الفصل  السابع - العقل  في  العرش

العقل جوهرة ربّانية قد أفاض الله بها على الإنسان ليكرّمه على مخلوقاته الاُخرى ، وبالعقل امتاز عن العجماوات وتشرّف على الكائنات.

وقد بحث العلماء عنه وعن حقيقته كثيراً ، وإنّ الحكماء قسّموه إلى تقسيمات عديدة كقولهم بالعقل الهيولاني والعقل المستفاد والعقل بالفعل والعقل الكلّي ، واُضيف العقل الإلهي الربّاني القدسي الذي كان عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فهو العقل الكلّي ، وهو الصادر الأوّل من الله جلّ جلاله[1].

وللعقل تجلّيات ومقامات ومراتب تتعلّق بفيض الله وخلقه ، منها : أ نّه أوّل خلق الله من الروحانيّين ، كان على يمين العرش من نور الله عزّ وجلّ.

فعن سماعة قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا . قال سماعة : فقلت : جعلت فداك ، لا نعرف إلاّ ما عرّفتنا . فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : إنّ الله جلّ ثناؤه خلق العقل وهو أوّل خلق خلقه من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره ، فقال له : أقبل ، فأقبل ، ثمّ قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال الله تبارك وتعالى : خلقتك خلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي ... »[2].

والمراد من يمين العرش يعني العلم المبارك والميمون ، وأ نّه من نور الله جلّ جلاله.

وجاء في الخصائص الحسينيّة :

واعلم ـ كما ذكرنا ـ أ نّه وقع اختلاف بين الحكماء من اليونانيّين وغيرهم من العلماء في أوّل ما صدر عن الأوّل ، وفي تعيين أوّل المخلوقات ، كما اختلف المتكلّمون والملّيون في ذلك ، وكذلك اختلفت الأخبار عند الفريقين ، في الصادر الأوّل أ نّه العقل أو القلم أو الروح أو نور النبيّ أو روحه.

فذهب أكثر الحكماء ـ وهم المشّائيون أتباع أرسطوطاليس ـ إلى أنّ أوّل المخلوقات هو العقل الأوّل ـ لقاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ واحد ، كما إنّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ـ ثمّ العقل الأوّل خلق العقل الثاني والفلك الأوّل ، وهكذا حتّى انتهت العقول إلى عشرة ، والأفلاك إلى تسعة ، فإنّ العقل العاشر وهو العقل الفعّال خلق الفلك التاسع وهيولى العناصر الأربعة الماء والتراب والهواء والنار.

والعقل الأوّل المخلوق لله سبحانه وتعالى له ثلاث جهات : وجود من المبدأ الأوّل وهو نور من نوره ووجوب بالنظر إلى المبدأ الأوّل ، فإنّ الله واجب الوجود لذاته ، والعقل واجب الوجود لغيره ، وإمكان من حيث ذاته ، فهو ممكن الوجود ذاتاً بمعنى تساوي طرفي الوجود والعدم فيه ، فإن وُجد يسأل لِمَ وُجد ؟ وإن عُدم يُسأل لِمَ عُدم ؟ فيحتاج في وجوده وعدمه إلى علّة ، بخلاف علّة العلل وهو الله سبحانه.

فالعقل كان بذلك الوجود سبباً لعقل آخر فخلق العقل الثاني ، وبذلك الوجوب سبباً وعلّة لنفس فلك ، وبذلك الإمكان سبباً لجسم فلك ، فخلق باعتبار وجوبه وإمكانه الفلك الأوّل ، وعلى هذا النهج يصدر من العقل الثاني إلى العقل العاشر.

وذهب ثاليس الملطي إلى أنّ أوّل المخلوقات الماء ، وذهب بليناس الحكيم إلى أنّ الله لمّـا أراد أن يخلق الخلق تكلّم بكلمة ، فكانت هذه الكلمة علّة الخلق ، وحدث بعد هذه الكلمة العقل ، فدلّ بالفعل على الحركة ، ودلّت الحركة على الحرارة.

والذي دلّت عليه الروايات الصحيحة الكثيرة ، إنّ أوّل مخلوق هو نور النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ودلّ على ذلك العقل السليم ، فإنّ العلّة في الأشرفيّة وكثرة الاعتناء والأحبّية إلى الله توجب التقدّم في الخلقة ، وفي بعض الروايات نوره ونورهم.

