الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمّد وآله الطاهرين.
القيادة الإسلامية لها أبعاد وجوانب عديدة ترجع في البداية إلى بعدين أساسيّين :
1 ـ القيادة الروحيّة المعنوية.
2 ـ القيادة الجسدية المادّية.
وتعني الاُولى حكومة القائد الإسلامي على قلوب الناس وأرواحهم وعقولهم ، فيهديهم إلى العقائد السليمة الصحيحة ويسوقهم إلى الأخلاق الحميدة ويقودهم إلى مكارم الفضائل وتهذيب القلوب وتزكية النفوس.
والثانية ترمز إلى إدارة شؤون حياة الناس المعاشية وتمشية أوضاعهم الدنيوية وسيادة العدالة الاجتماعية ، وتتشعّب إلى القيادة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وغير ذلك.
ومن الاُسس الأوّلية في مفاهيم الإسلام ومعارفه أ نّه ( لا معاد من لا معاش له ) ولا بدّ للمسلم الواعي من مراعاة جوانب حياته المعنوية والمادّية معاً على حدٍّ سواء ( رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً )[1] ، فإنّ الإسلام ذلك الدين القيّم والشريعة السماوية السمحاء كما يأخذ بيد الإنسان في العبادات والروحانيات والأخلاق الفاضلة ، كذلك يأخذ بيده في الماديات والجسمانيات والملاذّ والشهوات من دون إفراط وتفريط بل خير الاُمور أوسطها ( وَجَعَلـْناكُمْ اُمَّةً وَسَطاً )[2] ، وإنّ الهدف والمقصود وسرّ الخلقيّة وفلسفة الحياة هو تكميل الإنسان وعروجه إلى قاب قوسين أو أدنى ، ودرك علّة وجوده من خلافته لله سبحانه في أرضه ، كما ورد في الآيات والروايات [3].
والقائد الإسلامي إنّما عليه إدارة الناس بحزم وتدبير ناجح كما كان النبيّ الأكرم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وكما قال (صلى الله عليه وآله) : « اُمرت بمداراة الناس ».
واُولى الخصائص وجذورها الأوّلية في القيادة الإسلامية وولاية الأمر هي أن تكون بيد العالم الفقيه لا الجاهل السفيه ، فإنّ شرعيّتها من حكومة الله سبحانه ومن شرعيّة حكومة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) . فإنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وإنّهم اُمناء الرسل وقادة الناس كما ورد في الأخبار.
ثقة الإسلام الكليني بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء ; وذاك أنّ الأنبياء ، لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ، وإنّما اُورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ؟ فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلق عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقال (عليه السلام) : العلماء اُمناء.
وقال (عليه السلام) : العلماء منار[4].
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ألا اُخبركم بالفقيه حقّ الفقيه ؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يرخّص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره . ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر ، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفكّر[5].
لقد أعطى الأمير (عليه السلام) الخطوط الأوّليّة لمن كان فقيهاً حقّ الفقيه ، وقد رسم الوظائف الأساسيّة للقائد الإسلامي ، فإنّ الفقيه القائد إنّما يهدف ويفكّر في سلامة المجتمع وصيانته من الانحراف والانحطاط والاعوجاج ، وكلّ همّه إنّما هو ترويج الدين الحنيف ونشر المعارف والفضائل ، فلا يرخّص الناس في أن يعصوا الله سبحانه ، وإنّما ينهج مناهج القرآن الكريم ويطبّق تعاليمه وأحكامه القدسية ، ولا يميل إلى القوانين الوضعيّة ، وإنّما يجعل الناس دائماً بين الخوف والرجاء.
فإذا صلح العالِم صلح العالَم ، وإنّ الناس على دين ملوكهم ، فمن يملك زمام أمرهم لو كان صالحاً فإنّه بلا ريب ينشر الصلاح في المجتمع ، وإذا كان القائد وقمّة الحكومة ورأس الشكل الهرمي للدولة من أهل الخير والإحسان ، فإنّه يؤثّر في صلاح وإصلاح الجهاز الحكومي في كلّ أبعاده.
وإذا كان ربّ البيت في الدفّ ناقراً ، فشيمة أهل الدار كلّهم الرقص.
فالأساس والعمدة أن يتولّى الأمر من كان عالماً صالحاً ، وفقيهاً ورعاً ، ومديراً مدبّراً ، عارفاً بأهل زمانه واقفاً على رموز الحياة والسياسات الدولية والعالمية والداخليّة ، يداري الناس بالتي هي أحسن ، ويفكّر في معادهم ومعاشهم ويقودهم إلى شاطئ السعادة والهناء والعيش الرغيد.
والعالم الفقيه المتصدّي للأمر إنّما يمثّل النبيّ في زمانه ، فإنّه وريث الأنبياء والأوصياء ، وإن كان « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته » إلاّ أ نّه هو راعي الحياة والرعاة والدعاة.
والعلماء ورثة الأنبياء ، والوراثة لها أصناف مختلفة ، فتارةً تعني الوراثة المالية ، والعالم لا يرث النبيّ في ماله كما ينصّ على ذلك الخبر الشريف ، وإنّما يرثه في المال من كان رحمه طبقاً لأحكام الإرث في كتاب الله والسنّة الشريفة ، إنّما العالم يرثه في علومه وأحاديثه فمن أخذ شيئاً من العلوم إنّما أخذ بحظٍّ وافر.
كما يرث العلماء الأنبياء في أخلاقهم السامية وسلوكهم الرفيع ، من حبّ المساكين وحسن الخلق والحلم والصبر وتحمّل المشاكل والمصاعب من أجل أداء الرسالة.
كما يرثونهم في الهداية وتبليغ الرسالة ، وتعليم الناس وتزكيتهم ، وإنذارهم وتبشيرهم ، ودعوتهم إلى عبادة الله والإخلاص في العمل والخوف من يوم المعاد.
ويرثونهم في الجهاد والعمل الدؤوب ، ومحاربة الجهل والظلم واتّباع الشياطين من الطغاة والجبابرة ، وليقوموا بين الناس بالقسط ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم.
كما يرثونهم في القيادة والحكومة ، فإنّ النبوّة رئاسة عامّة في الدين والدنيا ، وإنّ الدين نظام ودولة ، عبادة وسياسة ، فسياستنا ديننا وديننا سياستنا ، لا انفصال ولا انفصام بينهما.
والعلماء قادة المجتمع بعد الأنبياء والأوصياء ، وبيدهم زمام الاُمور ومقاليد الحكم وسياسة البلاد ، وبإشرافهم إدارة الحكومات والسلطات التقنينية والتنفيذية والقضائية.
