اعلم أنّ ما ورد في السنّة الشريفة من الأحاديث النبويّة وأخبار العترة الطاهرة (عليهم السلام) في خصوص الشعر والشعراء ، منه ما يستفاد ذمّ الشعر ، ومنه ما يستفاد مدحه ، ومن الواضح أنّ كلامهم النوراني إنّما ينبع من القرآن الكريم ، وأ نّه يطابقه ، فإنّهما من مصدر واحد ، من الله جلّ جلاله ، فلا اختلاف بين القرآن الكريم وكلام الأنبياء والأوصياء ، فكلّهم نور واحد ، بل ما صدر عنهم إنّما يعرض على القرآن الكريم ، فإن وافقه فهو منهم ، وإلاّ فهو من زخرف القول وباطله ، ويضرب به عرض الجدار ـ كما ورد في الأخبار العلاجيّة ـ .
والقرآن المجيد قد بيّن حقيقة الشعر والشعراء وتصنيفهم إلى صنفين : فإنّ الشعراء يتبعهم الغاوون لأ نّهم يهيمون في كلّ واد ويقولون ما لا يفعلون ، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
فمن الشعر ما هو حقّ ومنه ما هو باطل ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ فما ورد في الروايات الشريفة إنّما هو من هذا المنطلق . وكذلك ما ورد في فتاوى الفقهاء وكلمات الأعلام وعبائرهم .
فإليك ما قاله المحقّق الحلّي في مدح الشعر وما قاله والده في ذمّه :
« قال المحقّق الحلّي (قدس سره) : إنّ الشعر من أفضل مشاعر الآداب وأجمل مفاخر العرب ، به يستماح المكارم ويستعطف الطباع الغواشم ، ويُشحذ الأذهان ويُنسل الأضغان ، ويستصلح الرأي الفاسد ويستثار الهمم الجوامد ، لكنّه عسر المطلب خطر المركب ، لافتقاره إلى اُمور غريزية واُخرى كسبية ، وهي شديدة الامتناع بعيدة الاجتماع ، فالمعتذر عن التعرّض له معذور ، والمعترف بالقصور عنه مشكور ، وقد كنت زمن الحداثة أتعرّض لشيء منه ليس بالمرضي فكتبت كتاباً إلى والدي (رحمه الله) أثني فيها على نفسي بجهل الصبوة وهي :
ليهنك أ نّي كلّ يوم إلى العلى *** اُقدّم رجلا لن تزلّ به النعلُ
وغير بعيد أن تراني مقدّماً *** على الناس حتّى قيل ليس له مثلُ
تطاوعني بكر المعاني وعونها *** ويقتادني حتّى كأ نّي لها بعلُ
ويشهد لي بالفضل كلّ مبرّز *** ولا فاضل إلاّ ولى فوقه فضلُ
فكتب (رحمه الله) فوق هذه الأبيات ما صورته : لئن أحسنت في شعرك لقد أسأت في حقّ نفسك ، أما علمت أنّ الشعر صناعة من خلع العفّة ولبس الحرفة ، والشاعر ملعون وإن أصاب ، ومنقوص وإن أتى بالشيء العُجاب ، وكأ نّي بك قد أوهمك الشيطان بفضيلة الشعر ، فجعلت تنفق ما تلفق بين جماعة لم يعرفوا لك فضيلة غيره ، فسمّوك به ، وقد كان ذلك وصمة عليك آخر الدهر ، أما تسمع :
ولست أرضى أن يقال شاعر *** تبّاً لها من عدد الفضائل
فوقف خاطري عند ذلك حتّى كأ نّي لم أقرع له باباً ، ولم أرفع له حجاباً ، وأكّد ذلك عندي ما رويته بإسناد متّصل : ( إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل المسجد وبه رجل قد أطاف به جماعة فقال : ما هذا ؟ قالوا : علاّمة ، فقال : ما العلاّمة ؟ قالوا : عالم بوقايع العرب وأنسابها وأشعارها ، فقال (صلى الله عليه وآله) : ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه ) ، ومن البيّن أنّ الإجادة فيه تفتقر إلى تمرين الطبع وصرف الهمّة إلى الفكر في تناسب معناه ورشاقة ألفاظه وجودة سبكه وحسن حشوه تمريناً متكرّراً ، حتّى يصير خلقاً وشيماً ، إنّ ذلك سبب الاستكمال فيه ، فالإهمال سبب القصور عنه ، وإلى هذا المعنى أشرت في جملة أبيات هي :
هجرت صوغ قوافي الشعرِ مذ زمن *** هيهات يرضى وقد أغضبته زمنا
وعدت اُوقظ أفكاري وقد هجعت *** عنفاً وأزعج عزمي بعدما سكنا
إنّ الخواطر كالآبار إن نُزحت *** طابت وإن يبق فيها ماؤها أجنا
فأصبح شكوراً أياديك التي سلفت *** ما كنتُ اُظهر عيبي بعدما كمنا
