![]() |
![]() |
![]() |
المعرفة كلّي قابل للتشكيك ، له مراتب طوليّة وعرضيّة ، اُفقيّة وعموديّة ، كالنور والوجود ، تختلف بالشدّة والضعف وبالأولويّة وما شابه ، فطرفا المعرفة ـ بنظري ـ عبارة عن المعرفة العرشيّة السماوية ، وهي أعلى مراتب المعرفة ، وأدناها : المعرفة الفرشيّة الأرضيّة ، ومن ثمّ بينهما مراتب لا تعدّ ولا تحصى كالنور الحسّي ، فعندنا الشمعة في الأرض ، فهي من أدنى الأنوار الأرضيّة ، وعندنا الشمس في كبد السماء وهي من أعلى الأنوار السماويّة ، وبينهما مراتب طوليّة وعرضيّة ، ثمّ من الكلّي المشكّك المعرفة والعلم . واُمّهات مراحل ومراتب المعرفة ، عبارة عن ثلاث مراحل كاليقين ، فعند علماء الأخلاق كما هو في القرآن الكريم ، أنّ لليقين ثلاث مراحل طوليّة :
أوّلها علم اليقين ، وهو يعني تصوّر الشيء وتعقّله ، كما لو تصوّرنا النار ورأيناها من بعيد.
ثانيها : عين اليقين ، ويعني القرب من الشيء كالقرب من النار حتّى يحسّ بحرارتها.
وثالثها : حقّ اليقين ، ويعني لمس الشيء والدخول فيه ، كمن يدخل في النار ، وتحرقه فيمسّها من كلّ وجوده ومن صميمه ، يعلم بها متيقّناً بكلّ مشاعره وأحاسيسه.
والمعرفة كذلك لها ثلاث مراحل : جلال وجمال وكمال.
والمقصود من الاُولى : معرفة الشيء في حدوده وإطاره الخاصّ ، والعلم به بما يتميّز عن غيره ، فيما به الامتياز ، فيجلّ عن الغير ويمتاز في شكله وهندسته وحدوده الخاصّة ، كمن يرى الجبل من بعيد ، ويرى عظمته وجلاله ، فإنّه يجلّ في هندسته وشكله الظاهري عن غيره ، فهذه من المعرفة الجلاليّة الصورية الظاهريّة ، وتكون في العقليّات ـ كما في علم المنطق ـ : بالجنس القريب والفصل القريب ، ويسمّى بالحدّ التامّ.
والمقصود من الثانية : أن يعرف باطن الشيء ، ويصل إلى جوهره ، ويدخل في حقيقته ووجوده ، فيرى جماله ، وقد ورد عن الإمام السجّاد (عليه السلام) في مناجاته : « اللهمّ أرني حقائق الأشياء كما هي » ، فتكون من المعرفة الجماليّة الباطنيّة ، وربما الاُولى معرفة الماهيّات ، والثانية معرفة الوجود.
والمقصود من الثالثة : أن يقف العارف على غاية الشيء وكماله المطلوب فيه ، وكنهه ، وحقيقته المغيّاة ، فيحيط بما له من الحقائق والواقع ونفس الأمر ، فيعرفه معرفة كماليّة وغائيّة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : « من كانت له حقيقة ثابتة ، لم يقم على شبهة هامدة ، حتّى يعلم منتهى الغاية »[1].
وهذه المراحل يمكن طيّها وسيرها في كلّ الأشياء ، فالشريعة السماويّة السمحاء مثلا ، تارة يعرفها الإنسان في حدود أحكامها من الحلال والحرام ، ولم يتعدّاها ، بل يقف عند حدّها ، فهو عارف بجلال الشريعة.
ومن تمثّلت له الأحكام في بواطنها ، ووقف على أسرارها في سلوكه ووجوده ، وعرف فلسفتها ـ إن صحّ التعبير ـ فإنّه يقف على جمال الشريعة ، كمن كتب في أسرار العبادات كالصلاة والصوم والحجّ ، فهذا عارف بجمال الشريعة.
ومن رأى الله سبحانه من وراء الشريعة ، بقيامها في باطنه وسرّه ، وعرف الغاية القصوى من الشريعة ، ووقف على كمالها ، فإنّه عارف بكمال الشريعة.
