المساواة والعدالة

على الطبيب أن يراعي هذا الأصل المهمّ في عالم الطبّ وحياته الطبّية بأن يساوي بين مرضاه ـ لا أقلّ ـ فلا تغرّه الدنيا وثروة الأثرياء فيعير لهم أهميّة أكثر من الفقراء ، بل الطبيب الموفّق والمؤيّد من الله سبحانه من كان يفكّر بالفقراء والمعوزين أكثر من الأغنياء والأثرياء ، فإنّ الغنيّ له الأموال التي تقضي حاجاته وتسيّر اُموره عند أصحاب المطامع ومحبّي الأموال ، ولكن من للفقراء والمساكين والمعوزين والبؤساء ؟ ! !

أليس من أخلاق الأنبياء حبّ الفقراء ، أليس النبيّ الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) كان مسكيناً ويحبّ المساكين ويجلس معهم ولا يتكبّر عليهم ، كما أخبرنا بذلك ودلّت سيرته المباركة عليه ، فإذا كان من أخلاق طبيب الروح ذلك ، فكذلك من أخلاق طبيب الجسد ، فعليه أن يقدّم الفقير على الغنيّ في علاجه ، وإلاّ فليساوي بينهما ويراعي العدالة ؟ ! ، لا أن يغترّ بحبّ الدنيا وأربابها وتعميه الثروة عن مشاهدة الحقّ ، وتنسيه وظيفته الإنسانية والشرعيّة ، وقسمه الذي أقسم به عند تخرّجه من كلية الطبّ ليزاول عمليّته ويخدم بها اُمّته وشعبه ووطنه ، والعالم كلّه.

يقول محمد بن زكريا الرازي : « فإنّ الطبيب الحرّ السيرة إذا اشتغل بصناعته وحفظ الخاصّة والعامّة فإنّه يعيش بخير ويكون عليهم أميراً ، وإذا توسّم بخدمته الملوك ، ربما صار بخدمتهم أميراً »[1].

عن الإمام الرضا (عليه السلام) : « من لقي فقيراً مسلماً سلّم عليه خلاف سلامه على
الغني لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان »[2].

ثمّ الأوامر الدينية التي تقضي برجحان قضاء حاجة المرضاء والمجروحين وذوي الأسقام والاهتمام باُمورهم ، وترتيب الثواب الجميل والأجر الجزيل على ذلك ، لم تخصّص غنياً ولا فقيراً ولا غيرهما بذلك ، فلا تمييز في الإسلام ، وهذا ما لا يحتاج إلى برهان ، وأنّ الوجوب الكفائي أو العيني لم يلاحظ فيه الغني دون الفقير ، ولا الأبيض دون الأسود ، بل ربما يقال إنّ الإسلام قد اهتمّ بالفقراء يفوق كثيراً اهتمامه بالأغنياء ، فقد ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه : « الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي ».

فالروايات في مدح الفقراء وحبّ الله لهم ، وأ نّه لا بدّ من الاهتمام بشؤونهم ومراعاة أحوالهم ومساعدتهم وإعانتهم لكثيرة جدّاً.

ومن يحترم الغنيّ لغناه فإنّ ذلك من خساسة الطبع ورذالته ، ومن أثر عقدة الحقارة ، لا أ نّه يحترم الإنسانية كما يحكم بذلك العقل السليم.

يقول علي بن العباس في كتاب « كامل الصناعة الطبية الملكي » : « إنّ على الطبيب أن يجدّ في معالجة المرضى ، ولا سيّما الفقراء منهم ، ولا يفكّر في الانتفاع المادّي ، وأخذ الاُجرة من هذه الفئة ، بل إذا استطاع أن يقدّم لهم الدواء من كيسه هو فليفعل ، وإذا لم يفعل فليجدّ في معالجتهم ليلا ونهاراً ، ويحضر إلى معالجتهم في كلّ وقت ».

ولكن ومع كلّ الأسف ، نرى قصور بعض الأطباء تجاه هذه المسؤولية ، بل بعض المستشفيات في البلاد لا تدخل المريض حتّى يودع ذويه اُجرة المعالجة أو العملية الجراحية في حساب المستشفى ، ونسمع بين آونة واُخرى أنّ ذلك يؤدّي إلى موته وهلاكه ، لعدم تمكّنه من توفّر المال ، فمن المسؤول ؟ ؟ ! !

هذا وحبّذا أن نذكر بعض النصوص الدالّة على أهميّة العدل والمساواة في حياة المسلم ، ولا سيّما الطبيب ، فإنّه أولى بهذه الخصلة.

قال الله تعالى:

(يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوَّامينَ بِالقِسْطِ)[3].

(إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسانِ)[4].

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلى أنْ لا تَعْدِلوا اعْدِلوا هُوَ أقْرَبُ لِلـْتَّقْوى)[5].

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

« من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممّن كملت مروّته ، وظهرت عدالته ، ووجبت اُخوّته ، وحرمت غيبته ».

« من صاحب الناس بالذي يُحبّ أن يصاحبوه كان عدلا ».

« أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه ، وكره لهم ما يكره لنفسه ».

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

« العدل أساس به قوام العالم ».

« إنّ العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه لإقامة الحقّ فلا تخالفه في ميزانه ، ولا تعارضه في سلطانه ».

« جعل العدل توأماً للأنام ، وتنزيهاً من المظالم والآثام ، وتسنية للإسلام ».

« العدل فضيلة الإنسان ».

« العدل زينة الإيمان ».

« العدل رأس الإيمان وجماع الإحسان ، وأعلى مراتب الإيمان ».

« العدل حياة ».

« العدل على أربع شعب : على غائص الفهم وغمرة العلم وزهرة الحكمة وروضة الحلم ، فمن فهم فسّر جمل العلم ، ومن علم شرع غرائب الحكم ، ومن كان حكيماً لم يفرّط في أمر يليه من الناس ».

« رحم الله عبداً استشعر الحزن وتجلبب الخوف ... فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ».

« اُوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ... وبالعدل على الصديق والعدوّ ».

« والعدل في الرضا والغضب ».

« أعدل الناس من أنصف عن قوّة ».

« أعدل الخلق أقضاهم بالحقّ ».

« استعن على العدل بحسن النيّة في الرعيّة ، وقلّة الطمع ، وكثرة الورع »[6].


[1] أخلاق الطبيب : 18 ، تحقيق الدكتور عبد اللطيف محمد العبد.

[2] أمالي الصدوق : 396.

[3] النساء : 135.

[4] النحل : 90.

[5] المائدة : 8 .

[6] الروايات من ميزان الحكمة 6 : 78.

( 12 )

( 12 )