![]() |
![]() |
العرش ما يجلس عليه الملك ، وربما كنّي به عن مقام السلطنة ، قال الراغب في المفردات : العرش في الأصل شيء مسقّف ، وجمعه عروش . قال : ( وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُروشِها ) ، ومنه قيل : عرشت الكرم وعرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف . قال : والعرش شبه هودج المرأة تشبيهاً في الهيئة بعرش الكرم ...
قال : وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلاّ بالاسم ، وليس كما يذهب إليه أوهام العامة ، فإنّه لو كان كذلك لكان حاملا له ـ تعالى عن ذلك ـ لا محمولا ، والله تعالى يقول :
( إنَّ اللهَ يَمْسِكُ السَّماواتِ وَالأرْضَ أنْ تَزولا وَلَئِنْ زالَتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَد مِنْ بَعْدِهِ ).
وقال قوم : هو الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب ، واستدلّ بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ما السماوات السبع والأرضون السبع في جنب الكرسي إلاّ كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي عند العرش كذلك.
وقد استقرّت العادة منذ القديم أن يختصّ العظماء من ولاة الناس وحكّامهم ومصادر اُمورهم من المجلس بما يختصّ بهم ويتميّزون به عن غيرهم ، فاتّخذوا للملك ما يسمّى عرشاً وهو أعظم وأرفع وأخصّ بالملك والكرسي يعمّه وغيره . واستدعى التداول والتلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أوّل الأمر ، فصار العرش حاملا لمعنى الملك ، فمثلا لمقام السلطنة إليه يرجع وينتهى ، وفيه تتوحّد أزمّة المملكة في تدبيرها اُمورها وإدارة شؤونها.
ثمّ قوله تعالى : ( اسْتَوى عَلى العَرْش ) كناية عن استيلائه على ملكه وقيامه بتدبير الأمر قياماً ينبسط على كلّ ما دقّ وجلّ ، ويترشّح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كلّ ذي بغية بغيته ، وتقضى لكلّ ذي حاجة حاجته.
ثمّ اختلف الناس في معنى العرش ، كما وقع الاختلاف عند العلماء في قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْش ) والآيات التي فيها كلمة العرش الإلهي ، فأكثر أبناء العامّة والسلف على أ نّها وما يشاكلها من الآيات المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه ، وهؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية والتطلّع إلى ما وراء ظواهر الكتاب والسنّة بدعة.
والعقل السليم يخطّئهم في ذلك كما أنّ الكتاب الكريم والسنّة الشريفة لا يصدّقانهم فآيات الكتاب تحرّض كلّ التحريض على التدبّر في آيات الله وبذل الجهد في تكميل معرفة الله ومعرفة آياته بالتذكّر والتفكّر والنظر فيها والاحتجاج بالحجج العقليّة . ومتفرّقات السنّة المتواترة معنى توافقها ، ولا معنى للأمر بالمقدّمة والنهي عن النتيجة . وهؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب والسنّة ويعدونها بدعة فلنتركهم وشأنهم.
وأمّا طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معنى العرش على أقوال :
1 ـ حمل الكلمة على ظاهر معناه ، فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة ، والله ـ تعالى عمّـا يقول الظالمون ـ مستو عليه كاستواء الملوك منّا على عروشهم ، وأكثر هؤلاء على أنّ العرش والكرسي شيء واحد ، وهو الذي وصفناه . وهؤلاء هم المشبّهة من المسلمين ، والكتاب والسنّة والعقل تخاصمهم في ذلك ، وتنزّه ربّ العالمين أن يماثل شيئاً من خلقه ويشبهه في ذات أو صفة أو فعل تعالى وتقدّس.