ولمكان إضرابي عنه وإعراضي حتّى عفى ذكر اسمه ، لم يبقَ إلاّ ما هو حقيق أن يُرفض ولا يعرض ، ويُضمر ولا يُظهر ، ولكن مع ذلك اُورد ما أدخل في حيّز الامتثال ، وإن كان ستره أنسب بالحال ، فمنه :
وما الإسراف من خلقي وإنّي *** لاُجزى بالقليل عن الكثير
وما اُعطي المطامع لي قياداً *** ولو خودعتُ بالمال الخطير
وأغمض عن عيون الناس حتّى *** أخال وإن تناجيني ضميري
وأحتمل الأذى في كلّ حال *** على مضض وأعفو عن كثير
ومن كان الإله له حسيباً *** أراه النجح في كلّ الاُمور
ومنه :
يا راقداً والمنايا غير راقدة *** وغافلا وسهام الدهر ترميه
بمَ اغترارك والأيام مرصدة *** والدهر قد ملأ الأسماع داعيه
أما أرتك الليالي قبح دخلتها *** وغدرها بالذي كانت تصافيه
رفقاً بنفسك يا مغرور إنّ لها *** يوماً تشيب النواصي من دواهيه
وحسب تحصيل الغرض بهذا القدر ، فنحن نقتصر عليه ونستغفر الله سبحانه وتعالى من فرطات الزلل وورطات الخلل ، ونستكفيه زوال النعم وحلول النقم ، ونستعتبه محلّ العثار وسوء المرجع في القرار » . انتهى كلامه رفع الله مقامه[1] .
وأمّا الروايات الواردة في الشعر والشعراء فإليك جملةً منها :
1 ـ أمالي الصدوق بسنده عن العلاء بن الحضرمي أ نّه قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله) : إنّ لي أهل بيت اُحسن إليهم فيسيئون ، وأصلهم فيقطعون ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَـيْنَكَ ... )[2] الآية ، فقال العلاء : إنّي قلت شعراً هو أحسن من هذا ، قال : وما قلت ؟ فأنشده شعره فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : إنّ من الشعر لحكماً وإنّ من البيان لسحراً ، وإنّ شعرك لحسن وإنّ كتاب الله أحسن[3] .
2 ـ وقد مدح الكناني الرسول الأعظم لمّا استسقى (صلى الله عليه وآله) :
لك الحمد والحمد ممّن شكر *** سُقينا بوجه النبيّ المطر
الأبيات ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : يا كناني ، بوّأك الله بكلّ بيت قلته بيتاً في الجنّة[4] .
وفي رواية إن يكُ شاعر أحسن فقد أحسنت .
3 ـ روى ابن أبي الحديد عن أمالي ابن دريد قال : كان عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) يعشّي الناس في شهر رمضان باللحم ولا يتعشّى معهم ، فإذا فرغوا خطبهم ووعظهم ، فأفاضوا ليلة في الشعراء وهم على عشائهم فلمّا فرغوا خطبهم وقال في خطبته : اعلموا أنّ ملاك أمركم الدين ، وعصمتكم التقوى ، وزينتكم الأدب ، وحصون أعراضكم الحلم ، ثمّ قال : قل يا أبا الأسود فيما كنتم تفيضون فيه ، أيّ الشعراء أشعر ؟ فقال : يا أمير المؤمنين الذي يقول : ولقد أغتدي يدافع ركبتي ... البيتين ، يعني أبا داود الأيادي ، فقال (عليه السلام) : ليس به ، قالوا : فمن يا أمير المؤمنين ؟ فذكر امرئ القيس[5] .
4 ـ عيون أخبار الرضا بسنده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنّة[6] .
5 ـ وأيضاً عن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) قال : ما قال فينا قائل بيت شعر حتّى يؤيّد بروح القدس .
6 ـ وأيضاً عن الحسن بن جهم قال : سمعت الرضا (عليه السلام) يقول : ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به إلاّ بنى الله تعالى له مدينة في الجنّة أوسع من الدنيا سبع مرّات ، يزوره فيها كلّ ملك مقرّب وكلّ نبيّ مرسل .
ولا يخفى أنّ مثل هذا الثواب العظيم إنّما يعطى بشرطه وشروطه ، ومن أهمّها التقوى : ( إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ )[7] .
7 ـ رجال الكشّي بسنده عن أبي طالب القمّي قال : كتبت إلى أبي جعفر (عليه السلام) بأبيات شعر وذكرت فيها أباه ، وسألته أن يأذن لي في أن أقول فيه ، فقطع الشعر وحبسه وكتب في صدر ما بقي من القرطاس : قد أحسنت فجزاك الله خيراً .