وينتخبون من بين صلحائهم وليّاً وقائداً ، يكون القرار الأخير لإدارة البلاد بيده ، ونبغي في هذه العجالة أن نستنبط ونستخرج أهمّ خصائصه ومميّزاته من الآيات القرآنية الشريفة ـ وإن كانت هذه الخصائص تعمّ كلّ العلماء والمبلّغين الرساليين فهي خصائص الأنبياء والرسل ، إلاّ أنّ القائد لا بدّ أن يتحلّى بها أكثر من غيره ، فهو أولى وأحقّ بها كما لا يخفى ـ ثمّ المقصود بيان ما يتعلّق بالموضوع على نحو الإجمال والإشارة ورؤوس أقلام وفتح آفاق جديدة لمن أراد الغور والتحقيق في مثل هذا الموضوع القيّم ، ذا الأهميّة البالغة في عصرنا الراهن ، عصر الصحوة الإسلامية والرجوع إلى حكومة القرآن وتطبيق أحكامه ومعارفه في البلاد الإسلامية ، ومجامع المسلمين في كلّ ربوع الأرض ، فكلّ واحد من المسلمين قد أحسّ بضرورة حكومة العدل الإسلامي المتمثّل بالقرآن الكريم وأهله ، وأ نّه لا بديل للحكومات المتسلّطة على رقابهم بالبطش والقوّة والتزوير سوى الإسلام الحنيف ، ذلك الدين القيّم.
ومن ثمّ كلّ واحد منهم يربو ويتطلّع إلى بحث قرآني ، لعلّه يجد ضالّته وينال بغيته ، فيقرأ بكلّ شغف وسرور ، ويتابع أخبار القرآن الذي لا يأتيه الباطل ، وإنّه يهدي للتي هي أقوم ، وإنّه غضّ جديد لا يُبلى ، وإنّه يتماشى مع كلّ عصر ومصر ، ويواكب الحضارات البشرية ، والتمدّن والتقدّم بل ويزيد ، وتظهر كنوزه ومعادنه العلمية والاجتماعية والثقافية ، وتبيان لكلّ شيء ، فما من رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين ، وبشرى للمؤمنين ، وما يزيد الظالمين إلاّ خساراً.
فإلى القرّاء الكرام هذه الرسالة والعجالة عسى أن تروي الظمآن ولو إلى حين ، فإنّها غيضٌ من فيض ، وقد صغتها بعد بيان هذه المقدّمة في فصول ثلاثة وخاتمة ، وما توفيقي إلاّ بالله العليّ العظيم.
( إنَّ في ذلِكَ ذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلـْبٌ وَألـْقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهيد )[6].
الفصل الأوّل :
معالم النبوّة أو مواصفات القائد الإسلامي.
الفصل الثاني :
دعوة الأنبياء أو أهمّ وظائف القائد الإسلامي.
الفصل الثالث :
الأنبياء وأصناف الناس أو عمل الاُمّة مع القائد.
خاتمة :
العلماء ورثة الأنبياء ، كيف ولماذا ؟
ولا يخفى أنّ القيادة الإسلامية وحكومتها والرئاسة قد ورد شرائطها وخصائصها ومميّزاتها ، وكذلك خصائص القائد الإسلامي ، لا سيّما العالم الصالح والإمام العادل والسلطان المؤمن في الأحاديث الشريفة المأثورة عن النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أكثر من أن تحصى ، فمن الروايات تذمّ الرئاسة لغير أهلها ، كما تحذّر الناس من اتباع غير الحجّة والإمام العادل : ( تِلـْكَ الدَّارُ الآخَرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدونَ عُلُوَّاً في الأرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلـْمُتَّقينَ )[7].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : فيما ناجى الله تعالى به موسى (عليه السلام) ... لا تغبطنّ أحداً برضى الناس عنه حتّى تعلم أنّ الله راض عنه ، ولا تغبطنّ أحداً بطاعة الناس له ، فإنّ طاعة الناس واتباعهم إيّاه على غير الحقّ هلاك له ولمن تبعه[8].
وعن أبي الحسن (عليه السلام) أ نّه ذكر رجلا فقال : إنّه يحبّ الرياسة ، فقال : مـا ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من طلب الرياسة.
ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبوّأ مقعده من النار[9].
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : آفة العلماء حبّ الرياسة.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذين يتراءسون ، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلاّ هلك وأهلك.
وعن سفيان بن خالد ، قال : قال أبو عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) : إيّاك والرياسة ، فما طلبها أحد إلاّ هلك . فقلت له : جعلت فداك ، قد هلكنا إذاً ، ليس أحد منّا إلاّ وهو يحبّ أن يذكر ويقصد ويؤخذ عنه ، فقال : ليس حيث تذهب إليه ، إنّما ذلك أن تنصب رجلا دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال وتدعو الناس إلى قوله[10].
وقال (عليه السلام) : من طلب الرئاسة بغير حقٍّ حرم الطاعة له بحقّ[11].
وهذا يعني من لم يكن أهلا لها ولم يحمل أوصافها الحقّة ، فإنّه لا يطاع ، وأنّ رئاسته مذمومة وأ نّه هالك ومهلك فيما لو طلبها وتصدّى لها.
ففي الروايات مواصفات الرئيس الصالح والناجح ، كقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : آلة الرياسة سعة الصدر ، ومن جاد ساد ، ومن كثر ماله رأس ، ومن أحبّ رفعة الدنيا والآخرة فليمقت في الدنيا الرفعة ، ومن بذل معروفه استحقّ الرئاسة ، وحسن الشهرة حصن القدرة ، وآفة الرياسة الفخر[12].
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) : طلبت الرياسة فوجدتها في النصيحة لعباد الله.
وأمّا في الإمامة ، فحدّث ولا حرج ، فما أكثر الروايات والآيات في ذلك ، وما أكثر مباحثها ومداليلها.
أكتفي بما يقوله الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : إنّ أئمتكم قادتكم إلى الله ، فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم[13].
وقال (عليه السلام) : إنّ أئمتكم وفدكم إلى الله ، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم.
ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) ، في قوله تعالى : ( أوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأحْيَيْناهُ وَجَعَلـْنا لَهُ نوراً يَمْشي بِهِ في النَّاسِ ) ، فقال : ( ميّت ) لا يعرف شيئاً ، و ( نوراً يمشي به في الناس ) إماماً يؤتمّ به ، ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، قال : الذي لا يعرف الإمام.
وقال (عليه السلام) : من مات وليس له إمام فموته ميتة جاهلية ، ولا يعذر الناس حتّى يعرفوا إمامهم ، ومن مات وهو عارف لإمامه لا يضرّه تقدّم هذا الأمر أو تأخّره ، ومن مات عارفاً لإمامه كان كمن هو مع القائم في فسطاطه.
