قبل بيان معنى الشعر في المصطلح العلمي لا بأس أن نذكر مقدّمة مختصرة ، لها علاقة بالموضوع ، لا سيّما في علم المنطق ، فإنّه يبحث فيه عن ( آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ) فإنّ الإنسان خلق مفطوراً على التفكير ، وذلك بما منحه الله من قوّة عاقلة مفكّرة لا كالحيوانات ، إلاّ أ نّه يقع في الخطأ في أفكاره وآرائه ، فيحسب ما ليس ببرهان برهاناً ، فيحتاج حينئذ إلى ما يصحّح أفكاره واستدلالاته ، ويتحقّق ذلك في بعلم الميزان والمنطق ، وينقسم علم المنطق إلى تصوّرات وتصديقات ، وعمدة المباحث في الأوّل المعرّف والتعريف وأقسامه ، وفي الثاني الحجّة وأقسامها ، وأسمى هدف للمنطق هو ( مباحث الحجّة ) أي مباحث المعلوم التصديقي الذي يستخدم للتوصّل إلى معرفة المجهول التصديقي . والحجّة عندهم : عبارة عمّا يتأ لّف من قضايا يتّجه بها إلى مطلوب يستحصل بها ، وإنّما سمّيت ( حجّة ) لأ نّه يحتجّ بها على الخصم لإثبات المطلوب ، ويسمّى ( دليلا ) لأ نّها تدلّ على المطلوب ، وتهيئتها وتأليفها لأجل الدلالة يسمّى ( استدلالا ) والقضايا ليست كلّها تطلب بحجّة ، بل لا بدّ أن تنتهي إلى البديهيات ، وهي المبادئ للمطالب ، وهي رأس المال للمتجر العلمي . والطرق العلمية للاستدلال ـ عدا طريق الاستدلال المباشر ـ هي ثلاثة أنواع رئيسية :
1 ـ القياس : وهو أن يستخدم الذهن القواعد العامّة المسلّم بصحّتها في الانتقال إلى مطلوبه ، أو بعبارة اُخرى : ( قول مؤلّف من عدّة قضايا متى ما سلّمت لزم عنه لذاته قول آخر ) ، ونصل به من الكلّي إلى الكلّي .
2 ـ التمثيل : وهو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر لجهة مشتركة بينهما ، أو بعبارة اُخرى : بيان مشاركة جزئي لجزئي آخر في علّة الحكم ليثبت فيه ، أي نصل من جزئي إلى جزئي آخر .
3 ـ الاستقراء : وهو أن يدرس الذهن عدّة جزئيات فيستنبط منها حكماً عاماً ، أو بعبارة اُخرى : تصفّح الجزئيات لإثبات حكم كلّي ، أي نصل من الجزئي إلى الكلّي .
والقياس مركّب من صورة ومادّة ، والصورة تعني هيئة التأليف الواقع بين القضايا بذكر مقدّمتين صغرى وكبرى وتسمّى مواد القياس ، وتنقسم إلى استثنائي واقتراني ، والثاني يتأ لّف من حمليات أو شرطيات أو هما معاً ، كما يتولّد من الاقتراني الأشكال الأربعة ولكلّ شكل ضروب كما هو مذكور في علم المنطق .
والقياس باعتبار مادّته ـ مع قطع النظر عن الصورة ـ فتكون المقدّمات في القياس حينئذ : إمّا يقينية ، كالبديهيات الستّة وهي اُصول اليقينيات ، أو ظنّية ، أو من المسلّمات أو المشهورات أو الوهميّات أو المخيّلات أو غيرها ويسمّى البحث عنها بـ ( الصناعات الخمس ) وهي : البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة .
فالشعر من الصناعات الخمس في علم المنطق ، وهو باعتبار مادّة الأقيسة لا صورها . وإنّه يبتني على المخيّلات ، أي القضايا الخياليّة أو الواقعيّة بصورة الخيال .
قال العلاّمة المظفّر (قدس سره) في منطقه[1] : إنّ الشعر صناعة لفظيّة تستعملها جميع الاُمم على اختلافها ، والغرض الأصلي منه التأثير على النفوس لإثارة عواطفها : من سرور وابتهاج أو حزن وتألّم ، أو إقدام وشجاعة ، أو غضب وحقد ، أو خوف وجبن ، أو تهويل أمر وتعظيمه ، أو تحقير شيء وتوهينه ، أو نحو ذلك من انفعالات النفس .
والركن المقوّم للكلام الشعري المؤثّر في انفعالات النفوس ومشاعرها أن يكون فيه تخييل وتصوير ، إذ للتخييل والتصوير الأثر الأوّل في ذلك كما سيأتي بيانه فلذلك قيل : إنّ قدماء المناطقة من اليونانيين جعلوا المادّة المقوّمة للشعر القضايا المتخيّلات فقط ولم يعتبروا فيه وزناً ولا قافية .
أمّا العرب ـ وتبعتهم اُمم اُخرى ارتبطت بهم كالفرس والترك ـ فقد اعتبروا في الشعر الوزن المخصوص المعروف عند العروضيين ، واعتبروا أيضاً القافية على ما هي معروفة في علم القافية ، وإن اختلفت هذه الاُمم في خصوصياتها ، أمّا ما ليس له وزن وقافية فلا يسمّونه شعراً ، وإن اشتمل على القضايا المخيلات .
ولكن الذي صرّح به الشيخ الرئيس في منطق الشفا ـ كما سنذكر ـ أنّ اليونانيين كالعرب كانوا يعتبرون الوزن في الشعر ، حتّى أ نّه ذكر أسماء الأوزان عندهم .
وهكذا يجب أن يكون ، فإنّ للوزن أعظم الأثر في التخييل وانفعالات النفس ، لأنّ فيه من النغمة والموسيقى ما يلهب الشعور ويحفّزه ، وما قيمة الموسيقى إلاّ بالتوقيع على وزن مخصوص منظّم ، بل القافية كالوزن في ذلك ، وإن جاءت بعده في الدرجة .
وعلى هذا فالوزن والقافية يجب أن يعتبرا من أجزاء الشعر ومقوّماته لا من محسّناته وتوابعه ، ما دام المنطقي إنّما يهمّه من الشعر هو التخييل ...
نعم إنّ الكلام المنظوم المقفّى إذا لم يشتمل على التصوير والتخييل لا يعدّ من الشعر عند المناطقة ، فلا ينبغي أن يسمّى المنظوم في المسائل العلمية أو التأريخية المجرّدة مثلا شعراً وإن كان شبيهاً به صورة ، وقد يسمّى شعراً عند العرب أو بالأصحّ عند المستعربين .
ثمّ قال (قدس سره) في تعريف ( الشعر ) : وعلى ما تقدّم من شرح ينبغي أن نعرف الشعر بما يأتي : ( إنّه كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية مقفّاة ) وقلنا : ( متساوية ) لأنّ مجرّد الوزن من دون تساو بين الأبيات ومصارعها فيه لا يكون له ذلك التأثير ، إذ يفقد مزية النظام فيفقد تأثيره ، فتكرار الوزن على تفعيلات متساوية هو الذي له الأثر في انفعال النفوس ، ثمّ قال في فائدة الشعر :
إنّ للشعر نفعاً كبيراً في حياتنا الاجتماعية ، وذلك لإثارة النفوس عند الحاجة في هياجها ، لتحصيل كثير من المنافع في مقاصد الإنسان فيما يتعلّق بانفعالات النفوس وإحساساتها ، في المسائل العامة : من دينية أو سياسية أو اجتماعية أو في الاُمور الشخصية الفردية . ويمكن تخليص أهمّ فوائده في الاُمور الآتية :
1 ـ إثارة حماس الجُند في الحروب .
2 ـ إثارة حماس الجماهير لعقيدة دينية أو سياسية أو إثارة عواطفه لتوجيهه إلى ثورة فكرية أو اقتصادية .
3 ـ تأييد الزعماء بالمدح والثناء وتحقير الخصوم بالذمّ والهجاء .
4 ـ هياج اللذّة والطرب وبعث السرور والابتهاج لمحض الطرب والسرور كما في مجالس الغناء .
5 ـ إهاجة الحزن والبكاء والتوجّع والتألّم كما في مجالس العزاء .
6 ـ إهاجة الشوق إلى الحبيب أو الشهوة الجنسية كالتشبيب والغزل .
7 ـ الاتّعاظ عن فعل المنكرات وإخماد الشهوات ، أو تهذيب النفس وترويضها على فعل الخيرات كالحكم والمواعظ والآداب .
ثمّ يذكر السبب في تأثير الشعر على النفوس لإثارة تلك الانفعالات ، وبماذا يكون الشعر شعراً أي مخيلا ؟ وبيان المقولة المعروفة ( الشعر أكذبه أعذبه ) وأ نّه لا يدلّ ذلك على ذمّ الشعر ، بل هذه المقولة بمنزلة الرسم الكاريكاتوري ثمّ يبيّن القضايا المخيلات وتأثيرها ، وهل هناك قاعدة للقضايا المخيلات ، وكيف تتولّد ملكة الشعر ، وصلة الشعر بالعقل الباطن وأنّ الشاعر البارع كالخطيب البارع يستمدّ في إبداعه من عقله الباطن اللاشعوري ، فيتدفّق الشعر على لسانه كالإلهام من حيث يدري ولا يدري على اختلاف عظيم للشعراء والخطباء في هذه الناحية .
وليس الشعر والخطابة كسائر الصناعات الاُخرى التي يبدع فيها الصانع عن رؤية وتأمّل دائماً . وإلى هذا أشار صحار العبدي لمّا سأله معاوية : ما هذه البلاغة فيكم ؟ فقال : ( شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الدرر ) .
فهذه لفتة بارعة من هذا الأعرابي أدركها بفطرته وصوّرها على طبع سجيّته . ومن أجل ما قلناه من استمداد الشاعر من منطقه اللاشعور تجده قد لا يواتيه الشعر ، وهو في أشدّ ما يكون من يقظته الفكرية ورغبته الملحّة في إنشائه . قال الفرزدق : ( قد يأتي عليَّ الحين وقلع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر ) .
وبالعكس قد يفيض الشعر ويتدفّق على لسان الشاعر من غير سابق تهيّؤ فكري ، والشعراء وحدهم يعرفون مدى صحّة هذه الحقيقة من أنفسهم .
وأحسب أ نّه من أجل هذا زعم العرب أو شعراؤهم خاصّة أنّ لكلّ شاعر شيطاناً أو جنّياً يلقي عليه الشعر . والغريب أنّ بعضهم تخيّله شخصاً يمثّل له وأسماه باسم مخصوص ، وكلّ ذلك لأ نّهم رأوا من أنفسهم أنّ الشعر يواتيهم على الأكثر من وراء منطقة الشعور وعجزوا عن تفسيره بغير الشيطان والجنّ .
وعلى كلّ حال فإنّ قوّة الشعر إذا كانت موجودة في نفس الفرد لا تخرج ـ كما تقدّم ـ من حدّ القوّة إلى حدّ الفعليّة اعتباطاً من دون سابق تمرين وممارسة للشعر بحفظ وتفهّم ومحاولة نظمه مرّة بعد اُخرى . وقد أوصى بعض الشعراء ناشئاً ليتعلّم الشعر أن يحفظ قسماً كبيراً من المختار منه ، ثمّ يتناساه مدّة طويلة ، ثمّ يخرج إلى الحدائق الغنّاء ليستلهمه ، وكذلك فعل ذلك الناشئ فصار شاعراً كبيراً .
إنّ الأمر بحفظه وتناسيه فلسفة عميقة في العقل الباطن توصّل إليها ذلك الشاعر بفطرته وتجربته ، إنّ هذا هو شحن القوّة للعقل الباطن ، لتهيئته لإلهام الشعور في ساعة الانشراح والانطلاق التي هي إحدى ساعات تيقّظ العقل الباطن وانفتاح المجرى النفسي بين منطقتي اللاشعور والشعور ، أو بالأصحّ إحدى ساعات اتحاد المنطقتين ، بل هي من أفضل تلك الساعات . وما أعزّ انفتاح هذا المجرى على الإنسان إلاّ على من خلق ملهماً فيؤاتيه بلا اختيار . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
وقال الشيخ الرئيس ابن سينا في منطق الشفا ( الفنّ التاسع ) في الفصل الأوّل : في الشعر مطلقاً وأصناف الصناعات الشعرية وأصناف الأشعار اليونانية : إنّ الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب : مقفّاة . ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي ، ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كلّ قول منها مؤلفاً من أقوال إيقاعية ، فإنّ عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر ، ومعنى كونها مقفّاة هو أن تكون الحروف التي يختم بها كلّ قول منها واحدة .