8 ـ أيضاً : قال نصر بن الصبّاح البلخي : عبد الله بن غالب الشاعر الذي قال له أبو عبد الله (عليه السلام) : إنّ ملكاً يلقى عليه الشعر ، وإنّي لأعرف ذلك الملك .
9 ـ أيضاً عن أبي طالب القمّي قال : كتبت إلى أبي جعفر ابن الرضا (عليهما السلام) : فاذن لي أن أرثي أبا الحسن أعني أباه ، قال : وكتب إليّ : اندبني واندب أبي[8] .
10 ـ وفي رجال الكشّي ( 1 : 654 ) عن سفيان بن مصعب قال : قال لي الصادق (عليه السلام) : قل شعراً تنوح به النساء .
11 ـ وفي حديث آخر : قال (عليه السلام) : يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبدي فإنّه على دين الله ـ وفيه يدلّ على مشروعية النياحة والشعر وإنشاده وتعلّمه وتعليمه ـ .
12 ـ وفي ثواب الأعمال ( 1 : 47 ) عن أبي هارون المكفوف قال : قال لي الصادق (عليه السلام) : يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) ، فأنشدته فقال لي : أنشدني كما ينشدون يعني بالرقّة . ( الحديث ) وكذا قال (عليه السلام) لأبي عمارة المنشد .
13 ـ وممّا روي في مدح الشعر والشعراء بصورة عامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)لمّا سئل عن الشعراء : ( إنّ المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأ نّما ينضحونهم بالنبل ) وهذا يعني أنّ من الشعر ما هو جهاد باللسان ، وأنّ البيت منه بمنزلة السهم في نحر الأعداء .
14 ـ وفي الدرّ المنثور ( 6 : 336 ) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحسّان بن ثابت : اهجُ المشركين ، فإنّ جبرئيل معك .
15 ـ وعن البراء بن عازب قيل يا رسول الله إنّ أبا سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب يهجوك فقام ابن رواحة ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي فيه .
قال : أنت الذي تقول : ثبّت الله ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قلت :
ثبّت الله ما أعطاك من حسن *** تثبيت موسى ونصراً مثل ما نصرا
قال : وأنت يفعل الله بك مثل ذلك .
ثمّ وثب كعب فقال : يا رسول الله ، ائذن لي فيه . فقال : أنت الذي تقول : همّت ؟ قال : نعم يا رسول الله قلت :
همّت سخينة أن تغالب ربّها *** فليغلبنّ مغالب الغلاّب
قال : أمّا إنّ الله لم ينسَ لك ذلك[9] .
ثمّ اعلم أنّ من يقول الشعر في الله ورسوله وأهل البيت (عليهم السلام) إنّما يؤيّد بروح القدس كما ورد ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : ما قال فينا قائل بيتاً من الشعر حتّى يؤيّد بروح القدس ـ أي يرتبط بالسماء وبالملائكة ـ وهذا يدلّ على اعتلاء الشعر الولائي على كلام البشر العادي ، فلغة السماء تختلف عن لغة الأرض ، وثقافة الملائكة تمتاز عن ثقافة البشر ، وإنّ حديث العرش يتفاوت عن حديث الفرش ، فلكلٍّ مقوّماته واُسسه وبنيانه وصرحه ومفاهيمه . فإنّ حديث السماء حديث الروح ، التي هي من الله كما في قوله تعالى : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )[10] وحديث الأرض حديث الجسد وهو من التراب ، وأين الثرى من الثريا ؟ ! فإنّ الجسد يفنى والروح تبقى خالدة ...
وأرى من ثقافة أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الشعراء المؤمنين الرساليين هم لسان الخطباء ، وأنّ الخطباء لسان العلماء ، وأنّ العلماء لسان مراجع التقليد ، وأنّ المراجع العظام الفقهاء الأعلام هم لسان صاحب الزمان (عليه السلام) ، قطب عالم الإمكان ، عجّل الله فرجه الشريف ، وأنّ صاحب الأمر (عليه السلام) هو لسان الله جلّ جلاله . ومع حذف الوسائط يكون لسان الشاعر في أشعاره الإيمانية الرساليّة التي تنبع من العلم النافع وتقترن بالعمل الصالح هو لسان الله عزّ وجلّ . وربما هذا من معاني ( فإنّه يؤيّد بروح القدس ) فتدبّر ، والله العالم بحقائق الاُمور .
[1]سفينة البحار 4 : 455 .
[2]فصّلت : 34 .
[3]البحار 71 : 415 .
[4]البحار 18 : 2 .
[5]السفينة 4 : 446 .
[6]البحار 26 : 231 .
[7]المائدة : 27 .
[8]البحار 26 : 232 ، عن رجال الكشّي : 350 .
[9]الدرّ المنثور 6 : 336 .
[10]الحجر : 29 .