رسالة من حياتي

السيد عادل العلوي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي وهب الحياة وخلق الممات ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيّد الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الهداة الميامين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين ، من الآن إلى قيام يوم الدين .

أمّا بعد :

فإنّ حياة العظماء والعباقرة والنوابغ تُعدّ مدارس العلم والأدب والثقافة والجهاد المستمرّ والنضال الدؤوب ، فإنّهم قد سطّروا بسيرتهم الطيّبة وسعيهم المتواصل وجهدهم الجهيد وسلوكهم البديع أروع دروس العمل الناجح والفكر الصائب ، وجعلوا من أيام حياتهم مشاعل وهّاجة وشموع مضيئة في دروب الفلاح والصلاح وخدمة الناس ، وبلغوا القمّة في العزّة والشرف لوطنهم ومجتمعهم ، وبذلوا النفس والنفيس ، وحرّموا على أنفسهم الراحة ، وسهروا الليالي من أجل معتقداتهم ومبادئهم وكسب العلوم والفنون بأجمل ملاحم البطولة والتضحية والفداء .

ومنهم من كتب عن حياته العلمية والعملية بقلمه ويراعه منذ البداية وحتّى أيام إذاعة صيته واسمه وشهرته وذكره على الألسن ، ومنهم من يكتب عنه الآخرون ، سيّما بعد رحلتهم وفقدهم وضرورة وجودهم بين الجماهير والشعوب بعد وعيهم وعرفان مقامهم الشامخ ، وإنّما سُطّرت حياتهم وسيرتهم الذاتية وتأريخهم الحافل بالمحن والصعاب ، والحرمان والمشاكل ، والفاقة والفقر ، والعداء والحقد والحسد ، وضياع الحقوق ، وغير ذلك ، من أجل أنّ ترجمتهم حياة جديدة ، ومن ورّخ مؤمناً فقد أحياه ، وليقدّموا شكرهم على خدماتهم ونضالهم ، ولتكون بارقة أمل ، ومن ثمّ وميض نشاط وأشعّة حيوية في نفوس شباب البلد والأجيال القادمة ، وإحياءً لذكرهم ، وتخليداً لمقامهم المرموق ، ولمآرب اُخرى .

ولمّا أخذت القلم والقرطاس ، ودار بين أناملي الداثرة لاُودّعه سطوراً من حياتي ، عرق الجبين خجل ، وك نّما اُخاطب نفسي : يا هذا من أنت حتّى تكتب عن حياتك ؟ ! وأيّ شيء قدّمته للاُمّة والجماهير ولمجتمعك الديني والإنساني من رشحات فكرية وعلوم وثقافة ، بل وخدمات إجتماعية ومشاريع خيرية ؟ ! حتّى تبيع على الناس فخر ، وتقبقب تطاول ، فأحجمت عن الكتابة دهر ، ولكن كثيراً ما كنت اُسأل من قبل الطلاّب الكرام عن سير دراستي في الحوزات العلمية ، لا سيّما الكتب الدراسية التي درسته ، حتّى يعرفوا المنهاج الحوزوي الذي نهجته ، وقد كتبت من قبل لمحات خاطفة عن معالم الحوزات العلمية ، ولا سيّما حوزة قم المقدّسة[1] .

وأخيراً بعض المؤلفين وكتّاب التراجم وبعض المؤسّسات والصحف تطالب بترجمتي أيض .

فخطر على ذهني الفاتر أن اُجيب سؤلتهم من خلال كلمة مختصرة ، ورسالة موجزة لا سيّما أذكر أساتذتي الكرام ، شكراً على فضلهم ، وتقديراً لجهودهم ـ فإنّ شكر المخلوق من شكر الخالق سبحانه وتعالى ، ومن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ـ وإنّ بركة العلم في تعظيم الاُستاذ ، وإنّ الآباء ثلاثة : أبٌ ولدك ، وأبٌ زوّجك ، وأبٌ علّمك وهو أفضلهم . ولا بدّ من برّ الآباء وعدم عقوقهم ، وعلينا أن ننتهز الفرص لنقدّم الخدمة لهم ، حتّى ولو كانت ضئيلة كذكر أسمائهم المباركة ، فمن هذا المنطلق انتهزت الفرصة لأذكر أساتذتي الأجلاّء ـ رحم الله الماضين وحفظ الباقين ـ عسى أن اُؤدّي قسطاً قليلا من حقّهم الجسيم ، وأبلغ جزءاً من المقصود ، من شكرهم على نعمائهم ورعايتهم العلمية .