وفي المحسوسات ـ من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ـ لا بأس أن نضرب مثالا ، وهو : العين الباصرة ، فإنّها تكون جليلة النظر في شكلها الظاهري ، وجميلة العين في نظرتها النافذة ، وكميلة الذات في اجتنابها رؤية المحارم والأجانب ، فجلالها في هندستها ، وجمالها في نظراتها ، وكمالها في تركها الحرام.
وهذه المراحل يمكن جريانها في الوجود والماهيّات ، في الواجب والممكنات ، كلّ بحسب ما فيه من المقامات والغايات ، وربما ما يقوله الصوفيّة من الشريعة والطريقة والحقيقة من هذا الباب ، فتأمّل.
وهناك تقسيم آخر للمعرفة كتقسيمها إلى :
1 ـ المعرفة البرهانيّة : التي تعتمد على الاستدلال والبرهان العقلي ، كما عند فلاسفة المشّاء ، فإنّ فلسفتهم في حركة ومشي من الاستدلالات المتوالية حتّى الوصول إلى الحقيقة بالبرهان العقلي من القياس وما شابه ، وهؤلاء أتباع أرسطو والشيخ الرئيس.
2 ـ المعرفة الشهوديّة : وهي تعني تهذيب النفس وصيقلة القلب حتّى يكون كالمرآة لانطباع صور الأشياء وحقائقها وذواتها ، وهي طريقة الإشراقيّين من الحكماء وكذلك العرفاء والصوفيّة . وهؤلاء أتباع أفلاطون وشيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي ومحيي الدين العربي.
3 ـ المعرفة الإيمانيّة : التي تستند على الآيات القرآنيّة الكريمة والأحاديث الشريفة الواردة عن الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) وعن أهل بيته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، ومع ثبوتها وإثباتها تكون معصومة من الخطأ والانحراف بخلاف الاُخريين ، فتدبّر.
كما هناك تقسيمات عديدة للمعرفة ، من زوايا متعدّدة ، وباعتبارات متفاوتة.
ويبدو لي أنّ الدين الإسلامي ، ذلك الذي أخبر الباري سبحانه عنه بقوله تعالى :
( اليَوْمَ أكْمَلـْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً )[2].
وقال عزّ وجلّ :
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )[3].
إنّما يعرف توحيده بمعرفة جلاليّة ، فإنّ الله سبحانه إذا أردنا أن نعرفه من باب « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّه نرى العجز والجهل والموت فينا ، بل نرى كلّ النقائص ، ولا يصحّ أن يكون علّة وجودنا ناقصاً مثلنا ، بل لا بدّ من كماله المطلق ، فإذا كان الإنسان عاجزاً ، فربّه عزّ وجلّ ليس بعاجز ، أي إنّه قادر ، وإذا كان جاهلا ، فربّه سبحانه ليس بجاهل ، فهو العالم ، وإذا كان ميّتاً فإنّه لا يموت فهو الحيّ ، وهكذا الصفات الاُخرى . فهذه من المعرفة الجلاليّة في التوحيد.
وأمّا المعرفة الجماليّة في الدين فإنّها تتجلّى في النبوّة ، فإنّما نعرف الأنبياء وخاتمهم بمعرفة جماليّة ، فإنّ النبيّ هو جمال الله في أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فهو خليفة الله في أرضه ، وهو مظهر جماله والإنسان الكامل وجامع الجمع.
وأمّا المعرفة الكماليّة في الدين ، إنّما يكون بعد تمامه وإكماله بالولاية والإمامة ، فإنّ من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهليّة ، وكان ناقصاً في معرفة توحيده ومعرفة النبوّة ، وبالإمام يعرف الله سبحانه بمعرفة الجمال والكمال ، فلولا النور العلويّ ، ولولا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولايته المطلقة التي تمثّل ولاية الله سبحانه ، لما تمّ التوحيد ولما كملت النبوّة ، فالولاية روح الدين وكماله.
فخلاصة التوحيد في النبوّة ، وخلاصة النبوّة في الإمامة ، والإمامة كمال النبوّة ، والنبوّة كمال التوحيد ، والتوحيد جلال الدين ، والدين فلسفة الحياة ، والحياة عقيدة وجهاد . شعورٌ وشعار ، فلسفة وجود وفلسفة عمل ، قانون وتطبيق ....