ولا نظر للمنطقي في شيء من ذلك إلاّ في كونه كلاماً مخيلا : فإنّ الوزن ينظر فيه : إمّا بالتحقيق والكلّية ، فصاحب علم الموسيقى ـ أي هو الذي يبحث عن الأوزان كلا وتحقيقاً ـ وإمّا بالتجربة وبحسب المستعمل عند اُمّة اُمّة ، فصاحب علم العروض ، والتقفية ينظر فيها صاحب علم القوافي ـ وهذا يعني أنّ الشعر يحتوي على علوم ثلاثة : المنطق والموسيقى والعروض ـ وإنّما ينظر المنطقي في الشعر من حيث هو مخيل ، والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتُستنبط عن اُمور وتنقبض عن اُمور من غير رويّة وفكر واختيار ، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانياً غير فكري ، سواء كان القول مصدّقاً به أو غير مصدّق به ، فإنّ كونه مصدّقاً به غير كونه مخيلا أو غير مخيل . فإنّه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه ، فإن قيل مرّة اُخرى وعلى هيئة اُخرى فكثيراً ما يؤثّر الانفعال ولا يحدث تصديقاً . وربما كان المتيقّن كذبه مخيلا . وإذا كانت محاكاة لشيء بغيره تحرّك النفس وهو كاذب ، فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرّك النفس وهو صادق ، بل ذلك أوجب ، لكن الناس أطوع للتخيّل منهم للتصديق ، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استنكرها وهرب منها . وللمحاكاة لشيء من التعجيب ليس للصدق ، لأنّ الصدق المشهور كالمفروغ منه ، ولا طراء له ، والصدق المجهول غير ملتفت إليه ، والقول الصادق إذا حرف عن العادة وألحق به شيء تستأنس به النفس ، فربما أفاد التصديق والتخييل . وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به . والتخييل إذعان والتصديق إذعان ، لكن التخييل إذعان للتعجّب والالتذاذ بنفس القول ، والتصديق إذعان لقبول أنّ الشيء على ما قيل فيه . فالتخييل يفعله القول بما هو عليه ، والتصديق يفعله القول بما القول فيه عليه أن يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه .
ثمّ يتعرّض الشيخ الرئيس إلى الفرق بين الخطابة والشعر والاُمور التي تجعل القول مخيلا ، منها ما تتعلّق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن ، ومنها ما تتعلّق بالمسموع من القول ، ومنها تتعلّق بالمفهوم من القول ، ومنها يتردّد بين المسموع والمفهوم ، وغير ذلك من التفاصيل ، فإذا أردت التحقيق والاتساع في المعلومات فعليك بالمراجعة .
وأمّا المعلّم الثاني المحقّق الفارابي في رسالته في قوانين صناعة الشعراء[2]فيقول إجمالا : قصدنا في هذا القول إثبات أقاويل وذكر معان تفضي بمن عرفها إلى الوقوف على ما أثبته الحكيم ( أرسطو ) في صناعة الشعر ، من غير أن نقصد إلى استيفاء جميع ما يحتاج إليه في هذه الصناعة وترتيبها ، إذ الحكيم لم يكمل القول في صناعة المغالطة فضلا عن القول في صناعة الشعر ... فنقول : إنّ الألفاظ لا تخلو من أن تكون إمّا دالّة وإمّا غير دالّة ، والألفاظ الدالّة : منها ما هي مفردة ومنها ما هي مركّبة ، والمركّبة منها ما هي أقاويل ومنها ما هي غير أقاويل ، والأقاويل منها ما هي جازمة ومنها ما هي غير جازمة ، والجازمة : منها ما هي صادقة ومنها ما هي كاذبة ، والكاذبة منها ما يوقع في ذهن السامعين الشيء المعبّر عنه بدل القول ومنها ما يوقع فيه المحاكي للشيء ، وهذه هي الأقاويل الشعرية ...
ويمكن أن نقسم الأقاويل بقسمة اُخرى ، وهي أن نقول : القول لا يخلو من أن يكون : إمّا جازماً وإمّا غير جازم ، والجازم منه ما يكون قياساً ، ومنه ما يكون غير قياس ، والقياس منه ماهو بالقوّة ، ومنه ما هو بالفعل ، وما هو بالقوّة إمّا أن يكون استقراءً وإمّا أن يكون تمثيلا ، والتمثيل أكثر ما يستعمل إنّما يستعمل في صناعة الشعر ، فقد تبيّن أنّ القول الشعري هو التمثيل .
وقد يمكن أن تقسّم القياسات ، وبالجملة الأقاويل بقسمة اُخرى فيقال : إنّ الأقاويل إمّا أن تكون صادقة لا محالة بالكلّ ، وإمّا أن تكون كاذبة لا محالة بالكلّ ، وإمّا أن تكون صادقة بالأكثر كاذبة بالأقلّ ، وإمّا عكس ذلك ، وإمّا أن تكون متساوية الكذب والصدق ، فالصادقة بالكلّ لا محالة هي البرهانية ، والصادقة بالبعض على الأكثر فهي الجدلية ، والصادقة بالمساواة فهي الخطبيّة ، والصادقة في البعض على الأقلّ فهي السوفسطائية ، والكاذبة بالكلّ لا محالة فهي الشعرية ... ثمّ يذكر وصف الأقاويل الشعرية وتنويعها بالأوزان وبالمعاني ، والأوّل بعهدة صاحب الموسيقى والعروضي ، ثمّ يذكر أصناف أشعار اليونايين ، وهي : طراغوذيا وديثرمبي وقوموديا وإيامبو ودراماطا وإيني وديقرامي وساطوري وفيومانا وأفيقي وريطوري وإيفيجاناساوس واقوستقي ، ثمّ يذكر تفصيل ذلك وأصناف الشعراء وأحوالهم في تقوالهم الشعر ، وإذا أردت التفصيل ، فراجع .
وأمّا المعلّم الأوّل أرسطوطاليس فيذكر الشعر وأنواعه وصناعة كلّ نوع منها وأنّ الشعر محاكاة وله أنواع يسردها مشفوعة بنماذج ، والمحاكاة بمثابة الجنس القريب لها جميعاً ، بينما الوسائل والموضوعات وطريقة العلاج هي الفصول النوعية التي تميّز نوعاً من آخر ، ويواصل الكلام عن تمييز الأنواع الشعرية من حيث وسائلها ، فيقول[3] : حديثنا هذا في الشعر : حقيقته وأنواعه والطابع الخاصّ بكلّ منها ، وطريقة تأليف الحكاية حتّى يكون الأثر الشعري جميلا ، ثمّ في الأجزاء التي يتركّب منها كلّ نوع ، عددها وطبيعتها ، وكذلك في سائر الاُمور التي تتّصل بهذا البحث ، وفي هذا نسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الاُولى : الملحمة والمأساة ، بل والملهاة والإيثرمبوس وجُلّ صناعة العزف بالناي والقيثارة ، هي كلّها أنواع من المحاكاة في مجموعها ... فيذكر تفصيل ذلك كما يذكر أنّ اختلاف الفنّ باختلاف الموضوع ، فيتعرّض إلى فنّ الموسيقى والرقص والشعر ، فيذكر اُسلوب المحاكاة ، ثمّ يذكر نشأة الشعر وأقسامه وبيان ضرورة الشعر للنفس الإنسانية ، ويردها إلى نزعتين راسختين في الطبيعة الإنسانيه : النزعة إلى المحاكاة والنزعة إلى الانسجام والإيقاع فيقول : ويبدو أنّ الشعر نشأ من سببين كلاهما طبيعي ، فالمحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة ( والإنسان يختلف عن سائر الحيوان في كونه أكثرهااستعداداً للمحاكاة وبالمحاكاة يكتسب معارفه الأوّلية ) كما أنّ الناس يجدون لذّة في المحاكاة ... ثمّ يتعرّض إلى الشعر الهزلي والكوميديا والفارق بينها وبين التراجيديا ، وتعريف المأساة وبيان الفعل ومداه في المأساة ، والفعل البسيط والفعل المركّب ، والتحوّل والتعرّف ، وبيان الأفعال والأخلاق في المأساة ، وبيان أركان المسرحية وبيان الملحمة وأنواعها وأوزانها ، وغير ذلك من المطالب في فنّ الشعر عند اليونانيين فراجع .
ولا يخفى أنّ الشعر اليوناني في كتب اليونانيين كالمعلّم الأوّل أرسطوطاليس إنّما يبحث في الأفعال والأخلاق ، بينما الشعر العربي يدور حول الوصف للموضوعات أو الانفعالات .
والشعر قد دخل منذ البداية في باب علوم العربية ، لأ نّه يدرس لاستخلاص الشواهد النحوية والصرفية واللغوية ، فكان ثمّة هوّة هائلة بين علماء العربية وبين علماء الثقافة الإنسانية[4] .
ويقال أوّل من تكلّم في فنّ الشعر هو سقراط الفيلسوف الكبير ثمّ تلميذه أفلاطون وقد دوّنه المعلّم الأوّل أرسطو . وكان سقراط يرى الشعر من منظار أخلاقي ، وأنّ مثل فنّ الشعر يولّد اللذّة فلا ينفع في مقام العلم والتعليم ، وقد أنكر جماله ، إذ كان يرى الجمال فيما يكون فيه الفائدة ، ولا فائدة عقلائية في الشعر ، وقد نحى منحاه أفلاطون فإنّ في جمهوريته أخرج الشعراء من مدينته الفاضلة ، ولم يقرّ لهم وزناً وقيمة ، ولم ير الشعر من العلم النافع ، ومن ثمّ لم يضع سقراط وأفلاطون للشعر قواعد خاصّة ، ولكن أرسطو خالفهما في ذلك ، وحاول أن يجد للشعر قواعده الخاصّة ، وأن يثبت فائدته وجماله ، وأ نّه من طبيعة الإنسان وغرائزه وعلاقته بالوزن والإيقاع والمحاكاة كما مرّ تفصيل ذلك .
هذا إجمال ما ذكره أعلام المنطق في تعريف الشعر ، ولتمام الفائدة نذكر بعض ما ورد في دوائر المعارف ، وفي مصطلح الاُدباء وفي الأدب العربي .
جاء في دائرة معارف القرن العشرين لمحمّد فريد وجدي ( 5 : 390 ) الشعر : في اصطلاح المتأدّبين هو الكلام الموزون المقفّى ، وهو قديم كقدم الإنسان لأنّ في طبع الإنسان نزوعاً إلى الترنّم محاكاة للطيور في أوكارها ، فهو إن قطع مسافة أو جهد في عمل ، نزع إلى التشاغل من متاعب جسده بشغل فمه ، والترنّم يستدعي كلاماً تهيج به العواطف وتستلذّه الإذن فوجد الشعر بهذه الدواعي ، ولا حاجة للقول بأ نّه كان على غاية البساطة خالياً من ديباجته الحالية ومناسباً لسذاجة الإنسان الأوّلية ، ثمّ أخذ يترقّى ويتهذّب على حسب ترقّي الإنسان حتّى وصل إلى الدرجة التي نشاهده عليها ، وهو سلاح لساني شديد المضاء ، فإن استعمل غزلا تشبيباً أغرى الأفئدة بالهوى وسهل للجسد احتمال الجوى ، وإن سيق على طريق الحماسة هاج النفس لاقتحام الردى ، تلتل بالقلب لخوض نيران الوغى ، وإن انشدّ في حثّ أو طلب أو استعطاف أو استعطاء حرّك العواطف وهيّجها ، واستولى عليها وميلها . وليس لأيّ ضرب من ضروب الكلام ما للشعر من خاصية تجسيد خطرات النفوس وتجسيم تموّجات الضمائر والوصول لعميقات السرائر . فما أنفعه من سلاح في يد العاقل الرشيد ، وما أضرّه في يد الذي لا يدرك عهدة ما يقول . وقد منيت جميع الاُمم بهذين النوعين من الشعراء ، فالأوّلون ساعدوا العاملين المصلحين على تذليل صعوبات وظيفتهم ، والآخرون عملوا على العكس جرياً مع أهوائهم وضلّتهم .
ثمّ يذكر المؤلّف فنون الشعر الجاهلي قائلا : قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين إنّ فنون الشعر في الجاهلية خمسة وهي : المديح والهجاء والوصف والتشبيب والمراثي . وزاد النابغة فيها قسماً سادساً هو الاعتذار . ولم يعد العلاّمة العسكري الحماسة والخمريات والدهريات والزهريات والحكم والشكوى ، ولعلّه أدمجها في باب الوصف ، ثمّ يذكر تفصيل الأقسام مع ذكر شواهد من الشعر ثمّ يقول : هذه بعض ضروب من الشعر في الجاهلية ولسنا بصدد استقصاء جميع تلك الضروب ، فهي قد تطوح بنا إلى التطويل المملّ ، والذي نقوله إنّ الشعر العربي بلغ غاية اُبّهته قبيل البعثة المحمّدية ، فلمّا بعث النبيّ (صلى الله عليه وآله) شغل العرب شاغل من أمر الدين ، فانحطّ الشعر وركدت ريحه ، فلمّا استتبّ الأمر للإسلام ومضى عصر الراشدين ، وتولّت الأحكام بنو اُميّة واتّسع العمران ، رجعت النفوس لما تهواه من الشعر ، وكان له منزلة سامية لدى بني اُميّة ، فنبغ في عصرهم جميل بن معمّر وعمر بن أبي ربيعة والعرجي وغيرهم في الغزل ، والنعمان بن بشير الأنصاري وابن مفزع الحميدي وأبي الأسود الدؤلي وكان هؤلاء من أنصار عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) ولم يسكتهم عن المجاهرة بالطعن على بني اُميّة إلاّ تسلّطهم على اُمور الدولة . ثمّ نبغ جرير والفرزدق والأخطل والراعي وأبو النجم العجلي والأحوص فأبلغوا الشعر إلى أسمى مكاناته . فلمّا جاءت الدولة العباسية زادت الشعر إقبالا ، فنبغ فيه بشّار بن برد وأبو نؤاس وأبو العتاهية وسلم الحاسر وابن أبي حفصة . أمّا الذين أحدثوا الانقلاب العظيم في الشعر في عصر العباسيين فهم بشّار بن برد والسيّد الحميري وأبو نؤاس ومسلم بن الوليد وأبو العتاهية وأبو تمام ودعبل ... هؤلاء الشعراء الفحول هم الذين نقلوا الشعر من حالته البدوية إلى روائه الحضري الآخذ بمجامع القلب ، فذهبوا في التشبيه والكتابة وسائر المحسّنات اللفظية والمعنوية إلى أقصى ما تحتمله مرونة اللغة . ثمّ لم يتقدّم الشعر بعد هذا العصر بسبب الفتور الذي أصاب العالم الإسلامي ، فإنّه ألمّ بكلّ شيء فيه ، وهي سنّة طبيعية لا تتخلّف ، فلا تفتر عوامل الاجتماع فتصيب السياسة والأخلاق وسائر الروابط والعوامل الاجتماعية بالفتور ، إلاّ بعد أن تكون العوامل الأدبية من الدين واللغة قد اُصيبت بما أضعفها أيضاً .