فأتقدّم بهذه الصفحات من حياتي الحوزوية ودراستي الدينية ، وما توفيقي إلاّ بالله العليّ العظيم .

وأرى الحياة كتاباً قطور ، أيامها صفحات ، وساعاتها سطور ، ودقائقها كلمات ، ولحظاتها حروف ، وحروفها أفراح وأتراح ، وسطورها أشكال وألوان ، وصفحاتها سرور وأحزان ، فطوبى لمن فهم الحياة ، وأدرك فلسفته ، وسلك مناهج الصلاح والفلاح ، وطرق النجاة والسداد ، وعبّد الطريق والسبيل لما بعد الممات واهتدى إلى الصراط المستقيم ، وتزوّد بخير الزاد ، ألا إنّ خير الزاد الإيمان والتقوى والعلم والعمل الصالح والأخلاق الطيّبة .

لقد أنعم الله عليّ بالوجود ، وكنت في علمه حين من الدهر مذكور ، فوطأت قدماي عرصة الحياة الدنيوية في اليوم السادس بين الطلوعين من شهر رمضان المبارك سنة ألف وثلاثمائة وخمسة وسبعين من الهجرة النبويّة الشريفة ، في مدينة الكاظمية المقدّسة بجوار الإمامين الكاظمين موسى بن جعفر الكاظم ومحمّد بن عليّ الجواد (عليهم السلام) ، فتلاقفتني أيدي الاُمومة والاُبوّة والأحبّة ، فإنّي الولد الأوّل للاُسرة بعد بنتين وولد المسمّى بعزيز ، وقد ارتحل إلى جوار ربّه ليكون ذخراً لأبويه . واحتضنتني الوالدة الحنونة بنت السيّد محمّد الحسيني النجفي من السادة الأفاضل المعروفين في النجف الأشرف ، وسهرت الليالي وتحمّلت مرارة العيش والفقر من أجل سعادة أولاده ، ولا سيّما وقد كانت تكنّ لي المحبّة البالغة حتّى صارت مضرب المثل في ذلك بين الاُسرة ، ووالدي العلاّمة آية الله السيّد علي بن الحسين العلوي الذي كان يكنّ لي عناية خاصّة ، جزاهما الله خير الجزاء وأحسن العطاء وأجمل الثناء ، وأسعدهما في الدارين ، وجعلني بارّاً بهما في حياتهما وبعد مماتهم ، ربّ ارحمهما كما ربّياني صغير ، وجازِهما بالإحسان إحسان ، وبالسيّئات غفران ، آمين يا ربّ العالمين .

ولي في عالم الطفولة قصص وحكايات وحوادث طريفة ، وأشعر أنّ أجمل لحظات العمر وأطهرها إنّما هي أيام الطفولة ، للبرائة والعصمة والقداسة التي يحملها الطفل ; فإنّه بريء من كلّ شين ، ومعصوم من كلّ ذنب ، فحياته آنذاك حياة العصمة ، فما ألذّها وأسعده .

وممّا أذكر كنت طفلا في الثالثة من عمري ، اصطحبتني عمّتي لزيارة الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) ، وكنّا في ( فضوة الشيوخ ) ، فلمّا توجّهنا إلى الحرم الشريف بقرب حانوت ، أخرجت من جيبي ( عانة ) من نقود أيام الملكيّة في العراق لأشتري ما يشتريه الأطفال ، فقالت عمّتي : لا تنفع هذه ، وأعطتني ( خمس فلوس ) وقالت : بهذا اشترِ ، فقد بطلت تلك النقود ( وكان ذلك في أوّل ثورة عبد الكريم قاسم 14 تموز 1958 ) .

وفي يوم من الأيام كان الشباب يلعبون في ساحة المحلّة كرة القدم ، وكنت متفرّجاً فأتتني الكرة في بطني فوقعت على الأرض صارخاً من شدّة الألم .