ثمّ القرآن الكريم كتاب الله الحكيم ، فيه تبيان كلّ شيء ، وفيه كلّ المعارف والعلوم ، كما يكون كلّ ذلك عند العترة الطاهرة ، لعدم افتراقهما ـ الكتاب والعترة ـ في كلّ شيء منذ البداية حتّى النهاية إلى يوم القيامة ، وذلك بنصّ حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »[4].
وموضوع رسالتنا هذه[5] إنّما هو معرفة مولانا وإمامنا سيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) ريحانة رسول الله ، وسبطه الأنور ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وذلك من خلال الحديث المشهور النبويّ الشريف : « إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » ، ونحاول أن نعرفه (عليه السلام) ، بمعرفة جماليّة عرشيّة من خلال القرآن الكريم والعترة الطاهرة ، والله المستعان وهو الموفّق للسداد والرشاد ، عسى أن نوفّق للوصول إلى ساحل بحار كُنه المعرفة.
عن المفضل قال : دخلت على الصادق (عليه السلام) ذات يوم فقال لي : يا مفضّل ، هل عرفت محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) كنه معرفتهم ؟ قلت : يا سيّدي ، وما كنه معرفتهم ؟ قال : يا مفضّل ، من عرفهم كنه معرفتهم كان مؤمناً في السنام الأعلى ـ أي أعلى مدارج الإيمان ـ قال : قلت : عرّفني ذلك يا سيّدي ، قال : يا مفضّل ، تعلم أ نّهم علموا ما خلق الله عزّ وجلّ وذرأ وبرأ ، وأ نّهم كلمة التقوى وخزّان السماوات والأرضين والجبال والرمال والبحار ، وعلموا كم في السماء من نجم وملك ، ووزن الجبال وكيل ماء البحار وأنهارها وعيونها ، وما تسقط من ورقة إلاّ علموها ، ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين ، وهو في علمهم ، وقد علموا ذلك ، فقلت : يا سيّدي ، قد علمت وأقررت به وآمنت ، قال : نعم يا مفضّل ، نعم يا مكرّم ، نعم يا محبور ، نعم يا طيّب ، طبت وطابت لك الجنّة ولكلّ مؤمن بها[6].
أقول : مثل هذه المعرفة المتعالية لا يكفي العلم بها ، بل لا بدّ فيها من العلم والإقرار والإيمان ، أي لا بدّ أن تدخل في وجود الإنسان وصميمه فإنّه بعقله يعلم بها ، وبلسانه يقرّ بها ، وبقلبه يؤمن بها ، فلا بدّ من عقد العلم ثمّ عقد الإيمان ، فحينئذ يكرّم عند الله ، فإنّه يصل إلى مقام التقوى :
( إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ )[7].
كما يكون مسروراً ويكون محبوراً فرحاً مطمئنّاً قلبه بذكر الله سبحانه ، فينال الطيب في الدنيا والآخرة ، فيسعد في حياة طيّبة وعيش رغيد ، وإلى مثل هذه المعرفة ندعو الناس على بصيرة وعلم.
وليس كلّ واحد يصل إلى هذه المرحلة من العلم والمعرفة ، كما ليس كلّ واحد يكون من أهل النجاة ، لا سيّما عند سيّد الشهداء (عليه السلام) ، فليس كلّ واحد يركب سفينته ، بل بجذبة وموالاة منه.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنّ حبابة الوالبيّة كانت إذا وفد الناس إلى معاوية وفدت هي إلى الحسين (عليه السلام) ، وكانت امرأة شديدة الاجتهاد ، قد يبس جلدها على بطنها من العبادة ، وإنّما خرجت مرّة ومعها ابن عمٍّ لها غلام ، فدخلت به على الحسين (عليه السلام) فقالت له : جعلت فداك ، فانظر هل تجد ابن عمّي هذا فيما عندكم وهل تجده ناجياً ؟ قال : فقال : نعم نجده عندنا ونجده ناجياً[8].
عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أ نّه كتب إلى عبد الله بن جندب في رسالة : إنّ شيعتنا مكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق ، يردون موردنا ، ويدخلون مدخلنا ، ليس على ملّة الإسلام غيرنا وغيرهم[9].
ولا يخفى أنّ الذين ينسبون إلى أهل البيت الأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام) ، ويتبعون مذهبهم الصائب ، وسبيلهم الحقّ ، وصراطهم المستقيم ، يمكن في مقام معرفتهم ودرجات إيمانهم ، أن يقسّموا إلى طوائف ثلاثة[10] :
1 ـ الشيعة المخلصين الذين وردت صفاتهم وفضائلهم في الروايات الكثيرة ، أ نّهم صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، خمص البطون من الجوع ، ذبل الشفاه من الدعاء ... وهؤلاء هم الشيعة بالمعنى الأخصّ.
2 ـ المحبّون الذين زرعوا في قلوبهم محبّة أهل البيت ومودّتهم وأطاعوهم واتّبعوهم ، إلاّ إنّهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيّئاً.
3 ـ المعادون لأعدائهم (عليهم السلام) من أجلهم.
وهذا التقسيم استخرجناه من الحديث الشريف : الأصدقاء ثلاثة : صديقك وصديق صديقك وعدوّ عدوّك ، والأعداء ثلاثة : عدوّك وصديق عدوّك وعدوّ صديقك.
ثمّ ـ كما ذكرنا ـ إنّ المعرفة ذات مراتب كمراتب النور الحسّي ، فمن الشيعة ـ بالمعنى الأعمّ ـ من يحمل أعلى مراتبها ويعلم بكنهها بالبرهان الساطع والدليل القاطع ، ومنهم من يحمل أدناها واُولى المراتب ، وهم الأكثريّة ، والعجب أ نّهم يعيبون من يفوقهم بالمعرفة ويعادونهم ، فإنّ الناس أعداء ما جهلوا ، وذلك لضعف قلوبهم ومعرفتهم وإيمانهم ، حتّى يوردون بعض الشبهات التي يلقيها الشيطان ويوحيها إلى أوليائه ليفسد على الناس عقائدهم ، كقولهم : كيف يقدم الإمام (عليه السلام)على قتل نفسه ؟ وينتهي به الأمر أن يعتقد بأنّ إمامة الحقّ المعصوم والعالم بعلم الله كأئمة الأعداء ، فيكسر حجّته ويخصم نفسه ويقصّر في معرفة إمامه ، ويُعيب ذلك على من أعطاه الله برهان حقّ المعرفة ، والتسليم لأمر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، كما ورد في الخبر الشريف :
ـ عن ضريس الكناسيّ ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول وعنده اُناس من أصحابه وهم حوله : إنّي لأعجب من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمة ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة الله ، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم ، لضعف قلوبهم فينقصونا حقّنا ، ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا ، أترون الله افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يخفي عليهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يرد عليهم ممّـا فيه قوام دينهم.
فقال له حمران : يا بن رسول الله ، أرأيت ما كان من قيام أمير المؤمنين والحسن والحسين وخروجهم وقيامهم بدين الله وما اُصيبوا به من قبل الطواغيت والظفر بهم حتّى قتلوا وغلبوا ؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام) : يا حمران ، إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ، ثمّ أجراه عليهم فيتقدّم علم إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام) ، وبعلم صمت من صمت منّا ، ولو أ نّهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من ذلك ، سألوا الله أن يدفع عنهم وألحّوا عليه في إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم ، لزال أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدّد ، وما كان الذي أصابهم لذنب اقترفوه ولا لعقوبة معصية خالفوا فيها ، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلّغهم إيّاها فلا تذهبنّ بك المذاهب فيهم[11].
ـ عن صالح بن عقبة الأسدي ، عن أبيه ، قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : يقولون بأمر ثمّ يكسرونه ويضعّفونه ، يزعمون أنّ الله احتجّ على خلقه برجل ، ثمّ يحجب عنه علم السماوات والأرض ، لا والله لا والله لا والله ، قلت : فما كان من أمر هؤلاء الطواغيت وأمر الحسين بن عليّ (عليهما السلام) ؟ فقال : لو أ نّهم ألحّوا فيه على الله لأجابهم الله ، وكان يكون أهون من سلك فيه خرز انقطع فذهب ، ولكن كيف ؟ إنّا إذاً نريد غير ما أراد الله[12].