وقال (عليه السلام) : لا يكون العبد مؤمناً حتّى يعرف الله ورسوله والأئمة كلّهم وإمام زمانه ، ويردّ إليه ويسلّم له . ثمّ قال : كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأوّل ؟
ثمّ في بيان فلسفة بعثة النبيّ يقول (عليه السلام) : إنّ الله بعث محمد (صلى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّة ، فساق الناس حتّى بوّأهم محلّتهم وبلّغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم ، واطمأنّت صفاتهم ، أما والله إن كنت لفي سقاتها ، حتّى ولّت بحذافيرها ، ما ضعفت ولا جبنت ، وإنّ مسيري هذا لمثلها[14].
وقال (عليه السلام) : أمّا بعد ، فإنّ الله بعث محمداً ليخرج عباده من عباده إلى عبادته ، ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته[15].
أي دعاهم إلى الحرية والاستقلال في حياتهم الدينية والدنيوية ، وذلك بعبادة الله والكفر بعبادة غيره.
وقال (عليه السلام) : طبيب دوّار بطبّه ، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه ، يضع من ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي وآذان صمّ وألسنة بكم ، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة[16].
وقال (عليه السلام) : اللّهم إنّك تعلم أ نّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك[17].
وقال (عليه السلام) : لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة ، وليس أمري وأمركم واحداً ، إنّي اُريدكم لله ، وأنتم تريدونني لأنفسكم ، أيّها الناس ، أعينوني على أنفسكم ، وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه في مملكة جبّار من الجبّارين أن ائتِ هذا الجبّار فقل له : إنّي لم أستعملك على سفك الدماء واتّخاذ الأموال وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين ، فإنّي لم أدَع ظلامتهم وإن كانوا كفّاراً[18].
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو اقتبستم العلم من معدنه ، وادّخرتم الخير من موضعه ، وأخذتم من وضحه ، وسلكتم الحقّ عن نهجه ، لابتهجت بكم السبل ، وبدت لكم الأعلام ، وأضاء لكم الإسلام ، وما عال فيكم عائل ، ولا ظُلم منكم مسلم ولا معاهد ...[19].
لا يخفى أنّ هدف الأنبياء هو دلالة الإنسان إلى ما فيه كماله ورشده وسعادته في الدارين ، وذلك بتهذيب النفس والسير إلى الله سبحانه وسلوكه صراطه المستقيم ومنهجه القويم ليصل إلى مرتبة البلوغ الإنساني من القرب الإلهي ، وكذلك القيادة الإسلامية وخصوص القائد الإسلامي ، فإنّه يسعى من أجل ذلك برعاية وتطبيق الاُصول التربويّة والاجتماعية والحقوقيّة ، ليقوم الناس بالقسط والعدالة الاجتماعية ، وإنّما قيام المجتمع يكون بالقسط ، ليقوم الأفراد بالحقّ وبالعقيدة الحقّة ، والسلوك الصحيح ، فيصل الإنسان إلى رشده المنشود وكماله المطلوب.
فمعرفة الدين بصورة صحيحة وأخذه من منابعه الأصليّة وتطبيقه في الحياة ، ممّـا يوجب وصول الفرد والمجتمع إلى الحياة الطيّبة التي يسودها العدل والمحبّة والحرية ، بلا ظلم وفساد ومنكرات ، وهذا هو الغاية القصوى لحكومة الإسلام في الأرض ولإثارة دفائن العقول واستخراج خزائن المعارف ونشر الحقائق وتطبيق الشرائع السماوية.
ثمّ الناس على دين ملوكهم ، فإذا كان الملك صالحاً ، فإنّه بلا شكّ يؤثّر في صلاح مملكته ، وصلاح الملوك برعايتهم الأخلاق الحميدة كالتواضع وما شابه ذلك.
يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : فلو رخّص الله في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه وأوليائه ، ولكنّه سبحانه كرّه إليهم التكابر ورضي لهم التواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، وعفّروا في التراب وجوههم ، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين ، وكانوا أقواماً مستضعفين ، وقد اختبرهم الله بالمخمصة ، وابتلاهم بالمجهدة ، وامتحنهم بالمخاوف ومخضهم بالمكاره ...[20].
كما على القائد الإسلامي والقيادة الإسلامية ورؤساء المسلمين حماية المستضعفين والدفاع عنهم.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ عيسى (عليه السلام) لمّـا أراد وداع أصحابه جمعهم وأمرهم بضعفاء الخلق ونهاهم عن الجبابرة[21].
فالأنبياء ومن يحذو حذوهم يكافحون السلطات الباطلة والطاغوتيّة ، ويقفوا مع الجماهير أمام المستكبرين والمترفين لمجابهتهم وقطع أياديهم عن الشؤون الإنسانية ، وكسر شوكتهم ، وخمد صولتهم ، وتخليص الاُمّة من براثنهم وذرائعهم التي يخدّرون بها الشعوب ، فينادون باليقطة والوعي والانتباه لمكافحة الطغاة ، والتحرّر من سلطاتهم الغاشمة والخلاص من مخالب اُخطبوطهم المقيت.
فأهمّ اُصول الأنبياء ورسالاتهم السماوية وتعاليمها القيّمة لحلّ مشاكل الحياة وسعادة المجتمعات عبارة عن :
1 ـ قيام الناس بالقسط : في كلّ أمر من اُمور الحياة الإنسانية وحقولها المتنوّعة ، ولا يمكن لأيّ مجتمع أن يدّعي أ نّه مجتمع إسلامي وأنّ إدارته إسلاميّة ، وأنّ قائده ملتزم باُصول الإسلام ، ما لم يكن القسط سائداً فيه على مختلف الأصعدة والمستويات والطبقات.
2 ـ العدالة الاجتماعية : والجهاد الدائب لنفخ روح العدل والحدّ الوسط ، ووضع الشيء في موضعه ، وسوق الناس إلى تبنّي ذلك في كلّ مجالات الحياة ، فالعدل والإحسان الذي أمر الله بهما هما الحاكم في المجتمع الإسلامي ، وأكبر دعامة تستند إليها الحياة على وجه الأرض ، فما لم تتحقّق العدالة الاجتماعية ، ولم تطبّق ، فإنّه لا يتجسّد الدين الإلهي ، ولا يتمثّل التكليف الشرعي.
3 ـ إنقاذ الإنسان وتحريره : فإنّ في عبادة غير الله الشقاء والتعاسة ، فجاءت الأنبياء لتضع عن الإنسان الإصر والأغلال ، وليخلّصوه من عبادة الناس إلى عبادة الله حتّى يتمتّع بحرّيته التي أودعها الله في جبلته وفطرته ، وليعلم أ نّه إنسان ، وله كرامته وشرفه وحرّيته ومقامه من دون أن يركن إلى الظالم والجائر.