وبقي الشعر العربي حيث هو ، ثمّ أخذ ينحطّ من لدن القرن الرابع حتّى لم يبقَ من أهله إلاّ أفراد موزّعين في الأقطار ، ولم يكن فيهم مع ذلك واحد يقارن بأبي تمام أو البحتري مثلا ، ولا زال الحال جارياً على هذه السنّة من الانحطاط حتّى حدثت النهضة العربية الأخيرة في سورية أوّلا ، ثمّ في مصر فأخذ الشعر يستردّ دولته على يد أمثال شوقي والرافعي وحافظ إبراهيم ، وإنّ عهدنا هذا ليبشّر بترقّي عظيم للشعر ، إذا اطّردت هذه النهضة طريقها ، ولم يعقها عائق عن بلوغ غايتها .
وجاء في دائرة المعارف[5] للبستاني : شِعر : Poetry و Poesie :
الشعر صعب وطويل سلّمُهْ *** إذا ارتقى فهو الذي لا يعلمُه
زلَّت به إلى الحضيض قدمه *** يريد أن يعربه فيعجمُهْ
هذان البيتان للجاحظ ذكر فيهما باُسلوب رقيق ماهية الشعر فإنّه ( ملكة راسخة في النفس منذ الفطرة لا يمكن تكلّفها ) وحدّ الشعر عند علماء العرب بالإجماع هو ( الكلام الذي قصد وزنه وتقفيته على أوزان مختلفة واتّباع قافية واحدة في كلّ قطعة منه ، أو في كلّ شطرين أو في بعض الأبيات دون الاُخرى ) وهذا ما لا ضابط له عند أكثر الاُمم ، وأمّا الأوزان فلا بدّ منها عند كلّ اُمّة ، فقد يكون الوزن واحداً في كلّ القصيدة ، وقد يكون مختلفاً في بعض الفنون كما سترى ، وليست ملكة الشعر في الإنسان من الاُمور المنتحلة أو الطارئة ، بل هي جبلة مخلوقة فيه منذ فطرته ، فتتقوّى وتتمكّن بحسب مظاهر الحياة ، فإنّ القوّة الإنسانية مرجعها إلى ثلاثة اُمور : أوّلها : القوى العقلية وهي التي تشتغل بالعلوم أو المعارف النظرية . ثانيها : القوّة الحسّية وهي التي تمارس الأعمال المتعلّقة بالحواسّ وهي الصنائع . ثالثها : القوّة التأثيرية أو الشعرية وهي التي تتعلّق بشعور الحاسات الباطنية ، فتظهرها إلى الخارج بكلام له أشدّ تأثير في إيضاحها ، وهذا الكلام لكي يأخذ أشدّ مفعوله في القلوب ويجلّ موقعه في النفوس ، يجب أن يكون منتظماً في قالب نقي وهيئة لطيفة ، شأن كلّ النظامات الطبيعية التي يزيد ميل الطبيعة الناطقة إليها في الاُمور الحسّية .
فشأن الشعر بالنسبة إلى النفوس كشأن الصورة المحكمة الوضع بالنسبة إلى النظر ، وشأن الجسم المتناسب الأجزاء اللطيف الهندام في سطحه بالنسبة إلى اللمس ، وشأن الطعم الذي ألفت تفضيله الطبيعة بالنسبة إلى الذوق ، وشأن الصوت الموقع النغمات بالنسبة إلى السمع ، وهذا الأخير له أشدّ الاشتراك بالشعر ، ومنه يعلم فضل تأثير المنظوم على المنثور ، فإنّ الصوت إذا اتبع نسقاً واحداً نفرت منه الطبيعة ، أو اختلفت نغماته على غير نظام مجرّد السمع .
لكن ربّ نغمة تطرب زيداً ويكرهها عمرو ، ومن ذلك اختلاف طرق الموسيقى بين الاُمم ، ومن ثمّ اختلاف وزن الشعر وترتيبه وتنسيقه بينهم . ولمّا كان اختلاف الأقاليم يؤثّر في اختلاف الأذواق الطبيعية ، كان الشعر العربي عندنا ألذّ وأطرب وأكثر موافقة لطبيعتنا وما يقاربه من شعر سائر الاُمم أقبل لدينا ممّا يبعد عنه ، وهكذا الحال عند غيرها ، ولذلك لا يصحّ حكم على المختار من أساليبه لأهل الأقاليم الحارّة بالنسبة إلى الباردة ، ولا لأهل كليهما بالنسبة إلى المعتدلة . فكان شعر هؤلاء وشعر اُولئك يلذّ لأهل الأقاليم المعتدلة على مقدار تباعد النسبة بين الطرفين ، كما هو الحال في الموسيقى ، فإنّ الموسيقى اليونانية مثلا أوقع في قلوب العرب من موسيقى سائر أهالي أوربا ، لقرب إقليم اليونان من إقليم العرب أوّلا ، ثمّ لكثرة الاتصاليات القديمة بينهم وبين الاُمم الشرقية ، الأمر الذي يجعل ائتلافاً في الذوق ، ولذلك ترى الأتراك والفرس والعرب واليونان متقاربين ذوقاً في ذلك ، وفي نظام شعرهم كتقارب ذوق الاُمم الشمالية في الأمرين . فيكون الشعر على ذلك دليلا على طبيعة الإنسان غير المنظورة التي تختلف أطوارها باختلاف الأقاليم على ما مرّ في الكلام على البشر ، فهو مرآة أخلاقهم وعوائدهم وتواريخهم وأحوالهم الأدبية والمادية عموماً . وبناءً على ذلك كان الشعر أعدل شاهد نحكم به على ما نريد من القضايا المتعلّقة بهذه الأحوال ، لأ نّه وإن كان مبنيّاً على التصوّرات الخيالية والاستعارات والكنايات والتشبيهات ونحو ذلك من المجازات ، لكنّه لا بدّ أن يكون متضمّناً حقيقة تشفّ عنها هذه الأستار اللطيفة التي هي داعي رونقه وزينته ، فإنّ التأثير يكون أشدّ وإيراد الأفكار أبدع ، إذا كان القالب المورد به مهندماً مزخرفاً حسن التخطيط متناسب الوضع ، فكم نرى من الفرق في التأثير بين قولنا هذا الغلام غضّ الملمس ناعم البشرة ، وبين قولنا :
خطرات النسيم تجرح خدّيهِ *** ولمس الحرير يدمي بنانه
وعلى ذلك كانت الخطابة أو البرهان الشعري عند الفلاسفة أي المناطقة من أبلغ الأساليب التي تورد الخطباء بها براهينها ، وإذ كانت طبيعة النفس البشرية واحدة في كلّ البشر في كلّ زمان ومكان وكان من خصائصها الميل إلى مثل هذه الاُمور ، كان لا بدّ من وجود ملكة الشعر في كلّ اُمّة وكلّ إقليم . وإذ كان مظهر الحاسات وترجمان القلوب ومجلي الأسرار كان أعدل شاهد يدلّ على أخلاق اُمّة وعاداتها وأخبارها . قال بعض الأذكياء الشعر هو تجسّد ما ينطوي عليه قلب الإنسان من أعمق الأسرار ، أي واسطة تخيّلها وظهورها بمظهر حسّي . وإنّه مجلي كلّ سمعة في الأفكار وكلّ ما للطبيعة المنظورة من الرونق والفخامة في التخيّل ، ومن الطرب واللذة في النغمات . وإنّه عبارة عن الحاسة والإحساس معاً عقلا وحسّاً ، فإنّ المنثور يتّجه إلى التصوّر ، وأمّا الشعر فإلى التصوّر والإحساس معاً . ولمّا كان من مقتضيات الشاعر أن يشترك بين عالم الحسّ وعالم التصوّر ، كان لا بدّ أن يكتب صفة الشيء بعد أن يحيط به علماً آخذاً بجميع أطراف معانيه ، ولذلك كان بعض الاُمم يلقّبون الشاعر بالموجد أو المبدع ، لأ نّه تعمّق في معرفة الشيء حتّى أوجد منه ما كان خفيّاً عن غيره ، فكان للشعراء الكبار أرفع منزلة وأجلّ مكان عند الاُمم . فجعل الشعر أخاً شقيقاً للعلم فإنّ كليهما يسبر أعماق كنه الطبيعة . ويستخرج مكنوناتها ، غير أنّ احدهما ناتج عن طول التجارب وتكرار الامتحانات ، والآخر ناتج عن صحّة التصوّر والقياس على الأدلّة . والواحد والآخر يسيران على آثار خطوات العقل ، غير أنّ الشعر إذا كان على طرز واحد في ظاهر شكله . كان قابلا للتحسين في كلّ عصر ومبناه على ما هو لا يتغيّر . وأمّا العلم فلا يصل إلى الكمال إلاّ بعد سلوك شعاب التجارب والخبط في دياجي الامتحان ، فالذي يبنى اليوم يقوم في الغد ما يهدمه ، فإنّ أوميروس مثلا استغرق في شعره كلّ معارف عصره ولكن تلك المعارف تغيّرت وتلاشت ، وأمّا شعره فباق على رونقه ، ثمّ إنّ العلم لمّا عدا شوطاً بعيداً قصر الشعر عن إدراك شأوه ، لكنّه لم يزل يقفوه من بعيد كقافي الأثر ، حتّى أ نّه لمّا افترق شملهما واختلفت مقاصدهما بقي الشعر في بعض الأحوال يظهر أمامه طليعة يشير الامتحان إليها ، فكان واسطة لاكتشافات عظيمة علمية بإشاراته الرمزية . فالشاعر صناجة جيش العلماء ، وشعره راية كتائب المعقولات ، فإنّ أخلاق الاُمم في كلّ زمان منطبع رسمها في صنجة شعرها ، فشعر الهنود تراه صافياً في بعض الظروف ومكدّراً في بعضها باختلاف أحوالها الجاهلية والإسلامية ، وما قاربها من الطرفين مقدّماً ومؤخّراً واعتقادات الحلوليين يعلم اضطرابها واختلاطها ، ممّا ظهر فيهم من القصائد الطويلة المختلفة المباني . وأمّا شعر اليونان فترى فيه من السهولة والبلاغة والسلاسة والانسجام ما يشربه العقل ، فإنّ الفكر عند الهنود كان سائداً على المعاشرة والشكل ، وإمّا عند اليونان فبالعكس ، فاُولئك يكتبون بحسب هوى أفكارهم ، وأمّا هؤلاء فبحسب مقتضى الحواسّ ، فترى في شعرهم روح الفرج والسرور والانبساط والهشاشة ، ولمّا انتقل الشعر منهم إلى الرومان تغيّرت حالته فبعد أن كان مطرباً مرقّصاً صار يؤذن بالرزانة والكبرياء ، وأمّا العبرانيون قبل اليونان والرومان فكانت لهم اعتقادات وأفكار دينية قصرت عن إدراكها حكمة اُولئك الفلاسفة ، ولذلك ترى شعرهم يمثّل الفخامة والعظمة والسموّ والأدب . ولمّا اتّصلت الديانة المسيحية بالغرب هدمت تلك الأركان القديمة ، فانقلب نفس الشعراء ودخل في شعرهم روح الدين والآخرة ، لكن بعد انقضاء القرون المتوسّطة حصل انقلاب آخر في نفس الشعراء لعدم ثبات الطبيعة الإنسانية على حال ، فدخلت فيه القصص والحكايات وما يتعلّق بالإحساسات البشرية ، حتّى شاع فيه المجون ، وأكثر ما كان ذلك في أسبانيا ، أمّا أنكلترا فحافظت فيه على العظمة والسموّ ، وظهرت الرزانة في شمال أوربا وجنوبها . وأمّا فرنسا فلم تحتمل ذلك زماناً فأفرغت شعرها في قوالب الهجاء والهزل ، ثمّ تمشّت فيه على آثار ظواهر الهيئة الاجتماعية لكنّها كانت تشتمل على جماعة من أرباب الحكمة والتعقّل والدين من الشعراء الذين نبغوا في القرون المتأخّرة ، فأكسبوا الشعر رونقاً جليلا ، وأمّا ألمانيا فشعرها العلمي متأخّر العهد ، وقد أخذت نهجاً مخالفاً بعض المخالفة لغيرها ، ولكن يظهر فيها روح الشعر الفرنسوي أوّلا لأخذها عن فرنسا . فروح الشعر الآن في آداب أعظم ممالك أوربا العلمية أي فرنسا وإنكلترا وألمانيا تتباين ، والسائد في إنكلترا الشعر الوصفي والديني والفلسفي ، وفي فرنسا التشكيكي والمادي ، وفي ألمانيا الحلولي .