ولمّا كان المقصود من هذه الوجيزة هو سرد السير الدراسي ، فالأولى أن اُعرض عن الحوادث أيام الصب ، وعمّا جرى عليّ أيام المراهقة ، وسأضرب صفحاً عن معالم الشباب وحياتي الاجتماعية ، وما جرى في عالم الصداقة والقرابة والزواج من الذكريات الجميلة ، أو الخواطر المرّة ، وأكتفي بذكر نبذة يسيرة من أيامي الدراسية ، ومن الله التوفيق .

عندما بلغت السادسة من العمر ، وكان والدي في سجن الطاغية عبد الكريم قاسم ـ لقصيدة شعبية ألقاها في صحن مولانا الكاظم (عليه السلام) ضدّ الطغمة الحاكمة والفساد الذي عمّ البلاد ، لا سيّما لما فعله عبد الكريم من جلب راقصات يابانيات في ليلة السابع من محرّم الحرام ـ دخلت مع أخي السيّد عماد الذي يصغرني في السنّ بسنة وأشهر تقريب ، الصفّ الأوّل من مدرسة الاُخوّة الإيرانية في الكاظمية المقدّسة ، وكنّا نحمل ـ آنذاك ـ الجنسية الإيرانية لظروف خاصّة ، وما أتممنا الصفّ الرابع بنجاح حتّى وقعنا في ( القضية الخالصيّة ) التي سجّلها التأريخ الكاظمي ، وقد سقط القتلى من الجانبين ( جماعة الخالصي وآل تميم ) وكان سماحة الوالد ـ آنذاك ـ إمام جماعة الجامع الهاشمي ومدرّسها والنائب لسماحة آية الله السيّد اسماعيل الصدر (قدس سرهما) ، وآل الأمر إلى هجرتهما إلى النجف الأشرف ، فسكنّا داراً أمام مدرسة الآخند عليه الرحمة في محلّة ( الحويش ) ودخلنا الصفّ الخامس في مدرسة العلوي الإيرانية أيض ، كما شرعت ـ سنة 1387 ـ مع أخي بأمر من الوالد بأخذ العلوم الدينية الحوزوية ، فقرأنا النحو الواضح ـ الجزء الأوّل ـ ولأوّل مرّة عند فضيلة السيّد حسين الصدر ابن السيّد اسماعيل الصدر ، وكان يدرس عند والدي ، وكنّا ندرس عنده في بيت السعيد الشهيد آية الله العظمى السيّد محمد باقر الصدر (قدس سره) ، وشاء الله أن تكون بداية دراساتي الحوزوية في حوزة النجف الأشرف وفي بيت العلم والسيادة والجهاد والشهادة والحمد لله ربّ العالمين .

وبعد مضيّ تسعة أشهر من استيطاننا النجف الأشرف ، أمر سماحة آية الله العظمى السيّد محسن الحكيم (قدس سره) والدي العزيز أن ينوبه في العبيدية ـ حي طارق ـ في بغداد الجديدة ، فامتثل الوالد أمره المطاع ، وأقام صلاة الجماعة في جامع العبيدي ، وفتح مدرسة علمية ، فوفدت إليه الطلاب ، وبنى مسجداً باسم ( الجامع العلوي ) في وسط البلد ، ونلت وأخي شرف التتلمذ عند الوالد ، وبدأنا من النحو الواضح الجزء الأوّل والثاني مرّة اُخرى إلى الجزء السادس ، وكنت آنذاك في سنّ المراهقة ، وما أن أتممت مرحلة المقدّمات ودخلت في اليوم الأوّل في السادسة عشرة من العمر ، ولأوّل يوم من بلوغي بالسنة الهلالية في السادس من رمضان المبارك سنة 1391 هجري توّجني الوالد بالعمّة المباركة ، وزيّ الطلبة في احتفال ضخم في الجامع العلوي ، بعد أن راسل سماحة آية الله العظمى السيّد الخوئي (قدس سره) ليدعو لي بالتوفيق والتسديد ، وكان لدعائه المقدّس أثر بالغ في حياتي العلمية والدراسية .

