الفصل  السادس - تربيع  العرش

الحجم الأوّلي في الأفلاك هي الكرويّة ـ كما ثبت في محلّه من الفلسفة وعلم النجوم والهندسة ـ كما أنّ الدائرة هي اُسّ الأشكال الهندسية ، فمرجع الأشكال والأجسام إلى الدائرة أو الكرة ، وإنّما الأشكال الاُخرى تتولّد من الضغوط الاختيارية أو القسرية ، فالشكل المربّع والحجم المكعّب ، إنّما هما وليدتا الضغوط من الجوانب الأربعة.

هذا في المحسوسات والجسمانيات والأجسام ، وتنظرياً بها ـ من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ـ يكون الأمر كذلك فيما وراء الطبيعيات والمغيّبات ، إلاّ أنّ الأسباب في التربيع مثلا ، إنّما يكون أمراً علمياً ومعنوياً ، كما في عرش الله ، فإنّه ورد في الروايات أ نّه مربّع ، وسبب ذلك كما جاء في الفقيه والعلل والمحاسن للشيخ الصدوق بسنده :

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أ نّه سئل : لِمَ سمّي الكعبة كعبة ؟

قال : لأ نّها مربّعة.

فقيل له : ولِمَ صارت مربّعة ؟

قال : لأ نّها بحذاء بيت المعمور وهو مربّع.

فقيل له : ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً ؟

قال : لأ نّه بحذاء العرش وهو مربّع.

فقيل له : ولِمَ صار العرش مربّعاً ؟

قال : لأنّ الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع : سبحان الله والحمد الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر[1].

أجل الإسلام هو بالمعنى الخاصّ خاتم الأديان ، وبنيت معارفه الأوّلية ـ وقد عدّها العلماء من أساس علومه ـ على الكلمات والتسبيحات الأربعة : التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ، وبهذا الترتيب يكون سير المعرفة في تكامل الإنسان وخلافته لله سبحانه.

فتمام المعرفة في مقام التوحيد إنّما يكون أوّلا بتنزيه الله سبحانه وتقديسه عن النقائص وصفة الاحتياج التي تعدّ من خصائص الممكن الذاتي ، كالتركيب والجسميّة والحلول وما شابه ذلك من الجهل والعجز والموت ، فإنّ الإنسان إذا أراد أن يعرف خالقه وصانعه من خلال معرفة نفسه « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّه يرى نفسه غارقاً في بحر النقائص ، فهو عاجز لا يقدر على شيء حين ولادته ، وكان في بطن اُمّه لا يعلم شيئاً ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ، وأ نّه محيط بالموت وغير ذلك من صفات النقص ، ولمّـا كانت العلّة في وجوده أشرف وأجلّ ( لمقام العلّية والتقدّم العِلّي ) فخالقه وموجده وعلّته الاُولى ـ علّة العلل ـ لا بدّ أن يتنزّه عن مثل هذه النقائص ، فبداية المعرفة تستلزم تنزيه الله وتسبيحه ، فأوّل الإسلام أن نعرف الله بمعرفة جلاليّة بأ نّه جلّ جلاله منزّه عن النقائص والقبائح ، فنقول في مقام معرفة الله : سبحان الله.

ثمّ نرى الجمال في الكون ونرى المحامد ، وأ نّها ترجع كلّها إلى الله جلّ جلاله ، فنعرف الله بمعرفة جماليّة ، ونرى جمال الله بأ نّه العالم القادر الحيّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، فهو أحقّ بالحمد كلّه ، وكلّ الحمد مستغرقاً يرجع إليه ، فنقول : الحمد لله.

ثمّ سير المعرفة يقتضي أ نّه حينما نرى أنّ كلّ من كان منزّهاً عن النقائص ومستجمعاً للمحامد على الإطلاق ، وأ نّه الكمال المطلق ومطلق الكمال ، ونعرفه معرفة كماليّة ، فهو أحقّ بالعبادة والعشق فهو الإله حقّاً ـ من ( ألِهَ ) أو ( وَلِهَ ) من العبادة أو الحبّ ، فهو سبحانه وله الحمد يستحقّ العبادة دون غيره ، فيقول العبد مبتهجاً : لا إله إلاّ الله.

ثمّ يريد العبد أن يعرف ربّه كمال المعرفة فيرى أ نّه ـ كما قال النبيّ الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) : « ما عرفناك حقّ معرفتك » ، و « ما عبدناك حقّ عبادتك » ـ فبأيّ وصف يصف ربّه ، فهو الكبير المتعال ، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، فكلّما أراد العبد أن يصف سيّده ومولاه فإنّه يراه أكبر من أن يوصف ، فيقول : الله أكبر.

وهذه المراحل هي حقيقة التوحيد وحقيقة المعرفة والإسلام الكامل.

فالتسبيح معرفة جلالية ، والتحميد معرفة جماليّة ، والتهليل معرفة كماليّة ، ويمتاز الله سبحانه عن غيره في مقام المعرفة ، أ نّه أكبر ممّـا يصفون ، وكلّما يتوهّمه الإنسان في مقام التوحيد ، فهو بالحمل الشائع الصناعي مخلوق له وليس خالقه ، كما ورد في كثير من رواياتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) ، نعم بالحمل الأوّلي الذاتي فهو الصانع جلّ جلاله ، المستجمع لجميع صفات الجمال والكمال ، وهذه هي أركان الإسلام ، وبني الإسلام عليها ، وهي حقيقة العلم الإلهي ، وهو العرش العلمي ـ كما مرّ ـ وبحذائه البيت المعمور ، وبحذاء المعمور بيت الله الحرام الكعبة المشرّفة في مكّة المكرّمة.