وأمّا الشعر العربي فلا بدّ له من فصل خاصّ نذكر مذاهبهم فيه وآراءهم من جهته . قال ابن خلدون : هو غريب النزعة عزيز المنحى ، إذ هو كلام مفصّل قطعاً قطعاً متساوية في الوزن ، متّحدة في الحرف الأخير من كلّ قطعة ، وتسمّى كلّ قطعة منها بيتاً ، ويسمّى الحرف الأخير روياً وقافية ، ويسمّى جملة الكلام إلى آخره قصيدة ، وينفرد كلّ بيت بإفادته في تراكيبه ، حتّى كأ نّه كلام مستقلّ عمّا قبله وما بعده ، وإذا أفرد كان تامّاً في بابه من مدح أو تشبيب أو رثاء ، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقلّ في إفادته ، ثمّ يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك . ويستطرد للخروج من فنّ إلى فنّ ، ومن مقصود إلى مقصود ، بأن يوطّد المقصود الأوّل ومعانيه إلى أن تناسب المقصود الثاني ويبعد الكلام عن التنافر ، كما يستطرد من التشبيب إلى المدح ، ومن وصف البيداء أو الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل ، ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ، ومن التفجّع والعزاء في الرثاء إلى التأثّر ، وأمثال ذلك ، ويراعي فيه اتّفاق القصيدة كلّها في الوزن الواحد حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه ، فقد يخفى ذلك من أجل المراقبة على كثير من الناس ، ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمّنها علم العروض ، وليس كلّ وزن يتّفق للطبع استعملته العرب في هذا الفن ، وإنّما هي أوزان مخصوصة تسمّيها أهل تلك الصناعة بحوراً . قال : وفنّ الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطائهم ، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم ، وكانت ملكته مستحكمة فيهم ، والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة ، ولصعوبة منحاه وغرابة فنّه ، كان محكّاً للقرائح ، ثمّ في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه ، ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق ، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطّف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصّته العرب بها واستعمالها ، فإنّ لكلّ فنّ من الكلام أساليب تختصّ به ، وتوجد فيه على أنحاء مختلفة ، وليست قوانين البلاغة كافية لذلك ، لأ نّها قواعد علمية وقياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئاتها الخاصّة . وأمّا تراكيب الشعر فهي هيئة ترسخ في النفس من تتبّع التراكيب في شعر العرب ، والمستعمل عندهم من ذلك أنحاء مخصوصة ، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب فلا يعدّ شعراً . ولعمل الشعر وأحكام صناعته شروط ; أوّلها الحفظ من جنسه حتّى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ، وقد يكفي لذلك شعر أحد الفحول المسلمين ، مثل ذي الرمّة وجرير وأبي نؤاس والبحتري وأبي تمام ، ثمّ بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم . وفي الإنشاد منه تستحكم ملكته ثمّ لا بدّ له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار والشموم لاستنارة القريحة ، ثمّ مع هذا كلّه أن يكون على نشاط ، وقالوا : خير الأوقات السحر ، وربما قالوا إنّ من بواعثه العشق والانتشاء . وذكر ابن رشيق في كتاب العمدة الذي انفرد بهذه الصناعة أ نّه إذا استعصى بعد هذا كلّه ، فليترك إلى وقت آخر ، وليكن بناء البيت على القافية من أوّل صوغه ، لأنّ القافية بعد صواغ البيت قد يصعب وضعها في محلّها ، وليراجع الشعر بعد الفراغ منه بالتنقيح والنقد ، ولا يستعمل فيه من الكلام إلاّ الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية ، ويجتنب المعقد من التراكيب ، ويقصد ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم ، وأن تكون الألفاظ مطابقة للمعاني بحيث لا يجمع البيت عدّة معان ، ويجتنب الحواشي من الكلام والسوقي والمبتذل ، فإنّه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة ، وإذا تعذّر الشعر بعد هذا كلّه فليرادفه ويعاوده ، فإنّ القريحة مثل الضرع يدرّ بالامتراد ، ويجفّ بالترك والإهمال . وقد نظم جماعة شيئاً في صناعة الشعر من ذلك قول بعضهم :
إنّما الشعر ما يناسب في النظـ *** ـمِ وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضهُ يشاكل بعضاً *** وأقامت له الصدور المتونا
فكأنّ الألفاظ منه وجوهٌ *** والمعاني ركبن فيهِ عيونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرّاً *** رمت فيهِ مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريباً *** وجعلت المديح صدقاً مبينا
وتعلّيت ما يهجن في السمـ *** ـعِ وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما عرفته بهجاء *** عبت فيهِ مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منهُ دواء *** وجعلت التعريض داءً دفينا
وإذا ما بكيت فيهِ على العا *** دين يوماً للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وزللت ما كا *** ن من الدمع في العيون مصونا
ثمّ إن كنت عاتباً جئت بالوعـ *** ـدِ وعيداً وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليهِ *** حذِراً آمناً عزيزاً مهينا
وأصحّ القريض ما قارب النظـ *** ـم وإن كان واضحاً مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرَّاً *** وإذا ريمَ أعجز المعجزينا
وقال آخر :
الشعر ما قوّمت ربع صدوره *** وشددت بالتهذيب اُسّ متونِه
ورأيت بالإطناب شعب صدوعه *** وجمعت بين محبّه ومعينه
وإذا مدحت به جواداً ماجداً *** وقضيته بالشكر حقّ ديونه
أصفيته بتفتّش ورضيته *** وخصصته بخطيره وثمينه
فيكون جزلا في مساق حتوفه *** ويكون سهلا في اتفاق فنونه
وإذا بكيت به الديار وأهلها *** أجريت للمحزون ماء شؤونه
وإذا أردت كناية عن ريبه *** باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه *** بثبوته وظنونه بيقينه
قال ابن خلدون : فمن كان محفوظه شعر أبي تمام أو العتابي أو ابن المعتزّ أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفّع أو سهل بن هارون أو ابن الزيّات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبةً في البلاغة ، ممّن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخّرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الاصبهاني ، لنزول طبقة هؤلاء عن اُولئك ، لأنّ الحافظ للشيء ينسج على منواله ، ولذلك كان الفقهاء والنحاة وأمثالهم قاصرين عن البلاغة لتمكّن القواعد العلمية في أفكارهم ، وهي ليست من بلاغة أساليب كلام العرب في شيء . وكلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة من كلام الجاهلية ، لأ نّهم سمعوا القرآن وحفظوه وهو في أعلى طبقة من البلاغة ، وحفظوا الحديث أيضاً ، ولذلك نجد شعر حسّان والحطيئة وجرير والفرزدق وذي الرمّة والأحوص وبشّار ، أبلغ من شعر امرئ القيس والنابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير ونحوهم . وقال في مكان آخر إنّ الكلام المنظوم الذي لا يكون على أساليب العرب يعني الجاهلية لا يكون شعراً ، ولذلك كان الكثير ممّن لقينا من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أنّ نظم المتنبّئ والمعرّي ليس من الشعر في شيء ، لأ نّهما لم يجريا على أساليب العرب . ونحن نرى في حكم ابن خلدون وهماً من وجهين : أوّلهما أنّ أصحاب العلم مجمعون على أنّ شعر امرئ القيس وسائر أصحاب المعلّقات أولى بالتقدّم على كلّ شعر ، ولولا ذلك لما علقت قصائدهم على البيت الحرام ، تسجد لها قبائل العرب على اختلافها ، وإنّ المتنبئ عند الحقيقة من أشعر من قال شعراً في الإسلام وإن لم يكن أشعرهم فهو ، وأبو تمام عندهم في الطبقة الاُولى . والثاني : وهو الذي كان يجب أن ينتبه إليه هو أنّ حسن الشعر أي موافقته للذوق متعلّق بالظروف ، أي الأمكنة والأزمنة ، فإنّ قول امرئ القيس في الجاهلية :
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ *** بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها *** لما نسجتها من جنوب وشمألِ
أبلغ عند أقرانه ، وفي تلك الصحاري القفرة التي لم يعرفوا فيها إلاّ السراب والرمال والأباعر والخيام والطلول والأوعار ونحو ذلك ، من خشونات الطبيعة من قول المتنبّي :
خرجوا به ولكلّ باك خلفه *** صعقات موسى حين دُكّ الطورُ
والشمس في كبد السماء مريضةٌ *** والأرض راجفة تكاد تمورُ
وحفيف أجنحة الملائك حوله *** وعيون أهل اللاذقية سورُ
فمن أين يتأتّى لامرئ القيس في تلك الفلوات والعيشة الوحشية مثل المناظر المدنية حتّى يشحذ قريحته لهذه البدائع . ولكن من وجه آخر نرى صفاء الهواء وتسريح الأفكار في الاُمور المعنوية يجعل من تفرّد بالذوق والنفس الكريمة نابغةً في معانيه حتّى يفوق البدوي في ذلك على الحضري ساكن القصور فصاحب الطرب والملاهي يطرب عند قول أبي نواس :
ومستطيل على الصهباء باكرها *** في فتية باصطباح الراح حذاقِ
فكلّ شيء رآهُ ظنّهُ قدحاً *** وكلّ شخص رآهُ قال ذا الساقي
أكثر ممّا يطرب من قول عنترة :
ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ *** منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأ نّها *** لمعت كبارق ثغرك المتبسّمِ
ولكن من أين يتأتّى لصاحب الكأس والطاس المتقلّب بين ظهور المجالس والمتمرّغ على نهود العوانس هذه الرقّة الممزوجة بالحماسة والعادات والمناظر ممّا له أشدّ تأثير في نفث الصدور فلا يلتذّ صاحب الفجور والمنكرات بقول عنترة أيضاً :
اُحبّك يا ظلومُ فأنت عندي *** مكان الروح من جسد الجبانِ
ولو أ نّي أقول مكان روحي *** لخفت عليك بادرة الطعانِ
كما يلتذّ بقول ابن العقّاد :
ليت شعري هل ترى أروي الظما *** من لمى ذاك الثغير الألعسِ
وترى عيناي ربّات الحمى *** باهيات بقدود ميِّسِ
والحاصل أنّ الشعر ليس عليه حكم في المحسوسات عموماً ، وبالمنقولات غالباً ، لأ نّها إمّا ان تتأتّى عن المحسوسات وإمّا عن المطالعات ، فجاهلية العرب لم يكن لهم من المحسوس إلاّ كلّ خشن ، ولا من المطالعة عن أخبار الاُمم إلاّ ما يتعلّق بالحروب والغرام ، ولذلك خشنت لغتهم الشعرية ، ولو رقّ الغرام وقلت عندهم الحكم والمعاني التي تأخذ بمجامع القلوب التي وجدها أهل الراحة والنعم والعزّ والاطلاع في الدولة العباسية والاُموية والأندلسية ، فبينما كانت أفكارهم وعاداتهم في أعلى درجة من البديهة وفي دوحة فسيحة من التمدّن والآداب ، كانت أفكار الأوربيين في درجة قصوى من الخشونة ، كما كانت جاهلية العرب . ثمّ إنّ اختلاف الشعراء بين العرب دعا أرباب المعرفة إلى جعلهم طبقات بحسب ما وافق ذوقهم من معانيهم ، ولذلك اختلفوا في تفضيل هذا على ذاك وذاك على هذا . والأكثرون على جعلهم أربع طبقات قال بعض الظرفاء :
الشعراء في الزمان أربعه *** فواحدٌ يجري ولا يُجرى معه
وواحدٌ يخوض وسط المعمعه *** وواحدٌ لا تشتهي أن تسمعه
وواحدٌ لا تستحي أن تصفعه
وكانوا أوّلا يقولون إنّ أشعر أهل الوبر امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وعنترة العبسي ، ثمّ لبيد وطرفة وابن الأعشى الأسدي ، وأجودهم فيه عمرو بن كلثوم التغلبي والحارث بن حلزة اليشكري وطرفة . وقال قوم أفضلهم امرؤ القيس وآخرون زهير وآخرون عنترة ، وقال الأصمعي عنترة إذا ركب ، والنابغة إذا طرب ، والأعشى إذا رهب ، وقيل كان الشعر جملا باذلا ، فنُحر ، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه ، وعمرو بن كلثوم سنامه ، وزهير كاهله ، والأعشى والنابغة فخذيه ، وطرفة ولبيد كركرته ، فلم يبق إلاّ الذراعان والبطن فوزّعت على غيرهم من الشعراء ، وقال عبد الملك بن مروان : أشجع شعراء العرب شعراً أربعة ، العباس بن مرداس السلمي وقيس بن الخطيم وعنترة ورجل من مزينة لم يسمّه .
