2  ـ  العصمة

في قصّة نوح (عليه السلام) قال الله تعالى عن لسان نوح (عليه السلام) في مخاطبة ولده لمّـا دعاه إلى ركوب السفينة ليعصم من الطوفان ، فأجاب الولد : إنّي سآوي إلى جبل يعصمني ، فقال له نوح (عليه السلام) :

( لا عاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِ )[1].

وهذا يعني أنّ العصمة من الطوفان والغرق انحصرت بالسفينة ، من هذا المنطلق قال نوح (عليه السلام) :

( ارْكَبْ مَعَنا )[2].

فكذلك أهل البيت من المعصومين (عليهم السلام) ، فالحديث النبويّ الشريف الذي يشبّه أهل البيت (عليهم السلام) بسفينة نوح يدلّ على عصمتهم ، وأ نّه كلّ من تخلّف عنهم غرق وهوى لا محالة.

فلا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من ركب سفينة أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن تخلّف حتّى ولو كان من أولادهم فإنّه من الهالكين.

فالعصمة التي تعني اللطف والعناية الإلهيّة والقوّة القدسيّة في المعصوم ـ النبيّ والإمام (عليهما السلام) ـ تمنعه من الشين والزلل والخطأ والذنب والسهو ، لا على حدّ الإلجاء والقهر ، هذه العصمة أودعها الله في صفوة عباده من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) لحفظ دينه وشرائعه ومناهجه ، فلولا العصمة[3] لما تمّ اللطف الإلهي في حفظ الدين :

( إنَّا نَحْنُ نَزَّلـْنا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحافِظونَ )[4].

فالعصمة صمّام وضمان لسلامة الدين من الضياع والانحراف والمحو ، ولا يعلمها إلاّ الله سبحانه.

ـ عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) ، قال : الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، فلذلك لا يكون إلاّ منصوصاً ، فقيل له : يا بن رسول الله ، فما معنى المعصوم ؟ فقال : هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة ، والإمام يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قول الله عزّ وجلّ :

( إنَّ هذا القُرْآنَ يَهْدي لِلَّتي هِيَ أقْوَمُ )[5].

ـ عن الحسين الأشقر ، قال : قلت لهشام بن الحكم : ما معنى قولكم : إنّ الإمام لا يكون إلاّ معصوماً ؟ قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال : المعصوم هو الممتنع بالله عن جميع محارم الله ، وقد قال الله تبارك وتعالى :

( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراط مُسْتَقيم ) . بيان : الممتنع بالله أي بتوفيق من الله[6].

في الخصال : قوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدي الظَّالِمينَ ) ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) : عنى به أنّ الإمامة لا تصلح لمن قد عبد صنماً أو وثناً أو أشرك بالله طرفة عين وإن أسلم بعد ذلك ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وأعظم الظلم الشرك ، قال الله عزّ وجلّ : ( إنَّ الشِّرْكَ لَظُلـْمٌ عَظيمٌ ) ، وكذلك لا تصلح الإمامة لمن قد ارتكب من المحارم شيئاً صغيراً كان أو كبيراً وإن تاب منه بعد ذلك ، وكذلك لا يقيم الحدّ من في جنبه حدّ ، فإذاً لا يكون الإمام إلاّ معصوماً ولا تعلم عصمته إلاّ بنصّ من الله عزّ وجلّ عليه على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، لأنّ العصمة ليست في ظاهر الخلقة فتُرى كالسواد والبياض وما أشبه ذلك ، وهي مغيّبة لا تعرف إلاّ بتعريف علاّم الغيوب عزّ وجلّ[7].

فالإمام المستحقّ للإمامة له شرائط وعلامات ، فمنها : العصمة ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : بأن يعلم أ نّه معصوم من الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها لا يزلّ في الفتيا ، ولا يخطئ في الجواب ، ولا يسهو ولا ينسى ، ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا ... العصمة من جميع الذنوب وبذلك يتميّز عن المأمومين الذين هم غير المعصومين لأ نّه لو لم يكن معصوماً لم يؤمن عليه أن يدخل فيما يدخل الناس فيه من موبقات الذنوب المهلكات والشهوات واللذات[8].

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ ممّـا استحقّت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار ، ثمّ العلم المنوّر بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة ، من حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصّه وعامّه والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه[9].

فالإمام لا بدّ أن يكون معصوماً ، ولا يعرف عصمته الذاتيّة إلاّ الله سبحانه ، فهو الذي ينصبه إماماً على الناس بنصّ منه ومن رسوله ويخبر عن عصمتهم.

ـ عن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون[10].

وبهذا فالله هو الذي يختار ويصطفي من عباده الأنبياء ثمّ خلفاءهم الأوصياء ، فمن كان معهم فهو في سفينة النجاة ، فمن ركب سفينة نوح فإنّه يسلم من الغرق ومن الهلاك ، ومن يركب سفينة الحسين (عليه السلام) فإنّه يأمن على نفسه من الغرق والهلاك ، فلا عصمة إلاّ بركوب السفينتين ، سفينة الآية لقوم نوح وسفينة الرواية لاُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله).


