![]() |
![]() |
![]() |
كلّنا نعرف اللون الحسّي ، فهو بديهي التصوّر ، فإنّه بالقوّة الباصرة وحاسّتها وبالضوء والنور ، نرى الألوان الزاهية التي تعدّ بالآلاف لتفاوتها ، في مراتبها الطولية والعرضية ، وامتزاجها وتركّبها الخارجي بعضها مع بعض.
إلاّ أنّ اُمّهات الألوان سبعة كما هو المعروف ، أو أربعة كما ورد في روايات العرش ، وهي عبارة عن الأبيض والأصفر والأخضر والأحمر.
والأجسام المركّبة من العناصر الأربعة ـ الماء والتراب والهواء والنار ـ يتولّد منها ما لا يعدّ ولا يحصى ، كذلك الألوان.
وأمّا الألوان في العرش فقد جاء في حديث الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) عن تفسير القمّي بسنده قال (عليه السلام) :
جاء رجل إلى أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال له : إنّ ابن عباس يزعم أ نّه يعلم كلّ آية نزلت في القرآن في أيّ يوم نزلت وفيمن نزلت ! فقال أبي (عليه السلام) : سله فيمن نزلت :
( وَمَنْ كانَ في هذِهِ أعْمى فَهُوَ في الآخِرَةِ أعْمى وَأضَلُّ سَبيلا ) ؟
وفيمن نزلت :
( وَلا يَنْفَعَكُمْ نُصْحي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أنْ يَغْويكُمْ ) ؟
وفيمن نزلت :
( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اصْبِروا وَصابِروا وَرابِطوا ) ؟
فأتاه الرجل فسأله فقال : وددت أنّ الذي أمرك بهذا واجهني به فأسأله عن العرش ممّ خلقه الله وكم هو وكيف هو ؟
فانصرف الرجل إلى أبي (عليه السلام) فقال أبي (عليه السلام) : فهل أجابك بالآيات ؟
قال : لا.
قال أبي : لكن اُجيبك فيها بعلم ونور غير المدّعى ولا المنتحل.
أمّا قوله : ( وَمَنْ كانَ في هذِهِ أعْمى فَهُوَ في الآخِرَةِ أعْمى وَأضَلُّ سَبيلا )ففيه نزلت وأبيه.
وأمّا قوله ( وَلا يَنْفَعَكُمْ نُصْحي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ ) ففي أبيه نزلت.
وأمّا الاُخرى ففي ابنه نزلت وفينا ولم يكن الرباط الذي أمرنا به ، وسيكون ذلك من نسلنا المرابط ومن نسله المرابط.
وأمّا ما سأل عنه من العرش ممّ خلقه الله ، فإنّ الله خلقه أرباعاً ، لم يخلق قبله إلاّ ثلاثة أشياء : الهواء والقلم والنور ، ثمّ خلقه من ألوان أنوار مختلفة من ذلك النور : نور أخضر منه اخضرّت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرّت الصفرة ، ونور أحمر منه احمرّت الحمرة ، ونور أبيض وهو نور الأنوار ، ومنه ضوء النهار ، ثمّ جعله سبعين ألف طبق غلظ كلّ طبق كأوّل العرش إلى أسفل السافلين ، ليس من ذلك طبق إلاّ يسبّح بحمد ربّه ويقدّسه بأصوات مختلفة وألسنة غير مشتبهة ، لو أذن للسان واحد فأسمع شيئاً ممّـا تحته لهدم الجبال والمدائن والحصون ، وكشف البحار ولهلك ما دونه ، له ثمانية أركان يحمل كلّ ركن منها من الملائكة ما لا يحصى عددهم إلاّ الله ، يسبّحون بالليل والنهار لا يفترون ، ولو أحسّ حسّ شيء ممّـا فوقه ما قام لذلك طرفة عين بينه وبين الإحساس حجب الجبروت والكبرياء والعظمة والقدس والرحمة والعلم ، وليس وراء هذا مقال ، لقد طمع الجائر في غير مطمع ، أما إنّ في صلبه وديعة قد ذرئت لنار جهنّم فيخرجون أقواماً من دين الله ، وستصبغ الأرض بدماء أفراخ من أفراخ آل محمّد ، تنهض تلك الأفراخ في غير وقت وتطلب غير مدرك ، ويرابط الذين آمنوا ويصبرون ويصابرون ، حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين[1].
وجاءت الرواية في توحيد الصدوق بسنده إلى قوله ـ وليس بعد هذا مقال ، كما جاءت في الكشّي بسنده إلى آخر الخبر ، وكذلك في الاختصاص بسنده مثله ، وللعلاّمة المجلسي بيان في شرح الخبر ، فراجع[2].