أمّا العباس فلقوله :
أشدّ على الكتيبة لا اُبالي *** أفيها كان حتفي أم سواها
وأمّا قيس فلقوله :
وإنّي لدى الحرب العوان موكّل *** بتقديم نفس لا اُريد بقاها
وأمّا عنترة فلقوله :
إذ تتقون بي الأسنّة لم أضم *** عنها ولكنّي تضايق مقدمي
وأمّا المزني فلقوله :
دعوت بني قحيفة فاستجابوا *** فقلت ردوّا فقد طاب الورود
وقال الخوارزمي : من روى حوليات زهير ، واعتذارات النابغة ، وحماسيات عنترة ، وأهاجي الحطيئة ، وهاشميات الكميت ، ونقائض جرير ، وخمريات أبي نؤاس ، وتشبيهات ابن المعتزّ ، وزهريات أبي العتاهية ، ومراثي أبي تمام ، ومدائح البحتري ، وروضيات الصنوبري ، ولطائف كشاجم ( وحكم المتنبّئ وغزليات ابن الفارض ) ، ولم يخرج إلى الشعر فلا أشبّ الله قرنه . وكانت العرب تقرّ لقريش بالتقدّم عليها في كلّ شيء إلاّ الشعر ، فلمّا نبغ عمرو بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي والعرجي وأبو دهبل وابن قيس الرقيات أقرّت لها بالشعر أيضاً . فلمّا قسموا الشعراء إلى طبقات جعلوا في الطبقة الاُولى الجاهلية ، ثمّ المخضرمين ، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كحسّان بن ثابت وكعب بن زهير ، ثمّ المولّدين كالفرزدق وجرير ، ثمّ المحدثين كالمعرّي وابن الرومي والمتنبّئ ، ومن بعدهم ، وكان الشعر في أيامهم قد جرى على قواعد مقرّرة وضعها الخليل بن أحمد قبلهم بأكثر من قرن ، ثمّ جمعت العرب أحسن ما وقعت عليه من القصائد وجعلتها سبع رتب وحكمت بأ نّها أفضل الشعر ، وهي المعلّقات وأصحابها : امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والحارث بن حلزة ولبيد ابن ربيعة وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وعنترة العبسي . ثمّ المجمهرات وأصحابها : النابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص وعدي بن زيد وبشر بن أبي حازم واُميّة بن أبي الصلت وخداش بن زهر والنمر بن تولب . ثمّ المنتقيات وأصحابها : المسيّب بن علس والمرقش وعروة بن الورد والمهلهل بن ربيعة ودريد بن الصمّة والمتنخّل بن عويمر . ثمّ المذهّبات وأصحابها : حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ومالك بن العجلان وقيس بن الخطيم واُحيحة بن الجلاّح وأبو قيس بن الأسلت وعمرو بن امرئ القيس . ثمّ المراثي وأصحابها : أبو ذؤيب الهذلي ومحمّد ابن كعب وأعشى باهلة وعلقمة بن عبدة وأبو زبيد الطائي ومالك بن الريب النهشلي ومتمّم بن نويرة . ثمّ المشوبات وأصحابها : كعب بن زهير والنابغة الجعدي والقطامي والحطيئة والشماخ بن ضرار وعمرو بن أحمد وتميم بن أبي مقبل . ثمّ الملحمات وأصحابها : الفرزدق وجرير والأخطل والراعي وذو الرمّة والكميت والطرماح . وهذه بالنظر إلى القصائد فقط لأنّ بعض أصحاب الأواخر منها معدود من الطبقة الثانية أو الثالثة ، وكثيرون غيرهم لم يذكروا هنا من أصحاب الطبقة الاُولى والثانية . فإنّ الأعشى الأسدي وعدي بن زيد والمهلهل وعبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني وبشر بن أبي حازم واُميّة بن أبي الصلت معدودون من الطبقة الاُولى . واُحيحة بن الجلاّح وأوس بن حجر والأسود بن يعفر والبراق والخنساء وتميم بن أبي مقبل وتأبّط شرّاً والشنفرى والحطيئة والمتلمّس وحاتم الطائي والحارث بن عبّاد وحسّان بن ثابت وأبا داود وخداش بن زهير وخناف بن ندية وأبا ذؤيب ودريد بن الصمّة والربيع بن زياد والمرقش الأصغر والمخبل السعدي والربيعة بن مقروم والسموأل وسلامة بن جندل وأبا قيس بن الأسلت وأبا كبير وعبد الله بن رواحة والنابغة الجعدي وعروة بن الورد وعلقمة بن عبدة وعمرو بن أحمر وعمرو بن الأهشم وعمرو بن قمئة وقيس بن الخطيم وكعب ابن زهير والمنتخل بن عويمر والمثقب العبدي والمسيب بن عليس والشماخ بن ضرار ومعن بن اوس واليشكري والنمر بن تولب من الطبقة الثانية ، وأمّا الثالثة والرابعة فمنها كثيرون ومن الثانية والاُولى أيضاً غير من ذكرنا غير أنّ هذا ليس بضابط كما قلنا ، لأ نّه كان بالنسبة إلى الظروف ، فإنّ المتنبّئ والمعرّي وابن الفارض وابن معتوق وابن هاني والبحتري وأمثالهم يستحقّون الطبقة الثانية إن لم نقل الاُولى ، لكن نعتبرهم في الاُولى لموافقة نفسهم نفس هذا العصر ، لأ نّه لم يقم مثل ابن الفارض في فنّه ، ولا مثل المتنبي في حكمه ، ولا مثل الحلي في بدائعه ، ولا مثل ابن معتوق في رشاقته وسلاسته ، ولا مثل ابن نباتة في تشبيبه ورقّة معانيه ، وأمثالهم كثيرون وإن قيل قال عنترة هل غادر الشعراء من متردّم وهو مع ذلك جاهلي ، فنقول الشعر ثوب يتبع تفصيله زيّ عصره ، والمعاني طينة تتفاوت بتغيير أشكالها الظاهرة كما يختلف المسبوك باختلاف قوالبه ، فكلّ ما وافق ذوق عصره كان فيه أولى من غيره .
وقد جعلوا من الشعر فنوناً عدّة أي نوّعوه باختلاف ترتيب أبياته والمآخذ فيها ، فأوّل ذلك القصيدة وهي أبسط الشعر ، ومنطوق الشعراء عادة وهي عدّة أبيات على قافية واحدة من بحر واحد ، فإن لم تتجاوز سبعة أبيات سمّيت مقطوعاً وقيل المقطوع إلى عشرة ولم يكن عند الجاهلية وفي أوائل الإسلام غير ذلك ، ثمّ اخترع المتأخّرون بقية الفنون فمنها الموشّح قيل إنّه من مخترعات المغاربة وهذّبه ابن سناء الملك ، وقيل إنّه من مخترعات الأندلسيين وهو الأشهر ، فإنّه لمّا كثرت الأشعار عندهم وتهذّبت فنونه وراق لهم الزمان وبلغ التنميق الغاية ، تفنّنوا فيه ، واستحدث المتأخّرون منهم الموشّح ينظمونه أسماطاً وأغصاناً ، يكثرون من أعاريضها المختلفة ، وسمّي موشّحاً لأنّ خرجاته وتفرّعاته كالوشاح له ، وهو يكون معرّباً ، ولذلك تقدّم على غيره . وأوزانه مختلفة أشهرها الوزن المشهور المتداول وهو فاعلاتن فاعلاتن فاعلن وقيل كان المخترع له مقدّم ابن معافر الغريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المرواني وأخذه عنه ابن عبد ربّه لكن لم يعد لهما عند المتأخّرين ذكر . وكسدت موشّحاتهما فكان أوّل من برع فيه عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح ، وكان أبو بكر بن زهير يقول كلّ الوشّاحين عيال على عبادة القزّاز في ما اتّفق له من قوله :
بدرّ تمّ * شمس ضحا *** غصن نقا * مسك شمّ
ما أتم * ما أوضحا *** ما أورقا * ما أنم
لا جرم * من لمحا *** قد عشا * قد حرم
ووزنه مخالف للموشّح المشهور وأجاد بعده ابن رافع شاعر المأمون ابن ذي النون .
ثمّ جاءت الحلية التي كانت في دولة الملثّمين فظهرت لهم البدائع وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ثمّ يحيى بن بقي ، وللطليطلي من الموشّحات قوله :
كيف السبيل إلى *** صبري وفي المعالم أشجان
والراكب في وسط الفلا *** بالخرد النواعم قد بان
ولمّا شاع فنّ التوشيح في الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيغ أجزائه ، نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله ونظموا على طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعراباً ، واستحدثوا فنّا سمّوه الزجل قيل أوّل من اخترعه رجل اسمه راشد ، وقيل قزمان ، ولكنّ الصواب على ما يظنّ ما ذكره ابن خلدون قال وأوّل من أبدع في هذه الطريقة أبو بكر بن قرمان وإن كانت قيلت بالأندلس لكن لم يظهر حلاها ولا سبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلاّ في زمانه .
ولهم في ذلك قصائد ومقاطيع كثيرة . وقيل إنّ الزجل خمسة أضرب لكن نظم الناس منه على أوزان كثيرة ، وسمّي الزجل لأ نّه تلهم مقاطيع أوزانه حين يغنّى به مأخوذ من الزجل بمعنى الصوت . ثمّ استمدّت أهل الأمصار بالغرب فنّاً آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة نظموا فيه بلغتهم الحضرية وسمّوه عروض البلد ، وكان أوّل من استحدثه رجل من أهل الأندلس يعرف بابن عمير فنظم قطعة على طريق الموشّح وفي أوّلها يقول :
أبكاني بشاطي النهر نوح الحمام *** على الغصن في البستان قريب الصباح
ثمّ نوّعوا ذلك إلى أصناف كالمزدوج والكاري والملعبة والغزل . ومن فنونه الدوبيت وهو فارسي الأصل ودو لفظة فارسية معناها اثنان فلا يكون المقطوع إلاّ بيتين معربين وهو ثلاث أقسام ، إذ يكون بأربع قواف كالمواليا وأعرج بثلاث قواف ومردوفاً بأربع أيضاً ، وكله على وزن واحد ووزنه فعلن متفاعلن فعولن فعلن ومثاله :
يا من بسنان رمحه قد طعنا *** والصارم من لحاظه قطعنا
ارحم دنفاً في سنّه قد طعنا *** في حبّك لا يصيبه قط عنّا
وفي ديوان ابن الفارض كثيرمن ذلك . ومنها المواليا ، وعامتنا نقول موَّال ، قيل اخترعه أهل واسط وهو من بحر البسيط ، اقتطفوا منه بيتين تكون القافيةواحدة في الصدرين والعجزين ، ولا يكون فيه إعراب وكان سهل التناول تعلّمه عبيدهم وصاروا يغنّونه في أوقات الشغل ، ويقولون في آخره يا مواليا أي يا سادتنا . وما زالوا على ذلك حتّى استعمله البغداديون ، فلطّفوه حتّى عرف بهم دون مخترعيه . قيل ولعلّه الأرجح أنّ الرشيد لمّا غلب البرامكة أمر أن لا يرثيهم أحد بشعر فرثت إحدى جواريهم جعفراً بهذا الوزن حتّى لا يعدّ شعراً وجعلت تقول في آخر كلّ شطر يا مواليا وأوّل ما قالت ذلك :
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس *** أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت نراهم رمم تحت الأراضي الدرس *** سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
ومن المواليات الظريفة قول بعضهم :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق *** فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسّمت لاح لي من ثغرها بارق *** رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولهم فيه تفنّنات وأساليب في الإنشاد والأوزان . ومنها القوما ، وأوّل من اخترعه البغداديون في الدولة العباسية عند السحور في شهر رمضان ، سمّي بذلك من قول المغنّين بعضهم لبعض قوما نسحر قوما ، ثمّ شاع ونظم فيه الزهري والخمري ، وقيل كان أوّل من قاله أبو نقطة للخليفة الناصر ، وقيل اخترع قبله لكن اشتهر هو به ، وكان الملك الناصر يهتزّ له طرباً وجعل لأبي نقطة عليه وظيفة في كلّ سنة ، فلمّا توفّي أبو نقطة كان له ولد قد برع في نظم القوما ، فأراد أن يعرف الخليفة بموت أبيه ويذكّره بالمفروض ، فجمع أصحابه ووقف أوّل ليلة من شهر رمضان تحت الطيّارة ، وغنّى القوما بصوت رقيق فأصغى الخليفة إليه وطرب ، فلمّا أراد الانصراف قال ابن أبي نقطة :
يا سيّد السادات *** لك بالكرم عادات
أنا ابن أبو نقطة *** تعيش أبي قد مات
فعجب الخليفة من هذا الاختصار ودعا به وخلع عليه وجعل له ضعف ما كان لأبيه . ومنها الكاما وقد اخترعه البغداديون ، وسمّي بذلك لأ نّهم لم ينظموا فيه سوى الحكايات والخرافات ، فكان قائله يحكي ما كان إذ يقول كان كذا وكان كذا ، إلى أن ظهر ابن الجوزي وغيره فنظموا فيه المواعظ والحكم وأجزاء شطوره مختلفة ، فأجزاء الشطر الأوّل من البيت الأوّل مستفعلن فعلاتن ، والشطر الثاني مستفعلن مستفعلان ، والأوّل من البيت الثاني مستفعلن فعلاتن أيضاً ، والثاني مستفعلن فعلان ومنه قول الشبراوي :
كن يا مليح حليماً *** ثلّثت ميزان الصدور
مستفعلن فعلاتن *** يا بدر يا منصان
ومنها السلسلة قيل لم يعرف مخترعها ومنها قصيدة ابن منجك باشا وأوّلها :
يا مبتدع العذل إن عذلك أشراك *** عذر العذار رميت منه بأشراك
ومنها اللغز والأحجبة والمعمّى والتشطير والتخميس والتاريخ الشعري وغير ذلك ، وهذه كلّها شعر صحيح معرب وهي مشهورة عند الجمعى . ومنها في أيامنا القصيد والمعنى والقراديات ، أمّا القصيد فهو شعر عرب البادية يذهبون فيه كلّ مذهب وكثيراً ما يقولونه ارتجالا ، ويضمّنونه من المعاني والتشابيه والاستعارات كما نراه في شعر الجاهلية ، ولا يختلف عنه إلاّ بكونه غير مقيّد بضوابط الإعراب ، أمّا القراديات فهي من الأغاني اللبنانية والغالب في وزنها مفعولات مفعولان مقطوعها أربعة أبيات صدورها على قافية واحدة وأعجازها على قافية اُخرى ، لكنّ الشطر الأخير يرجع إلى قافية الفاتحة التي يبنى عليها القول . وأمّا المعنى فيدور على وزنين أحدهما الرجز أو الكامل ، وقد يخلط بالرمل والآخر مستفعلن مستفعلن فعلن أو فعلان ، ولهم فيه على ذلك تفنّن كثير ويأتون فيه بالغرائب من دقيق المعاني ولطيف المجاز ممّا يعجز عنه فحول الشعراء ، ذلك لأ نّهم ينطقون به بلغة العامّة ، ولا يقيّدون بقافية صحيحة شعرية كما هو مشهور وأنغامه مختلفة أيضاً . والأعجب من ذلك أ نّهم يقولونه ارتجالا في المحافل ونحوها كجاري العادة في جبال أسبانيا والبورتوغال ، فيأتون بكلّ معنى بديع وهم مع ذلك قد يأخذون بقافيتين أو أكثر معاً يقولون على كلّ قافية بيتاً ويرجعون إلى الاُخرى ، وقد يأتون فيه بالتسجيع والتوزيع ومحبوك الطرفين وضرب المثل وغير ذلك من أنواع البديع . وينظمون منه ألفيات وألغازاً طويلة عجيبة وهو في كلّ أساليبه إلاّ الإعراب كالشعر في أزهى أعصره . ومحطّ رحاله وعكاظه لبنان .