4 ـ الاستقامة في سبيل الأهداف : فإنّهم بتضحياتهم وفدائهم أثبتوا أ نّه لا بدّ من الاستقامة والمقاومة من أجل تحقيق الأهداف المقدّسة.
5 ـ الجمع بين المعاد والمعاش : فإنّ نشاطهم لم ينحصر في الجوانب المعنوية والأخلاقية ، بل عمدوا إلى رفع مستوى الحياة المادية والمعنوية معاً ، فإنّ تعاليمهم تعمّ العقائد الذهنية والحقائق العينية ، وأنّ التكامل الإنساني والسير إلى الله سبحانه يتحقّق من خلال تعاضد الجسم والروح ( رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً )[22] ، ( وَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا )[23].
6 ـ المساواة والتآخي بين آحاد الناس والدعوة إلى وحدتهم ، فإنّ من أبرز دعوة الأنبياء والعلماء هو وحدة الشعوب والجماهير ، وبثّ روح التآخي والمودّة والمحبّة بينهم ، فإنّ الشيطان يلقي العداوة والبغض ، والله خير والصلح خير ، فالقائد الإسلامي إنّما يدعو بقوله وعمله وسلوكه إلى الوحدة الإسلامية ، والتمسّك بحبل الله والاعتصام به ، وإنّ الناس كالجسد الواحد.
7 ـ الإصلاح الفردي والاجتماعي : فإنّ الطغاة السياسيين والاقتصاديين لا يعترفون لأيّ إنسان بحقّ ولا كرامة ، فيخلقون المشاكل والعراقيل في طريق الإصلاح وسبيل دعوة الحقّ والعدل ونشر الفضائل والخيرات ، فينهكون الأعراض ويقتلون الأبرياء ويسفكون الدماء ويذبحون الأبناء ويستحيون النساء ، فكلّ خيانة وفقر وجهل وظلم يبدأ منهم ويعود إليهم ، فقيام الأنبياء في ثورتهم الإصلاحية ، ونهضتهم المباركة ، لمقارعة الباطل ومحاربة الفساد وإنقاذ الاُمّة من براثن المعتدين والجبّارين ، فكان الصراع المرير بين معسكري الحقّ والباطل ، والقائد الإسلامي إنّما هدفه هدف الأنبياء في محاربة الكفر والفساد والظلم والجور ، فيعبّد طريق الإصلاح في المجتمعات ، ويمهّد السبيل لنشر العدالة والحقّ ، وإقامة الكيان الإنساني[24].
8 ـ في سبيل سعادة الإنسان : فإنّهم قاموا بمسؤولياتهم الإلهيّة وقدّموا النفس والنفيس من أجل سعادة الإنسان وبلوغ كماله وخلافته لله في الأرض في مظهريّة أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فكانوا من الروّاد الصادقين حملوا مشاعل الحرّية والسلام في درب الجهاد والنضال ، فسعوا في سبيل الحياة الطيّبة ورفع مستوى العيش في كلّ أبعاده ، فقاسوا المتاعب ، وعاشوا المحن من أجل الإنسانية وسعادة البشر.
9 ـ بساطة العيش والزهد فيها : وقد امتازوا بمكارم الأخلاق وفضائل الصفات الحميدة ، لا سيّما زهدهم وإمساكهم عن الشهوات والملاذّ الدنيوية ، فتجلّى في سلوكهم وحياتهم طابع القناعة والعفاف والبساطة ، فإنّهم يدعون الناس إلى الحياة السعيدة الهانئة والعيش الرغيد ، إلاّ أ نّهم جعلوا أنفسهم في أدنى المراتب من الحياة الدنيوية ، في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ، مثلما يعيش الفقراء والمساكين.
10 ـ وفي سبيل إحقاق الحقّ وحفظ حقوق الناس وصيانتها : فإنّهم تميّزوا ـ اُولئك الأفذاذ ـ في سيرة حياتهم ، فكانوا قدوة لمن أهّله الله لقيادة المسلمين وتوسّم بوسام القائد الإسلامي ، تميّزوا بموقفهم الحاسم لاستعادة حقوق الإنسان وحفظها من الضياع والحرمان ، ولا تأخذهم في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل لومة لائم ، فعاشوا مع الناس ومع الله بكلّ صدق وإخلاص وإصلاح ، فكانوا المثل الأعلى لخلاص الإنسان من الإصر والأغلال ، وإرجاع حرّيته وكرامته ، والعيش في حياة يسودها الرحمة والعدالة والإنسانية المتعالية.
فمثل هذه المميّزات والخصائص لزم اتّباع القائد الإسلامي وقبول حكمه في التصوّر الإسلامي.
فالعالم الفقيه الورع الجامع للشرائط يكون الحاكم والقائد في المجتمعات الإسلامية وشعوبها.
يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : العلماء حكّام على الناس[25].
وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الاُمناء على حلاله وحرامه[26].
وعن أبي خديجة ، قال : بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ، وإيّاكم ان يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر[27].
وعن عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المنهي عنه ، قلت : فكيف يصنعان وقد اختلفا ؟ قال : ينظران من كان منكم ، فمن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضيا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه ، فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرادّ على الله ، وهو على حدّ من الشرك بالله[28].
لا يخفى ما في هذين الخبرين بعد صحّة السند ، فإنّه ما ذكر من باب ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يعقلون ) ، وإنّ المورد لا يخصّص ، وإذا كان في مثل دَين وميراث نهى الإمام (عليه السلام) أن يكون الحاكم فيهما من الطغاة والجبابرة ، ومن الفاسقين الذين لا يعرفون الحلال والحرام ، فكيف يسلّم مقاليد اُمور البلاد وزمام الحكومة وسياستها واقتصادها وعسكرها وثقافتها ، بيد من كان جاهلا وفاسقاً ؟ فإنّه بطريق أولى علينا أن نرجع في كلّ الاُمور إلى من كان يحذو حذو الأئمة الهداة المعصومين.
فالواجب علينا الرجوع إلى الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ومن نصب من قبلهم ، وأن نعرف ونؤمن بالإمامة حقّاً.
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث طويل عن الإمامة : إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصالح الدنيا وعزّ المؤمنين ، إنّ الإمامة اُسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف ، الإمام يحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله ، ويقيم حدود الله ، ويذبّ عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة ، الإمام أمين الله في خلقه وحجّته على عباده وخليفته في بلاده والداعي إلى الله والذابّ عن حرم الله ، الإمام المطهّر من الذنوب والمبرّأ من العيوب ، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعزّ المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين ... مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة مفروض الطاعة قائم بأمر الله عزّ وجلّ ناصح لعباد الله حافظ لدين الله[29].