كما أذكر جيّداً كان عمري بين الثانية عشر والثالثة عشر ذهبت مع الوالدة إلى كربلاء المعلّى لزيارة مولانا سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) وقد سمعت من الوالد أنّ الدعاء يستجاب تحت قبّته الكريمة ، فبقرب الضريح المقدّس وتحت القبّة وبدموع بريئة رفعت يدي للدعاء وقلت : « اللّهم اجعلني من العلماء » ، ولم أدرِ آنذاك ما معنى هذا الدعاء ، إنّما كان ذلك من إلهامات وتربية الوالد .

كما أذكر كان عمري عشر سنوات سمعت من الوالد أنّ الشيخ الرئيس ابن سينا نبغ في كلّ العلوم وكتب فيه ، حتّى كتب كتاب القانون وعمره أحد عشر سنة ، فسألني عمّي السيّد رضا يوم ، ماذا تريد أن تكون في المستقبل ؟ وهذا ممّا يسأله الكبار من الصغار ، فأجبته بالحرف الواحد : « أريد أن أصير ابن سين » ، وك نّما هذا المعنى في الضمير اللاشعوري جعلني أكتب في كثير من العلوم والمواضيع المختلفة .

وهذا وأمثاله إنّما هو من أثر تربية الوالد (قدس سره) ، كما أنّ معظم توفيقاتي كان من أثر برّ الوالدين ودعائهما لا سيّما دعاء الوالدة حفظها الله تعالى ، وأذكر يوماً كان الوالد ودموع الشوق تجري من عينيه يدعو لي بالتوفيق ، كما إنّ الوالدة في قصّة كتبت لصاحب الزمان (عليه السلام) رسالة ( عريضة ) ـ كما هو مذكور في آخر مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمّي (قدس سره) ـ وكان ذلك في أيام مراهقتي وبداية دخول الحوزة ، تطلب منه (عليه السلام) توفيقي في الحياة . وبعد أن لبست العمّة أمرني الوالد (قدس سره) من ليلتها الاُولى أن أصعد المنبر ، وأخذت اُدرّس الرسالة العمليّة للجمهور ، واليوم علمت أنّ مقصود الوالد عليه رحمة الله الواسعة من وراء ذلك ، إنّما هو تنمية قابلية الخطابة والتدريس والجرأة الأدبية والجماهيرية في وجودي ، فجزاه الله خير الجزاء وأسكنه فسيح جنانه وحشره مع مواليه الأطهار محمد وآله الأبرار .

وبعد أشهر حلّت أزمة تهجير المؤمنين إلى إيران ، فسفّرت الزمرة البعثية الحاقدة عشرات الآلاف من الشيعة بعنوان الإيرانيين القاطنين في العراق ، لا سيّما العتبات المقدّسة حتّى من كان ولادته وولادة أبيه وجدّه في العراق ، فكنّا في زمرة المهجّرين ، فودّعنا عراقنا الجريح والمظلوم والأهل والأقرباء والأصدقاء والدموع تسيل على الوجنات ، والقلوب التهبت بنيران الفراق .

وبعد اللتيا واللتي سكنا مدينة قم المقدّسة عشّ آل محمد (عليهم السلام) ، وما أروع هذه المدينة الطيّبة والبقعة المباركة بجوار سيّدتنا ومولاتنا فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، التي من زارها عارفاً بحقّها وجبت له الجنّة ـ كما جاء في الأخبار الموثّقة ـ فدخلت مع أخي مدرسة آية الله العظمى السيّد الگلپايگاني (قدس سره) برعاية العلاّمة السيّد أحمد الحسيني القمي دامت بركاته ، وتخرّجت من المدرسة بعد ستّة سنوات مع مجموعة من الطلاب نعدّ بالأصابع ، بعد أن كنّا في البداية سبعمائة طالب تقريب ، ولكن كانوا ـ في الغالب ـ يتركون المدرسة في الصفّ الرابع أو الخامس ، لصعوبة الدروس والبرامج والنظام الحاكم على المدرسة آنذاك ، ولكن صبرت على ذلك ، والحمد لله كما هو أهله ومستحقّه ، كما خرجت من دار الوالد وسكنت مدرسة الستّية ، وكانت حجرتي بجوار ( بيت النور ) وهي الحجرة التي كانت فيها سيّدتنا فاطمة المعصومة (عليها السلام) تعبد ربّه ، بعد أن حلّت بقم خلال ثمانية عشر يوم ، والبقعة من الأماكن المقدّسة التي يزورها المخلصون من محبّي أهل البيت (عليهم السلام) .