قال الراوندي (رحمه الله) بعد إيراد الخبر : يعني أنّ الله لم يرد ذلك إلجاءً واضطراراً ، وإنّما أراد أن يكون ذلك اختياراً ، فإنّ الإلجاء ينافي التكليف ، وكذلك نحن نريد مثل ذلك ، ولا نخالف الله.
فما يفعله الإمام (عليه السلام) إنّما بعلم الله وإرادته لمصالح تشريعيّة وتكوينيّة ، يعلمها الله والراسخون في العلم ، وإنّ الإمام (عليه السلام) بمنزلة البحر الزاخر ، لا ينفد ما عنده ، وعجائبه أكثر من ذلك ، كما ورد في الخبر الشريف :
عن عليّ بن أبي حمزة ، قال : كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبش ـ السودان ـ وقد اشتروهم له ، فكلّم غلاماً منهم وكان من الحبش جميل فكلّمه بكلامه ساعة حتّى أتى على جميع ما يريد وأعطاه درهماً ، فقال : أعطِ أصحابك هؤلاء كلّ غلام منهم كلّ هلال ـ شهر ـ ثلاثين درهماً ثمّ خرجوا.
فقلت : جعلت فداك ، لقد رأيتك تكلّم هذا الغلام بالحبشيّة فماذا أمرته ؟ قال : أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً ، ويعطيهم في كلّ هلال ثلاثين درهماً ، وذلك أ نّي لمّـا نظرت إليه علمت أ نّه غلام عاقل من أبناء ملكهم ، فأوصيته بجميع ما أحتاج إليه ، فقبل وصيّتي ومع هذا غلام صدق.
ثمّ قال : لعلّك عجبت من كلامي إيّاه بالحبشيّة ، لا تعجب فما خفي عليك من أمر الإمام أعجب وأكثر ، وما هذا من الإمام في علمه إلاّ كطير أخذ بمنقاره من البحر قطرة من ماء ، أفترى الذي أخذ بمنقاره نقص من البحر شيئاً ؟
قال : فإنّ الإمام بمنزلة البحر لا ينفد ما عنده وعجائبه أكثر من ذلك ، والطير حين أخذ من البحر قطرة بمنقاره لم ينقص من البحر شيئاً ، كذلك العالم لا ينقصه علمه شيئاً ولا تنفد عجائبه[13].
فلا بدّ لنا أن نعرف الإمام (عليه السلام) حقّ المعرفة وتمامها ، فبالمعرفة الكاملة يتقرّب الإنسان إلى قاب قوسين أو أدنى ، وينال الدرجات العلى :
( يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ اُوتوا العِلـْمَ دَرَجات )[14].
ولا يخفى أنّ فلسفة الحياة وسرّ الخليقة هو كمال الإنسان[15] ، وكماله إنّما هو بمعرفته ، ومن تمام المعرفة أن يعرف إمام زمانه كما ورد في الخبر الشريف :
عن الصدوق بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : خرج الحسين بن عليّ (عليهما السلام)على أصحابه فقال : أ يّها الناس إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه ، فقال له رجل : يا بن رسول الله ، بأبي أنت واُمّي ، فما معرفة الله ؟ قال : معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.
قال الله تعالى :
( ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدونِ )[16].
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : أي ليعرفون.
فلا عبادة إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعبادة ، فهما متلازمان كتلازم الزوجيّة والأربعة . أو كوجهي العملة الواحدة.
ولا يخفى أنّ المعرفة الأرضيّة الفرشيّة تختلف عن المعرفة السماويّة العرشيّة ، وبينهما بون واسع ، ربما يمكن بيانه من خلال هذا الخبر الشريف الوارد في عدم جواز رؤية الله سبحانه بالبصر ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، خلافاً للمشبّهين الملحدين القائلين بجواز رؤيته في القيامة وأ نّه يرى وجهه كفلقة قمر ليلة بدره ، وكأصحاب التيمي والعدوي ، كما يشير إلى ذلك المحقّق الفيض الكاشاني في كتابه القيّم ( الحقائق )[17].