ما أروع ما يقوله الإمام (عليه السلام) ، حقّاً إنّه كلام الإمام إمام الكلام ، فلو كان زمام المسلمين بيد مثل هذا القائد الإسلامي يجمع هذه الصفات ، فإنّ الدنيا تكون جنّة ، ويسود المجتمع الخير والسعادة والعدالة ، ويعيش الإنسان في طمأنينة ، وعيش رغيد ، وكرامة وبلوغ الكمال.
ثمّ ما أروع ما يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مواصفات القائد الإسلامي : وقد علمتم أ نّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين ، البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته ، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله ، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم ، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ، ولا المعطّل للسنّة فيهلك الاُمّة[30].
وهذا يعني أنّ الحكومة الإسلامية إنّما تكون بيد الوليّ الفقيه العادل الجامع للشرائط ، لا بأيدي أمثال رؤساء العرب المرتجعين في المنطقة في عصرنا الراهن ، فمن يجمع منهم هذه المواصفات ولو صفة واحدة فقط ؟ ! ! ما لكم كيف تحكمون ؟ ! !
روى الإمام الباقر (عليه السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، قال : لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وحلم يملك به غضبه ، وحسن الولاية على من يلي ، حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم ، وفي رواية اُخرى : حتّى يكون للرعيّة كالأب الرحيم[31].
وما أروع ما قاله أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر النخعي لمّـا كان والياً على مصر ، فراجع نهج البلاغة في ذلك حتّى تقف على ما يلزم القائد الإسلامي من الخصال والصفات ، وما يجب عليه في إدارة البلاد وسياستها.
يقول (عليه السلام) : إنّ الله تعالى فرض على أئمة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضَعَفَة الناس كيلا يتبيّن بالفقير فقره[32].
وقال (عليه السلام) : ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم.
وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : أمّا بعد ، فقد علمتم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، ثمّ لم يغيّر بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله[33].
وهذا منطلق ثوري صارخ ، ومنطق حسيني حاسم ، لكلّ من يحسّ بالمسؤولية وأصبح قائداً إسلامياً ، ولو لمجموعة صغيرة ، فإنّهم مكلّفون بحنك وتدبير وسياسة ومعرفة الزمان والمكان أن يدكّوا عروش الطغاة وتدمّر بلاط الجبابرة ، وتقطع أيادي الاستعمار وأذنابهم اُولئك الملوك الخونة ورؤساء الجمهوريات العملاء ، فتتحرّر الاُمّة وتشقّ طريقها إلى حريّتها وعزّتها ومجدها الخالد الإسلامي العظيم.
فالقائد الإسلامي الجامع للشرائط ، كما بيّن الله في كتابه الكريم وقالها النبيّ الأكرم ، وعترته الطاهرين في الروايات الشريفة ، هو الذي يلزم على غيره إطاعته وله حرمة الإطاعة وإلاّ ( وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلـْنا قَلـْبَهُ عِنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً )[34].
كما على القادة الإسلاميين أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّا اُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس بقدر عقولهم ، أمرني ربّي بمداراة الناس كما اُمرنا بإقامة الفرائض[35].
وقال النبيّ الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) : سيأتي على اُمّتي زمان لا يبقى من القرآن إلاّ اسمه ولا من الإسلام إلاّ اسمه ، يسمّون به وهم أبعد الناس عنه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ، فقهاء ذلك الزمان شرّ فقهاء تحت ظلّ السماء ، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود[36].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إذا رأيتم العالم محبّاً للدنيا فاتّهموه على دينكم ، فإنّ كلّ محبّ يحوط ما أحبّ[37].
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) : الفقهاء اُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا . قيل : يا رسول الله ، وما دخولهم في الدنيا ؟ قال : اتّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم[38].
أجل إنّما نتّبع من ذكره الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله : فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم[39].
وقال صاحب الأمر الإمام المنتظر (عليه السلام) : وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم[40].
فليس كلّ
مدعي الوصل بليلى هو أحقّ بها ، بل القيادة الإسلامية والمرجعية الدينية منصب
إلهي لا يُنال بالإعلام الكاذب ، والتهريج المضادّ ، والادّعاء
المزيّف ،
والأموال
الباطلة ، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، وإنّه سبحانه أعلم
حيث يجعل رسالته ، فاعتبروا يا اُولي الأبصار ، ولا
يغرّكم بالله الغرور.
إنّ القيادة الحكيمة والرئاسة الإسلامية الصالحة لها دورها الأكبر المصيري في حياة الاُمّة ، فلا ملاذ لهم اليوم لصيانة دينهم وكيانهم الإسلامي إلاّ التمسّك بحبل الله سبحانه القرآن الكريم والعترة الطاهرة[41] ، المتمثّل في عصرنا بالعلماء الربّانيين والمرجعية الصالحة والقيادة الرشيدة ، فإنّ القاعدة بكوادرها تتبع القمّة ، وإذا صلح العالِم صلح العالَم ، وهذا ما ابتغيناه في هذه العجالة من ذكر خصائص القائد الإسلامي على ضوء القرآن الكريم من دون تفسير للآيات أو تعليق أو بيان ، إنّما المقصود الإشارة ، والحرّ العاقل تكفيه ذلك.
وقد قال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) : من أمّ قوماً وفيهم من هو أعلم منه وأفقه ، لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة[42].
وقال : يا ابن مسعود ، علماؤهم وفقهاؤهم خونة فجرة ، ألا إنّهم أشرار خلق الله ، وكذلك أتباعهم ومن يأتيهم ويأخذ منهم ويحبّهم ويجالسهم ويشاورهم أشرار خلق الله ...[43].
وقال (صلى الله عليه وآله) : من تقدّم على المسلمين وهو يرى أنّ فيهم من هو أفضل منه ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين[44].
وقال :
إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لله ولأهلها ، ومن وضع نفسه في غير الموضع
الذي
وضعه الله فيه مقته الله ، ومن دعا إلى نفسه فقال : ( أنا
رئيسكم ) وليس هو كذلك ، لم ينظر الله إليه حتّى يرجع عمّـا قال ويتوب
إلى الله ممّـا ادّعى[45].