ويقسم الشعر بالنظر إلى معناه إلى عدّة أبواب حصرها أبو تمام في عشرة وجعلها ابن أبي الاصبع ثمانية عشر ، وهي الغزل والوصف والفخر والمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والأدب والزهد والخمريات والرثاء والبشارة والتهاني والوعيد والتحذير والملح والسؤال والجواب ، ويزاد الزهريات والحكم والمجون والفراق أو التشوّق والحماسة وهي أشرفها عندهم ، وقيل إنّ الغزل وصف الغلمان ، والنسيب وصف النساء ، والتشبيب يجمعهما ، غير أنّ الشائع أنّ الغزل يطلق عليهما ولا سيّما وصف النساء ، وأمثلة ذلك كثيرة يضيق دونها المقام ، وقد استحدث أهل الغرب نوعاً من القصائد سمّوها بالملاحم ، وهي ما تضمّنت أحوال اُمّة أو قوم وحروبهم ووقائعهم التاريخية ، وقسموه باعتبار تأثيره إلى مرقص ومطرب ومقبول ومسموع ومتروك وهو الرديء ، وأمّا ما قالوا في منافعه ومضاره وحسنه وقبحه وحلاله وحرامه وتأثيره في السامعين فشيء كثير فقد جاء في القرآن ذمّه ومن ذلك ( وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر للعالمين ) وذلك لأنّ الشاعر يقصد اللفظ فينظمه ويحكم به على المعنى ، وأمّا النبيّ فكان قصده المعنى فيأتيه بالألفاظ المناسبة ، فإن كانت موزونة لم تعد شعراً لأ نّها غير مقصودة بالوزن ، وفي القرآن والحديث من ذلك شيء كثير منه ما يكون شطراً ومنه ما يكون بيتاً كاملا فمن الآيات ( من كان منكم مريضاً أو على سفر ) فعدّة من أيام اُخر . و ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) ومن الحديث ( هل أنت إلاّ إصبعٌ دميت وفي سبيل الله ما لقيت ) وقد ذكر ابن خلدون فصلا في وجوب ترفّع أهل المراتب عن انتحال الشعر . قال إنّ الشعر كان ديواناً للعرب فيه علومهم وأخبارهم وكان رؤساء العرب ينافسون فيه ، وكانوا يقفون في سوق عكاظ لإنشاده وعرض كلّ واحد منهم ديباجته على فحول الشبّان وأهل البصر ، حتّى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام ، ثمّ انصرف العرب عن ذلك أوّل الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوّة والوحي ، وما أدهشهم من اُسلوب القرآن ونظمه فسكتوا عن الخوض فيه زماناً ، ثمّ استقرّ ذلك وأونس الرشد في الملّة ، ولم ينزل الوحي في تحريمه ، وسمعه النبيّ وأثاب عليه فرجعوا إلى ديدنهم منه ، وكان لابن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة ، وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجباً له ، ثمّ جاء بعد ذلك ذوو الملك والدولة ، وتقرّب إليهم العرب بأشعارهم ، فأجازوهم بأعظم الجوائز ، ولم يزل هذا الشأن أيام بني اُميّة وصدراً من دولة بني العباس ، ثمّ جاء خلق أعاجم من بعدهم تعلّموه صناعة ، ومدحوا به اُمراء العجم طالبين فيه معروفهم فقط ، فصار غرض الشعر في الغالب الكذب والاستجداء ، فأنف منه أهل الهمم والمراتب من المتأخّرين ، وأصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة وتغيّر الحال .
لكن هذا الكلام لا يثبت في كلّ الظروف فإنّ الشعراء من أقدم الأزمان كانوا يمدحون غالباً لمقاصد خصوصية لهم تؤول إلى منفعتهم ، حتّى أنّ النبيّ أثاب عليه كما ذكرنا ، واستجاده وقال إنّ من الشعر لحكمة ومن البيان لسحراً . واعتذروا عن الآية التي يقول فيها والشعراء يتّبعهم الغاوون ألم ترَ أ نّهم في كلّ واد يهيمون . إنّ المراد بذلك الشعراء الذين حرّم الشرع كلامهم بعد ذلك كما تقدّم والتشبيب والافتخار الباطل والمدح في غير محلّه ونحو ذلك ، وأمّا إذا كان توحيداً أو حثّاً على مكارم الأخلاق فلا بأس فيه . وقد ورد في كتب الشرع أنّ من آفات اللسان الشعر ، وسئل النبيّ (صلى الله عليه وآله) عنه فقال حَسنه حسن ، وقبيحه قبيح ، وحرم هجو مسلم ولو بما فيه . وقال النبيّ أيضاً لئن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً خير له من أن يمتلئ شعراً ، فما كان منه في الوعظ والحكم وذكر نعم الله تعالى وصفة المتّقين فهو حسن ، وما كان من ذكر الأطلال والأزمان والاُمم فمباح ، وما كان من هجو وسخف فحرام ، وما كان من وصف الخدود والقدود والشعور فمكروه . ومن جعله مكسبة له تنقص مروءته وترد شهادته . وإن قصد به إظهار النكات واللطائف والتشابيه الفائقة والمعاني الرائقة فلا بأس فيه ، وكذلك الزهريات المتضمّنة وصف الرياحين والأزهار والمياه إن لم يقصد فيه تشويق إلى الملاهي وما يتعلّق بها ، والحاصل أنّ كلّ ما ينتج منه ضرر في الدين والأدب يحرم أو يكره ، وإلاّ فيباح ويستحسن . وأمّا عامّة الناس فأكثرهم على أنّ الشعر مفيد في الغالب ، ورووا من ذلك عدّة اُمور منها : أنّ أشعار العرب دلّت على وقائعهم التاريخية وأيام حروبهم وما كان عندهم من الأخلاق والعوائد ، دلالة كافية في الوضوح وممارسة قرض الشعر ، تنقّحت اللغة العربية وتخلّصت من شوائب الركّة واللكنة واستعمال الألفاظ الحوشية والغريبة . وكان يدعو إلى المروءة وعلوّ الهمم ويحمل على الشجاعة والإقدام على عظائم الاُمور ، فكأنّ للعرب في ذلك نفوذ تام ورسوخ قدم ، وكان كلام الشعراء حجّة يستند إليها ويعتمد عليها ، قال بعضهم :
للسادة الشعراء فضلٌ ثابت *** ولهم مقامٌ شامخٌ ومكانُ
وهم سلاطين الكلام ألا ترى *** كلّ امرئ منهم له ديوانُ
فكانت قصائدهم مشتملة على وقائعهم ومآثرهم ونوازلهم ومفاخرهم ، ولمّا كانوا هم المحسنين والمقبّحين والمادحين والقادحين والمغرين والمحذّرين كانوا يرفعون القبائل ويخفضونها ويعزّونها ويذلّونها ويشرّفونها ويضعونها ، ومن المعلوم أنّ بني أنف الناقة كانوا يعيّرون بهذا اللقب حتّى مدحهم الحطيئة وقال فيهم هذا البيت :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم *** ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فصار هذا اللقب عزّة لهم يفتخرون به بواسطة بيت واحد من الشعر . وأمثلة ذلك كثيرة ، ولهذا السبب كان الشاعر أوّل من يرهب عند العظماء وأصحاب الرُّتب ، وكانوا يجتهدون بحسن معاملته والإحسان إليه وإرضاء خاطره خوفاً من بيت يهجوهم به ، فيثلم صيتهم إلى آخر الدهر وقال بعضهم :
وللشعراء ألسنةٌ حدادٌ *** على العوراء ما برحت دليله
ولكنّ السعيد من اتّقاها *** وداراها مداراة جميله
وإذ كان قرض الشعر فطرة لهم وضرورياً لا يستغنى عنه ، كان من لا يقوله يعيَّر ، ومن منع عن قوله يضيق صدره ، حتّى آل الأمر بأحد الشبّان إلى أ نّه مرض لمنع أبيه إيّاه عن النظم ، فلمّا أشرف على التلف أذن له أبوه بالنظم فقال : حال الجريض دون القريض ، وهو مثل مشهور يضرب لما يراد فيحول دونه مانع عظيم ، ومن فوائد الشعر إبهام القصد باُسلوب شعري تدخل فيه الحقيقة في قالب الكناية والإشارة كما روي عن بعض الاُمراء ، أ نّه أمر صاحب حرسه أن يطوف بالليل فمن وجده بعد العشاء ضرب عنقه ، فطاف ليلة فوجد ثلاثة فتيان يتمايلون عليهم آثار الشراب فأحاط بهم وقال من أنتم حتّى خالفتم أمر الأمير وخرجتم في مثل هذا الوقت فقال أحدهم :
أنا ابن من دانت الرقاب له *** ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه بالرغم وهي صاغرة *** يأخذ من مالها ومن دمها
فأمسك عنه وقال لعلّه من أقارب الأمير ثمّ قال للآخر من أنت فقال :
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره *** وإن نزلت يوماً فسوف يعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره *** فمنهم قيامٌ حولها وقعود
فقال لعلّه من بعض أشراف العرب ، ثمّ قال للثالث من أنت فقال :
أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه *** وقوّمها بالسيف حتّى استقلّت
ركاباه لا تنفكّ رجلاه منهما *** إذا الخيل في يوم الكريهة ولّت
فقال لعلّه من فرسان العرب . فلمّا أصبح رفع أمرهم إلى الأمير ، فكشف عن حالهم ، فإذا الأوّل ابن حجّام فإنّ الناس تأتيه صاغرة فيأخذ من مالها اُجرة ومن دمها بالحجامة ، والثاني ابن قوّال لا تنزل قدره عن النار ولا يزال الناس يقصدونه ، والثالث ابن حائك يخوض مشطه صفوف الشقّة ولا تزال رجلاه وقت العمل في الآلة تحرّك النول ، فعجب الأمير من فصاحتهم وقال لجلسائه علّموا أولادكم الأدب ، فلولا الفصاحة لضُربت أعناقهم . ثمّ أنشد :
كن ابن من شئت واكتسب أدباً *** يغنيك مضمونه عن النسبِ
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
وهذه الأجوبة التي نطقوا بها لو كانت نثراً ، لما كان لها شيء من الطلاوة ولا لطفت فيها الكناية .