ثمّ بعد عام سكنت مدرسة حاج ملاّ صادق ، ثمّ مدرسة الخان ، أمام صحن السيّدة المعصومة (عليها السلام) ، ثمّ مدرسة العلوي ، ومن أجمل سنيّ عمري هذه السنين التي كنت في حجرات المدارس ، فما أروع تلك الأيام والشهور والسنين ؟ وإن كانت من حيث المعيشة في صعوبة وضيق ، فإنّي كنت أعيش على خمسين تومان في كلّ شهر أقبضه من المدرسة ، ولم أمدّ يدي إلى والديّ ، بل كنت أصوم النهار وأفطر على وجبة غذاء واحدة ( قرص من الخبز مع لبن أو جبن أو « أرد شيره » كنت اُحبّها كثير ) ، وقد نقص من وزني آنذاك أكثر من عشرين كيلوغرام ، حتّى إنّ بعض الأقارب كان يمرّ بجنبي وهو لا يعرفني ، وكلّ هذا وأنا مستبشر مطمئنّ ، واليوم اُدرك تلك المقولة المشهورة ( إنّ العلم لا يأتي إلاّ بالفقر والغربة ) ، وكأنّ الله يريد الفقر لأهل العلم في بداية حياتهم حتّى يدركوا في المستقبل آلام الفقراء ويحسّوا بفقر المحرومين والبؤساء .

أجل ، أذكر يوماً كنت في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) ، في دار اُستاذي في الأخلاق ، فنفدت نقودي ، ولم أتجاسر للأكل من دار اُستاذي ، كما لم أقترض مالا من أحد ، فبقيت ثلاثة أيّام اُكابد الجوع ، حتّى آل الأمر نّي عندما كنت أصعد الدرج لا تقوى رجلاي على النهوض والصعود ، وبعد ذلك التقيت بأحد الإخوان ( الشيخ گنجي ) ، فقال لي : لقد أقرضتني من قبل أربعمائة تومان ، هل تريد قرضك ؟ وكنت لا أتذكّر القرض ، فضحكت في نفسي وقلت : ولِمَ لا ؟ وهذا رزق من حيث لا يُحتسب في تلك اللحظة .

وإنّما ذكرت هذا الحادث من حياتي ليكون عبرةً لإخوتي الطلبة ، فلا يحزنوا لفقرهم في بداية مسيرتهم الحوزوية ، بل ليفرحوا بذلك ، فإنّ هذا يعدّ من العنايات الإلهية الخاصّة .

وكنت في تلك الفترة من بركاتها مشتغلا بأربعة عشر درساً في كلّ يوم بين أن أحضر دروساً وبين أن اُدرّس وبين أن أتباحث مع زميلي في الدروس ، حتّى نّي أذكر جيّداً كان لي مباحثة في اللمعة قبل أذان الصبح في حرم السيّدة المعصومة (عليها السلام) ، ثمّ كنّا نصلّي الجماعة بإمامة سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد النجفي المرعشي (قدس سره) ، ثمّ لنا مباحثة اُخرى ، وهكذا بين درس وتدريس ومباحثة ، فما أجمل تلك الأيّام وك نّها وريقات خضراء تساقطت من شجرة العمر ولن تعود الحياة إليها ثانيةً ... فواشوقاه لتلك الأيام والسنين الحلوة ...

ثمّ رجعت بعد خمس سنوات من سكني في المدارس إلى الدار ثانية ، لأملأ الفراغ الذي أصاب الاُسرة بفقد أربعة من إخوتي ـ حجّة الإسلام السيّد عامر والسيّد عقيل وبنت العلى صاحبة كتاب ( پيرامون زن ـ مطبوع ) وبنت الإيمان عليهم رضوان الله الكريم ـ في حادثة اصطدام سيارة ليلة انتصار الثورة الإسلامية في إيران ( 22 بهمن 1357 ) في طريق جمكران عندما قصدوا مسجد صاحب الزمان (عليه السلام) للدعاء بانتصار الثورة .