فالقائد الإسلامي مواصفاته إنّما هي أوصاف الأنبياء وخصائص النبوّة ، فإنّه يمثّل نظامها في هذه الأزمان ، فالزعيم الإسلامي الذي يريد أن يقوم بواجبات تلك الرسالة تعليماً وتطبيقاً ، يجب عليه قبل كلّ شيء أن يبدأ بنفسه ، ثمّ يقوم بإنشاء حكومة متمتّعة بالقدرة والانطلاق ، لكي يتسنّى له تعليم دين الله القويم ، وتطبيق نهجه السليم ، ورفع الإصر والأغلال عن الإنسان ، ليصل إلى كماله وحريته المنشودة ، فلا استعباد لغير الله ولا استثمار ولا استحمار ، ولا يكون ذلك إلاّ بعد وعي المجتمع ونباهته ونضاله وجهاده وقيادة صالحة تستمدّ مشروعيّتها وقوانينها من شرعية الله السمحاء من القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، فإنّ الذي ينجّي الإنسان من حضيض الجهل والشقاء والبؤس ، ويجيب على أسئلة البشرية ( من أنا ، ومن أين أتيت ، وإلى أين أذهب ، وماذا يراد منّي ، ومن صنعني ) ؟ إنّما هو الدين والوحي العالم بمكنونات الإنسان وفطرته وجوهره.
والدين يمثّل حكومة الله على الأرض ، وتطبيق شرائعه وسننه ، لإسعاد الإنسان وإنقاذه من الشقاء والضرّاء ، والأنبياء ، ثمّ الأوصياء ، ثمّ من يحذو حذوهم من العلماء ، إنّما اصطفاهم الله وبعثهم لتأسيس هذه الحكومة الإلهيّة ، وتحقيقها في المجتمعات الإنسانية ، وكان النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) خاتماً لما سبق وفاتحاً لعهد جديد يستمرّ إلى يوم القيامة ، في أحكام شريعته الثابتة ، ليقوم الناس بالقسط والعدالة.
( لَقَدْ أرْسَلـْنا رُسُلَنا بِالبَّيِّناتِ وَأنْزَلـْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النَّاسُ بِالقِسْطَ )[46].
( ثُمَّ جَعَلـْناكَ عَلى شَريعَة مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أهْواءَ الَّذينَ لا يَعْلَمونَ )[47].
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام عدل[48].
وقال (عليه السلام) : اتّقوا الله وأطيعوا إمامكم ، فإنّ الرعيّة الصالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإنّ الرعيّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر[49].
( ما تَعْبُدونَ مِنْ دونِهِ إلاّ أسْماءَ سَمَّيْتُموها أنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلـْطان إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمونَ )[50].
فمن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك من الكافرين والفاسقين ولا حرمة له ولا طاعة له ، كما قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوىً مبتدع ، والإمام الجائر ، والفاسق المعلن للفسق[51].
فالواجب على المسلمين في أقطار العالم ، اتّباع ما قاله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين ... أن لا يعملوا عملا ولا يقدّموا يداً ولا رجلا ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنّة ، يجبي فيئهم ، ويقيم حجّهم وجمعتهم ، ويجبي صدقاتهم ...
وأخيراً على القائد الإسلامي أن يكون عارفاً بمصدر الإسلام وبالقرآن الكريم والسنّة الشريفة ، وإنّ الإسلام دين ودولة ، جامع كامل شامل يتماشى مع كلّ عصر ومصر ، ويحيى مع الحياة ، وينسجم مع قوانين الحياة في المجتمع والتأريخ ، والقرآن يحتوي على أكثر من ستّة آلاف آية كريمة ، تتناول مختلف شؤون الحياة ، فما من صغيرة ولا كبيرة ، إلاّ وللإسلام فيها حكماً وقانوناً ، فمن تصدّى في تنفيذه وإجرائه أي الحاكم والقائد الإسلامي ، لا بدّ أن يكون عارفاً بذلك ، مؤمناً به ، ومدافعاً عنه ، ولولا ذلك لكان ما يفسده أكثر ممّـا يصلحه.
فالقائد الإسلامي : لا بدّ أن يكون عالماً عارفاً فقيهاً خبيراً بعيوب النفس وآفاقها ممثّلا لجميع تعاليم الإسلام في العبادات والمعاملات والسياسة والحكومة والإدارة والاجتماع والأخلاق والاقتصاد والدفاع ، وكلّ ما يمتّ إلى هذه الاُمور وما شابهها ويتّصل بها.
قال النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) : الرئاسة لا تصلح إلاّ لله ولأهلها ، ومن وضع نفسه في غير الموضع الذي وضعه الله فيه ، مقته الله[52].
( فَالحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبيرِ )[53].
( ألا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الحاسِبينَ )[54].
( وَجَعَلـْنا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدونَ بِأمْرِنا لَمَّـا صَبَروا وَكانوا بِآياتِنا يوقِنونَ )[55].
قال الإمام السجّاد (عليه السلام) : اللّهم إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك ، بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته وحذّرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألاّ يتقدّمه متقدّم ، ولا يتأخّر عنه متأخّر[56].
فالدين يمثّل حكومة الله على الأرض ، وتطبيق سننه ، ونشر شرائعه ، ومعارفه وعلومه ، لإسعاد الإنسان وإنقاذه من الشقاء والتعاسة والبؤس والحرمان ، وإنّما كان ذلك بقيادة الأنبياء والمرسلين ، ثمّ بأوصيائهم وخلفائهم ، وفي زمن الغيبة بيد العلماء والفقهاء ، ليضمن خلود الرسالات السماوية ، والشرائع الإلهية ، وسلامتها من أخطار التحريف والتشويه والاضمحلال والانحلال.
ولا يكون ذلك إلاّ لمن كان جديراً في قيادته الإسلامية ، أن يقوم بمثل هذه المسؤولية العظمى.
( لَقَدْ أرْسَلـْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأنْزَلـْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النَّاسُ بِالقَسْطِ )[57].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : لا يترك الأرض بغير إمام يحلّ حلال الله ويحرّم حرامه . وهو قول الله : ( يَوْمَ نَدْعو كُلَّ اُناس بِإمامِهِمْ )[58] ، ثمّ قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية[59].
وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان[60].
فالحياة على هدى الرسالة الإلهية على الصعيدين الفردي والاجتماعي ، لا تتحقّق إلاّ باتّباع أوامر الله ، ولا يكون ذلك حتّى تكون الأعمال الصادرة من الإنسان بدلالة داع إلهي ، منصوب من قبل الله سبحانه ، من نبيّ أو وصيّ نبيّ أو من أشاروا عليه ، ولولا ذلك لما كان ضمانٌ لمطابقة التصرّفات الفردية والاجتماعية ، لحكم الله ورضاه ، وما يوجب إبراء الذمّة وإقامة الحجّة.
( ثُمَّ جَعَلـْناكَ عَلى شَريعَة مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أهْواءَ الَّذينَ لا يَعْلَمونَ )[61].
ومن مثل هذه المنطلقات نرى ضرورة القيادة الإسلامية وبيان خصائص القائد الإسلامي من خلال القرآن الكريم وآياته الكريمة.
( أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْم يوقِنونَ )[62].
قال أمير
المؤمنين علي (عليه
السلام) :
ألا فالحذر الحذر ! من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبّروا عن
حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربّهم ، وجاهدوا
الله على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه ، فإنّهم
قواعد أساس العصبيّة ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف اعتزار الجاهلية ،
فاتّقوا الله
ولا تكونوا
لنعمه عليكم أضداداً ، ولا لفضله عندكم حسّاداً ، ولا تطيعوا
الأدعياء ، الذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم ،
وأدخلتم في حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، فاعتبروا بما أصاب الاُمم
المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه
ومثلاته ...[63].
فسعادة المجتمع الإسلامي والبلاد والاُمّة الإسلامية إنّما تكون فيما لو كانت إدارة المجتمع بيد رجل إلهي ، يتحلّى فيه صفات الله سبحانه ، وهذا ما نقصده من خصائص القائد الإسلامي ، كما يكون الحكم حكماً إلهياً ، حتّى يتسنّى للناس الوصول إلى كمالهم المجبول في وجودهم ، وهو الوصول إلى الله سبحانه وتوحيده الخالص في الحياة.
( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ وَكونوا مَعَ الصَّادِقينَ )[64].
( يَوْمَ نَدْعو كُلَّ اُناس بِإمامِهِمْ فَمَنْ اُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ فَاُولـئِكَ يَقْرَأون كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمونَ فَتيلا وَمَنْ كانَ في هذِهِ أعْمى فَهوَ في الآخِرَةِ أعْمى وَأضَلُّ سَبيلا )[65].
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين أن لا يعملوا عملا ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلا ، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنّة ، يجبي فيئهم ويقيم حجّهم وجمعتهم ويجبي صدقاتهم[66].
وقال
الإمام الباقر (عليه
السلام) :
قال الله تعالى : لاُعذّبنّ كلّ رعيّة في الإسلام دانت
بولاية
كلّ إمام جائر ليس من الله ، وإن كانت الرعيّة في أعمالها برّة تقيّة ،
ولأعفونّ عن كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام عادل من الله وإن كانت
الرعيّة في نفسها ظالمة مسيئة[67].
وقال (عليه السلام) : إنّ من دان بعبادة يجتهد فيها نفسه ، بلا إمام عادل من الله فإنّ سعيه غير مشكور وهو ضالّ متحيّر[68].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : وكذلك لا يقبل الله من العباد الأعمال الصالحة التي يعملونها إذا تولّوا الإمام الجائر الذي ليس من الله تعالى[69].
قال النبيّ الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فيما أوصى به معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : وأنفذ فيهم أمر الله ... وأظهر أمر الإسلام كلّه صغيره وكبيره ...
وهذا من أبرز خصائص الحاكم الإسلامي : أن يقوم بنشر التشريعات الإلهيّة المتمثّلة بالإسلام في ربوع الأرض ، حتّى يسدّ أبواب الفساد والظلم والمنكرات ، ويحفظ المجتمع الإنساني من السقوط والانحطاط والدمار الاجتماعي ، ويقيم حدود الله وأحكامه في كلّ الحقول والمجالات ، وإلاّ فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : فإنّ الرعيّة الصالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإنّ الرعيّة الفاجرة تهلك بالإمام الجائر[70].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحقّ كلّه وإحياء الباطل كلّه ، وإظهار الظلم والجور والفساد[71].
وهذا ما نشاهده اليوم في بلادنا الإسلامية ، فإنّ الملوك الجائرة ورؤساء الجمهوريات الباطلة ، تلك الزمرة الخائنة ، عملاء الاستعمار والأجانب ، أفسدوا في البلاد ( وَجَعَلوا أعِزَّةَ أهْلِها أذِلَّةً )[72] وروّجوا العلمانية بين المسلمين ، وتمسّكوا بأذيال الغرب ، يلحسون أقدامهم ، ويعيشون على فتات موائدهم.
ومن هذا المنطلق الحاسم ، نرى ضرورة حكومة الإسلام بقيادة رشيدة ، فإنّ الإمام الحاكم العادل الحقّ ، أو من ينوب عنه ، هو أصل الخير كلّه للناس وهو فروعه ، والحاكم الجائر والوالي الباطل وعملاء الأجانب ، هم اُصول الشرّ كلّه ، وانطلاقاً من هذا الأصل الإسلامي الأصيل تضافرت الآيات والروايات الكثيرة على ضرورة الإمام العادل وأنّ « من مات ولم يعرف إمام زمانه ، أو من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية »[73].
( أفَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْم يوقِنونَ )[74].
( وَلا تَرْكَنوا إلى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دونِ اللهِ مِنْ أوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرونَ )[75].
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ اللهُ فَاُولـئِكَ هُمُ الكافِرونَ )[76].
( إنَّما كانَ قَوْلُ المُؤْمِنينَ إذا دُعوا إلى اللهِ وَرَسولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقولوا سَمِعْنا وَأطَعْنا وَاُولـئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَاُولـئِكَ هُمُ الفائِزونَ )[77].
( إنَّ اللهَ يَأمُركُمْ أنْ تُؤدُّوا الأمانات إلى أهْلِها وَإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُموا بِالعَدْلِ إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللهَ كانَ سَميعاً بَصيراً )[78].
وأخيراً أختم هذه المقدّمة مقتبساً بما جاء في كتاب « الحياة » (2 : 508 ) :
لقد جئنا في هذا الباب بمواصفات الحاكم الإسلامي ، فرسمنا خطوطاً جليّة واضحة عن هذا المقام في النظام الإسلامي ، وبذلك قد عرفنا اختيارات هذا الحاكم وماهيّتها ، وكذلك عرفنا مسؤولياته وواجباته في حقول مختلفة ، وأنّ الحاكم في النظام الإسلامي كيف يكون في خدمة المجتمع في جميع ما يتصدّى له ، وعرفنا أيضاً أنّ القوم الذين يؤازرون الحاكم المسلم كيف يجب أن يكونوا ، وما هي وظائفهم وواجباتهم ؟ وهذه كلّها مثل عليا ، جاءت بها رسالة الإسلام ، لدعم اُسس نظام صالح فعّال ، فالحاكم في هذا النظام يجب عليه :
1 ـ أن يصطفي عمّـاله ومؤازريه ومساعديه وبطانته من خير الناس وأفاضلهم وأتقيائهم وأعقلهم.
2 ـ أن يراقب شؤون الإدارة والحكومة بتقوىً واجتهاد وحنك وسياسة دقيقة.
3 ـ أن يراعي شؤون القضاء والقضاة وكرامتهم وما يتعلّق بالسلطة
القضائية.