[1]هود : 43.

[2]هود : 42.

[3]من مظاهر كمال الأنبياء والأوصياء والتي اتّصف بها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وسيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، هي العصمة من الآثام والمعاصي والذنوب ، والتنزّه عن كلّ القبائح وكلّ ما يشين المرء ، ولولا ذلك لما تمكّنت الاُمّة من معرفة الحقّ من الباطل والخطأ من الصواب ، وقد عرّف متكلّموا الشيعة العصمة بتعاريف عديدة مرجعها إلى ما ذكرناه ، وأساسه بنظري هو العلم النوري الذي يقذفه الله في قلب من يشاء ، فإنّ العلم بمنشأ الذنوب ونتائجها وآثارها الوضعيّة والتكليفيّة في الدارين ، يمنع الإنسان عن المعصية ، فيعصمه بعصمة ذاتيّة كلّية ، كما في الأنبياء والأوصياء والتي تسمّى بالعصمة الكبرى ، واُخرى بعصمة أفعاليّة جزئيّة ، كما في الأولياء والصلحاء ، وهذا العلم هو من الله سبحانه بلطف خاصّ ، وهو العلم الذي علّم آدم ، فهو من العلم الآدمي ، وهناك علم ناري شيطاني خال عن التقوى عار عن التزكية.

لو كان للعلم غير التقى شرفاً *** لكان إبليس أشرف خلق الله

فهذا العلم يحرق ويبيد ويهلك النفوس والحرث والنسل ، وذلك العلم يعمر به الديار والقلوب ويسعد به الإنسان في الدارين ، فالعلم الإلهي النوري الآدمي يوجب العصمة لا محالة ، وإنّما يغفر الله للذين يعملون السوء بجهالة.

وأمّا العصمة اصطلاحاً :

فقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : بأ نّها الامتناع بالاختيار عن فعل الذنوب والقبائح عند اللطف الذي يحصل من الله تعالى في حقّه ، وهو لطف يمتنع من يختصّ به من فعل المعصية وترك الطاعة مع القدرة عليهما.

ويقول العلاّمة الحلّي (قدس سره) : بأ نّها لطف من الله تعالى يفيضه على المكلّف ، لا يكون به مع ذلك داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية ، مع قدرته على ذلك.

وقال الشيخ الطوسي (قدس سره) : بأ نّها ما يمتنع المكلّف من المعصية في حال تمكّنها منها.

فالعصمة يعني الكمال التامّ لنفس المعصوم ، والامتناع من اقتراف أيّ ذنب ومعصية واشتباه وخطأ وسهو ، وهذا لا يكون إلاّ لمن اختاره الله واصطفاه بحكمته البالغة لأداء رسالته السمحاء وحفظها من الضياع والانحراف.

واستدلّوا على العصمة بأدلّة عقليّة ونقليّة منها :

1 ـ إنّ الإمام لو لم يكن معصوماً للزم التسلسل أو الدور وكلاهما باطلان فثبت المطلوب عصمة الإمام.

2 ـ إنّ الإمام (عليه السلام) حافظ للشرع المقدّس فيجب أن يكون معصوماً.

3 ـ لو وقع منه الخطأ لوجب الإنكار عليه وذلك يتنافى مع الأمر الإلهي بطاعته بقوله تعالى : ( أطيعوا اللهَ وَأطيعوا الرَّسولَ وَاُولي الأمْرِ مِنْكُمْ ).

4 ـ لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام.

5 ـ أ نّه لو وقع منه المعصية للزم أن يكون أقلّ درجة من العوامّ ، لأنّ عقله أكمل ومعرفته بالله أتمّ ، فلو وقع منه المعصية لكان أقلّ حالا من رعيّته.

ومن الآيات القرآنية يكفينا شاهداً قوله تعالى : ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً ) ، وإنّما أداة حصر ، والرجس مطلق المعصية وما يشين الإنسان ، وأهل البيت (عليهم السلام) كما في روايات الفريقين السنّة والشيعة متواتراً هم محمّد رسول الله وعليّ المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن المجتبى والحسين سيّد الشهداء عليهم أفضل صلوات الله ، كما ورد ذلك في حديث الكساء عن اُمّ سلمة.

[4]الحجر : 9.

[5]البحار 25 : 194 ، باب 5 عصمتهم (عليهم السلام) ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام) ، وفي الباب 24 رواية ، والآية في سورة الإسراء : 9.

[6]المصدر ، عن معاني الأخبار : 44 ، والآية من آل عمران : 101 ، وللشيخ الصدوق كلام مفصّل في العصمة ولزومها ، فراجع.

[7]المصدر ، عن الخصال 1 : 149.

[8]البحار 25 : 164.

[9]البحار 25 : 149.

[10]المصدر ، عن إكمال الدين : 163.

3 ـ الإيمان