إشراقات نبوية

قراءة موجزة عن أدب الرسول الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله)

السيد عادل العلوي

مقدمة

الحمد لله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم وأدّبه بما فيه الخير الأتمّ ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وسيّد رسله أدب الله المسدّد أبي القاسم محمّد وعلى آله الطاهرين ، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين ، عجّل الله تعالى فرجهم ، وجعلنا من خلّص شيعتهم ، المتخلّقين بأخلاقهم ، والمتأدّبين بآدابهم ، آمين ربّ العالمين.

أمّا بعد.

فإنّ الأدب هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها الفعل المشروع إمّا في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم ، كآداب الدعاء وآداب ملاقاة الأصدقاء ، وإن شئت قلت : الأدب بالمعنى العامّ هو : ظرافة العمل[1].

ولا يكون إلاّ في الاُمور المشروعة غير الممنوعة ، فلا أدب في الظلم
والخيانة ، ولا أدب في الأعمال الشنيعة والقبيحة ، ولا يتحقّق أيضاً إلاّ في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة ، حتّى يكون بعضها متلبّساً بالأدب دون بعض ، كأدب الأكل مثلا في الإسلام.

فالأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية ، والحسن وإن كان بحسب أصل معناه ، وهو الموافقة لغرض الحياة ممّا لا يختلف فيه أنظار المجتمعات ، لكنّه بحسب مصاديقه ممّا يقع فيه أشدّ الخلاف ، غير أنّ هذه الاختلافات جميعاً ترجع إلى مرحلة تشخيص المصداق ، وأمّا أصل معنى الأدب وهو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل ، فهو ممّا أطبق عليه العقلاء ولايختلف فيه اثنان.

فالأدب كالمرآة الصافية يحاكي خصوصيات أخلاق المجتمع بما يحملون من الثقافة والمعتقدات.

وليست الآداب هي الأخلاق بل هي من منشآتها ، والأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بسبب غايته الخاصّة ، فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخّص أدبه في أعماله ، وترسم لنفسه خطاً لا يتعدّاه إذا أتى بعمل في مسير حياته والتقرّب من غايته.

وإذا كان الأدب يتبع في خصوصيّته الغاية المطلوبة في الحياة ، فالأدب الإلهي الذي أدّب الله سبحانه به أنبياءه ورسله (عليهم السلام) هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين وغايته ، وهو العبودية لله سبحانه على اختلاف الشرائع الحقّة بحسب كثرة موادّها وقلّتها ، وبحسب مراتبها في الكمال والرقيّ.

والإسلام لمّا كان من شأنه التعرّض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لايشذّ عنه شيء من شؤونها ، يسير أو خطير ، دقيق أو جليل ، فلذلك وسع الحياة أدباً ، ورسم في كلّ عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.

وليس له غاية عامّة إلاّ توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد والعمل جميعاً ... وبذلك يسري التوحيد في باطنه وظاهره ، وتظهر العبودية المحضة من أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده ظهوراً لا ستر عليه ، فالأدب الإلهي أو أدب النبوّة والإمامة ، هي هيئة التوحيد في الفعل والعمل.

وخاتم النبيّين وسيّد المرسلين محمّد (صلى الله عليه وآله) أدّبه ربّه كما قال : أدّبني ربّي فأحسن تأديبي[2].

ثمّ سبحانه أمر العباد أن يهتدوا بهديه ويقتدوا به في قوله تعالى.

( لَـقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )[3].

وما جاء به النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) من الآداب والسنن إنّما يطابق الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، وأ نّه عزّ وجلّ لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها ، وما آتاها ، فلايأتي النبيّ (صلى الله عليه وآله) ما تنفر منه الفطرة السليمة ، إنّما يأتي بما هو الصالح من الأعمال والأفعال الذي يقرّب العباد إلى الله سبحانه ، وبهذا تصلح اُمورهم وينالون السعادة في الدنيا والآخرة ويصلون إلى قمّة الكمال . وهو التوحيد الصادق في كلّ الأحوال[4].