2 ـ أنّ العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني والمحدّد للجهات والأطلس الخالي من الكواكب ، والراسم بحركته اليومية للزمان وفي جوفه مماساً به الكرسي وهو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت ، وفي جوفه الأفلاك السبعة الكلّية التي هي أفلاك السيارات السبع : زحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر بالترتيب محيطاً بعضها ببعض ، وهذا يتلائم مع الهيئة القديمة باسم بطليموس . والظواهر من الكتاب والسنّة تثبت أنّ وراء العرش حجباً وسرادقات وأنّ له قوائم ، وله حملة ، وأنّ الله سيطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب ، وأنّ في السماء سكنة من الملائكة إلى غير ذلك ممّـا ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة والطبيعيات سابقاً ، وقد ثبت في الهيئة الجديدة والحديثة بالحسّ والتجربة بطلان الفرضيات السابقة ، فما يقولونه في العرش لا وجه له.
3 ـ أن لا مصداق للعرش خارجاً وإنّما قوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْش ) و ( الرَّحْمانُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق وكثيراً ما يطلق الاستواء على الشيء على الاستيلاء عليه ، كما قيل :
قد استوى بشرٌ على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
أو أنّ الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الاُمور ، كما أنّ الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة اُمور مملكتهم استووا على عروشهم وجلسوا عليه فيلزم أن يكون الاستواء على العرش كناية ومجاز.
ولكن يرد عليه أ نّه لا ينافي ذلك أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية ، فقوله تعالى : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْش ) في عين أ نّه تمثيل يبيّن به أنّ له إحاطة تدبيرية لملكه ، يدلّ على أنّ هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمّة الاُمور على كثرتها واختلافها ، ويدلّ عليه آيات اُخر تذكر العرش وحده ، وينسبه إليه تعالى :
كقوله : ( وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيم ).
وقوله : ( الَّذينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ مِنْ حَوْلِهِ ).
وقوله : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمانِيَة ).
وقوله : ( حافِّينَ حَوْلَ العَرْش ).
فالآيات كما ترى تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينية وأمر من الاُمور الخارجيّة ، ولذلك نقول : إنّ للعرش في قوله : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْش ) مصداقاً خارجياً ، فنقول في الوجود عرشاً إلهياً يجتمع فيه أزمّة الحوادث والاُمور كما يجتمع أزمّة المملكة في عرش الملك.
فالعرش مقاماً تنشأ فيه التدابير العامة الإلهيّة وتصدر عنه الأوامر التكوينية :
( ذو العَرْشِ الَمجيدِ فَعَّالٌ لِما يُريد ).
( وَتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقَضى بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ ).
( الَّذينَ يَحْمِلونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحونَ بَحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرونَ لِلَّذينَ آمَنوا ).
فحملة العرش أشخاص يقوم بهم هذا المقام الرفيع والخلق العظيم الذي هو مركز التدابير الإلهية ومصدرها ، ففيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له كما يشير إلى ذلك قوله :
( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فيها وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلونَ بَصير ).
ثمّ لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش والكرسي وسائر الحقائق القرآنية وحتّى اُصول المعارف كمسائل التوحيد وما يلحق بها ، بل كانوا لا يتعدّون الظواهر الدينية ويقفون عليها ، وعلى ذلك جرى التابعون وقدماء المفسّرين حتّى نقل عن سفيان بن عيينة أ نّه قال : كلّما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه.
وعن مالك بن أنس إمام المالكية أنّ رجلا قال له : يا أبا عبد الله ، استوى على العرش ، كيف استوى ؟ قال الراوي : فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته ، وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم ، قال : فسرّي عن مالك ، فقال : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وإنّي أخاف أن تكون ضالا ، وأمر به فاُخرج.
وكان قوله : الكيف غير معقول إلى آخره ، مأخوذ عمّـا روي عن اُمّ سلمة اُمّ المؤمنين في قوله تعالى : ( الرَّحْمانُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر.
فهكذا كان مسلكهم ، لم يورث ولم يحصل منهم شيء إلاّ ما ورد في كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وفي كلام الأئمة من ولده (عليهم السلام) ، كما مرّت كثير من هذه الروايات الشريفة.
