![]() |
![]() |
![]() |
هلاك الأكثريّة واعتدائهم على الأقلّية
قال الله تعالى :
( كَذَّبَتْ قَوْمُ نوح المُرْسَلينَ * إذْ قالَ لَهُمْ أخوهُمْ نوحٌ ألا تَتَّقونَ * إنِّي لَكُمْ رَسولٌ أمينٌ * فَاتَّقوا اللهَ وَأطيعونِ * وَما أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْر إنْ أجْريَ إلاّ عَلى رَبِّ العالَمينَ * فَاتَّقوا اللهَ وَأطيعونِ * قالوا أنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلونَ * قالَ وَما عِلـْمي بِما كانوا يَعْمَلونَ * إنْ حِسابُهُمْ إلاّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرونَ * وَما أنا بِطارِدِ المُؤْمِنينَ * إنْ أنا إلاّ نَذيرٌ مُبينٌ * قالوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نوحُ لَتَكونَنَّ مِنَ المَرْجومينَ * قالَ رَبِّ إنَّ قَوْمي كَذَّبونِ * فَافْتَحْ بَيْني وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِنِّي وَمَنْ مَعيَ مِنَ المُؤْمِنينَ * فَأنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ في الفُلـْكِ المَشْحونِ * ثُمَّ أغْرَقْنا بَعْدُ الباقينَ * إنَّ في ذلِكَ لآيَةً وَما كانَ أكْثَرَهُمْ مُؤْمِنينَ )[1].
لا تعجب إذا قيل : إنّ أكثر الناس يوم القيامة من الهالكين ، فربما يتبادر إلى الذهن إذاً لماذا خلقهم الله ؟ هل للهلاك والعذاب وهو الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ، ولا يؤاخذ العباد بما كسبوا رأساً ، بل يمهلهم عسى أن يتوبوا ، وإنّه يغفر الذنوب جميعاً إلاّ ما اُشرك به ، فهل مثل هذا الربّ الودود الرحيم الشفيق يهلك أكثر خلقه ؟ !
أقول : اقتضت حكمة الباري جلّ جلاله أن يخلق الإنسان ، ويعلّمه البيان ، ويهديه النجدين ، نجد الخير ونجد الشرّ ، وجعل فيه الاختيار تكويناً وتشريعاً ، ثمّ أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، لطفاً بالعباد ، كما خلق فيهم النفس الأمّارة بالسوء التي تحبّ الملاذّ والشهوات ، وألهمها فجورها وتقواها ، ويعدّ هذا الإلهام هو المعجون الأوّل للأخلاق ، وهو من اللطف الإلهي ، بمعنى ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، والإنسان هو الذي يختار ، فقد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ، وكأ نّي بهذه الدنيا كالبستان وبربّ العالمين صاحبه وفلاّحه :
( أأنْتُمْ تَزْرَعونَهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعونَ )[2].
والفلاّح يسقي كلّ البستان ، إلاّ أ نّه هناك حشائش في الأرض ، تشرب الماء وتنبت في الأرض ، إلاّ أ نّها لا فائدة فيها ، وربما تؤذي الأشجار والأوراد والزهور ، فيقطعها الفلاّح ، كما أنّ هناك أشجار لا تثمر ، إنّما ينتفع من خشبها حطباً ، وهناك أشجار مثمرة ، إلاّ أ نّها مختلفة الثمار والعطاء ، فالكلّ تسقى من الماء ، إلاّ أنّ مقصود الفلاّح هو الأشجار المثمرة والنخيل الباسقة والورود الزاهية ، وكذلك ربّ العالمين برحمته الرحمانيّة يرزق العباد ، ويسقيهم من فضله وكرمه ، فيهديهم بإرسال رسله وكتبه ، إلاّ أنّ أكثر الناس باختيارهم يكونوا حشيش الحياة ، والخضار الذي يُقطع ويُداس ، ويكون حشائش للدوابّ والأنعام.
وأمّا قوم نوح (عليه السلام) ، فأكثرهم استحوذ عليهم الشيطان ، واتّبعوا خطواته ، طلباً للراحة ولإشباع الغرائز ، واستجابةً لأنفسهم الأمّارة بالسوء ، فكذّبوا نوح والمرسلين ، وكان يدعوهم إلى التقوى والصراط المستقيم ، وإنّه من الناصحين ، لا يخونهم في دعوتهم ، فهو الرسول الأمين ، إلاّ أنّ قومه كذّبوه ، وحجّتهم أ نّه اتّبعك الضعفاء والأرذلون منّا ، يعني الفقراء والذي لا يحسب لهم حساب في نظر الأغنياء ومنطق أصحاب الثروة ومتملّقيهم ، وعاقبة الأمر ـ وهذا من سنن الله في الماضين والباقين ـ ابتلاهم بالطوفان الجبّار ، فنجّى الله نوحاً (عليه السلام) ومن ركب سفينته من المؤمنين القلائل ، الذين كان يعتدى عليهم من قبل الأكثريّة ، ثمّ أغرق الباقين ، وهذه آية من آيات الله ، فما كان أكثرهم بمؤمنين.
فلا بدّ أن نأخذ الدروس والعبر من هذه القصص الإلهيّة ، إنّ في ذلك لعبرةً للموقنين ، فنحذر الأكثريّة ، ولا ننجرف مع التيّار ، ويستولي علينا الطوفان ، بل نركب سفينة النجاة ، فنتّبع مذهب الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، ولمثل هذا يضرب الله في كتابه الأمثال ، ويحكي لنا القصص والآثار.
[1]الشعراء : 105 ـ 121.
[2]الواقعة : 64.
![]() |
![]() |
![]() |