لكلّ شيء علامة ، ومحبّ الله له علامات ، وإنّما يقف عليها ويعلمها من كان منهم ، ورسول الله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) هم سادة المحبّين واُسوتهم ، ومن إمامة أئمة الهدى (عليهم السلام) أ نّهم أشاروا إلى علامات كلّ طائفة ، كعلامات المؤمنين والمتّقين والمنافقين والمخلصين والمحبّين ، حتّى لا يلتبس ويشتبه الأمر على من يبحث عنهم ليقتدي بهم كالمتّقين ، أو ليتجنّبهم ويحذرهم كالمنافقين.
واعلم أنّ المحبّة يمكن أن يتصوّر كلّ واحد من نفسه ويدّعيها ، فما أسهل الدعوى ، وما أعزّ المعنى ، فلا يغترّ الإنسان بتلبيس الشياطين وخدع النفس مهما ادّعت محبّة الله عزّ وجلّ ما لم يمتحنها بالعلامات ولم يطالبها بالبراهين والأدلّة ، والمحبّة شجرة طيّبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وثمارها تظهر على القلب واللسان والجوارح ، وتدلّ تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبّة دلالة الدخان على النار ، ودلالة الثمار على الأشجار ، فهي كثيرة ، منها :
1 ـ حبّ لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام ، فيحبّ ما يوصله إلى لقاء حبيبه كالموت ، فلا يفرّ منه ، وعنه (صلى الله عليه وآله) : « من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقائه » ، وإذا كره الموت فهو من باب فراق الأحبّة في الدنيا وهو لا ينافي حبّ الله ، وربما يكره الموت لعدم الاستعداد الكامل للقاء الله سبحانه.
2 ـ أن يكون مؤثراً ما أحبّه الله عزّ وجلّ على ما يحبّه في ظاهره وباطنه ، فيجتنب اتّباع الشهوات ، ويترك الكسل والضجر ويتقرّب إلى الله بالطاعات والنوافل ، ويقدّم إرادة الله على إرادته :
اُريد وصاله ويريد هجري *** فأترك ما اُريد لما يريد
وقال آخر :
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه *** هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطعته *** إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
فعلامة المحبّ إيثاره من أحبّه على نفسه ، فمن أحبّ الله عمل بطاعته وترك المناهي ، فيحبّه الله ويعينه على أعدائه ، فهو وليّه :
( وَاللهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيَّاً وَكَفى بِاللهِ نَصيراً )[1].
فينصره على عدوّه ، وأعدى عدوّ الإنسان نفسه التي بين جنبيه ، فيعينه على نفسه ، بإتيان الواجبات والمستحبّات وترك المحرّمات والمكروهات ، وإنّ المعصية تخرج المحبّ عن كمال حبّه.
3 ـ من أحبّ الله فإنّه ينشغل دائماً بذكره ، فلا يفتر عنه لسانه ، ولا يخلو عنه قلبه : « واجعل لساني بذكرك لهِجاً ، وقلبي بحبّك متيّماً » ، فيحبّ محبوب الله كالقرآن والعترة الطاهرة والرسول الأعظم (عليهم السلام).
فمن أحبّ من يحبّ الله فإنّما أحبّ الله عزّ وجلّ ، ومن أكرم من يكرم الله تعالى فإنّما يكرم الله جلّ جلاله.
4 ـ يأنس المحبّ بخلوة حبيبه ومناجاته في السرّ والعلن ، وفي الليل والنهار ، فيواظب على التهجّد ، لا سيّما في الأسحار ، ومن أحبّ الله لا يسكن إلاّ إليه ، وعلامة المحبّة كمال الاُنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعّم بالخلوة به « وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه ، وقد خلوت بك أنت المحبوب إليّ » فتقرّ عين المحبّ بخلوة حبيبه « وإذا جنّهم الليل فروا ويقولون سنخلو بحبيب قلوبهم » ، وأوحى الله إلى داود (عليه السلام) : « قد كذب من ادّعى محبّتي إذا جنّه الليل نام عنّي ، أليس كلّ محبوب يحبّ لقاء حبيبه ؟ فها أنا ذا موجود لمن يطلبني ».
5 ـ الزهد في الدنيا ، فلا يتأسّف على ما يفوته ممّـا سوى الله ، وإنّما يعظم تأسّفه على فوت كلّ ساعة خلت عن ذكر الله سبحانه ، فيرجع إليه بالتوبة والاستغفار والإنابة.
6 ـ أن ينعّم بالطاعة ولا يستثقلها ، فإنّ العاشق لا يستثقل السعي في هوى معشوقه ، بل يستلذّ خدمته بقلبه وروحه ، وإن كان شاقّاً على بدنه ، فالمحبّ يبذل كلّ ما عنده ، يبذل النفس والنفيس من أجل محبوبه ، كما فعل ذلك الأنبياء والأولياء ومنهم سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليهم السلام).