وخلاصة الكلام :
إنّ العرش ليس كهيئة السرير ولكنّه شيء محدود مخلوق مدبّر وربّك مالكه ، لا أ نّه عليه ككون الشيء على الشيء ، وهو حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وخلقه من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرّت الحمرة ، ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة وهو نور المعرفة ، ونور أصفر منه اصفرّت الصفرة ، ونور أبيض منه ابيضّ البياض وهو العلم الذي حمله الله الحملة ، وذلك نور من نور عظمته ، فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبنوره وعظمته ابتغى من في السماوات والأرض وجميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المتشتّتة ، فكلّ شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، فكلّ شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا ، والمحيط بهما من شيء وهو حياة كلّ شيء ونور كلّ شيء سبحانه وتعالى عمّـا يقولون علوّاً كبيراً.
والذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه ، وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله ... فنور العظمة الإلهية وقدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه وهو ملكه تعالى لكلّ شيء دون العرش وهو تعالى الحامل لهذا النور ، ثمّ الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله ، والله سبحانه هو الحامل للحامل والمحمول جميعاً . فالعرش في قوله : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْش ) وإن شئت قلت : الاستواء على العرش هو الملك ، وفي قوله : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ ) هو العلم ، وهما جميعاً واحد وهو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء ، ويتمركز فيه إجمال جميع التدابير ، ومقام العلم الذي يظهر به الأشياء ، فالعرش هو الملكوت الأعلى ، والعرش والكرسي بابان من أكبر أبواب الغيوب وهما جميعاً غيبان ، وهما في الغيب مقرونان لأنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلّها والعرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والأين والمشيّة وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء . فهما في العلم بابان مقرونان لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال : ( رَبُّ العَرْشِ العَظيم ) أي صفته أعظم من صفة الكرسي وهما في ذلك مقرونان[2].
والعرش الإلهي مربّع ، فإنّ الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، فيرجع تفسيره إلى العلم.
وفي العرش تمثال ما خلق الله في البرّ والبحر ، وهذا تأويل قوله تعالى : ( وَإنْ مِنْ شَيْء إلاّ عِنْدَنا خَزائِنَهُ وَما نُنْزِلُهُ إلاّ بِقَدَر مَعْلوم ) فوجود صور الأشياء وتماثيلها في العرش هو الحقيقة التي يبتني عليها بيان الآية ، والأشياء كلّها في العرش كحلقة في فلاة . وحملة العرش العلمي ثمانية : أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين : فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد وعليّ والحسن والحسين (عليهم السلام) ، كما تحمله ثمانية من الملائكة ومن حوله ملائكة يستغفرون للمؤمنين.
و ( كانَ عَرْشُهُ عَلى الماء ) يوم خلق السماوات والأرضين على الماء وهذا كناية عن أنّ ملكه تعالى كان مستقرّاً يومئذ على هذا الماء الذي هو مادّة الحياة ، فعرش الملك مظهر ملكه ، واستقراره على محلّ استقرار ملكه عليه كما أنّ استواؤه على العرش احتواؤه على الملك وأخذه في تدبيره[3].
هذا وقد كتب الله سبحانه على عرشه الاسمى والمسمّى ، بلون أخضر أي بلون المعرفة :
( إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة ) .
فارجع البصر تكراراً ومراراً إلى ما كتبناه في شرح هذا الحديث الشريف ، فهل ترى فيه من ... ؟ !
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
[1]اقتبسناه من الكتاب القيّم ( الميزان في تفسير القرآن ) للعلاّمة المحقّق السيّد محمّد حسين الطباطبائي قدّس سرّه الشريف . من سورة الأعراف.
[2]إذا أردت شرح هذا الكلام الذي هو من الحديث الشريف فراجع تفسير الميزان 8 : 170 سورة الأعراف.
[3]الميزان 10 : 144 سورة هود.
![]() |
![]() |