وجاء في الكافي بسنده رفعه قال :
سأل الجاثليق أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له : أخبرني عن الله عزّ وجلّ يحمل العرش أو العرش يحمله ؟
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : الله عزّ وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله عزّ وجلّ :
( إنَّ اللهَ يَمْسِكُ السَّماواتِ وَالأرضَ أن تَزولا وَلَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَد مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كانَ حَليماً غَفوراً ).
قال : فأخبرني عن قوله : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمانِيَةٌ )فكيف ذاك وقلت : إنّه يحمل العرش والسماوات والأرض ؟
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرّت الحمرة ، ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرّت الصفرة ، ونور أبيض منه ابيضّ البياض ، وهو العلم الذي حمّله الله الحَمَلة ، وذلك نور من نور عظمته فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ـ المشتّتة ـ فكلّ شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، فكلّ شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا ، والمحيط بهما من شيء وهو حياة كلّ شيء ونور كلّ شيء سبحانه وتعالى عمّـا يقولون علوّاً كبيراً.
قال له : فأخبرني عن الله عزّ وجلّ أين هو ؟
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : هو ها هنا وها هنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله :
( ما يَكونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إلاّ وَهُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أكْثَرَ إلاّ هُوَ مَعَهُمْ أيْنَما كانوا ).
فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنّه يعلم السرّ وأخفى ، وذلك قوله تعالى :
( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتُ وَالأرْضُ وَلا يَؤودُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ العَلِيُّ العَظيمُ ).
فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه ، وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه ، وأراه خليله (عليه السلام) ، فقال :
( وَكَذلِكَ نُريَ إبْراهيمَ مَلَكوتَ السَّماواتِ وَالأرضَ وَلِيَكونَ مِنَ المُؤْمِنينَ ).
وكيف يحمل حملة العرش الله ، وبحياته حييت قلوبهم ، وبنوره اهتدوا إلى معرفته[3] ؟ !
قوله (عليه السلام) : ( والذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه ) إشارة إلى أنّ العرش هو العلم الإلهي الوسيع الذي جميع الأشياء في كلّ العوالم ، حتّى العلم بذاته سبحانه وتعالى ، والعلماء يحبّهم الله اصطفاهم ليحملوا علمه ، إلاّ أ نّهم يحملونه في أسماءه وصفاته ، لا في ذاته ، فما عرف الله في ذاته أحد ( وما عرفناك حقّ معرفتك ) ، فلا يعلم ما هو إلاّ هو جلّ جلاله.
ثمّ علماء السماء هم الملائكة ، وعلماء الأرض هم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) ، وورثة الأنبياء من العلماء الصالحين المتّقين الزاهدين ، فإنّ العلم الإلهي يقذف في قلوبهم ، لأنّ العلم كما ورد في الخبر الشريف : « ليس بكثرة التعلّم إنّما العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء هدايته » ، فيما لو كان من أهل الهداية والصلاح باختياره ذلك ، فمثل هؤلاء يحملون عرش الله ، فقلب المؤمن عرش الرحمن ، وعلى مثل هذا العرش المقدّس كتب بلون المعرفة : ( إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة ) ، فكلّ عالم ـ الأنبياء والأوصياء والعلماء الصلحاء ـ هو حسينيّ الهوى ، حسينيّ الوجود والقلب ، حسينيّ العلم والعرش ، وكلّ حسينيّ هو عالم وفي خطّ العلماء ، ومن بلغ هذا المقام الشامخ والمنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة ، فإنّه يرى ملكوت السماوات والأرض ، ويرى حقائق الأشياء وبواطنها ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم ، امتحن الله قلبه بالإيمان ، وفاز بسعادة الدارين.
عن إبراهيم بن محمّد الخزّاز ومحمّد بن الحسين ، قالا : دخلنا على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، فحكينا له ما روي أنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) رأى ربّه في هيئة الشابّ الموفّق في سنّ أبناء ثلاثين سنة ، رجلاه في خضرة . وقلنا : إنّ هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي ـ وكان هذا من الافتراء عليهم ، فإنّهم من الثقات المقرّبين ـ يقولون : إنّه أجوف إلى السرّة والباقي صمد . فخرّ ساجداً ثمّ قال :
سبحانك ما عرفوك ولا وحدّوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك ، سبحانك كيف طاوعتهم أنفسهم أن شبّهوك بغيرك ، إلهي لا أصفك إلاّ بما وصفت به نفسك ، ولا اُشبّهك بخلقك ، أنت أهلٌ لكلّ خير ، فلا تجعلني من القوم الظالمين.
