الشعرة لغةً :
من الواضح أنّ الكلمات المستعملة والمفهومة لها وضعها الخاصّ ومعناها اللغوي أوّلا ، والمتكفّل لبيانها معاجم اللغة ، ثمّ ربما ينقل بنقل مألوف أو غيره إلى معنى جديد ، يسمّى بالمعنى المصطلح بحسب الواضع الجديد في كلّ علم وفنّ وحرفة ، وإذا أردنا أن نعرف معنى الكلمة اصطلاحاً ، مثلا ( الشعر ) في علم المنطق أو الأدب ، فالأولى أن نعرف معناها لغةً ، لعلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي غالباً ، فيما إذا كان من النقل المألوف كأن ينقل من المعنى العامّ في اللغة إلى معنى خاصّ في الاصطلاح أو بالعكس .
فالشعر كما في ( لسان العرب )[1] : من شَعَر به وشَعُر يشعر شِعراً وشَعراً وشِعرة ومشعورة وشعوراً وشعوراً وشُعورة ، وشِعرى ومشعوراء ومشعوراً . كلّه : بمعنى عَلِمَ ... وليت شِعري أي ليت علمي أو ليتني علمت ... وشعر به عَقَله وأشعرت بفلان اطّلعت عليه وشعر لكذا إذا فطن له ، وشِعرَ إذا ملك عبداً ... واستشعر فلان الخوف إذا أضمره ... والشَّعْر والشَّعَر مذكران : نبتة الجسم ممّا ليس بصوف ولا وبر للإنسان وغيره ، وجمعه أشعار وشعور ... ولها معان اُخرى منها : الشِعْر : منظوم القول ، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية ، وإن كان كلّ علم شِعراً من حيث غلب الفقه على علم الشرع ، والعود على المَندَل ، والنجم على الثريا ، ومثل ذلك كثير ، وربما سمّوا البيت الواحد شعراً حكاه الأخفش قال ابن سيّده : وهذا ليس بقوي إلاّ أن يكون على تسمية الجزء باسم الكلّ ... وقال الأزهري : الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها والجمع أشعار وقائله شاعر لأ نّه يشعر ما لا يشعر غيره أي يعلم ...
وفي مجمع البحرين[2] : قوله : ( يشعركم ) ( 6 : 109 ) أي يدريكم . قوله : ( لا يشعرون ) ( 2 : 12 ) أي لا يفطنون ويعلمون ... قوله : ( والشعراء يتّبعهم الغاوون ) ( 26 : 224 ) أي لا يتبعهم على كذبهم وباطلهم وفضول قولهم ما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض ومدح من لا يستحقّ المدح إلاّ الغاوون من السفهاء ، وقيل شعراء المشركين عبد الله بن الزِّبعري وأبو سفيان وأبو غرّة ونحوهم حيث قالوا نقول مثل ما قال محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وكانوا يهجونه ويجتمع عليهم الأعراب من فوقهم يسمعون أشعارهم وأهاجيهم .
وفي تفسير عليّ بن إبراهيم قال : نزلت الآية في الذين غيّروا دين الله وخالفوا أمرَ الله ، هل رأيتم شاعراً قط تبعه أحد ، إنّما عنى بذلك الذين وصفوا ديناً بآرائهم فتبعهم على ذلك الناس . ويؤكّد ذلك قوله : ( ألم ترَ أ نّهم في كلّ واد يهيمون ) يعني يناظرون بالأباطيل ويجادلون بالحجج وفي كلّ مذهب يذهبون .
قوله : ( وما علّمناه الشعر وما ينبغي له ) ( 31 : 69 ) قال المفسّر : يعني قول الشعر أي ما أعطيناه العلم بالشعر وما ينبغي له أن يقول الشعر من عنده حتّى إذا تمثّل ببيت شعري جرى على لسانه مكسّراً كما روي عن الحسن أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يتمثّل بهذا البيت : كفى الإسلام والشيب للمرء ناهياً . فقيل له : يا رسول الله إنّما قال الشاعر : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً . وعن عائشة قالت : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتمثّل ببيت أخي بن قيس :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار ما لم تزوّد
فيقول : ويأتيك ما لم تزوّد بالأخبار ، فيقال له : ليس هكذا ، فيقول : إنّي لست بشاعر .
قال المفسّر : وقيل إنّ معنى الآية وما علّمناه الشعر بتعليم القرآن وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً ، فإنّ نظمه ليس بنظم الشعر ، وقد صحّ عنه (عليه السلام) أ نّه كان يسمع الشعر ويبحث عنه وأ نّه كان يقول : « إنّ من الشعر لحكمة » وحكايته مع حسّان بن ثابت مشهورة .
وفي الحديث وقد سئل (عليه السلام) : من أشعر الشعراء ؟ فقال (عليه السلام) : « إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها ، فإن كان ولا بدّ فالملك الضِلِّيل » ، يعني امرئ القيس سمّاه ضليلا لأ نّه ضلّ عن طريق الهداية ، وفي القاموس هو : سليمان بن حجر ، كما سيجيء ...
