المقدمة

بسم  الله  الرحمن  الرحيم

الحمد لله الذي دلّ أولياءه على ذاته بذاته ، وأرشد الخلق على معرفته ، وهدى الناس إلى صراطه ، والصلاة والسلام على أشرف الكائنات ، سيّد المخلوقات ، خاتم النبيّين والمرسلين ، محمّد المصطفى الأمين ، وعلى آله الأئمة المعصومين ، خير الورى ومصابيح الهدى ، وسفن النجاة وأنوار التقى ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين ومنكري فضائلهم ومقاماتهم إلى قيام يوم الدين.

لا يخفى على ذوي النهى ـ كما عند علماء الأخلاق وأهل المعرفة ـ أنّ القلب سلطان البدن وأميره ، وإذا صلُح القلب صلحت الجوارج والجوانح ، فإنّ الناس على دين ملوكهم ، وعاش الإنسان سعيداً ومات سعيداً.

ومن هذا المنطلق نجد الإسلام قد اهتمّ غاية الاهتمام في دعوته الإصلاحيّة والأخلاقيّة إلى تهذيب القلب وسلامته من الأسقام الروحيّة والأمراض النفسيّة ، من الصفات الذميمة والأخلاق المنحطّة ، فدعا إلى تخليته من الذمائم والمنكرات والسجايا المكروهة المنبوذة ، وتحليته بالصفات الحميدة والأخلاق الطيّبة ، ثمّ تجليته وصيقلته ونقاءه حتّى يبلغ قمّة الكمال ، وهو الوصول إلى ذي الجلال ، والفناء في الله المتعال ، والقرب منه قاب قوسين أو أدنى ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فيلقى الله عزّ وجلّ بقلب سليم ، ليس فيه سواه جلّ جلاله.

هذا والقلب إنّما يعيش ويخلّد ويسير إلى الله بنور ، ولولاه لكان يتخبّط في ظلمات بعضها فوق بعض ، فحياته بالنور ، وليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء الله هدايته[1] . فنور القلب هو العلم ، ويرادفه أو يلازمه المعرفة ، فالمعرفة نور القلب.

وقال (عليه السلام) : الإيمان معرفة بالقلب.

والله سبحانه في محكم كتابه ومبرم خطابه يدعوننا إلى الإيمان بقوله تعالى :

( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا آمِنوا بِاللهِ وَرَسولِهِ )[2].

والإيمان إنّما هو معرفة بالقلب ، والمعرفة نور القلب ، فالإيمان نوره.

وقال (عليه السلام) : « المعرفة بنيان النبل ».

« المعرفة برهان الفضل ».

« المعرفة الفوز بالقدس ».

« المعرفة أصل فرعه الإيمان »[3].

وفي تفسير قوله تعالى : ( لا تَبْديلَ لِخَلـْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ )[4] ، قال (عليه السلام) : « فطرهم الله على المعرفة »[5].

وقال (عليه السلام) : أيّها الناس ، عليكم بالطاعة والمعرفة.

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : ( وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتي خَيْراً كَثيراً ) ، قال : الحكمة ، المعرفة[6].

وقال (عليه السلام) : « إنّ الحكمة : المعرفة والتفقّه في الدين ، فمن فقه منكم فهو حكيم ، وما أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس من فقيه ».

وقال (عليه السلام) : « الحكمة ضياء المعرفة ، وميراث التقوى وثمرة الصدق ».

قال (عليه السلام) : « إنّ المعرفة التصديق والتسليم ».

قال (عليه السلام) : « إنّ حقّ المعرفة أن تطيع ولا تعصي ، وتشكر ولا تكفر ».

« فمن عرف دلّته المعرفة على العمل ».

وقال (عليه السلام) : بعضكم أكثر صلاة من بعض ، وبعضكم أكثر حجّاً من بعض ، وبعضكم أكثر صدقةً من بعض ، وبعضكم أكثر صياماً من بعض ، وأفضلكم أفضلكم معرفة[7].

وقال (صلى الله عليه وآله) : أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة.

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة ، ولا معرفة إلاّ بعمل ، ومن عرف دلّته معرفته على العمل ، ومن لم يعرف فلا عمل له.

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : « إنّكم لا تكونون صالحين حتّى تعرفوا ، ولا تعرفون حتّى تصدّقوا ».