وإذ تحقّق أنّ الحقّ هو أنّ أوّل المخلوقات هو نور النبيّ أو نوره وأنوارهم ، فعلى كلا التقديرين نقول : إنّ أوّل المخلوقات هو نور الحسين (عليه السلام) ، لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)قال : « حسين منّي وأنا من حسين » ، وفي رواية اُخرى : « أنا من حسين وحسين منّي » ، فهو أوّل مخلوق وأوّل ما صدر عن الأوّل ، فكلّ مخلوق تابع له.

فلا غرو أن يبكيه كلّ شيء مخلوق ، فإذا قلنا بكاه كلّ مخلوق ، فلا تتوهّم أ نّه مبالغة أو استعارة تمثيليّة أو خيال ، أو بكاء بلسان حال ، أو فرض وتقدير ، لا بل ذلك حقيقة في الباكين من جميع الموجودات ، من نبيّ أو ملك أو فلك أو إنس أو جنّ أو شيطان أو جنّة أو نار أو نهر أو معادن أو نبات أو حيوان أو شمس أو قمر ، لا أقول في هذا العالم فقط ، بل شموس جميع العوالم وأقمارها ، وسماواتها وأراضيها وسكّانها.

ففي الرواية : خلق الله ألف ألف عالم وألف ألف آدم ، وأنتم آخر العوالم والآدميين ، وهكذا بكاء كلّ شيء بكاء حقيقي ، وإن كان في كلّ بحسبه.

وليس مرادي من بكاء كلّ شيء بكاؤه بعد مقتله فقط ، فإنّ بيان ذلك له أبواب على حدة تذكر بعد باب شهادته ، بل المراد بكاء كلّ شيء عليه قبل قتله ، كما في زيارة شعبان ، مرويّةً عن القائم عجّل الله فرجه ( بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها ولمّـا يطأ لابتيها ) ـ لابتاها : مثنّى لابة ، وهي الأرض ذات الحجارة السوداء ـ .

وليس المراد من بكاء كلّ شيء عليه قبل قتله حصول ذلك في الجملة ، بل أقول : إنّه حيث خلق أوّل ما خلق مظهراً للخضوع والخشوع ، فكلّ خضوع وانكسار في العالم فله وبه ، كما قال بعض الحكماء المحقّقين :

كلّ انكسار وخضوع به *** وكلّ صوت فهو نوح الهواء[3]

ثمّ قال المحقّق المصنّف الشيخ الأجلّ الشيخ جعفر التستري (قدس سره) : اعلم أنّ الله جلّ جلاله لم يزل منفرداً ولم يكن مخلوق ولا زمان ولا مكان ، فلمّـا ابتدأ بخلق أفضل المخلوقات واشتقّ من نوره نور عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، جعل لهم محالاّ متعدّدة وعوالم مختلفة ، كما يظهر من مجموع الروايات المعتبرة . فمنها : قبل خلق العرض ، ومنها : قبل خلق آدم ، ومنها : بعده . أنواراً تارةً وأشباح نور تارة ، وظلالا وذرّاتاً وأنواراً في الجنّة تارة ، وعمود نور قذف في ظهر آدم (عليه السلام) تارة ، وفي أصابع يده اُخرى ، وفي جبينه تارة ، وفي جبين كلّ جدّ من الأجداد من آدم (عليه السلام)إلى والد النبيّ (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن عبد المطّلب ، وفي جبين كلّ جدّة عند الحمل ممّن هو في ترائبها من حوّاء إلى اُمّ النبيّ آمنة بنت وهب.

ثمّ إنّ لنورهم محالاّ متعدّدة قدّام العرش ، وفوق العرش ، وتحت العرش ، وحول العرش ، وفي كلّ حجاب من الحجب الاثني عشر ، وفي البحار ، وفي السرادقات ، ولبقائهم في كلّ محلّ مدّة مخصوصة ، فمدّة وجودهم قبل خلق العرش أربعمائة وعشرون ألف سنة ، وزمان كونهم حول العرش خمسة عشر ألف سنة قبل آدم (عليه السلام) ، وزمان كونهم تحت العرش اثنا عشر ألف سنة قبل آدم.

