الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلّمه البيان ووفّقه لمعرفته بلطفه وإحسانه ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الأطهار.
أمّا بعد :
فاعلم أنّ الإنسان ذلك الكائن المجهول ، الذي هو أشرف المخلوقات ، ومن أجله خُلقت الأرض والسماوات ، يمتاز عن الكائنات الحيّة بعقله وقلبه ، ويتبلور ويزدهر العقل بالفكر ، وأمّا القلب فإنّما يتصيقل ويتهذّب بالذكر . والطريق إلى ذلك بالعلم والانكشاف والشهود ، إلاّ أ نّه طريق الفكر هو الدراسة والمطالعة والتثقيف العامّ ، وبداية التعليم والتعلّم الدرسي إنّما يكون من أيام الصبا إلى أواسط العمر ، ولكن طريق القلب إنّما هو بالموعظة والذكر والمناجاة ، وذلك من المهد إلى اللحد ، فلا يكسل الإنسان في طلبه وممارسته حتّى سنّ الكهولة ، فهو يتشوّق إلى الدعاء والمناجاة ، وإن كان يملّ من تلقّي الدروس ، فالروايات التي تقول بطلب العلم من المهد إلى اللحد ، وأنّ الجنين بعد ولادته يؤذن في اُذنه اليمنى ، ويقام في اليسرى ( الأذان والإقامة ) ناظرة إلى هذا العلم في طريق القلب ، ولا يحقّ للمرء أن يأخذ هذا العلم من أيٍّ كان ، بل فلينظر إلى طعامه ، أي إلى علمه ممّن يأخذه ، وإنّما يعاشر من يذكّره الله رؤيته ، ويزيد في علمه منطقه ، ويرغّبه في الآخرة عمله . وقد ورد في الأخبار : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن نطق عن الله فقد عبد الله ، وإن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان . وأمّا الروايات التي تقول : انظر إلى ما قال لا إلى من قال . وقوله تعالى : ( الَّذينَ يَسْتَمِعونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعونَ أحْسَنَهُ )[1] ، ناظرة إلى طريق العقل والتفكّر ، فيحقّ للمرء أن يستمع الأقوال والآراء ليأخذ منها النافع ، وإنّه يتعوّذ من العلم الذي لا ينفع ، وإذا كانت الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها ولو من رأس مجنون ، إنّما هي ناظرة إلى هذا المعنى ، فتدبّر.
وبعبارة اُخرى :
الرؤية الكونيّة ، ومشاهدة هذا العالم ، إمّا أن تكون بنزعة ماديّة أو بنزعة إلهيّة ، والتفكّر المادي سير من الخلق إلى الخلق بالخلق ، فالسائر يدور في عالم المادّة المحضة والهيولانيّة المظلمة . وأمّا التفكّر الإلهي النوراني فهو سير من الحقّ إلى الحقّ ، ومن الحقّ إلى الخلق ومن الخلق إلى الحقّ ومن الخلق إلى الخلق ، كلّ ذلك بالحقّ ، فهذه أسفار أربعة ، وهي إمّا من طريق العقل ، أو من طريق القلب ، فالأوّل يتلقّى المعارف والعلوم بالعقل والفكر والنظر ، وبالحركة من المراد إلى المبادي ومنها إليه . والثاني يتلقّاها بالقلب والمكاشفة ، وطريق الأوّل مسلك الحكماء والفلاسفة ، والثاني مسلك العرفاء وأصحاب الكشف والشهود ، وفرقٌ عميق بين المسلكين ، فالحكيم يفكّر فيفهم ، والعارف يبصر فيشاهد ، فالأوّل سير غيبي ، والثاني سير شهودي . وما يقدّمه العارف أهمّ وأكثر ممّـا يقدّمه الفيلسوف ، وربما الإنسان بلطف من الله سبحانه يجمع بين المسلكين ويصبح عارفاً حكيماً ، وهو الذي يسمّى بالكون الجامع ، فيجمع بين الفلسفة والعرفان وبين البرهان والشهود.
والسلوك العرفاني : تارةً بالأسباب والعلل الظاهريّة ، أي بمظاهر أسماء الله الحسنى ، صغارها تحت الكبار ، وكبارها تحت الإسم الأعظم ، واُخرى بالقلب . والأوّل طريق عامّ ، والثاني طريق خاصّ للخواصّ.