ومن فوائد الشعر القديمة أنّ كثيرين من الناس كانوا يتّخذونه حرفة يعيشون بها ، فلا يقصدون أحداً من الشرفاء بمديح إلاّ نالوا منه جائزة كافية ، وكان الشرفاء يستعيبون أن يعطوا الشاعر دون ما يرون من استحقاقه ، ولا سيّما إذا كانوا ممّن يعرف بالكرم . حكي عن ابن دارة أ نّه دخل علي عديّ بن حاتم الطائي ممتدحاً ، فقال عدي اصبر حتّى آتيك بمالي فامدحني على قدره ، فإنّي أكره أن اُعطيك دون ما تستحقّ إذا كان مدحك أكثر من مالي . وكانوا يحرصون على الانتباه إلى كلّ معنى من قصيدة الشاعر لعلّه يلوم بغرض أو نكتة تجب معرفتها أو يكون هو قاصداً لها . حكي أنّ المتنبّي لمّا مدح سيف الدولة بقصيدته اللامية التي مطلعها : أجاب دمعي وما الداعي سوى طللِ . ناوله نسختها وخرج فتأمّلها سيف الدولة فلمّا انتهى إلى قوله :
أقل أنل اقطع احمل علّ سلّ أعد *** زد هشّ بشّ تضلّ ادنِ سرّ صل
وقع له تحت كلّ كلمة بالإجابة إلى ما يراد منها ولو أتينا بشواهد مستوفية في هذا الباب لاقتضى ذلك مجلّداً كاملا ، لأنّ الحكايات في ذلك أكثر من أن تحصى ، لكن ما يستحسن ذكره هنا أنّ الأعشى الأكبر كان يأتي سوق عكاظ في كلّ سنة فيتجاذبه الناس في الطريق للضيافة طمعاً في مدحه إيّاهم بعكاظ ، فمرّ يوماً ببني كلاب وكان فيهم رجل يقال له المحلق فقير الحال ضيّق المعاش وله ثماني بنات لا يخطبهنّ أحد لمكان أبيهنّ من الفقر وخمول الذكر ، فقالت له امرأته ما يمنعك عن التعرّض لهذا الشاعر وإكرامه ، فما رأيت أحداً أكرمه إلاّ وأكسبه خيراً ، فقال ويحكِ ما عندي إلاّ ناقتي فقالت يخلفها الله عليك ، فتلقّاه قبل أن يسبق أحدٌ إليه من الناس ، وكان الأعشى كفيفاً يقوده ابنه ، فأخذ المحلق بخطام الناقة فقال الأعشى من هذا الذي غلبنا على الخطام فقال فتىً شريف كريم ثمّ أتى به منزله وأكرمه ونحر الناقة ، وجعلت البنات يدرن حوله ويبالغن في خدمته فقال ما هذه الجواري حولي فقال المحلق بنات أخيك وهنّ ثمان نصيبهنّ قليل ، فقال الأعشى هل لك حاجة فقال تشيد بذكري فلعلّي اُشهر فتخطب بناتي فنهض الأعشى من عنده ولم يقل شيئاً ، فلمّا وافى سوق عكاظ وجد الناس قد اجتمعوا فأنشد قصيدته القافية التي مدحه بها ومن جملتها يقول :
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرة *** إلى ضوء نار بالبقاع يحرّق
تشبّ لمقرورين يصطليانها *** وبات على النار الندى والمحلق
فاشتهرت القصيدة ولم تمضِ على المحلق سنة حتّى زوّج بناته ويسرت حاله .
وأمّا تأريخ الشعر فقديم العهد جدّاً فهو مصاحب لتاريخ اللغات ، ويظهر أ نّه نما ونجح قبل النثر ، كما يستدلّ من آثار الاُمم القديمة كالهنود والفرس واليونان . أمّا الشعر العربي فقد اختلفوا في أوّل من قاله فقيل عاد وقيل ثمود وقيل حمير وقيل ربيعة وقيل مضر وقيل إنّ شعر أيوب كان عربياً فنقله موسى إلى العبرانية وتوجد أشعار من قبيلة عمليق ابن اليفاز بن عيسو الجدّ الخامس لأيوب التي منها جديس وطسم من قبائل العرب البائدة .
ثمّ لمّا كثرت العرب وتفرّقت وتشعّبت واختلفت لغتهم ، فصار أهل هذا الإقليم لا يكادون يفهمون لغة أهل الآخر ، وكان أشدّ الخلاف بين أهل نجد والحجاز وأهل اليمن الحميريين ، وكانوا كلّهم مولعين بقول الشعر وأرادوا أن تبقى الاتصالية في الأخبار والأحوال بين قبائلهم على اختلافها ولم يكن لهم كتب يدوّنون فيها الوقائع بحيث يفهمها الجميع ، فأجمع الشعراء على أن ينظموا شعرهم بألفاظ فصيحة مشهورة شائعة بين كلّ القبائل ، وبذلك اشتركت ألفاظ اللغة العربية وشاعت بمنطوق واحد وتقرّرت بين الجميع .
ثمّ كانوا يجتمعون في خيامهم وتحت قبابهم يتناشدون الأشعار ويتفنّنون بها ، فيجدون لها حلاوة ورونقاً لانتظام مبانيها وتوقيع تقاطيعها على النغمات ، فكانوا يتناقلونها ويتداولونها ويحرصون على حفظها بلفظها كما قالها قائلها ، لا يغيّرون شيئاً من ذلك ولو كان خطأ ، فكان هو قاعدة لغتهم ومقياسها وميزان ضوابطها ، حتّى صار العلماء المصنّفون يستشهدون به في تآليفهم ، ثمّ جعلوا لهم مجتمعاً عمومياً في قرية بين نخلة والطائف تعرف بعكاظ ، فكان ذلك موسماً لهم يأتونه نوياً وعرف بسوق عكاظ ، واشتهر مربد البصرة في الإسلام أيضاً . ولم يكن للشعر في الجاهلية ولا أوائل الإسلام قواعد مكتوبة ، بل كانوا ينظمونه طبعاً فيجيء موزوناً صحيحاً . وعلى اختلاف الموازين التي نطقوا بها وضع الخليل بن أحمد كتابه في العروض إبقاءً لاُصوله وحرصاً على مبانيه وتعلّمه ، بعد ضعف تلك الملكة باختلاط العرب بالاُمم الأجنبية ، وقد شبّه الخليل بيت الشِّعر ببيت الشَّعر ، فجعله مصراعين كبيت الشعر ، وجعل له أسباباً وهي الحبال ، وأوتاداً تمدّ بها الحبال ، وفواصل وهي حبال طويلة يضرب منها حبل أمام البيت وحبل وراءه ، قال المعرّي :
فالحسن يظهر في البيتين رونقه *** ببيت من الشعر أو بيت من الشَعرِ
وقال الأفوه الأودي :
والبيت لا يبتنى إلاّ بأعمدة *** ولا عمودٌ إذا لم ترسُ أوتادُ
فإن تجمع أسبابٌ وأعمدةٌ *** وساكنٌ بلغ الأمر الذي رادوا
وقد ذهب البعض أنّ القافية لم تكن ملتزمة أوّلا ، وأ نّه لم يسمع للعرب بسبعة أبيات على قافية واحدة قبل امرئ القيس ، وإنّما كانوا ينظمونه موزوناً لكلّ بيتين أو ثلاثة قافية ، فالتزم امرؤ القيس القافية في كلّ القصيدة ، غير أنّ هذا القول غير سديد لأنّ العرب لم تقل أبياتاً لمعنى واحد أو واقعة واحدة إلاّ على قافية واحدة ، ولا بدّ أ نّهم كانوا ينظمون أكثر من عشرة أبيات معاً ، لكنّ امرئ القيس كان أوّل من لطّف المعاني ، وفرّق ما بين النسيب وما سواه من القصيد هكذا قال بعضهم ، وقيل أوّل من قصد القصائد وقال الغزل في العرب المهلهل بن ربيعة أخو كليب ، وهو خال امرئ القيس ، فيكون قبله وقلب بالمهلهل لأ نّه أوّل من هلهل العر وقصد القصائد وذلك قبل الهجرة بقرن أو أكثر ، ولكن في رواية أنّ المهلهل كان اسمه امرؤ القيس وإن كان المشهور أنّ اسمه عدي ، فلعلّ هذا ما أوقع الشبهة في هذا المعنى . وأمّا لطافة الشعر العربي ودقّة معانيه وسلاسة مبانيه ومحاسن أساليبه ، فتعرف من فنّ البديع الذي وضع في الأكثر لأجله ، فإنّه كلّما ابتعد عن الحقيقة ودخل في سبيل المجاز وحسن التعليل ، كان ألطف ، وكلّما بولغ فيه مدحاً أو ذمّاً أو غزلا أو غير ذلك ، كان هو الغاية ، ومنه المثل : أعذبه أكذبه . قال دعبل لم يكذب أحد قط إلاّ عابه الناس إلاّ الشاعر ، فإنّه كلّما زاد كذبه زاد المدح له ، ثمّ لا يقنع له بذلك حتّى يقال له أحسنت والله فلا يشهد له شهادة زور إلاّ ومعها يمين ، ولذلك لا تكون معاني الشعر دليلا على صحّة ما تصوّرت لأجله ، لما يكون فيها من المبالغة حتّى تخرج عن الحدود قال بعضهم :
لا تحسبن الشعر فضلا بارعاً *** ما الشعر إلاّ محنةٌ ووبالُ
فالهجو قذف والرثاء مناحة *** والعتب ذلّ والمديح سؤالُ
وربما كان هذا هو الذي دعا النبي إلى كره الشعر ، وقال عن امرئ القيس إنّه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار ، قيل أراد شعراء الجاهلية ومن نسج على منوالهم من شعر لا يفيد ديناً ولا أدباً ولا علماً ، ولقد أحسن من قال فصدق ، وفصل الخطاب بالنظر إلى الحقائق لا إلى قصد الطلاوة :
الشعر ريحان النفوس وإنّما *** ريحان روضته الصحيح الجيّد
وأمّا شعر الإفرنج ، فقيل : أوّل من نظمه من اليونان رجل يقال له هيودوروس في القرن العاشر ق . م ثمّ قام أوميروس بعده بنحو 40 سنة ففاق شعره كلّ شعر اليونان سابقاً ولاحقاً . وقد كان يراد بنظم الشعر أوّلا إظهار الحاسات الدينية والأعمال الحربية والحماسة وذكر أخبار الاُمم والحبّ ونحو ذلك ، ثمّ تخطّوا فيه إلى الهزل والمجون والهجو ونحو ذلك ، فقام في عهد سولون أي في أواخر القرن السابع ق . م شاعر يوناني اخترع فنّ القصائد اللعبية المسمّاة دراما ، وهي قصائد هزلية قصد بها شحذ القريحة . وفي القرن الأوّل ق . م ظهر الشاعر ايسيودس وهو أوّل يوناني نظم في علم الزراعة ، ثمّ اشتهر من اليونان جماعة نظموا في أبواب شتّى ومقاصد مختلفة ، كالأغاني والأشعار الرعائية والهجو والحكم وما شاكل ، فأخذ عنهم الرومان هذه الفنون وحسّنوها وبالغوا في تنقيحها وكان أوّل من اشتهر منهم فرجيليوس توفّي سنة 19 للميلاد واشتهر بعده استاثيوس بقصائد ظريفة في عصر دوميتانوس . ولمّا انتشرت الديانة المسيحية في أيام الامبراطورية ظهر كثير من الشعراء المجيدين ، وكان آخر الشعراء الوثنيين في ذلك العصر كلوديانوس أتى رومية من الاسكندرية لمقاومة الإنجيل ، فلمّا انقسمت الامبراطورية إلى شرقية وغربية واكتسح البرابرة أقاليم الغربية ، تلاشى الشعر بانحطاط العلوم ، وانحطّ أيضاً في الشرقية بسيادة الديانة المسيحية لالتهاء الناس عنه في هذا المعنى ، وقام غريغوريوس النزبنزي حينئذ فنظم قواعد الدين في أشعار نفيسة باللاتينية ، وظهر أيضاً من الشعراء نونوس الأخميمي المصري وكنتوس الأزميري الذي كمل إيلياذة اوميروس إلى زمن أخذ مدينة صور ، واشتهر جماعة آخرون غير هؤلاء واشتهر في عهد يوستنيانوس المؤرخ اغسياس ، وكان مولعاً بحفظ الشعر حريصاً عليه ، فجمع منه شيئاً كثيراً في مجموع سمّاه بالدائرة ، يشتمل على ترسّل وتاريخ ووصف ورثاء وحكم وهجو وغزل وغير ذلك ، فأخذ هذا المجموع كيفلاس وبلندوس ونسجا على منواله ، ولم يزل مجموعاهما بيد الإفرنج إلى الآن . ولمّا تفرّغ الأوربيون للآداب والفلسفة بعد الحروب الصليبية ، اشتغلوا بالشعر قبل الفلسفة ، فبرعوا فيه لشدّة تصوّرهم وأحسنوا سبكه ونسجوا على منوال أوميروس وإيسيودس ، فكان للشعراء مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة عند الملوك والاُمراء ، واشتهرت مدن بروفنسة بفرنسا وقطلونيا في أسبانيا وسودية من النمسا ، وكان بها أسواق يجتمع إليها الشعراء كما كان عند العرب في عكاظ والمربد وغيرهما .
