لقد ذكرنا أنّ الشعر له تقاسيم عديدة ، وفي الآونة الأخيرة والعصر الراهن جعلوا من تقسيماته في بلادنا العربية ، وربما في كلّ بلاد العالم ، أ نّه ينقسم إلى نحوين : الشعر الفصيح والذي يتكوّن من كلمات فصيحة وأدبيّة بموازين لغويّة وبلغة القرآن الكريم ولغة العلم ، والشعر الشعبي الذي يتكوّن من كلمات دارجة ولهجات شعبية ، ويعرف بالأدب العامّي أو الأدب الريفي القروي.
قال صاحب شعراء الغري : « وهو أدب أشبه ما يكون بالأزجال التي لا تتقيّد بالقواعد النحويّة ، فقد عبّر عنه شعراء الفصحى : ( الأدب الملحون ) إلاّ أ نّه يمتاز بابتكاره المعاني وسعة الخيال واستحضار ألوان من الصور الوجدانية ما يعجز عنها شعراء الفصحى ، وامتاز بحصر المعنى في أبسط لفظ وأوجزه ومعالجة الشؤون الاجتماعية وتصويرها بأوضح الصور ، وقلّ من يستطيع النظم فيه بصورة رائعة فائقة ، ويشتمل على أبواب كثيرة : 1ـ الموّال . 2 ـ الأبوذيّة . 3 ـ الميمر . 4 ـ المربّع . 5 ـ الدارمي . 6 ـ الهوسة . 7 ـ العتابة . 8 ـ الركباني . والنوع الأخير لا يزال محصوراً عند أعراب البادية.
وقد نظم في أكثر هذه الأنواع معظم شعراء النجف بل العرب ـ بل كلّ البلاد العربية ـ والسبب الذي دفعهم إلى ذلك هو أنّ الكثير منهم نزح آباؤهم من الريف وسكنوا النجف واحتفظوا بكثير من العادات والتقاليد الريفية التي لم يفارقهم التغنّي والتأثّر به ، وزاد على تقويتها وبقاء استمرارها عندهم مواصلة عشائرهم وزيارتهم للمرقد العلوي الشريف ـ وكذلك المراقد الشريفة الاُخرى في الكاظمية المقدّسة وكربلاء وسامراء ومشهد الرضا وغيرها ـ واستضافتهم لهم ممّا يجعل الربط الذهني ومقاربة الشعور من الأسباب المؤكّدة لضمانهم عند هؤلاء الذين يقتدون بهم في الرأي والدين ، وبدورهم يقومون بمواصلة هؤلاء الأفاضل عن طريق إعطاء الحقوق الشرعية والضرائب الدينية التي تكفل بقاء هذا الفريق وانصرافه إلى كسب العلم والأدب.
وتفشّى النظم عند الآخرين الذين تجرّدوا عن هذه الأسابب كان بدافع التحبّب وتأثير البيئة التي تتذوّق ذلك ، وأشهر من عرف من شعراء الفصحى بتذوّقه لهذا اللون من الأدب والنظم فيه جماعة منهم : الشيخ علي زيني ، السيّد صادق الفحّام ، السيّد موسى الطالقاني ، الشيخ عباس الأعسم ، الشيخ محمّد بن نصّار ، السيّد باقر الهندي ، وأضرابهم ...
ومن ثمّ تسرّب هذا اللون من الأدب إلى جماهير الشعب فأخذ العامّة منهم يتذوّقونه لأ نّهم وجدوا فيه معبّراً عن رغباتهم وآلامهم وآمالهم ، فاندفعوا للقول فيه ، وأجادوا ما شاءت لهم الإجادة حتّى أصبحوا منفردين متميّزين عن غيرهم ، وأشهر من عرفنا عنهم ممّن سبق عصرنا أمير هذا الفنّ هو الحاجّ زاير وتبعه الشعراء الذين عاصرناهم ، وفي طليعتهم عبّود غفلة والشيخ مهدي الخضيري وعبد الله الرواق والسيّد عبد الحسين شرع ـ والشيخ كاظم الفتلاوي وملاّ حسن الكاظمي وغيرهم ، رحم الله الماضين وحفظ الباقين ـ فمن أبدعوا فيه وخلّفوا دواوين كبيرة ذات مغزى وقيمة عند أرباب هذا الفنّ ، فقد كان الوسط الأدبي يفرض عليهم ذلك ، وأنانيّتهم تدفعهم للتطلّع والبروز ، وساعد ذلك وجود مواهب كامنة فيهم كانت تظهر بهذا اللون من الأدب المسمّى بالأدب الشعبي ».
وأخيراً :
لقد سرحت بريد النظر في ديوان شعر شعبي وسمعت شيئاً من قصائد الشاعر الخطيب والخطيب الشاعر فضيلة السيّد مرتضى السندي دام موفّقاً ، فقد أجاد وأفاد فيما نظم ، وإنّه يعدّ في الأوساط من الشعراء المتحمّسين الذين جنّدوا أنفسهم لخدمة الدين والمذهب وواجهوا خطّ الانحراف وما يمسّ العقيدة الإسلامية ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) بسوء أو تقصير ، سائلا المولى القدير أن يثبّتنا بالقول الثابت ، ويجعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين وأولاده الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، ويرزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم ، ويحشرنا في زمرتهم ، آمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.