ثمّ ـ كما ذكرنا ـ رفع درجات الإنسان يوم القيامة إنّما هو بالمعرفة التامّة ، فقد ورد في الخبر الشريف : « اقرأ وارقأ » أي اقرأ القرآن الكريم وارقأ الدرجات ، والمراد من القراءة هنا ليس التلاوة ، فإنّه ـ كما ورد في الخبر الشريف ـ « ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه » ، وهذا يعني أنّ من يقرأ القرآن ولم يعمل بآياته ، من يقرأ آية الخمس مثلا ولم يخمّس أمواله ، فإنّ القرآن يلعنه ، فالرقيّ للقراءة التي تعني العمل بالآيات الكريمة ، ولا عمل إلاّ بالمعرفة ، فالقراءة الموجبة لرفع المقام ، تلك التي تكون مقارنة للمعرفة ، ومن ثمّ العمل الصالح.
ولمّـا كان أمر الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) من الصعب المستصعب الذي لا يتحمّله إلاّ ملكٌ مقرّب أو نبيٌّ مرسل أو مؤمنٌ امتحن الله قلبه بالإيمان.
وإنّما ينجح في الابتلاء ويفوز في الامتحان قليل من الناس :
( وَقَليلٌ مِنْ عِباديَ الشَّكورُ )[18].
قال الإمام الحسين (عليه السلام) : « الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم ، يحوطونه أينما درّت معائشهم ، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون ».
نستنتج من تلك المقدّمات أنّ من يعرف الإمام حقّ المعرفة إنّما هو قليل من أهل الدين ، ويكون الرقيّ وشموخ المنزلة ورفعة المقام في الدنيا والآخرة ، لمن كان تامّ المعرفة ، كامل العلم ، سليم القلب ، منشرح الصدر ، متخلّق بأخلاق الله سبحانه ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
وقصدنا من هذه الرسالة الموجزة دعوة الناس إلى معرفة الإمام الحسين (عليه السلام)في عرش الله ، إحياءً لأمرهم (عليهم السلام) ، عن مولانا الإمام الرضا (عليه السلام) : رحم الله عبداً أحيا أمرنا ، فقيل له : كيف يُحيا أمركم ؟ قال : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا[19].
فما ذكرناه إنّما هو طرف من محاسن الكلام ، عسى أن يصل إلينا منه بصيص من أنوار معرفتهم الكاملة ، ومعارفهم الحقّة ، وعلومهم الإلهيّة ، والله المعين والمسدّد للصواب ، والهادي إلى سواء السبيل.
ويقع الكلام في فصول وخاتمة.
[1]ميزان الحكمة 6 : 132.
[2]المائدة : 3.
[3]آل عمران : 85 .
[4]راجع في ذلك رسالتنا ( في رحاب حديث الثقلين ).
[5]هذه الرسالة مجموعة محاضرات إسلامية تربويّة ألقيتها في مدرسة الحجّتيّة التابعة للمركز العالمي للدراسات الإسلاميّة.
[6]البحار 26 : 117.
[7]الحجرات : 13.
[8]البحار 26 : 122 ، عن بصائر الدرجات : 47.
[9]المصدر ، الباب 7 أ نّهم (عليهم السلام) يعرفون الناس بحقيقة الإيمان وبحقيقة النفاق وعندهم كتاب فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء شيعتهم وأعدائهم وأ نّه لا يزيلهم خبر مخبر عمّـا يعلمون من أحوالهم ، وفي الباب 40 رواية.
[10]لقد ذكرت هذا المعنى بالتفصيل في ( هذه هي البراءة ) ، فراجع.
[11]البحار 26 : 150 ، عن الخرائج والجرائح : 255.
[12]المصدر ، والمرجع.
[13]البحار 26 : 191 ، عن قرب الإسناد : 144.
[14]المجادلة : 11.
[15]ذكرت تفصيل ذلك في ( سرّ الخليقة وفلسفة الحياة ) ، وهو مطبوع ، فراجع.
[16]الذاريات : 56.
[17]موسوعة كلمات الإمام الحسين : 54 ، عن علل الشرائع : 9.
[18]سبأ : 13.
[19]عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 : 217.
![]() |
![]() |
![]() |