الفصل  الأوّل - العرش  لغةً  واصطلاحاً

من حسن الدخول في موضوع علميّ ، أن نعرف أوّلا المفردات والعناوين البارزة والأوّلية في ذلك الموضوع ، وذلك من خلال المعاني اللغوية التي يتكفّل ببيانها وشرحها المعاجم والمقاييس اللغوية ، التي ترجع إلى بيان وضع الواضع الأوّل ، وما هو المعنى الحقيقي الموضوع له.

ثمّ تنقل تلك الألفاظ بتحمّل ومجاز إلى معاني جديدة ، يصطلحها جماعة خاصّة أو قوم لأنفسهم.

وربما يكون ذلك من دون علاقة مع المعنى اللغوي الأوّل ، ويسمّى بالنقل غير المألوف ، وربما يكون مع ارتباط بالمعنى الأوّل بعلاقة العامّ والخاصّ ، بمعنى أن يكون المعنى الأوّل عامّاً ينتقل إلى خاصّ كما هو الغالب أو بالعكس ، ويسمّى بالنقل المألوف.

فلا بدّ أوّلا أن نعرف كلمة ( العرش ) الوارد في الخبر الشريف ، وذلك من خلال المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ، باعتبار لغة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الواردة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعن أهل بيته الأئمة الهداة (عليهم السلام) ، ثمّ ندخل في صلب الموضوع.

العرش  لغةً :

من عَرَش يعرش ، والعرش في الأصل شيء مسقف ، وجمعه عروش . قال سبحانه :

( وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُروشِها ).

ومنه قيل : عرشت الكَرْم وعرشته إذا جعلت له كهيئة سقف ، وقد يقال لذلك المعرّش . قال :

( مَعْروشات وَغيرِ مَعْروشات ).

( وَمِنَ الشَّجَرِ وَما يَعْرُشونَ ).

( وَما كانوا يَعْرُشونَ ).

قال أبو عبيدة : يبنون . واعترش العنب ركّب عرشه ، والعرش شبه هودج للمرأة شبيهاً في الهيئة بعرش الكرم ، وعرشت البئر جعلت له عريشاً.

وسمّي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً بعلوّه ، قال :

( وَرَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ ).

( أ يُّكُمْ يَأتيني بِعَرْشِها ).

( نَكِّروا لَها عَرْشَها ).

( أهكَذا عَرْشُكِ ).

وكنّى به عن العزّ والسلطان والمملكة ، قيل : فلان ثلّ عرشه ، أي ذهب سلطانه ، وعرش الله : ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلاّ بالإسم ، وليس كما تذهب إليه أوهام العامّة ، فإنّه لو كان كذلك لكان حاملا له ـ تعالى عن ذلك ـ لا محمولا ، والله يقول :

( إنَّ اللهَ يَمْسِكُ السَّماواتِ وَالأرضَ أن تَزولا وَلَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَد مِنْ بَعْدِهِ ).

وقال قوم : هو الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب ، واستدلّ بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « ما السماوات السبع والأرضون السبع في جنب الكرسيّ إلاّ كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، والكرسي عند العرش كذلك ، وقوله :

( وَكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ )

تنبيه أنّ العرش لم يزل منذ اُوجد مستعلياً على الماء ، وقوله :

( ذو العَرْشِ الَمجيدِ ).

( رَفيعُ الدَّرَجاتِ ذو العَرْشِ ).

وما يجري مجراه ، قيل هو إشارة إلى مملكته وسلطانه لا إلى مقرّ له يتعالى عن ذلك[1].

قوله :

( وَرَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ ).

العرش : سرير الملك ، ومنه قوله :

( أهكَذا عَرْشُكِ ).

قال المفسّر في قوله : ( أهكَذا ) أربع كلمات حرف الاستفهام وحرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة ، أي مثل هذا عرشك ، ولم يقل أهذا عرشكِ لئلاّ يكون تلقيناً ، قالت : ( كَأ نَّهُ هُوَ ) ولم تقل هو هو ولا ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها إذ لم تقطع في موضع الاحتمال.

