اللمحة  الرابعة - الشعر  والشعراء  في  القرآن  الكريم

لقد ورد كلمة الشعر ومشتقّاتها في القرآن الكريم في ( 40 ) موضعاً ، إلاّ أ نّه تارة بمعنى الشعور كما في كثير من مواضعه كما في قوله تعالى :

(بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ)[1] .

واُخرى اسم لنجم كما في قوله تعالى :

(وَأ نَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى)[2] .

وبلفظ الشعائر كما في قوله تعالى :

(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ)[3] .

واسم للمشعر الحرام كما في قوله تعالى :

(فَإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ)[4] .

وبمعنى الشَعر كما في قوله تعالى :

(وَمِنْ أصْوَافِهَا وَأوْبَارِهَا وَأشْعَارِهَا أثَاثاً وَمَتَاعاً إلَى حِين)[5] .

وأمّا بمعنى الشعر والشاعر والشعراء ، فالشعر في قوله تعالى :

(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَـنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)[6] .

والشاعر في قوله تعالى :

(بَلْ قَالُوا أضْغَاثُ أحْلام بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ)[7] .

(وَيَـقُولُونَ أإنَّا لَـتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِر مَجْنُون)[8] .

(أمْ يَـقُولُونَ شَاعِرٌ نَـتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَـنُونِ)[9] .

(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ)[10] .

والشعراء في قوله تعالى :

(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ)[11] .

أجل من سور القرآن الكريم سورة الشعراء وهي مكّية ( مائتان وسبع وعشرون آية ) والغرض منها تسلية النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) قبال ما كذّبه قومه وكذّبوا بكتابه النازل عليه من ربّه ، وقد رموه تارةً بأ نّه مجنون واُخرى بأ نّه شاعر ، وفيها تهديدهم مشفعاً ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء وهم موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب (عليهم السلام) ، وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلّى به نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولا يحزن بتكذيب أكثر قومه وليعتبر المكذّبون[12] .

كما أنّ الموضوع الرئيسي في هذه السورة بيان العقائد من توحيد الله والخوف من الآخرة والتصديق بالوحي المنزل على رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله)والتخويف من عاقبة التكذيب في الدنيا والآخرة ، كما فيه تسلية الرسول وتعزيته عن تذكيب المشركين له وللقرآن من خلال قصص الأنبياء الماضين (عليهم السلام) .

وأمّا في خصوص آية الشعراء في قوله تعالى :

(هَلْ اُ نَبِّـؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أ لَمْ تَرَ أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ * وَأ نَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ)[13] .

ففي هذه الآيات الشريفة إشارة إلى عظمة القرآن الكريم ، وأ نّه تنزيل من الله جلّ جلاله . فإنّه في الآيات السابقة أكّد أ نّه تنزيل من ربّ العالمين نزل به الروح الأمين ، ثمّ نفى أن تنزل به الشياطين ، وفي هذه الآيات إشارة إلى بيان حقيقة لا تنكر بأنّ الشياطين لا تنزل على مثل النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) في عصمته وصدقه وأمانته واستقامة دينه ومنهجه ، إنّما تنزل على كلّ كذّاب آثم ضالّ من الكهانة الذين يتلقّون إيحاءات الشياطين ، ولا يدعون إلى هدى ولا يأمرون بالتقوى .

ثمّ كانوا يقولون على القرآن تارةً أ نّه شعر ، كما أنّ النبيّ شاعر مجنون ، إلاّ أ نّهم لا يعرفون كيف لهذا القرآن يدخل في القلوب ويهزّ المشاعر ويزيد في العزائم والاستقامة والجهاد ، فبيّن لهم القرآن ذلك بأ نّه ليس منهجه منهج الشعر والشعراء ، فإنّهم اُسراء الانفعالات والعواطف المتغيّرة حتّى يرون القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، أو يرون الأبيض أسوداً وفي لحظة اُخرى ذلك الأسود أبيضاً فليس لهم حال ثابت ، بل يعيشون الأوهام والخيالات والكذب حتّى صار الشعر ( أعذبه أكذبه ) فلا يرون الواقع ، وهذا بخلاف رسالة النبيّ والأنبياء فإنّهم لا يرضون بالوهم والخيال بل هدفهم الواقع والحقيقة ، فيختلف منهج الأنبياء عن منهج الشعراء كما هو واضح ، فإنّ الشعراء يتّبعون الهوى ومن ثمّ يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى ، وهم يهيمون في كلّ واد تبعاً لأهوائهم وملاذهم وشهواتهم ، وهم يقولون ما لا يفعلون ، فإنّهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم الموهومة التي لا واقع لها ، وطبيعة الإسلام لا تلائمها طبيعة الشعراء ، فإنّ الإسلام يعيش الواقع وحقائقه .

« ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفنّ لذاته ـ كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ ـ إنّما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفنّ ، منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ، ومنهج الأحلام الموهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها . فأمّا حين تستقرّ الروح على منهج الإسلام ، وتتّضح بتأثّراتها الإسلامية شعراً وفنّاً ، وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ، ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها ، وتدع واقع الحياة كما هو مشوّهاً متخلّفاً قبيحاً ! وأمّا حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية ، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام في ضوء الإسلام ثمّ تعبّر عن هذا كلّه شعراً وفنّاً .

فأمّا عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفنّ ، كما يفهم من ظاهر الألفاظ .

وقد وجّه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون ، وإلى خفايا النفس البشرية وهذه وتلك هي مادة الشعر والفنّ . وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قطّ في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال .

ومن ثمّ يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العامّ للشعراء :

(إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)[14] .

فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العامّ . هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة واستقامت حياتهم على منهج . وعملوا الصالحات فاتّجهت طاقاتهم إلى العمل الخيّر الجميل ، ولم يكتفوا بالتصوّرات والأحلام ، وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقاتهم ليصلوا إلى نصرة الحقّ الذي اعتنقوه ...

والصور التي يتحقّق بها الشعر الإسلامي والفنّ الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها ، وحسب الشعر أو الفنّ أن ينبع من تصوّر إسلامي للحياة في أيّ جانب من جوانبها ، ليكون شعراً أو فنّاً يرضاه الإسلام .

وليس من الضروري أن يكون دفاعاً ولا دفعاً ، ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيداً له أو لأيام الإسلام ورجاله ... ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعراً إسلامياً ، وإنّ نظرة سريان الليل وتنفّس الصبح ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسّه ، لهي الشعر الإسلامي في صميمه ، وإنّ لحظة إشراق واتّصال بالله ، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله لكفيلة أن تنشئ شعراً يرضاه الإسلام . ومفرق الطريق بين الشعر الإسلامي وغيره ، أنّ للإسلام تصوّراً خاصّاً للحياة كلّها وللعلاقات والروابط فيها تربط الإنسان بالله سبحانه ، فأ يّما شعر نشأ من هذا التصوّر فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام » .

قال العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في تفسيره ذيل الآية الشريفة : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ)[15] جواب عن رمي المشركين للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بأ نّه شاعر ، نبّه عليه بعد الجواب عن قولهم إنّ له شيطاناً يوحي إليه القرآن . وهذان أعني قولهم : إنّ من الجنّ من يأتيه ، وقولهم : إنّه لشاعر ، ممّا كانوا يكرّرونه في ألسنتهم بمكّة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقّة ، وهذا ممّا يؤيّد نزول هذه الآيات بمكّة خلافاً لما قيل إنّها نزلت بالمدينة ...

وكيف كان فالغيّ خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع ، فالرشيد هو الذي لا يهتمّ إلاّ بما هو حقّ واقع ، والغويّ هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الجنّة ، والغواية ممّا يختصّ به صناعة الشعر المبنيّة على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ، ولذلك لا يهتمّ به إلاّ الغوي المشغوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحقّ الصارفة عن الرشد ، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغيّ والغواية إلاّ الغاوون وذلك قوله تعالى : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ) .

وقوله : (أ لَمْ تَرَ أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ * وَأ نَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ)[16] يقال : هام يهيم هيماناً إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كلّ واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حدّ فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحقّ المحمود ، وربما هجوا الجميل كما يهجي القبيح الذميم ، وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحقّ وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الإنسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحقّ ، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة .

وملخّص حجّة الآيات الثلاثة أ نّه (صلى الله عليه وآله) ليس بشاعر لأنّ الشعراء يتبعهم الغاوون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد ، لكن الذين يتبعونه إنّما يتبعونه ابتغاء الرشد وإصابة الواقع وطلباً للحقّ ، لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة إلى الحقّ والرشد دون الباطل والغيّ .