والحاجّ في طوافه حول البيت الحرام ، يطوف مع الملائكة في السماء الرابعة حول البيت المعمور ، ومع حملة العرش الإلهي ، وأ نّه يطوف حول العلم بجلال وجمال وكمال ، بتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ، ولو أدرك الطائف هذا المعنى ولمسه في أعماق وجوده وصميمه ، وضاء قلبه بأنواره وأشعّته ، فإنّه يصل إلى مقام الفناء في الله سبحانه ، ويذوب في علمه وعشقه عندما يطوف مع الطائفين . ويكون طوافه طواف العاشقين الوالهين ، ويغرق في سبحات جلال الله مع السابحين المسبّحين ، وربما يموت شوقاً في لقاء ربّ العالمين ، وتعرج روحه مع الملائكة الطائفين ، ويطوف معهم في عالم الأرواح الزكيّة والأنوار البهيّة ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم ، رزقنا الله وإيّاكم ذلك.

هذا ، وجاء في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي (قدس سره) قائلا : فأمّا العرش الذي تحمله الملائكة فهو بعض الملك وهو عرش خلقه الله تعالى في السماء السابعة ، وتعبّد الملائكة بحمله وتعظيمه ، وقد جاء الحديث : إنّ الله تعالى خلق بيتاً تحت العرش سمّـاه ( البيت المعمور ) تحجّه الملائكة في كلّ عام ، وخلق في السماء الرابعة بيتاً سمّـاه ( الضرّاح ) وتعبّد الملائكة بحجّه والتعظيم له والطواف حوله ، وخلق البيت الحرام في الأرض فجعله تحت الضراح ، وروي عن الصادق (عليه السلام) أ نّه قال : لو اُلقي حجر من العرش لوقع على ظهر بيت المعمور ، ولو اُلقي من البيت المعمور لسقط على ظهر البيت الحرام ، ولم يخلق الله عرشاً لنفسه يستوطنه ، تعالى الله عن ذلك ، لكنّه خلق عرشاً أضافه إلى نفسه تكرمةً له وإعظاماً ، وتعبّد الملائكة بحمله ، كما خلق بيتاً في الأرض ولم يخلقه لنفسه ولا يسكنه ، تعالى الله عن ذلك ، ولكنّه خلقه لخلقه ، وأضافه إلى نفسه إكراماً له وإعظاماً ، وتعبّد الخلق بزيارته والحجّ إليه . انتهى كلامه المقصود نقله[2].

وجاء في تفسير الطبرسي : البيت المعمور هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة ، تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة ، عن ابن عباس ومجاهد ، وروي أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : ويدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، ثمّ لا يعودون إليه أبداً.

وفي العلل عن ابن سنان عن الإمام الرضا (عليه السلام) : علّة الطواف بالبيت أنّ الله تبارك وتعالى قال للملائكة : ( إنّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَليفَةً قالوا أتَجْعَلَ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) فردّوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب ، فعلموا أ نّهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحبّ الله عزّ وجلّ أن يتعبّد بمثل ذلك العباد ، فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يسمّى ( الضراح ) ثمّ وضع في السماء الدنيا بيتاً يسمّى ( المعمور ) بحذاء الضراح ، ثمّ وضع البيت بحذاء البيت المعمور ، ثمّ أمر آدم (عليه السلام) فطاف به فتاب الله عليه ، فجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة[3].

وهناك روايات في الباب من الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ فراجع ، ثمّ يقول العلاّمة في مقام البيان : مقتضى الجمع بين الأخبار مع صحّة جميعها ، القول بتحقّق البيت في جميع تلك المواضع ، وسيأتي كثير من الأخبار المتعلّقة بالباب في باب الملائكة . انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وبهذا المقدار عرفنا إجمالا علّة تربيع العرش الإلهي بنظرة روائية ، وبيان عرفاني ، فتدبّر.

ثمّ كتب على عرش الله : ( الحسين مصباح هدىً وسفينة نجاة ) ، فإنّما يهتدي الإنسان إلى المعرفة بمراحلها بالنور الحسيني ، وإنّما يشقّ عباب بحار المعارف الإلهيّة والعلوم الربّانية بالسفينة الحسينيّة ، فالتسبيح يتجلّى بالحسين (عليه السلام) المحمّدي ، والتحميد يظهر بمحمّد (صلى الله عليه وآله) الحسيني ( حسين منّي وأنا من حسين ) ، وكلّهم نورٌ واحد ، فبهم عُرف الله وعُبد ، وسبّحوا فسبّحت الملائكة ، وحمدوا فحمدت الملائكة ، وهلّلوا فهلّل الكون معهم ، وكبّروا فكبّر العالم بتكبيرهم.

يا رُبّ جوهرة لو أبوح به ...


[1])  البحار 55 : 5.

[2]البحار 55 : 8 .

[3]البحار 55 : 55 ـ 58.

الفصل السابع