34  ـ  البقاء  والخلود

قال الله تعالى :

( وَجَعَلـْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقينَ )[1].

لقد أودع الله في الإنسان أحاسيس وعواطف وغرائز ، وقد عدّها علماء النفس إلى أربعة عشر غريزة[2].

منها : غريزة حبّ البقاء ، فكلّ واحد من الناس بطبيعته وفطرته يحبّ البقاء والخلود ، ولكن شاء الله سبحانه حفظاً للنظام أن يجعل الفناء والموت في خلقه ، ولكن جعل طرقاً لإشباع هذه الغريزة وتعديلها وتحسينها.

فورد في الحديث الشريف : إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ من ثلاث : ولدٌ صالح يستغفر له ، وصدقةٌ جارية ، وعلمٌ ينتفع به الناس.

وبهذا ينصلح الفرد والمجتمع ، فيفكّر دائماً لحسن ذكره وبقائه باُحدوثة جميلة ولسان صدق في الآخرين ، أن يربّي ولداً صالحاً ، كما يؤسّس مشاريع خيرية وصدقات جارية ، كما يخلّف علماً نافعاً من مدارس ومؤلفات ومكتبات وطلاّب وما شابه ذلك ، ليبقى اسمه يذكر بجميل وطيب ولسان صدق ، ويبقى في القلوب وفي ضمير الاُمّة حيّاً ، كالشهداء في سبيل الله فإنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون ، كما هم أحياء في وعي الاُمّة ، لما قدّموا من تضحيات ومن دمائهم الطاهرة من أجل حياتها وسعادتها وسلامتها.

فالإنسان يحبّ البقاء وأن يخلّد في الحياة ، والله سبحانه أعطى هذه الاُمنية لنبيّه نوح ، فجعل ذرّيته هم الباقين.

وكذلك الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، فإنّه بإرادة الله وحفظه بقي مخلّداً ، بقي بدينه ومبدئه وأخلاقه وذرّيته من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أبديّاً ، بقي بولده وسبطه الحسين بن عليّ (عليه السلام) ، وبقي الإسلام العظيم بثورة الإمام الحسين الخالدة ، ترفرف راياته عالية خفّاقة في ربوع الأرض ، فإنّ الإسلام محمّدي الحدوث وحسيني البقاء.

يقول الآية العظمى الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء عليه الرحمة :

« لولا شهادة أبي عبد الله صلوات الله عليه لكانت الشريعة اُمويّة ، ولعادت الملّة الحنيفيّة يزيديّة ، فحقّاً أقول : إنّ الإسلام علويّ والتشيّع حسينيّ »[3].

والعجيب من قصّة عاشوراء وقضيّة سيّد الشهداء (عليه السلام) والشعائر الحسينيّة ، أ نّه كلّ من أقامها وذاب فيها وأحياها بليله ونهاره ، فإنّه يخلّد في التأريخ ، وتبقى صورته في القلوب وعلى جدران الحسينيات ، ويذكر دوماً بالذكر الجميل والاُحدوثة الطيّبة ، كلّ ذلك ببركة سيّد الشهداء (عليه السلام) ، كما نشاهد هذا الخلود لكلّ من كان في خدمة الإمام الحسين (عليه السلام) في المواكب والهيئات الحسينيّة ، وهذا من بركات سفينة الحسين (عليه السلام) ، وأعتقد أنّ هذه الشعائر بمظاهرها القديمة التي وصلتنا من السلف الصالح ، وكذلك الجديدة التي تحمل لغة العصر ، كلّها تعدّ ألواحاً لتلك السفينة الحسينيّة ، فمن أقامها فكأ نّما يجدّد تلك الألواح ويحكم مساميرها.

فسلام الله عليك يا مولاي وسيّدي يا أبا عبد الله ، يا زينة عرش الله ، ومهوى أفئدة الأنبياء ، وحبيب رسول الله ، وعبرة كلّ مؤمن ومؤمنة ، أنت ابن أمير الأوصياء وعزيز الزهراء وقلب الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، أنت المخلّد في الوجود وفي التأريخ والقلوب ، وكلّ من لاذ بك وهتف باسمك وخدم عاشوراءك ، فإنّه يخلّد بخلودك.


[1]الصافّات : 77.

[2]لقد تحدّثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في ( الإسلام وعلم النفس ) ، فراجع.

[3]الآيات البيّنات : 20.

35 ـ بداية الركوب والحركة والسير باسم الله