قوله تعالى : (إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً)[17] ، استثناء من الشعراء المذمومين والمستثنون هم شعراء المؤمنين ، فإنّ الإيمان وصالحات الأعمال تردع الإنسان بالطبع عن ترك الحقّ واتباع الباطل ، ثمّ الذكر الكثير لله سبحانه يجعل الإنسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحقّ الذي يرتضيه
مدبراً على الباطل الذي لا يحبّ الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لاُولئك . وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالإيمان وعمل الصالحات ، ثمّ عطف قوله : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) على ذلك .

وقوله : (وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)[18] ، الانتصار الانتقام ، قيل : المراد به ردّ الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الإسلام والمسلمين وهو حسن يؤيّده المقام[19] .

وفي بحثه الروائي قال : وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ عرض شاعر ينشد ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً .

أقول : وهو مروي من طرق الشيعة أيضاً عن الصادق (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله) .

وفى تفسير القمّي قال : يعظون الناس ولا يتّعظون ، وينهون عن المنكر ولا ينتهون ، ويأمرون بالمعروف ولا يعملون ، وهم الذي قال الله فيهم : (أ لَمْ تَرَ أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ)[20] أي في كلّ مذهب يذهبون (وَأ نَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) وهم الذين غصبوا آل محمّد حقّهم .

وفي اعتقادات الصدوق سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ)[21] ، قال : هم القصّاص .

أقول : هم من المصاديق والمعنى الجامع ما تقدّم في ذيل الآية .

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : إنّ من الشعر حكماً ، وإنّ من البيان لسحراً .

أقول : وروى الجملة الاُولى أيضاً عنه عن بريدة وابن عباس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)وأيضاً عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله) ولفظه : إنّ من الشعر حكمة ، والممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحقّ ولا تشمله الآية .

قال الطبرسي : وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لحسّان بن ثابت : اهجهم أو هاجهم وروح القدس معك ، رواه البخاري ومسلم في الصحيحين[22] .

قال العلاّمة في قوله تعالى : (بَلْ قَالُوا أضْغَاثُ أحْلام بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأتِنَا بِآيَة كَمَا اُرْسِلَ الأوَّلُونَ)[23] ، تدرّج منهم في الرمي والتكذيب ، فقولهم : أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤى غير منظّمة رآها فحسبها نبوّة وكتاباً فأمره أهون عن السحر ، وقولهم : (بَلِ افْتَرَاهُ) ترقٍّ من سابقه فإنّ كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الأمر واشتباهه عليه لكنّ الافتراء يستلزم التعمّد ، وقولهم : (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) ترقٍّ من سابقه من جهة اُخرى فإنّ المفتري إنّما يقول عن تروٍّ وتدبّر فيه ، لكن الشاعر إنّما يلفظ ما يتخيّله ويروم ما يزيّنه له إحساسه من غير تروٍّ وتدبّر ، فربما مدح القبيح على قبحه ، وربما ذمّ الجميل على جماله ، وربما أنكر الضروري وربما أصرّ على الباطل المحض ، وربما صدّق الكذب أو كذّب الصدق[24] .

وقال (قدس سره) في ذيل قوله تعالى : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَـنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلاَّ
ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)[25] ، عطف ورجوع إلى ما تقدّم في صدر السورة من تصديق رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وكون كتابه تنزيلا من عنده تعالى . فقوله : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ)نفي أن يكون علّمه الشعر ، ولازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه ويمتنع من قوله لنهي من الله متوجّه إليه ، ولا أنّ النازل من القرآن ليس بشعر وإن امكنه (صلى الله عليه وآله) أن يقوله . وبه يظهر أنّ قوله : (وَمَا يَـنْبَغِي لَهُ) في مقام الامتنان عليه بأ نّه نزّهه عن أن يقول شعراً ، فالجملة في مقام دفع الدخل ، والمحصّل أنّ عدم تعليمنا إيّاه الشعر ليس يوجب نقصاً فيه ولا أ نّه تعجيز له ، بل ربما لرفع درجته وتنزيه ساحته عمّا يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيّلات الشعرية الكاذبة التي كلّما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس ، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع ، فلا ينبغي له (صلى الله عليه وآله) أن يقول الشعر وهو رسول  من الله ، وآية رسالته ومتن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر وقرآن مبين .

وقوله : (إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) تفسير وتوضيح لقوله : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَـنْبَغِي لَهُ) بما أنّ لازم معناه أنّ القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من قوله : (إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ) الخ ، من قصر القلب والمعنى ليس هو بشعر ما هو إلاّ ذكر وقرآن مبين .