وبعد أربعة سنوات من الحادث المؤلم والقاسي ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، إرتحل والدي ـ في يوم الاثنين 28 شعبان سنة 1403 بعد أن اُصيب بنوبة قلبية أثناء أداءه للعمل الجهادي الإسلامي ـ إلى جوار ربّه ، بعد أن قضى من عمره خمسة وخمسين عام ، لينال البشرى والرضوان بما صبر ، فإنّه كان اُمثولة الصبر والعمل في سبيل الله قدّس الله نفسه الزكية وأسكنه فسيح الجنان في زمرة محمد وآل محمد (عليهم السلام) ، وأنزل على رمسه شآبيب رحمته الواسعة .

وجاءت ترجمته في كتاب ( گنجينه دانشمندان ) المجلّد الثاني لسماحة الشيخ محمّد الرازي دامت بركاته ، كما جاءت باللغة الفارسية في كتاب ( ستاره درخشان ) ، وباللغة العربية في كتاب ( الكوكب الدرّي في حياة السيّد العلوي ) ومواضع اُخرى .

أساتذتي  في  الحوزة

يسعدني أن اُزيّن سطور حياتي بذكر أسماء علماء أجلّة وأساتذة كرام ، عزّ عليّ مسمّاهم ، شاكراً فضلهم ، مثنياً مقامهم ، داعياً إلى الله أن يسعدهم في الدارين ، ويرزقهم خير الدنيا والآخرة ، وقد تحيّرت في أمري ولست أدري كيف أشكرهم ، وفي أيّ ميدان اُطلق عنان القلم وزمام الكلم ؟ أفي مكارم أخلاقهم أم بستان فضائلهم أم بحار علومهم ؟ وبأيّ لسان أطري عليهم واللسان كالّ ؟ فطفت حول كعبة الأفكار وانتهيت بعد برهة من الزمن إلى أنّ خير المقال ، وأفضل الشكر وبيان الحال : أن أعترف بضعفي وعجزي عن شكر النعم ، وأتقدّم بالاعتذار ، فإنّ العذر عند كرام الناس مقبول .

فإليكم سادتي الأفاضل ، وأساتذتي الكرام ، ألف تحية وسلام ، وأسأل الله العليّ القدير أن يجازيكم خير الجزاء وأحسن العطاء وأفضل الثناء ، إنّه وليّ التوفيق والإحسان .

والسلام عليكم أبد ، ما بقيت وبقي الليل والنهار ، سائلا المولى القدير سبحـانه أن يوفّـقني لأداء حقّـكم ، ولو جـزء لا يتجـزّ ، ومـا ذلـك على الله بعزيز .

* فعلم الكلام :

درست كتاب « عقائد الإمامية » عند سماحة آية الله العلاّمة والدي (قدس سره) ، وحضرت محاضرات حول العقائد لمدّة ثلاث سنوات في مدرسة السيّد الگلپايگاني عند فضيلة الشيخ المتّقي الشيخ عبد القائم الشوشتري دامت بركاته ، وردّ الفرقة الضالّة ( البهائية ) عند سماحة الشيخ قدرة الله النجفي دامت بركاته ، وشرح باب الحادي عشر عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ غلام رضا صلواتي دامت بركاته ، وكذلك عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ علي پناه دامت إفاضاته .

* وعلم الأخلاق :

فالمربّي الأوّل لي سماحة العلاّمة والدي (قدس سره) ، فدرّسني جامع السعادات ، ثمّ آخرون أصحاب الكرامة والمقامات الرفيعة والدرجات العالية ، كالشيخ عبد الكريم حامد (قدس سره) من أبرز تلامذة الشيخ رجب علي الخيّاط وصاحب سرّه وقد رافقه كالظلّ 25 سنة ، والشيخ الشاطري دام عزّه ، والآية العظمى سيّدنا النجفي المرعشي قدّس سرّه الشريف .