وقد أدّب الله خلقه ورسله بآداب عامّة كما أدّبهم بآداب خاصّة ، ومن الأوّل تأديبهم بأدب جامع في قوله تعالى.

( يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّـبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأ نَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ )[5].

أدّبهم تعالى أن يأكلوا من الطيّبات ، أي أن يتصرّفوا في الطيّبات من موادّ الحياة ولا يتعدّوها إلى الخبائث التي تنفر منها الفطرة السليمة ، وأن يأتوا من الأعمال بالصالح منها ، وهو الذي يصلح للإنسان أن يأتي به ممّا تميل إليه الفطرة بحسب ما جهّزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائها إلى حين ، أو أن يأتوا بالعمل الذي يصلح أن يقدّم إلى حضرة الربوبيّة ، والمعنيان متقاربان ، فهذا أدب يتعلّق بالإنسان الفرد.

ثمّ وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أنّ الناس ليسوا إلاّ اُمّة واحدة : المرسلون والمرسل إليهم ، وليس لهم إلاّ ربّ واحد فليجتمعوا على تقواه ، ويقطعوا بذلك دابر الاختلافات والتحزّبات ـ وهذا تحذير من السيّد الطباطبائي (قدس سره) لدعاة الأحزاب والتحزّب ، فإنّه يتنافى مع روح القرآن الكريم ـ فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفردي والاجتماعي تشكّل مجتمع واحد بشري مصون من الاختلاف يعبد ربّاً واحداً ، ويجري الآحاد منه على الأدب الإلهي فاتّقوا خبائث الأفعال وسيّئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة . وهذا ما جمعته آية اُخرى ، وهي قوله تعالى:

( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أوْحَـيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إ بْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَـتَـفَرَّقُوا فِيهِ )[6] . انتهى كلامه رفع الله مقامه[7].


[1]وقد اُطلقت كلمة ( الأدب ) في اللغة والمحاورات العرفيّة على معان اُخرى ، كالدقّة في الاُمور ، والاقتداء بالغير ، والعلوم والمعارف ، والسيرة المحمودة ، والأخلاق الحسنة ، وقوّة تقي صاحبها عن اقتراف السيّئات ويطلق على بعض مقدّمات العلوم النقليّة ، كاللغة والصرف والنحو والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية ونحو ذلك ، كما يطلق على الأخلاق الفاضلة وصفاء الروح وكمال النفس ، ويطلق ( الأديب ) على المعلّم والكاتب والخطيب والشاعر . والمقصود في هذا الموجز العمل الحسن الذي أقرّه       =
=          الشرع والعقل ، يؤتى به على أفضل الوجوه وأجملها ، ويختلف عن الأخلاق : أ نّها من صفات الباطن كالسخاء والشجاعة ، والأدب من صفات الظاهر أو ما يصدر من الإنسان من فعل في الواقع الخارجي . فلا يطلق ( الأدب ) على الفعل غير المحمود عند العقل والدين كالكذب والخيانة والظلم ، وما أكثر الروايات التي تنصّ على مدح ( الأدب ) ومقامه الشامخ في حياة الإنسان.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « حسن الأدب زينة العقل » ، وقال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) : « الأدب حلل مجدّدة » ، وقال الإمام الحسن (عليه السلام) : « لا أدب لمن لا عقل له » ، راجع ما ذكرناه في « طالب العلم والسيرة الأخلاقيّة » ، المجلّد الثالث من ( رسالات إسلاميّة ).

[2]البحار 16 : 21.

[3]الأحزاب : 21.

[4]اقتباس من تفسير الميزان 7 : 255 . ولقد أجاد العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في هذا الباب ، وقال بما فيه فصل الخطاب ، فلا تتهاون بالرجوع إليه.

[5]المؤمنون : 51 ـ 52.

[6]الشورى : 13.

[7]تفسير الميزان 7 : 263 ، سورة الأعراف.