قوله تعالى : (لِـيُـنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ)[26] ، تعليل متعلّق بقوله : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) والمعنى ولم نعلّمه الشعر لينذر بالقرآن المنزّه من أن يكون شعراً من كان حيّاً ، أو متعلّق بقوله : (إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ)والمعنى ليس ما يتلوه على الناس إلاّ ذكراً وقرآناً مبيناً نزّلناه إليه لينذر من كان حيّاً ، ومآل الوجهين واحد ، والآية ـ كما ترى ـ تعدّ غاية إرسال الرسول وإنزال القرآن إنذار من كان حيّاً ـ وهو كناية عن كونه يعقل الحقّ ويسمعه ـ وحقّية القول ووجوبه على الكافرين ، فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر[27] .

قال فخر الرازي في تفسيره الكبير في ذيل الآية الشريفة : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ ...) اعلم أنّ الكفّار لمّا قالوا : لم لا يجوز أن يقال إنّ الشياطين تنزل بالقرآن على محمّد (صلى الله عليه وآله) كما أ نّهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ؟ ثمّ إنّه سبحانه فرّق بين محمّد (صلى الله عليه وآله) وبين الكهنة ، فذكر ها هنا ما يدلّ على الفرق بينه (عليه السلام) وبين الشعراء ، وذلك هو أنّ الشعراء يتبعهم الغاوون ، أي الضالّون ثمّ بيّن تلك الغواية بأمرين : الأوّل : (أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ) والمراد منه الطرق المختلفة كقولك : أنا في واد وأنت في واد ، وذلك لأ نّهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه وبالعكس ، وقد يعظّمونه بعد أن استحقروه وبالعكس ، وذلك يدلّ على أ نّهم لا يطلبون بشعرهم الحقّ ولا الصدق بخلاف أمر محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فإنّه من أوّل أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة ، والإعراض عن الدنيا . الثاني : (أ نَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) وذلك أيضاً من علامات الغواة ، فإنّهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه ، وينفرون عن البخل ويصرّون عليه ، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ، ثمّ إنّهم لا يرتكبون إلاّ الفواحش ، وذلك يدلّ على الغواية والضلالة . وأمّا محمّد (صلى الله عليه وآله) فإنّه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ)[28] ، ثمّ بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له : (وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)[29] ، وكلّ ذلك على خلاف طريقة الشعراء ، فقد ظهر بهذا الذي بيّنّاه أنّ حال محمّد (صلى الله عليه وآله) ما كان يشبه حال الشعراء ، ثمّ إنّ الله تعالى لمّا وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين باُمور أربعة :

أحدها : الإيمان ، وهو قوله : (إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) .

وثانيها : العمل الصالح ، وهو قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .

وثالثها : أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوّة ودعوة الخلق إلى الحقّ ، وهو قوله : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) .

ورابعها : أن لا يذكر ويهجو أحد إلاّ على سبيل الانتصار ممّن يهجوهم ، وهو قوله : (وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) ، قال الله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ)[30] ، ثمّ إنّ الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[31] ...

أقول : وزبدة المخاض أنّ الشعر في القرآن الكريم على نحوين : إمّا أن يكون حقّاً مطابقاً للواقع ، ويقصد به ما هو الواقع ، وإمّا أن يكون باطلا وكذباً يبتني على الأوهام والخيالات والأهواء ، وبهذا يلزم تصنيف الشعراء إلى صنفين : شعراء الحقّ وهم المؤمنون وينصبّ شعرهم في التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد والمواعظ والإرشاد ، فيكون الشاعر رسالياً وشعره حقّاً وعمله صالحاً ، وإنّ شعره يكون كالسيف في رقاب أعداء الله عزّ وجلّ ، وكالنبل والرماح في صدور الطغاة والجائرين وأهل البدع والباطل والانحراف والضلال . والصنف الآخر شعراء الباطل الذين يهيمون في كلّ واد ويقولون ما لا يفعلون ، يتبعون أهوائهم وشهواتهم الحيوانية ، فهم إخوان الشياطين ومن أهل الغواية ويتبعون الغاوون .