قوله : ( يَعْرُشونَ ) أي يبنون.

قوله : ( مَعْروشات وَغيرِ مَعْروشات ) أي مرفوعات على تحمّلها ، يقال : عرشت الكرم ، إذا جعلت تحته قصباً وأشباهه لتميد عليه ، وغير معروشات من سائر الشجر الذي لا يعرش.

والعريش : ما يستظلّ به ، يبنى من سعف النخل مثل الكوخ ، فيقيمون فيه مدّة إلى أن يصرم النخل ، ومنه عريش كعريش موسى (عليه السلام) في حديث مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) حين ظلل.

والعريش : خيمة من خشب ، والجمع عُرُش مثل قليب قُلُب . قال الجوهري : ومنه قيل لبيوت مكّة : العرش ; لأ نّها عيدان تنصب ويظلّل عليها ، وفي الحديث : « كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عُرُش مكّة » أي إلى بيوتها ، وكان ذلك قبل معاوية[2].

عرش : العرش : سرير الملِك ، يَدلّك على ذلك سرير ملكة سبأ ، سمّـاه الله عزّ وجلّ عرشاً.

والعرش : البيت وعرش البيت سقفه ...

والعرش أيضاً الخشبة.

والعرش الملك ، ثُلّ عرشه هدم ما هو عليه من قوام أمره وقيل : وَهَى أمره وذهب عزّه.

والعرش أربعة كواكب صغار ـ أسفل من العوّاء ـ يقال : إنّها عجز
الأسد.

والعريش ما يستظلّ به.

وعرش البئر طيّها بالخشب.

وظهر القدم العرش ...[3].

وقال الشيخ المفيد (قدس سره) : العرش في اللغة هو الملك ، قال :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم *** وأودت كما أودت أياد وحميرُ

يريد : إذا ما بنو مروان هلك ملكهم وبادوا.

وقال آخر :

أظننت عرشك لا يزول ولا يغيّر ؟ يعني : أظننت ملكك لا يزول ولا يغيّر ؟

وقال الله تعالى مخبراً عن ملكة سبأ :

( وَاُوتَيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء وَلَها عَرْشٌ عَظيمٌ ).

يريد : ولها ملك عظيم.

فعرش الله تعالى هو ملكه ، وهو استيلاؤه على الملك ، والعرب تصف الاستيلاء بالاستواء ، قال :

قد استوى شرّ على العراق *** من غير سيف ودم مراق

يريد به : قد استولى على العراق.

انتهى كلامه.

أقول :

الظاهر أ نّه وقع خلط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ، فإنّ العرش لغةً ـ كما مرّ ـ ليس بمعنى الملك ، بل بمعنى السرير الذي يجلس عليه المَلِك.

العرش  اصطلاحاً :

نعم العرش اصطلاحاً : يطلق على الملك وما شابه ذلك من باب التجّوز والكناية لعلاقة المشارفة أو الملازمة ، فإنّ الملك لمّـا يجلس على كرسيّه الذي يسمّى بالعرش ، كما هو المراد في قصّة بلقيس وسليمان وتفسّره الآيات في سورة النمل ، فكان السلطان الملك يملك الرقاب والأملاك ويستولي عليها بحكومته ودولته ، فكأ نّما العرش ملازم أو مشرف على تصرّفه الملكي الرئاسي ، فيطلق العرش اصطلاحاً على الملك والعزّة والسلطنة وما شابه ذلك تجوّزاً ، فنقل من معنى عامّ إلى معنى خاصّ كما جاء في القرآن الكريم والروايات الشريفة ذلك ، فتدبّر.


[1]مفردات الراغب : 329.

[2]مجمع البحرين 4 : 142.

[3]لسان العرب 9 : 133.

الفصل الثاني