وليس المقام مقام هذه التفاصيل ، فإنّه يحتاج إلى كتاب مستقلّ ، إنّما المقصود بيان خصائص الحسين (عليه السلام) في نوره ، وامتياز نوره من الأنوار في جميع هذه العوالم والحالات في الظلال والأشباح والذرّات ، وحين تجسّمه بالشجرة في الجنّة ، والقُرط في اُذن الزهراء (عليها السلام) ، وهي في الجنّة في إحدى هذه العوالم.

فنقول : إنّ هذه الأنوار في هذه العوالم مصدرها نور النبيّ (صلى الله عليه وآله) وامتيازه كون نوره من نوره ، فإنّه من حسين وحسين منه ، وحين افتراقهما كان لنور الحسين (عليه السلام)خصوصيّة في أنّ رؤيته كانت موجبة للحزن ، كما اتّفق لآدم (عليه السلام) حين ظهرت الأنوار في أصابعه ، وكان نور الحسين (عليه السلام) في الإبهام ، وقد بقي هذا التأثير إلى الآن ، فإنّ من غلب عليه الضحك إذا نظر إلى ظهر إبهامه غلبه الحزن[4].

واتّفق لإبراهيم (عليه السلام) أيضاً ، حين رأى الأشباح فكان شبحه في تلك العوالم ، كما أنّ التنطّق باسمه ، وسماعه كان مورثاً للحزن[5] ، بل سوى ذلك فيما انتسب إلى نوره ، كما في حديث المسامير الخمسة التي أتى بها جبرائيل (عليه السلام) إلى نوح (عليه السلام)ليسمّر بها جوانب السفينة ، كلّ مسمار باسم واحد من الأنوار الخمسة ، فلمّـا أخذ
المسمار المنتسب إلى نور الحسين (عليه السلام) أشرق وأحسّ من رطوبة بلون الدم ، فسأل عن ذلك ، فاُجيب بأ نّه مسمار الحسين[6] . وسبب ظهور الدم منه شهادته بالكيفيّة الخاصّة.

ومن الخصوصيّات لنوره (عليه السلام) أنّ النور الذي كان يظهر على جبين الاُمّهات عند الحمل بأحد الأجداد للنبيّ (صلى الله عليه وآله) وعلى جبين آمنة عند الحمل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فإنّما ذلك لعدم كون أنفسهن من هذه الأنوار ، فإذا حملته ظهر أثره في الجبهة ، وأمّا إذا كانت الاُمّ بذاتها من الأنوار فلا وجه لظهور النور ، ولا يظهر على الوجه بالخصوص نور زائد على ذلك ، فلم يظهر على جبهة الزهراء (عليها السلام) حين حملها بالحسن نور زائد على وجهها . ولكن خصوصيّة الحسين (عليه السلام) أ نّها لمّـا حملت بالحسين (عليه السلام) قال لها النبيّ (صلى الله عليه وآله) : « إنّي أرى في مقدّم وجهكِ ضوءاً ونوراً ، وستلدين حجّة لهذا الخلق » ، وقالت (عليها السلام) : « إنّي لمّـا حملت به كنت لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى مصباح »[7].

فخصوصيّة نور الحسين (عليه السلام) أ نّه يظهر على النور أيضاً ، ومن خصوصيّاته ـ أيضاً ـ أ نّه يغلب النور أيضاً . ولذا قال من رآه صريعاً وهو في الشمس نصف النهار حين قتله : والله لقد شغلني نور وجهه عن النظر في قتله.

ومن خصوصيّاته أيضاً : أ نّه لا يحجبه حاجب ، كما قال ذلك القائل أيضاً : إنّي ما رأيت قتيلا مضمّخاً بالدم والتراب أنور وجهاً منه ، فلم يحجب التراب والدم الذي علا على وجهه نوره الذي علا كلّ نور[8].


[1]لقد بحثت عن العقل والعقلاء بالتفصيل في ( ما هو العقل ومن هم العقلاء ؟ ) ، فراجع.

[2]البحار 1 : 109 و 158.

[3]الخصائص الحسينيّة : 32.

[4]البحار 42 : 271.

[5]البحار 36 : 151.

[6]البحار 44 : 330.

[7]البحار 43 : 273.

[8]الخصائص الحسينيّة : 36.

الفصل الثامن