب ، فإنّه ربما الغاضب يرتكب المعاصي والآثام ويتجاوز الحقّ والصواب.
وقد مدح الله:
(الكاظِمينَ الغَيْظَ وَالعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنينَ)[5].
وقد ورد في الخبر : إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب ، وإلاّ فليضطجع ، وإذا غضب أحدكم فليسكت » ، فإنّ الغضب شيطان العجلة.
ولتثبيت مفهوم حسن الخلق في النفوس نذكر جملة من الروايات الشريفة في هذا الباب ، وهو غيض من فيض:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
« الإسلام حسن الخلق ».
« الخلق الحسن نصف الدين ».
« حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة ».
« ثلاث من لم تكن فيه فليس منّي ولا من الله عزّ وجلّ ، قيل : يا رسول الله ، وما هنّ ؟ قال : حلم يردّ به جهل الجاهل ، وحسن خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله ».
« من حسن خلقه بلّغه الله درجة الصائم القائم ».
« إنّ العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنّه لضعيف العبادة ».
« أوّل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن خلقه ».
« ما من شيء أثقل في الميزان من خُلق حسن ».
« ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حُسن الخُلق ».
« إنّ أحبّكم إليَّ وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً أحسنكم خلقاً وأشدّكم تواضعاً ».
« أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ».
« إنّ الله يحبّ معالي الأخلاق ويكره سفاسفها ».
« حسن الخلق يثبت المودّة ».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
« لا قرين كحسن الخلق ».
« الخلق المحمود من ثمار العقل ، الخلق المذموم من ثمار الجهل ».
« حسن الخلق من أفضل القسم وأحسن الشيم ».
« حسن الخلق رأس كلّ بِرّ ».
« من حسنت خليقته طابت عشرته ».
« حسن الخلق في ثلاث : اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسّع على العيال ».
« إنّ بذل التحيّة من محاسن الأخلاق ».
« عليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشريف وتهدّم المجد ».
« حسن الخلق يدرّ الأرزاق ويؤنس الرفاق ».
قيل للصادق (عليه السلام) : ما حدّ حسن الخلق ؟ قال : « تلين جانبك ، وتطيّب كلامك ، وتلقى أخاك ببشر حسن ».
« حسن الخلق يزيد في الرزق ».
« إنّ حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد ، وإنّ سوء الخلق ليُفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل ».
« من حسن خلقه كثر محبّوه ، وآنست النفوس به ».
« لا وحشة أوحش من سوء الخلق ».
« خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق ».
« من ساء خلقه عذّب نفسه ».
« من ساء خلقه ملّه أهله ، أعوزه الصديق والرفيق ، ضاق رزقه ».
« أحسن الأخلاق ما حملك على المكارم ».
« إنّ أزين الأخلاق : الورع والعفاف »[6].
[1] لسان العرب 10 : 86.
[2] الشمس : 8 .
[3] طه : 43 ـ 44.
[4] غرر الحكم : 70.
[5] آل عمران : 124.
[6] الروايات من ميزان الحكمة 3 : 135 ـ 158 ، فراجع.
( 4 )