فقيمة الإنسان وعظمته وشموخه في الدنيا والآخرة ، إنّما هو بمعرفته ، وهي التي تدلّه على صالح الأعمال ومرضيّ الأفعال ، فطوبى لمن عرف نفسه ، فإنّه من
عرفها فقد عرف ربّه ، ومن عرفه ، عرف كلّ شيء ، فإنّه سبحانه الوجود المطلق ومطلق الوجود ، الجامع لجميع الصفات الكماليّة والجماليّة والجلاليّة.

عن زيد الزرّاد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : يا بنيّ ، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ، فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية ، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان ، إنّي نظرت في كتاب لعليّ (عليه السلام) فوجدت في الكتاب : إنّ قيمة كلّ امرء وقدره معرفته[8].

ومتعلّق المعرفة يختلف باختلاف المصاديق والموارد والمتعلّقات ، وربّ معرفة أدّت إلى تظليل ـ كما قالها أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ـ وخير المعارف باعتبار خير المتعلّقات وأشرفها ، وهو الله سبحانه ، فأوّل المعرفة معرفة الله المبدئ الأوّل ، ثمّ المعاد ، ثمّ ما بينهما من صفات الله سبحانه وعدله والنبوّة والإمامة ، ومعرفة الدين في فروعه وأحكامه وأخلاقه ، وكلّ ما يوجب هداية الإنسان ورشده ونجاته في الدارين.

ثمّ المقصود من النبوّات والشرائع السماويّة والوصايا والإمامة كلّها هو إيصال الإنسان إلى تمام المعرفة وكماله النهائي ، وكمال الإنسان وتكامله هو فلسفة الحياة وسرّ الخليقة ، بأن يكون الإنسان خليفة الله في أرضه تتجلّى فيه أسماء الله وصفاته.

فالإنسان يمتاز عن سائر الكائنات بعلمه ومعرفته :

( الَّذي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ )[9].

وإنّما سجدت الملائكة لآدم من أجل ذلك :

( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها )[10].

وإنّما ينال الإنسان المعرفة بما جهّزه خالقه في ظاهره وباطنه من الحسّ والعقل وما يترتّب منهما ، وبها يكتسب ما لا يعلمه إطلاقاً أو يخرج إلى الفعليّة ما يعلمه بالقوّة من الإدراكات الفطريّة الأوّلية.

والمعرفة كلّيّ مشكّك لها مراتب طوليّة وعرضيّة ، تختلف بالشدّة والضعف ، والتقدّم والتأخّر ، ولقاحها العلم ودراسته ، كما أنّ لقاح العلم التصوّر والفهم ـ كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)[11] ـ .

وقال (عليه السلام) : « أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه ».

« غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه ».

« نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس ».

« من جهل نفسه كان بغيره أجهل ».

« لا تجهل نفسك ، فإنّ الجاهل بمعرفة نفسه جاهل بكلّ شيء ».

« من لم يعرف نفسه بعُد عن سبل النجاة ، وخبط في الضلال والجهالات ».

« من شغل نفسه بغير نفسه ، تحيّر في الظلمات ، وارتبك في الهلكات ، ولم يعرف نفسه ».

« من عرف نفسه كان لغيره أعرف ».

« من عرف قدر نفسه لم يهنها بالفانيات ».

« من عرف نفسه جاهدها ، ومن جهل نفسه أهملها ».

« من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعلم ».

« من عرف الله توحّد ، ومن عرف نفسه تجرّد ، ومن عرف الناس تفرّد ، ومن عرف الدنيا تزهّد ».

« من عرف نفسه فقد عرف ربّه ».

« أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه ».

« ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفّة ـ أن لا يفارق الحزن والحذر ـ أن لا يفارقه الحذر والندم خوفاً أن تزلّ به عند العلم القدم ـ أن ينزّهها عن دناءة الدنيا ».

« الكيّس من عرف نفسه وأخلص أعماله ».

« من عرف نفسه جلّ أمره ».

« معرفة النفس أنفع المعارف ».

« معرفة الله أعلى المعارف ».

« لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عزّ وجلّ ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّـا يطؤونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله جلّ وعزّ ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله ، إنّ معرفة الله عزّ وجلّ أنس من كلّ وحشة ، وصاحب من كلّ وحدة ، ونور من كلّ ظلمة ، وقوّة من كلّ ضعف ، وشفاء من كلّ سقم ».

« ثمرة العلم معرفة الله ».

« يسير المعرفة يوجب الزهد في الدنيا ».