7 ـ أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله ، رحيماً بهم ، شديداً على جميع أعداء الله :
( أشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ )[2].
ولا تأخذه في الله لومة لائم ، فيبغضون لمحارم الله ومعاصيه ، كما يغضب النمر إذا حرد وغضب.
8 ـ أن يكون في حبّه خائفاً ، فإنّ إدراك العظمة يوجب الهيبة ، كما أنّ إدراك الجمال يوجب الحبّ ، فالمحبّ يخاف إعراض محبوبه ، والحجاب بينه وبينه ، وخوف الإبعاد ، وشيّبت سورة هود سيّد المرسلين ، ففيها :
( ألا بُعْداً لِعاد قَوْمِ هودْ )[3].
( ألا بُعْداً لِـثَمود )[4].
( ألا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعُدَتْ ثَمود )[5].
فحديث البعد في حقّ المبعدين يشيّب سماعه أهل القرب في القرب ، ثمّ خوف الوقوف وسلب المزيد ، فإنّ « من استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون » ، ويقول الله سبحانه : « إنّ أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوة الدنيا على طاعتي أن أسلبه لذيذ مناجاتي » ، ثمّ خوف فوت ما لا يدرك بعد فوته ، ثمّ خوف السلوّ عنه ، فالمحبّ لا يتسلّى إلاّ بلطف جديد ، ثمّ خوف الاستبدال به بانتقال القلب من حبّه إلى حبّ غيره ، فمن أحبّ شيئاً خاف لا محالة فقده.
9 ـ كتمان الحبّ ، واجتناب الدعوى ، والتوقّي من إظهار الوجد والمحبّة ، تعظيماً للمحبوب وإجلالا له . والحبّ سرّ من أسرار الحبيب.
10 ـ الاُنس والرضا من آثار الحبّ[6] ، وبالجملة جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق ثمرة المحبّة ، وما لا يثمره الحبّ فهو اتّباع الهوى ، وهو من رذائل الأخلاق.
قيل : والناس في محبّة الله عامّ وخاصّ ، فالعوامّ نالوا ذلك بمعرفتهم في دوام إحسانه وكثرة نعمه ، فلم يتمالكوا أن أحبّوه ، إلاّ أ نّه تقلّ محبّتهم وتكثر على قدر النعم والإحسان ، وأمّا الخاصّة فنالوا المحبّة بعظم القدر والقدرة والعلم والحكمة والتفرّد بالملك ، فلمّـا عرفوا صفاته الكاملة وأسماءه الحسنى لم يمتنعوا أن أحبّوه ، إذا أ نّه استحقّ عندهم بذلك المحبّة لأ نّه أهلٌ لها ، فعبدوا الله حبّاً له لا خوفاً من ناره ، ولا طمعاً في جنّته ، بل عبادة الأحرار حبّاً وشوقاً وشكراً وأ نّه أهل لذلك ، ولو أزال عنهم جميع النعم.
لا تُخدعنّ فللمحبّ دلائل *** ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعّمه بمرّ بلائه *** وسروره في كلّ ما هو فاعل
فالمنع منه عطيّة مبذولة *** والفقر إكرام وبرّ عاجل
ومن الدلائل أن يرى في عزمه *** طوع الحبيب وإن ألحّ العاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسّماً *** والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهّماً *** لكلام من يحظى لديه السائل[7]
وأمّا علامات المحبّين في الروايات ، فمنها :
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : علامة حبّ الله تعالى حبّ ذكر الله ، وعلامة بغض الله تعالى بغض ذكر الله عزّ وجلّ.
وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : القلب المحبّ لله يحبّ كثيراً النصب لله ، والقلب اللاهي عن الله يحبّ الراحة ، فلا تظنّ يا بن آدم أ نّك تدرك رفعة البرّ بغير مشقّة ، فإنّ الحقّ ثقيل مرّ ...
حبّ الله نار لا يمرّ على شيء إلاّ احترق ، ونور الله لا يطلع على شيء إلاّ أضاء.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى الله عند ظلمة ، والمحبّ أخلص الناس سرّاً لله ، وأصدقهم قولا ، وأوفاهم عهداً ، وأزكاهم عملا ، وأصفاهم ذكراً ، وأعبدهم نفساً ، تتباهى الملائكة عند مناجاته ، وتفتخر برؤيته ، وبه يعمر الله تعالى بلاده ، وبكرامته يكرم عباده ، يعطيهم إذا سألوا بحقّه ، ويدفع عنهم البلاء برحمته ، فلو علم الخلق ما محلّه عند الله ومنزلته لديه ما تقرّبوا إلى الله إلاّ بتراب قدميه[8].
فيما أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) : كذب من زعم أ نّه يحبّني فإذا جنّه الليل نام عنّي ، أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ؟ ! ها أنا ذا يا بن عمران مطّلع على أحبّائي ، إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ، ومثّلت عقربتي بين أعينهم ، يخاطبوني عن المشاهدة ، ويكلّموني عن الحضور.