هذا ولا يخفى أنّ للقرآن الكريم تفسيراً وتأويلا ، والأوّل بمعنى كشف القناع عن ظواهر القرآن كما يفعله المفسّرون ، والثاني كشف القناع عن بواطنه كما يعلمه الراسخون في العلم . فالشعراء يتبعهم الغاوون ـ في ظاهر القرآن ـ هم ما تعارف عليه من أهل الشعر والأوزان والقوافي ، فمن لم يكن مؤمناً من الشعراء ، فإنّه يقول ما لا يفعل ، ويهيم في كلّ واد ـ كما هو شأن نزول الآية الشريفة ـ وأمّا في باطن القرآن فيراد من الشعراء أصحاب البدع والضلال من العلماء والفقهاء الذين لا يعملون بعلومهم ، فإنّ الناس إنّما يتبعون العلماء ، وهذا المعنى ورد في أحاديثنا الشريفة المرويّة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى : (وَالشُّعَرَاءُ ...) هل رأيت شاعراً يتبعه أحد ؟ إنّما هم قوم تفقّهوا لغير الدين فضلّوا وأضلّوا[32] .

قال الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً : هم قوم تعلّموا وتفقّهوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا[33] .

وعنه (عليه السلام) أيضاً : هم القصّاص ـ أي من يقول القصص الكاذبة ـ .

وفي حديث آخر : هم يشعرون قلوب الناس بالباطل ، وهم الذين غيّروا دين الله وخالفوا أمره ووضعوا ديناً بآرائهم فتبعهم الناس .

وقوله : (أ لَمْ تَرَ أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ) ، يعني يناظرون بالأباطيل ويجادلون بحجج المضلّين ، وفي كلّ واد مذهب يذهبون . وقوله : (وَأ نَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) ، يعني الذين يعظون الناس ولا يتّعظون ، وينهون عن المنكر ولا ينتهون ، يأمرون بالمعروف ولا يعملون ، ويقولون ما لا يعلمون ، وهم الذين غصبوا آل محمّد (عليهم السلام) حقّهم وحقّ شيعتهم ، وانتصروا من بعد ما ظلموا ، وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد حقّهم أيّ منقلب ينقلبون .

وأمّا من التفسير الظاهر فقد ورد عن ابن عباس قال : الذين يتبعهم الغاوون هم شعراء المشركين مثل أبي سفيان واُميّة بن أبي الصلت وعبد الله السهمي وهبيرة بن أبي وهب وغيرهم . وقيل : هم الذين غلبت عليهم الأشعار حتّى اشتغلوا بها عن القرآن والسنّة . وقيل : هم الذين إذا غضبوا سبّوا ، وإذا قالوا كذبوا ، غلب عليهم الغيّ والفسق ، ألم ترَ في كلّ واد يهيمون أي في كلّ فنّ من الكذب يتكلّمون ، وفي كلّ لغو يخوضون ، يمدحون ويذمّون بالباطل وغلب عليهم الهوى[34] .

وروي عن أبي الحسن مولى بني نوفل : إنّ عبد الله بن رواحة وحسّان بن ثابت أتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين نزلت الشعراء يبكيان وهو يقرأ : (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ) حتّى بلغ (إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) قال : أنتم ، (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) قال : أنتم ، (وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) قال : أنتم ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ) قال : الكفّار .

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : إيّاكم وملاحاة الشعراء فإنّهم يضنّون بالمدح ـ أي يبخلون ـ ويجودون بالهجاء ـ أي سرعان ما يهجون الآخرين عند اختلافهم معهم ـ .

هذه نبذة مختصرة عن الشعر والشعراء في القرآن الكريم .


[1] البقرة : 154 .

[2] النجم : 49 .

[3] الحجّ : 32 .

[4] البقرة : 198 .

[5] النحل : 80 .

[6] يس : 69 .

[7] الأنبياء : 5 .

[8] الصافّات : 36 .

[9] الطور : 30 .

[10] الحاقّة : 41 .

[11] الشعراء : 224 .

[12] تفسير الميزان 15 : 248 .

[13] الشعراء : 221 ـ 227 .

[14] الشعراء : 227 .

[15] الشعراء : 224 .

[16] الشعراء : 225 ـ 226 .

[17] الشعراء : 227 .

[18] الشعراء : 227 .

[19] الميزان 15 : 333 .

[20] الشعراء : 225 .

[21] الشعراء : 224 .

[22] الميزان 15 : 338 .

[23] الأنبياء : 5 .

[24] الميزان 14 : 252 .

[25] يس : 69 .

[26] يس : 70 .

[27] الميزان 17 : 108 .

[28] الشعراء : 213 .

[29] الشعراء : 214 .

[30] النساء : 148 .

[31] البقرة : 194 .

[32] ميزان الحكمة 2 : 1462 ، عن معاني الأخبار : 385 /19 .

[33] المصدر نفسه ، عن تفسير مجمع البيان 7 : 325 .

[34] دائرة المعارف الشيعية 5 : 83 .