ثمّ التفت إلينا فقال : ما توهّمتم من شيء فتوهّموا الله غيره.
ثمّ قال : نحن آل محمّد النمط الوسطى الذي لا يدركنا الغالي ، ولا يسبقنا التالي ، يا محمّد ، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين نظر إلى عظمة ربّه كان في هيئة الشابّ الموفّق وسنّ أبناء الثلاثين سنة ، يا محمّد عظم ربّي وجلّ أن يكون في صفة المخلوقين.
قال : قلت : جعلت فداك من كانت رجلاه في خضرة ؟
قال : ذاك محمّد (صلى الله عليه وآله) ، كان إذا نظر إلى ربّه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتّى يستبين له ما في الحجب ، إنّ نور الله منه اخضرّ ما اخضرّ ، ومنه احمرّ ما احمرّ ، ومنه ابيضّ ما ابيضّ ، ومنه غير ذلك ، يا محمّد ، ما شهد به الكتاب والسنّة فنحن القائلون به.
للعلاّمة المجلسي في بحاره بيان لطيف لهذا الخبر الشريف وفي ألوان يقول : وأمّا تأويل ألوان الأنوار فقد قيل فيه وجوه :
الأوّل : إنّها كناية عن تفاوت تلك الأنوار بحسب القرب والبعد من نور الأنوار ، فالأبيض هو الأقرب ، والأخضر هو الأبعد ، كأ نّه ممزج بضرب من الظلمة ، والأحمر هو المتوسّط بينهما ، ثمّ ما بين كلّ اثنين ألوان اُخرى كألوان الصبح والشفق المختلفة في الألوان لقربها وبعدها من نور الشمس.
الثاني : إنّها كناية عن صفاته المقدّسة ، فالأخضر قدرته على إيجاد الممكنات وإفاضته الأرواح التي هي عيون الحياة ومنابع الخضرة ، والأحمر غضبه وقهره على الجميع بالإعدام والتعذيب ، والأبيض رحمته ولطفه على عباده كما قال تعالى : ( وَأمَّا الَّذينَ ابْيَضَّتْ وُجوهُهُمْ فَفي رَحْمَةِ اللهِ ).
الثالث : ما استفدته من الوالد العلاّمة قدّس الله روحه ، وذكر أ نّه ممّـا اُفيض عليه من أنوار الكشف واليقين ، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ لكلّ شيء مثالا في عالم الرؤيا والمكاشفة ، وتظهر تلك الصور والأمثال على النفوس مختلفة باختلاف مراتبها في النقص والكمال ، فبعضها أقرب إلى ذي الصورة ، وبعضها أبعد ، وشأن المعبّر أن ينتقل منها إلى ذواتها.
فإذا عرفت هذا :
فالنور الأصفر : عبارة عن العبادة ، ونورها كما هو المجرّب في الرؤيا ، فإنّه كثيراً ما يرى الرائي الصفرة في المنام فيتيسّر له بعد ذلك عبادة يفرح بها ، وكما هو المعاين في جباه المتهجّدين ، وقد ورد في الخبر في شأنهم أ نّه ألبسهم الله من نوره لمّـا خلوا به.
والنور الأبيض : العلم ، لأ نّه منشأ للظهور ، وقد جرّب في المنام أيضاً.
والنور الأحمر : المحبّة ، كما هو المشاهد في وجوه المحبّين عند طغيان المحبّة ، وقد جرّب في الأحلام أيضاً.
والنور الأخضر : المعرفة ، كما تشهد به الرؤيا ويناسبه هذا الخبر ، لأ نّه (عليه السلام)في مقام غاية العرفان كانت رجلاه في خضرة.
ولعلّهم (عليهم السلام) إنّما عبّروا عن تلك المعاني على تقدير كونها مرادة بهذه التعبيرات لقصور أفهامنا عن محض الحقيقة ، كما تعرض على النفوس الناقصة في الرؤيا هذه الصور ، ولأ نّا في منام طويل من الغفلة عن الحقائق كما قال (عليه السلام) : الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا.
وهذه التأويلات غاية ما يصل إليه أفهامنا القاصرة ، والله أعلم بمراد حججه وأوليائه (عليهم السلام)[4].
[1]البحار 55 : 24 ، عن تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي : 385.
[2]البحار 24 : 374.
[3]البحار 55 : 9 ، عن الكافي 1 : 129.
[4]البحار 4 : 43.
![]() |
![]() |
![]() |