اللمحة  السابعة - الشعر  والشعراء  في  رحاب  الإمام  الحسين  (عليه السلام)

لقد تميّز رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) بخصائص ، وكذا أمير المؤمنين علي (عليه السلام)وفاطمة الزهراء سيّدة النساء (عليهما السلام) ، وهكذا أهل البيت الأئمة الأطهار (عليهم السلام) قد امتازوا بخصائص بصورة عامة ، كما امتاز كلّ واحد منهم بخصائص خاصّة ، ولسيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) خصائص ، كما ذكر جملة منها المحقّق العلاّمة الشيخ جعفر التستري (قدس سره) في كتابه القيّم ( الخصائص الحسينية ) .

ويتبادر إلى ذهني أنّ من خصائصه أيضاً : المقام الشامخ للشعر الذي يقال في حقّه ، لا سيّما في بيان مصائبه العظمى ...

فما ورد في الروايات من الثواب والأجر ، لمن قال بيتاً من الشعر في الإمام الحسين (عليه السلام) ، ممّا يدهش ذوو الألباب ، ويقف الإنسان متحيّراً ، وأنّ اللسان ليكلّ عن تفسيره ، ويعجز القلم عن تبيانه ، فما أعظم المصيبة الحسينية ، وما أعظم مقام من يقيم شعائرها ومعالمها على مرّ العصور ، ومن شعائرها الخالدة الشعر ، إحياءً لنهضة عاشوراء المجيدة ، والتي تتجدّد أحزانها في كلّ عام في محرّم وصفر ، بل وفي كلّ يوم وفي كلّ أرض ، فكلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء ، وهذا التركيز البالغ على قضيّة سيّد الشهداء وإقامة العزاء عليه في كلّ مكان وزمان ، إنّما كان من قبل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، إذ لولا قيام الإمام الحسين (عليه السلام) وشهادته وسبي عياله لما قام للإسلام عود ، فإنّ الإسلام محمّديّ الحدوث وحسينيّ البقاء ( فحسين منّي وأنا من حسين ) ، ومن هذا المنطلق يقال : بقاء الإسلام بمحرّم وصفر .

وإليك جملة من الأحاديث الشريفة من كتاب ( كامل الزيارات ) للمحدّث الكبير ابن قولويه ( الباب 33 من قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى )[1] .

1 ـ بسنده عن أبي هارون المكفوف ، قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) ، قال : فأنشدته ، فبكى ، فقال : أنشدني كما تنشدون ـ يعني بالرقّة ـ قال : فأنشدته :

اُمرر على جدث الحسين *** فقل لأعظمه الزكيّة

قال : فبكى ، ثمّ قال : زدني ، قال : فأنشدته القصيدة الاُخرى ، قال : فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر ، قال : فلمّا فرغت قال لي : يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشراً كتبت له الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خسمة كتبت له الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كتبت لهما الجنّة ، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ، ولم يرضَ له بدون الجنّة .

2 ـ وبسنده عن أبي عمارة المنشد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال لي : يا أبا عمارة أنشدني في الحسين (عليه السلام) ـ وهذا يعني أنّ الإمام (عليه السلام) هو الذي كان يطالب بالشعر والإنشاد وإقامة العزاء على سيّد الشهداء (عليه السلام) ـ قال : فأنشدته فبكى ثمّ أنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، قال : فوالله ما زلت اُنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدار فقال لي : يا أبا عمارة من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى خمسين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فأبكى واحداً فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة .

3 ـ وبسنده أيضاً عن عبد الله بن غالب قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)فأنشدته مرثية الحسين (عليه السلام) فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع :

ليلة تسقو حسيناً *** بمسقاة الثرى غير الترابِ

فصاحت باكية من وراء الستر : وا أبتاه .

4 ـ وعن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من أنشد في الحسين (عليه السلام) بيت شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة ، ومن أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنّة ، فلم يزل حتّى قال : من أنشد في الحسين بيتاً فبكى ـ وأظنّه قال : أو تباكى ـ فله الجنّة .

5 ـ وعن أبي هارون المكفوف قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال لي : أنشدني فأنشدته ، فقال : لا كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره ، قال : فأنشدته :

اُمرر على جدث الحسين *** فقل لأعظمه الزكيّة

قال : فلمّا بكى أمسكت أنا فقال : مر فمررت قال : ثمّ قال : زدني زدني ، قال : فأنشدته :

يا مريم قومي فاندبي مولاكِ *** وعلى الحسين فأسعدي ببكاكِ

قال : فبكى وتهاج النساء ، قال : فلمّا أن سكتن قال لي : يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنّة ، ثمّ جعل ينقص واحداً واحداً حتّى بلغ الواحد فقال : من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة ، ثمّ قال : من ذكره فبكى فله الجنّة .

6 ـ وعن صالح بن عقبة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : من أنشد في الحسين بيت شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة ، ومن أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنّة ، فلم يزل حتّى قال : من أنشد في الحسين بيتاً فبكى ـ وأظنّه قال : أو تباكى ـ فله الجنّة .