« من صحّت معرفته انصرفت عن العالم الفاني نفسه وهمّته ».

ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) : « من لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه »[12].

وفي حديث المعراج يقول الله سبحانه وتعالى : « ... فمن عمل برضائي اُلزمه ثلاث خصال : اُعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل ، وذكراً لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا اُخفي عليه خاصّة خلقي ، واُناجيه في ظلم الليل ونور النهار ، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين ، ومجالسته معهم ، واُسمعه كلامي وكلام ملائكتي واُعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، واُلبسه الحياء حتّى يستحي منه الخلق كلّهم ، ويمشي على الأرض مغفوراً له ، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً ، ولا اُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار ، واُعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة ، وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء ، واُنوّمه في قبره ، واُنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه ولا يرى غمّ الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع ، ثمّ أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه ، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشوراً ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجماناً ، فهذه صفات المحبّين »[13].

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : من سكن قلبه العلم بالله سكنه الغنى عن خلق الله ».

« ينبغي لمن عرف الله سبحانه أن لا يخلو قلبه من رجائه وخوفه طرفة عين ».

« أن يتوكّل عليه ».

« كيف لا يشتدّ خوفه ».

« غاية المعرفة الخشية ».

« أعرف الناس بالله ، أعذرهم للناس وإن لم يجد لهم عذراً ».

« أكثرهم لله مسألة ».

« أرضاهم بقضاء الله عزّ وجلّ ».

والعارف حقّاً ما وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلا : « العارف من عرفه نفسه فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يبّعدها ويوبقها ».

« وجهه مستبشر متبسّم ، وقلبه وجلٌ محزون ».

« كلّ عارف عازف ».

« شخصه مع الخلق وقلبه مع الله ، لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه ».

« الشوق خلصان العارفين ».

« الخوف جلباب العارفين ».

« البكاء من خيفة الله عبادة العارفين ».

« لكلّ شيء معدن ، ومعدن التقوى قلوب العارفين ».

هذه نبذة خاطفة من الروايات الشريفة[14] في حقيقة المعرفة ولوازمها ومتعلّقاتها ، وددت ذكرها ليقف القارئ الكريم على عظمة المعرفة ، وأ نّها الأصل الأصيل ، والأساس في كلّ شيء ، وقيمة الإنسان في الدنيا والآخرة إنّما بمقدار معرفته ، وطوبى لمن عرف قدر نفسه.

فلا بدّ للإنسان أن يعرف نفسه أوّلا ومن هو ؟

ويعرف ربّه ، ومن أين أتى ؟ ومن صانعه ؟

وماذا يراد منه ، وأين هو ؟

وما الذي يخرجه عن الدين ، وإلى أين يذهب ويرجع ؟

وقد جمع علم الأوّلين والآخرين في هذه الكلمات ـ كما ورد في الأخبار عن الصادقين (عليهم السلام) ـ .

لا بدّ للإنسان أن يعرف عدوّه الأوّل ، وأ نّه يريد إخراجه من الدين ، فيوسوس له حتّى يغويه ، ويضلّ الطريق ، ويشقى ويهلك في الدنيا والآخرة ، فمن هذا العدوّ الخطير الضاري اللعين ، الذي غفلنا عنه وهو في المرصاد والكمين ؟ ! هو الشيطان اللعين.

فالمعرفة ضرورة حياتيّة ، إن فُقدت فَقَد الإنسان كيانه وحقيقته وإنسانيّته ، وكان كالأنعام بل أضلّ سبيلا ، وقلبه كالحجارة أو أشدّ قسوةً وضلالا.

ثمّ المعرفة من المعاني الإضافيّة بين العارف والمعروف ، ولها مراتب ومراحل.


[1]حديث نبوي شريف.

[2]النساء : 136.

[3]ميزان الحكمة 6 : 130.

[4]الروم : 30.

[5]البحار 3 : 279.

[6]المصدر 2 : 100.

[7]البحار 3 : 14.

[8]ميزان الحكمة 6 : 133.

[9]العلق : 4 ـ 5.

[10]البقرة : 31.

[11]ميزان الحكمة 6 : 455.

[12]الكافي 1 : 18.

[13]ميزان الحكمة 6 : 152.

[14]نقلت الروايات من كتاب ( ميزان الحكمة ) 6 : 130 ـ 160 . وباب المعرفة باب وسيع وبحر عميق ، فراجع.

حقيقة المعرفة