والشعر العربي ـ بالكسر فالسكون ـ ـ هذا من المعنى المصطلح ـ : هو النظم الموزون ، وحدّه أن يُركّب تركيباً متعاضداً وكان مقفّىً موزوناً مقصداً به ذلك ، قال في المصباح : فما خلا من هذه القيود أو بعضها لا يسمّى شعراً ولا صاحبه شاعراً ، ولهذا ما ورد في الكتاب موزوناً فليس بشعر لعدم القصد والتقفية ، ولا كذلك ما يجري على بعض ألسنة الناس من غير قصد ، لأ نّه مأخوذ من شعرتَ إذا فطنت وعلمت ، فإذا لم يقصده فكأ نّه لم يشعر به ، وهو مصدر في الأصل ، يقال : شعرت أشعرُ من باب قتل إذا قلته . وجمع الشاعر شعراء كصالح وصلحاء ...
أقول : يبدو لي أ نّه لمّا كان أساس الشعر هو المخيّلات ، وهي من قوّة الخيال ، إنّما هي وقوّة الخيال من الحواسّ الخمسة الباطنية ، وهي عبارة عن : 1 ـ الحسّ المشترك الذي يسمّى بالقوّة البنطاسيّة ، 2 ـ الخيال ، 3 ـ الحافظة ، 4 ـ المتصرّفة ، 5 ـ العاقلة ، ومحطّ القوى الخمس الباطنة هو الدماغ ، وهو في الرأس ، ويعلو الرأس الشَعر ـ بفتح الشين المعجمة ـ وإنّما سُمّي الشِعر ـ بالكسر ـ شعراً ربما باعتبار الشَّعر ـ بالفتح ـ وهو باعتبار الدماغ والمخ وما فيه من القوّة المتخيّلة ، فهناك مناسبة بين الشِعر ـ بالكسر ـ باعتبار المتخيّلات ، وبين الشَعر ـ بالفتح ـ باعتبار الرأس والدماغ والقوّة المتخيّلة ، فتأمّل .
وفي مفردات الراغب[3] : شعر : الشَّعرُ معروف وجمعه أشعار قال : ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ) وشعرت أصبت الشعر ، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علماً في الدقّة كإصابة الشعر ، وسمّي الشاعر شاعراً لفطنته ودقّة معرفته ، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري وصار في التعارف اسماً للموزون المقفّى من الكلام ، والشاعر للمختصّ بصناعته ، وقوله تعالى حكاية عن الكفّار ( بل افتراه بل هو شاعر ) وقوله : ( شاعر مجنون . شاعر نتربّص به ) وكثير من المفسّرين حملوه على أ نّهم رموه بكونه آتياً بشعر منظوم مقفّى حتّى تأوّلوا ما جاء في القرآن من كلّ لفظ يشبه الموزون من نحو ( وجنان كالجواب وقدور راسيات ) وقوله : ( تبّت يدا أبي لهب وتب ) وقال بعض المحصّلين : لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به ، وذلك أ نّه ظاهر من الكلام أ نّه ليس على أساليب الشعر ولا يخفى ذلك على الأغنام من العُجم ، فضلا عن بلغاء العرب ، وإنّما رموه بالكذب فإنّ الشعر يعبّر به عن الكذب والشاعر : الكاذب ، حتّى سمّى قوم ، الأدلّة الكاذبة الشعرية ، ولهذا قال تعالى في وصف عامّة الشعراء : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) إلى آخر السورة ، ولكون الشعر مقرّ الكذب قيل أحسن الشعر أكذبه ، وقال بعض الحكماء : لم يُرَ متديّن صادق اللهجة مغلقاً في شعره ، والمشاعر الحواسّ وقوله : ( وأنتم لا تشعرون ) ونحو ذلك معناه : لا تدركونه بالحواسّ ، ولو قال في كثير ممّا جاء فيه لا يشعرون لا يعقلون لم يكن يجوز ، إذ كان كثير ممّا لا يكون محسوساً قد يكون معقولا . ومشاعر الحجّ معالمه الظاهرة للحواسّ والواحد مشعر ، ويقال شعائر الحجّ الواحد شعيرة ( ذلك ومن يعظّم شعائر الله ) قال : ( عند المشعر الحرام . لا تحلّوا شعائر الله ) أي ما يهدى إلى بيت الله . وسمّى بذلك لأ نّها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة يشعر بها ، والشعار الثوب الذي يلي الجسد لممارسته الشِّعر ، والشِّعار أيضاً ما يشعر به الإنسان نفسه في الحرب أي يعلّم . وأشعَره الحبّ نحو ألبسه ، والأشعر الطويل الشعر وما استدار بالحافر من الشعر ، وداهية شعراء كقولهم داهية وبراء ، والشّعْرَاءُ ذباب الكلب لملازمته شعره ، والشعير الحبّ المعروف ، والشعرى نجم وتخصيصه في قوله : ( وانّه هو ربّ الشعرى ) لكونها معبودة لقوم منهم .
[1] لسان العرب 7 : 131 .
[2] مجمع البحرين 3 : 346 .
[3] معجم مفردات ألفاظ القرآن : 268 .