أجل : إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو رمز الإسلام وعموده ، ولولا ثورته وفداءه لما استقام الدين الإسلامي ( إن كان دين محمّد لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني ) وإحياء قضيّة عاشوراء في كلّ عام حتّى ظهور الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام) ، لا تقف عند ذات الإمام الحسين (عليه السلام) وشخصه ، بل تعني النهضة في كلّ عصر ومصر من أجل المبادئ السامية والقيم الإنسانية ، التي جاء بها الإسلام العظيم ، تعني الفداء ونكران الذات في أكمل معانيه ، ودليل هذه الحقيقة هو أدب الشيعة وأدب الطفّ بالذات فهي الصورة الحيّة التي تنعكس عليها عقلية الاُمّة وعقيدتها .

إنّ وقعة الحسين (عليه السلام) يوم الطف هزّت العالم هزّاً عنيفاً ، وأهاجت اللوعة واستدرّت الدمعة ، وكوّنت الأدب الثر والعور الفيّاض وخلقت أكبر عدد من الشعراء حتّى قيل : إنّ الأدب شيعي ، وهل وجدت أديباً غير شيعي[2] ... وإذا أردنا أن نجمع الشعر الذي قيل في يوم الحسين (عليه السلام) لاحتجنا إلى مئات المجلّدات ...

فثورة الحسين اُنشودة العزّ في فم الأجيال ، تهزّ القلوب وتطربها وتحيي النفوس وتشدّ عزيمتها ...

« فإنّ التراث الأدبي لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) يعكس الاحتجاج الصارخ على الظلم والظالمين في كلّ زمان ومكان ، والثورة العنيفة في مشارق الأرض ومغاربها وإنّ اُدباء الشيعة وبخاصّة شعراءهم يرمزون باسم الإمام الحسين (عليه السلام)إلى هذه الثورة وذاك الاحتجاج ، لأنّ الحسين أعلى مثال وأصدقه على ذلك كما يرمزون إلى الفساد والطغيان بيزيد بن معاوية وبني حرب وزياد واُميّة وآل أبي سفيان ، لأ نّهم يمثّلون الشرّ بشتّى جهاته والفساد بجميع خصائصه على النقيض من الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) .

وإليك هذه الأبيات كشاهد ومثال : فمن قصيدة لأديب شيعي :

سهم رمى أحشاك يا بن المصطفى *** سهم به قلب الهداية قد رمي

ومن قصيدة لآخر :

بنفسي رأس الدين ترفع رأسه *** رفيع العوالي السمهريّة ميدُ

ولثالث :

اليوم قد قتلوا النبيّ وغادروا الإ *** سلام يبكي ثاكلا مفجوعا

فهذه الأبيات والاُلوف من أمثالها تنظر إلى الإنسان نظرة شاملة واعية ، وتزخر بالثورة على كلّ من ينتهك حقّاً من حقوق الناس ، وترمز إلى هذه الحقوق بكلمة الحسين (عليه السلام) وتعبّر بقلبه عن قلب الهداية ، وبرأسه عن رأس الدين ، وبقتله عن قتل رسول الله وقتل الإسلام ودين الله ... ويزيد وزياد وبني اُميّة رمز لكلّ من يسعى في الأرض فساداً ، وأوضح الدلالات كلّها هذا البيت :

ويقدّم الاُمويّ وهو مؤخّر *** ويؤخّر العلويّ وهو مقدّم

فإنّه يصدق وينطبق على كلّ من يتولّى منصباً هو ليس له بأهل ... وبهذا نجد تفسير الأبيات التي يستنهض بها الشعراء صاحب الأمر ليثأر من قاتلي الحسين (عليه السلام) ، ويفعل بهم مثل ما فعلوا ، وهم يقصدون بالحسين كلّ مظلوم ومحروم ، وبقاتليه كلّ ظالم وفاسد ، وبصاحب الأمر (عليه السلام) الدولة الكريمة العادلة التي تملأ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً ...

هذا وقد مضى على استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ولا زالت الأجيال من قوميات شتّى ينظمون فيه الأشعار بالفصحى وغير الفصحى ، ويقيمون الاحتفالات وينصبون لها السرادقات وينفقون عليها الاُلوف ... وقد تغيّرت الحياة ومرّت بالعديد من الأطوار وقضت على الكثير من العادات والتقاليد إلاّ الاحتفال بذكرى الحسين (عليه السلام) ، والهتاف باسمه نثراً وشعراً وشعائراً فإنّه ينمو من عصر إلى عصر وفي كلّ بقعة من العالم تماماً كما تنمو الحياة وتستمرّ ... وما عرفت البشرية جمعاء عظيماً من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) وفي ثورته الخالدة والتي تتجدّد كلّما تجدّد الزمان ... ولو تصدّى متتبّع للمقارنة بين ما نظم فيه وما نظم في عظماء الدنيا مجتمعين لتعادلت الكفّتان ، بل رجحت كفّة سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) »[3] .

فما هو السرّ ؟ !

تجاوبت الدنيا عليك مآتماً *** نواعيك فيها للقيامة تهتفُ


[1]كامل الزيارات : 208 .

[2] أدب الطفّ 1 : 17 .

[3] اقتباس من مقدّمة كتاب ( أدب الطف ) 1 : 11 .