4 ـ أن يعبّئ جيشاً قويّاً مؤمناً متحمّساً ، لنشر كلمة العدل وجعل كلمة الله هي العليا ، ودحض كلمة الباطل ، وحفظ ثغور المسلمين وصيانة بلادهم من شرّ الأعداء.
5 ـ أن يتحلّى بالصدق أمام المجتمع ، وأن يفي بعهوده ومواثيقه ويبذل ما في وسعه.
6 ـ أن يحامي عن مبدأ المساواة أمام القانون وحكومة القسط والعدل.
7 ـ أن يخالط الناس ولا يحتجب عن أحد ، ويكون فيهم كأحدهم.
8 ـ أن يحرس كرامة الإنسان ، وحرمة الأفراد ، ويراعي حقوقهم الفردية والاجتماعية.
9 ـ أن يؤمّن حاجات المجتمع على مختلف المستويات ، ويطوّر حياتهم ، ويرفّه في معيشتهم.
10 ـ أن يأذن في النقد البنّاء ، وأن يحتمله ويواجهه بالقبول إذا كان صحيحاً.
11 ـ أن يكافح الفقر والحرمان ، ويجدّ لاسترداد حقوق المساكين والمعدمين ، ويقطع أيدي الظالمين الاقتصاديين ، ويحرّك عجلات الاقتصاد نحو الأفضل.
12 ـ أن يدافع عن حقوق الضعفاء والعمّـال والفلاّحين ، وأهل الحِرَف والمهن الصغار ، وأن يقف بجانبهم.
13 ـ أن يقوم بنشر العلم والثقافة في الناس ، وإزاحة الاُميّة ومحوها ، وتعليم الآداب الدينية والأخلاق المحمّدية والسعي لنجاة المجتمع من الجهل والتخلّف الفكري والثقافي والحضاري ، ويواكب الركب التقدّمي في الصناعات مع حصانتها بالمعنويات والروحيّات.
14 ـ أن يوثّق صلات الناس الاجتماعية وترابطهم العائلي والاُسروي.
15 ـ أن يشجب الفساد والميوعة في كلّ أشكالها ، ويستأصلهما ضمن برمجة صحيحة ومنطقية ، ويحارب الطغيان والطغاة ، والظلم وعمّـال المنكرات.
وهناك مواصفات وخصائص كثيرة يمتاز بها القائد الإسلامي ، يستلهمها ويستوحيها ويستنبطها القارئ الكريم من خلال عرض الآيات القرآنية التي نذكرها في هذه الفصول الثلاثة ، إن شاء الله تعالى.
وأملنا من القارئ العزيز ، لا سيّما أهل العلم والخطباء والمثقّفين المصلحين ، الذين يقصدون إصلاح المجتمع وهداية الناس إلى شاطئ السعادة وسواحل السلام والطمأنينة ، أن يمعنوا النظر في ذلك ، وأن يستخرجوا من خزائن القرآن الكريم كنوزها ، ومن بحاره أنوارها وجواهرها ، حتّى يكونوا في دعوتهم للناس إلى الحقّ على بصيرة ورشد من أمرهم ، فما فعلته إنّمـا هي إشارات ومعالم أوّلية في طريق ذات الشوكة صعب العبور.
[1]البقرة : 201.
[2]البقرة : 143.
[3]ذكرنا تفصيل ذلك في رسالة « سرّ الخليقة وفلسفة الحياة » ، مطبوع في مجلّة ( نور الإسلام ) البيروتية ، ومجلّة ( الكوثر ) العدد الأوّل المطبوعة بقم ، فراجع.
[4]الكافي 1 : 32.
[5]المصدر : 36.
[6]ق : 37.
[7]القصص : 82 .
[8]ميزان الحكمة 4 : 6 ، عن بحار الأنوار 73 : 72.
[9]البحار 77 : 90.
[10]البحار 73 : 153.
[11]تحف العقول : 237.
[12]ميزان الحكمة 4 : 10.
[13]الحياة 1 : 146.
[14]الحياة 1 : 147 ، عن الكافي 1 : 180.
[15]الوافي 3 : 23.
[16]نهج البلاغة : 321.
[17]نهج البلاغة : 406.
[18] الكافي 2 : 333.
[19]مستدرك النهج : 31.
[20]نهج البلاغة : 789.
[21]البحار 14 : 252.
[22]البقرة : 201.
[23]القصص : 77.
[24]مقتبس من كتاب « الحياة » 2 : 65.
[25]غرر الحكم : 32.
[26]تحف العقول : 172.
[27]الوسائل 18 : 100.
[28]الاحتجاج 2 : 106.
[29]الكافي 1 : 198.
[30]نهج البلاغة : 407.
[31]الكافي 1 : 407.
[32]نهج البلاغة : 663.
[33]البحار 44 : 382.
[34]الكهف : 28.
[35]البحار 2 : 69.
[36]البحار 2 : 109 ، عن الخصال.
[37]البحار 2 : 107 ، عن علل الشرائع.
[38]الكافي 1 : 46.
[39]الاحتجاج 2 : 263.
[40]كمال الدين : 484.
[41]لقد ذكرت ذلك بالتفصيل في « السرّ في آية الاعتصام » ، فراجع.
[42]ثواب الأعمال : 246.
[43]مكارم الأخلاق : 527.
[44]الغدير 8 : 291.
[45]تحف العقول : 36.
[46]الحديد : 25.
[47]الجاثية : 18.
[48]دعائم الإسلام 1 : 184 ، البحار 89 : 256.
[49]البحار 8 : 472.
[50]يوسف : 40.
[51]قرب الإسناد : 107.
[52]تحف العقول : 36.
[53]المؤمن : 12.
[54]الأنعام : 62.
[55]السجدة : 24.
[56]الحياة 2 : 378 ، عن عبقات الأنوار.
[57]الحديد : 25.
[58]الإسراء : 71.
[59]البحار 8 : 12 ، عن تفسير العياشي.
[60]الوسائل 1 : 91.
[61]الجاثية : 18.
[62]المائدة : 50.
[63]نهج البلاغة : 786.
[64]التوبة : 119.
[65]الإسراء : 71 ـ 72.
[66]لقد مرّ ذكر هذه الرواية الشريفة ، وكرّرناها لأهميّتها.
[67]الكافي 1 : 376.
[68]المستدرك 1 : 21.
[69]أمالي الطوسي 2 : 32.
[70]البحار 8 : 472.
[71]تحف العقول : 245.
[72]النمل : 34.
[73]الكافي 2 : 21.
[74]المائدة : 50.
[75]هود : 113.
[76]المائدة : 7.
[77]النور : 51 ـ 52.
[78]النساء : 58.