فيما أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) : يا داود ، من أحبّ حبيباً صدّق قوله ، ومن رضي بحبيب رضي فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه ...
سأل أعرابي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن درجات المحبّين ما هي ؟ قال (عليه السلام) : أدنى درجاتهم من استصغر طاعته ، واستعظم ذنبه ، وهو يظنّ أن ليس في الدارين مأخوذ غيره ، فغشي على الأعرابي ، فلمّـا أفاق قال : هل درجة أعلى منها ؟ قال (عليه السلام) : نعم ، سبعون درجة ...
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : اُجري القلم في محبّة الله فمن أصفاه الله بالرضا فقد أكرمه ، ومن ابتلاه بالسخط فقد أهانه ، والرضا والسخط خلقان من خلق الله ، والله يزيد في الخلق ما يشاء.
وقال (عليه السلام) : إنّ اُولي الألباب الذين عملوا بالفكرة حتّى ورثوا منه حبّ الله ـ إلى أن قال ـ : فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبّته في خالقه ، فإذا فعل ذلك نزل المنزلة الكبرى فعاين ربّه في قلبه ، وورث الحكمة بغير ما ورثه الحكماء ، وورث العلم بغير ما ورثه العلماء ، وورث الصدق بغير ما ورثه الصدّيقون ، إنّ الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت ، وإنّ العلماء ورثوا العلم بالطلب ، وإنّ الصدّيقين ورثوا الصدق بالخشوع وطول العبادة.
أوحى الله إلى بعض الصدّيقين أنّ لي عباداً من عبيدي يحبّوني واُحبّهم ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، أوّل ما اُعطيهم ثلاثاً :
الأوّل : أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما اُخبر عنهم.
والثاني : لو كانت السماوات والأرضون وما فيها من مواريثهم لاستقللتها لهم.
والثالث : اُقبل بوجهي عليهم ، أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحدٌ ما اُريد أن اُعطيه ؟ !
عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : قال الله : ما تحبّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ ممّـا افترضته عليه ، وإنّه ليتحبّب إليَّ بالنافلة حتّى اُحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، إذا دعاني أجبته ، وإذا سألني أعطيته.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : نجوى العارفين تدور على ثلاثة اُصول : الخوف والرجاء والحبّ ، فالخوف فرع العلم ، والرجاء فرع اليقين ، والحبّ فرع المعرفة ، فدليل الخوف الهرب ، ودليل الرجاء الطلب ، ودليل الحبّ إيثار المحبوب على ما سواه ، فإذا تحقّق العلم في الصدر خاف ، ] فإذا كثر المرء في المعرفة خاف [ وإذا صحّ الخوف هرب ، وإذا هرب نجا ، وإذا أشرق نور اليقين في القلب شاهد الفضل ، وإذا تمكّن من رؤية الفضل رجا ، وإذا وجد حلاوة الرجاء طلب ، وإذا وفّق للطلب وجد ، وإذا تجلّى ضياء المعرفة في الفؤاد هاج ريح المحبّة ، وإذا هاج ريح المحبّة استأنس ظلال المحبوب ، وآثر المحبوب على ما سواه ، وباشر أوامره ] واجتنب نواهيه واختارهما على كلّ شيء غيرهما ، وإذا استقام على بساط الاُنس بالمحبوب مع أداء أوامره واجتناب نواهيه [ وصل إلى روح المناجاة والقرب ، ومثال هذه الاُصول الثلاثة كالحرم والمسجد والكعبة ، فمن دخل الحرم أمن من الخلق ، ومن دخل المسجد أمنت جوارحه أن يستعملها في المعصية ، ومن دخل الكعبة أمن قلبه من أن يشغله بغير ذكر الله.
فانظر أ يّها المؤمن ، فإن كانت حالتك حالة ترضاها لحلول الموت ، فاشكر الله على توفيقه وعصمته ، وإن تكن الاُخرى فانتقل عنها بصحّة العزيمة ، واندم على ما سلف من عمرك في الغفلة ، واستعن بالله على تطهير الظاهر من الذنوب ، وتنظيف الباطن من العيوب ، واقطع زيادة الغفلة عن نفسك ، واطفِ نار الشهوة من نفسك.
وعنه (عليه السلام) : لا يمحض رجلٌ الإيمانَ بالله حتّى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه واُمّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلّهم.
[1]النساء : 44.
[2]الفتح : 29.
[3]هود : 63.
[4]هود : 71.
[5]هود : 97.
[6]لقد ذكرت تفصيل الاُنس بالله في رسالة ( مقام الاُنس بالله ) ، وهو مطبوع ، فراجع.
[7]خلاصة واقتباس من المحجّة البيضاء 8 : 68 ـ 79.
[8]بحار الأنوار 67 : 23.