وكان الشعر شائعاً كثيراً في إيطاليا ، ينظمون الأغاني والقصائد الكبيرة ، فظهر في القرن السادس شعر اربوستو وتاسو وكانا من أشهر الشعراء ، وأوّل من اشتهر باستعمال اللغة الإيطالية الحالية . وأمّا الاسبانيول فكانوا ينظمون القصائد عن ذوق العموم مدّة طويلة ، وقد نظموا وقائع الحروب ولا سيّما أخبار العرب وعجائب السحر واُصول الإنشاء وتاريخ القدماء ، ونظموا الكتب المقدّسة للترتيل ، واشتهر بينهم لويس وفيف وكالدرون ، فأظهرا من التراكيب الشعرية الطرق المستحسنة التي ألفوها في التياترات ، وكان الفلاحون في الدانمرك أيضاً يلتهون بنظم الشعر في ليالي الشتاء وهم ينفشون الصّوف . وكان الصقالية أيضاً حتّى نساؤهم ينظمون الشعر . وكان في روسيا جماعة مخصوصون للترنّم على رأس الشرفاء عند النوم ، فكانوا يتفنّنون بالأشعار والطرف ولمّا أدخل بطرس الأكبر التياترو ألفت الأميرة نثاليا روايات تياترية من نوع التراجيدية ( المآسي ) فكانت أشبه بما ألفه الشاعر شكسبير الإنكليزي ، وشكسبير هذا هو أشهر شاعر إنكليزي لم يقم نظيره حتّى الآن ، وكان في القرن الخامس عشر ، ثمّ ظهر في القرن السابع عشر الشاعر المشهور بوب مترجم إيلياذة أوميروس نظماً ، وأمّا في فرنسا فظهر في القرن الخامس عشر أوكتافيان فترجم قصيدتي أوميروس والشاعر ديلون وهو أوّل من اخترع نظم الحكايات القديمة ، ولكن أشهر الشعراء الفرنساويين ، كانوا منذ القرن السابع عشر ، فكان لقصائدهم مواقع مؤثّرة جدّاً . وأمّا فنون الشعر عند الإفرنج فكثيرة وميزانه مختلف عن الميزان العربي ، وذوقهم فيه مخالف لذوق العرب من بعض أوجه تتعلّق بالمعاني على الخصوص ، ولا سيّما في الغزل ، فإنّهم يكرهون ويستعيبون التغزّل بالغلمان ، وفي التشابيه والاستعارات فإنّهم يشبهون بأشياء تنكرها العرب ، كما أ نّهم ينكرون عليهم عدّة تشابيه ومجازات والاُسلوب اللفظي والقافية فإنّهم لا يستحسنون الجناس الذي هو زينة الشعر العربي ، ولا يلتزمون قافية واحدة في أكثر من بيتين يكون كلّ بيت منهما عبارة عن شطر من الشعر العربي . وميزانهم يدخل في عدّة أبحر منها قصير ومنها طويل ومنها مختلف ومنها متّفق الأبيات على سبيل الموشّحات العربية المختلفة الوزن ، وهم يزنون بالأصوات لا بالتفاعيل ، وأشهر وزن عندهم وأكثره استعمالا ولا سيّما في الاُمور المهمّة أو الرسمية ما يعرف بالاسكندري ، نسبة إلى الكسندر دو برناي النورمندي المعروف بألكسندر الباريزي الذي نشأ في القرن الثاني عشر وسلك هذا المسلك في أشعاره . انتهى كلامه .
وجاء في دائرة المعارف الشيعية ( 5 : 88 ) :
الشعراء ـ بالضمّ ثمّ الفتح ـ جمع الشاعر ، يقال : شاعر لفطنته وعمله وحذاقته ، وهو الذي غلب على منظوم القول بالوزن والقوافي ، والشعر هو النظم الموزون ، وحدّه أن يركب تركيباً متعاضداً ، وما ورد في الكتاب والسنّة موزوناً بشعر ، وبعبارة اُخرى الشعر كلام موزون مقفّى ، يصدر من شخص عن قصد . اعلم بأنّ محاسن أصناف الأدب كثيرة ، ونكتها قليلة ، وأنوار الأقاويل موجودة وثمارها غزيرة ، وأجسام النثر والنظم جمّة ، وأرواحهما نزرة ، وقشورهما معرضة ، ولبوبهما معوزة ، ولمّا كان الشعر عمدة الأدب ، وعلم العرب الذي اختصّت به عن سائر الاُمم ، وبلسانهم جاء كتاب الله المنزل على النبيّ المرسل صلوات الله عليه وآله ، كانت أشعار المتقدّمين أرقّ من أشعار الجاهلين ، وأشعار المحدثين ألطف من أشعار المتقدّمين ، وأشعار المولّدين أبدع من أشعار المحدثين ، وكانت أشعار العصريين أجمع لنوادر المحاسن ; وأنظم للطائف البدائع من أشعار سائر المذكورين لانتهائها إلى أبعد غايات الحسن ، وبلوغها أقصى نهايات الجودة والظرف ، تكاد تخرج من باب الإعجاب إلى الإعجاز ، ومن حدّ الشعر إلى السحر ، فكأنّ الزمان ادّخر لنا من نتائج خواطرهم ، وثمارات قرائحهم ، وأبكار أفكارهم أتمّ الألفاظ والمعاني استيفاءً لأقسام البراعة ، وأوفرها نصيباً في كمال الصنعة ، ورونق الطلاوة قال الشاعر :
ولذاك قد ساد النبيّ محمّد *** كلّ الأنام وكان آخر مرسلِ
وقد سبق مؤلّفو الكتب إلى ترتيب المتقدّمين من الشعراء والمتأخّرين ، وذكر طبقاتهم ومراتبهم ، وتدوين كلماتهم ، والانتخاب من قصائدهم ومقطوعاتهم ، فكم من كتاب فاخر عملوه ، وعقد باهر نظموه ، وحلاوة قرب العهد وازدياد الجودة على كثرة النقد غير محصورة بكتاب يضمّ نشرها ، وينظم شذرها ، ويشدّ أزرها ، ولا مجموعة في مصنّف يقيّد شواردها ، ويخلّد فوائدها ، قال الشاعر :
هذي رياض كلّها زهور *** وجيد حسن درّه منثور
مستنكفاً من حسنه حلي الدرر *** ومعجباً بورده لمن نظر
وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب التصحيف : أنّ رجلا كان يضع الأخبار على الاُمم الماضية ثمود ومدين وطسم وجديس ، وقال : في لسان العرب طسم حي من العرب انقرضوا ، وفي حديث مكّة وسكّانها : طسم وجديس هما قومان من أهل الزمان الأوّل فكان إذا احتاج إلى شعر يؤدّيه ما وضعه خرج إلى الأعراب ، فمن وجده منهم يقول الشعر حمله وأضافه وزوّده ، وسأله أن يعمل شعراً على لسان من يريد .
وقال الجاحظ في البيان : الشعراء أربع طبقات ، أوّلهم الفحل ، والخنذيذ وهو التام ودونه الفلق ودونه الشاعر فقط ، والرابع الشعرور . وكان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول ويسمّون تلك القصائد الحوليات والمنقّحات والمحكمات ، يصير قائلها فحلا خنذيذاً وشاعراً مفلقاً ، وقيل : هم ثلاث طبقات ، الشاعر وشويعر وشعرور وقيل : الشعراء أربعة فخر ، ومدح ، وهجاء ، وتشبيب .
وقال الزمخشري في ربيع الأبرار باب 83 في ذكر مجوزات الشعر : ضرورة الشعر عشر من جملتها ، وصل ، وقطع ، وتخفيف ، وتشديد ، ومدّ ، وقصر ، وإسكان ، وتحريك ، ومنع صرف ، ثمّ تعديد ، وقيل بالفارسية :
ضرورتهاى شعر از ده فزون نيست *** چو وصل و قطع و تخفيف است و تشديد
دگر مد است و قصر اسكان و تحريك *** چو منع صرف و صرف از روى تعديد
وروي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « الشعر جزل من الكلام يشفى به الغيظ ، ويوصل به إلى المجلس ، وتقضي به الحاجة » . وقال الخليل : الشعراء اُمراء الكلام يصرفونه أنّى شاؤوا ، جاز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم في إطلاق المعنى وتقييده ، وفي تسهيل اللفظ وتعقيده ، ومدّ مقصوره وقصر ممدوده ، والجمع بين لغاته والترصيف بين صلاته واستخراج ما كلّت الألسان عن نعته والأذهان عن فهمه ، يبعدون القريب ويقرّبون البعيد ، يحتجّ بهم ولا يحتجّ عليهم ، وقيل : علّموا محاسن الشعر فإنّه يدلّ على محاسن الأخلاق . قال الشاعر :
أقام على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهديه *** حواريه والقول بالفعل يعدل
وفي سفينة البحار ج 1 ص 703 قال المأمون للرضا (عليه السلام) : هل رويت من الشعر شيئاً ؟ فقال : رويت منه الكثير ، فقال : أنشدني أحسن ما رويته في الحلم فقال :
إذا كان دوني من بليت بجهله *** أبيت لنفسي أن نقابل بالجهلِ
وإن كان مثلي في محلٍّ من النهى *** أخذت بحملي كي أجلّ عن المثلِ
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى *** عرفت له حقّ التقدّم والفضلِ
أقول : وما ورد النهي من إنشاد الشعر في الجمعة والمساجد محمول على الكراهة ـ والنهي التنزيهي ـ ، أو الأشعار اللهويات واللغويات والأباطيل ، كما ذكره في السفينة أيضاً الصفحة 600 . وعن الشهيد (رحمه الله) قال : في الذكر وليس ببعيد حمل إباحة إنشاد الشعر على ما يقلّ منه وتكثر منفعته كبيت حكمة ، أو شاهد على لغة في كتاب الله أو سنّة نبيّه وشبهها ، لأ نّه من المعلوم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينشد بين يديه البيت والأبيات من الشعر ولم ينكر ذلك ، وألحق به بعضهم مدح النبيّ والأئمة (عليهم السلام) .
( في بحور العروض الستّة عشر لصفيّ الدين الحلّي ) :
الطويل :
طويل له دون البحور فضائل *** فعولن مفاعيلن فعولن مفاعل
المديد :
لمديد الشعر عندي صفات *** فاعلاتن فاعلن فاعلات
البسيط :
إنّ البسيط لديه يبسط الأمل *** مستفعلن فاعلن مستفعلن فعل
الوافر :
بحور الشعر وافرها جميل *** مفاعلتن مفاعلتن فعول
الكامل :
كمل الجمال من البحور الكامل *** مفتعلن متفاعلن متفاعل
الهزج :
على الأهزاج تسهيل *** مفاعلين مفاعلين
الرجز :
في أبحر الأرجاز بحر يسهل *** مستفعلن مستفعلين مستفعل
الرمل :
رمل الأبحر ترويه الثقات *** فاعلاتن فاعلاتن فاعلات
السريع :
بحر سريع ما له ساحل *** مستفعلن مستفعلن فاعل
المتسرّع :
مسترح فيه يضرب المثل *** مستفعلن مفعولات مستفعل
الخفيف :
يا خفيفاً خفت به الحركات *** فاعلاتن مستفعلن فاعلات
المضارع :
تعد المضارعات *** مفاعلين فاعلات
المقتضب :
اقتضب كما سألوا *** فاعلات مفتعل
المجتثّ :
إن اجتثت الحركات *** مستفعلن فاعلات
المتقارب :
عن المتقارب قال الخليل *** فعولن فعولن فعولن
المحدث :
حركات المحدث تنتقل *** فعلن فعلن فعلن فعل
وله :
فيما قيّد به حدود القوافي الخمس *** حصر القوافي في الحدود خمسة
( فاحفظ على الترتيب ما أنا واصف ) :
متكاوس متراكب متدارك *** متواتر من بعده المترادف
( وله فيما قيّد به حركاتها الستّ على الترتيب ) :
إنّ القوافي عندنا حركاتها *** ستّ على نسق بهنّ يراد
رسّ وإشباع وحذو ثمّ تو *** جيه ومجرى بعده ونفاد
( وله ) :
فيما قيّد به حروفها الست *** تجري القوافي في الحروف ستّة
كالشمس تجري في علوّ بروجها
تأسيسها ودخيلها مع ردفها *** ورويها مع وصلها وخروجها
( في تقييد زحاف الشعر الثمانية ) :
زحاف الشعر قبض ثمّ لفّ *** بهن الأحرف الاُخرى تغصّ
وخين ثمّ طي ثمّ عصب *** وعقل ثمّ إضمار وقصّ
وسائر ما عدا علل طواري *** لها في الشعر أمكنة تخصّ
وقال السيوطي في الكنز الصفحة 109 : قيل لأعرابي : من أشعر الناس ؟ قال : الذي إذا قال أسرع ، وإذا أسرع أبدع ، وإذا تكلّم أسمع ، وإذا هجا وضع ، وإذا مدح رفع ، ومن أراد التفصيل في الشعر والشعراء فعليه بالكتب المدوّنة في هذا الشأن كيتيمة الدهر وغيره .
هذه نماذج ممّا ورد في الشعر والشعراء في كتب اللغة والمنطق ودوائر المعارف ، فإنّه غيض من فيض ، ذكرناه لتعميم الفائدة .
[1] المنطق 3 : 453 .
[2] فنّ الشعر; تحقيق عبد الرحمن بدوي: 149.
[3] فنّ الشعر : بعد الصفحة 56 .
[4] الشفاء ، المنطق 9 : 11 .
[5] دائرة المعارف تأليف بطرس البستاني 10 : 474 .