وبالأوّل يصل الإنسان إلى مقام يفيض عليه سرّاً ، فيلهم القلب الذي هو حرم الله وعرش الرحمن . وعنده مفاتح الغيب ، والمفتاح بيد القلب ، والله يكلّم الناس من وراء حجاب أو من الوحي والإلهام ، ويناجيهم في سرّهم ، ولكنّ الإنسان يتكلّم مع ربّه من دون واسطة فيناديه : يا ربّاه ، وتجاب دعوته . وهذا طريق الغيب وهو مفتوح دائماً ولا يُغلق ، وبه القلب يطمئنّ في كلّ الأحوال والظروف ، وحينئذ لا حجاب بين الإنسان وبين ربّه إلاّ الذنوب والمعاصي ، وأقرب الطرق إلى الله هو الحبّ والعشق القلبي ، وعزم الإرادة القلبيّة إلى الله سبحانه ، جامعاً بين الشريعة والطريقة والحقيقة ، وذلك العارف بالله حقّاً . ويعبد الله مخلصاً ، فإنّ العبادة بعد المعرفة ، ولمّـا لم يمكن معرفة كنه الذات الربوبيّة ، فلا يمكن أن يعبد الله حقّ عبادته ، سواء النبيّ أو الوليّ أو العارف أو الحكيم ، فشعارهم ما عبدناك حقّ عبادتك ، وأن عبدوا الله حتّى أتاهم اليقين.
بعد بيان هذه المقدّمة الموجزة التي تشير إلى أهمّ العنصرين في الإنسان وهما : العقل والقلب ، وإشارة عابرة وخاطفة إلى لوازمهما وكيفيّة تربيتهما لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وتكفي الإشارة لمن يعقل ويريد.
نذكر أهمّ العوامل والأسباب التي لا بدّ من مراعاتها والالتزام بها لمن أراد أن يكون موفّقاً في حياته العلمية أو العملية ، الفردية أو الاجتماعيّة . كلّ حسب حاله وما تقتضيه حياته الخاصّة والعامّة.
ولا يخفى أنّ كلمة ( التوفيق ) مشتّقة من الوِفْق ، وهي لغة : بمعنى أن تكون الظروف والأعمال على وفق ومرام ما يبغيه المرء في حياته ، أي : كان الأمر صواباً موافقاً للمراد . مثلا : لو أراد الإنسان أن يسافر ، فإن تهيّأت الراحلة والزاد بسهولة وكما يرام ، فما أن خرج من داره إلاّ وحصل على سيّارة ، ثمّ رافقه في الطريق مصاحب أريحيّاً فاهماً ، ولم يعترضه ما يسيئه في السفر ، ووصل إلى مقصوده ، ونال ما ينتظره ويبغيه ، ورجع بسلامة ، فإنّه يقول : كنت موفّقاً في سفرتي هذه . ولكن إذا داهمته المصاعب ، وفشل في الوصول إلى مقصوده ، ورجع خائباً ، فإنّه يتأفّف ويتأسّف على أ نّه لم يكن موفّقاً في سفره.
والتوفيق اصطلاحاً بهذا المعنى اللغوي ، إلاّ أ نّه مع نظرة إلهيّة ويد غيبيّة ولطف خاصّ من الله سبحانه ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم » ، وهذا يعني أنّ هناك قدرة حكيمة مدبّرة ، هي أولى بالتدبير ، وربما يعزم الإنسان على أمر فيفسخ ، ويهمّ بشيء فينقض ، وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو كره لكم ، وأن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، فمن فوّض أمره إلى الله سبحانه فإنّه يتوفّق في حياته وينجح في مسعاه ، وتتسهّل له طرق الخير ، فإنّ الله إذا أراد بعبد خيراً هيّأ له الأسباب ، فيسعد في نجاح سؤله ومأموله ويرشد في أمره ، ويسدّد خطاه ، ويصيب الخير ، ويكون مظهراً لتوفيق الله سبحانه وتعالى.
والإنسان في حياته إنّما هو في رحلة وسفر ، يحاول أن يكون موفّقاً في عمله ، وناجحاً في اُسرته ومجتمعه ، ولكن على المرء أن يسعى ليكون من أهل الخير حتّى تتاح له الظروف وتتهيّأ له الأسباب ويكون موفّقاً وناجحاً.
مع هذا هناك أسباب عامّة اتّفق عليه العقلاء أنّ من التزم بها ، مع حقّ المراعاة ، فإنّه يتوفّق في الحياة ، نشير إلى أهمّها ، وهي كما يلي :
[1]الزمر : 18.