* وأمّا علم النحو والصرف :

فصفحات من الجزء الأوّل من النحو الواضح عند فضيلة السيّد حسين الصدر دام عزّه وستّة أجزاء النحو الواضح والجزء الأوّل والثاني من  شرح ابن عقيل عند سماحة الوالد (رحمه الله) ، والسيوطي عند فضيلة الشيخ غلام رضا العالمي ، والمغني اللبيب عند العلاّمة الأديب سماحة آية الله السيّد جواد الطالقاني حفظهم الله ، وذلك في مدرسة السيّد الگلپايگاني .

* وأمّا علم المعاني والبيان :

فالبلاغة الواضحة عند الوالد رضوان الله عليه ، ومختصر المعاني عند العلاّمة آية الله الشيخ حسن الطهراني دامت بركاته ، والمطوّل عند فضيلة السيّد الأديب العلاّمة السيّد محسن الجرجاني دام عزّه .

* وأمّا علم المنطق :

فخلاصة المنطق والمنطق للمرحوم المظفّر (قدس سره) عند سماحة الوالد عليه الرحمة ، وحاشية ملاّ عبد الله عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ زين العابدين الباكوئي دامت بركاته، ومنطق منظومة عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ الأنصاري الشيرازي دامت بركاته .

* وأمّا الفلسفة :

فالقسم الأوّل من المنظومة عند سماحة العلاّمة الشيخ الأنصاري الشيرازي ، والقسم الثاني عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ محمد الجيلاني ، وخمسة أجزاء من الأسفار عند سماحة العلاّمة آية الله السيّد رضا الصدر ، ومحاضرات في شرح المنظومة عند سماحة آية الله الشهيد الشيخ مرتضى المطهّري ، رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين .

* وأمّا علم اُصول الفقه :

فمعالم الدين عند الوالد (قدس سره) وعند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ مرتضى المقتدائي ، واُصول المظفّر عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ حسن الطهراني ، والقوانين عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ محسن الدوزدوزاني دامت بركاته ، ومباحث القطع والظنّ من الرسائل عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ أبي القاسم المحمودي الاشتهاردي دامت بركاته ، ومباحث البرائة والاستصحاب عند العلاّمة آية الله السيّد أبي الفضل الموسوي التبريزي ، والمجلّد الأوّل من شرح الكفاية عند آية الله العظمى سماحة الشيخ محمد فاضل ، والمجلّد الثاني عند آية الله سماحة الشيخ محمد تقي ستودة ، ودورة كاملة ثمان سنوات بحث خارج الاُصول عند سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد فاضل دام ظلّه ، ودورة اُخرى عند آية الله العظمى سماحة الشيخ جواد التبريزي دام ظلّه في مدّة ثمان سنوات ـ وإنّما حضرت اُصولين كاملين لأجمع بين اُصول النجف الأشرف باعتبار أنّ الشيخ التبريزي من تلامذة سيّدنا الخوئي (قدس سره) ، واُصول قم المقدّسة باعتبار أنّ الشيخ فاضل من تلامذة السيّد الإمام (قدس سره) ـ ، وحضرت أشهراً في خارج الاُصول عند سماحة آية الله العظمى الشيخ وحيد الخراساني دام ظلّه ، وآية الله العظمى السيّد محمّد الروحاني (قدس سره) .

* وأمّا علم الفقه :

          فالجزء الأوّل والثاني من منهاج الصالحين للسيّد الحكيم ، ورسالة السيّد الخوئي (قدس سره) ، ومختصر النافع وشرائع الإسلام عند سماحة العلاّمة والدي (قدس سره) ، وكتاب الصلاة من العروة الوثقى عند سماحة آية الله الشيخ حسين التقوي دام عزّه ، والمجلّد الأوّل من شرح اللمعة عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ غلام رضا الصلواتي دامت بركاته ، والمجلّد الثاني من شرح اللمعة عند سماحة آية الله الشيخ مرتضى المقتدائي دامت بركاته ، وذلك في مدرسة السيّد الگلپايگاني ، والمكاسب بتمامه عند سماحة آية الله الشيخ ستودة دامت بركاته ، وبحث الخارج في الفقه ابتداءً ثلاث سنوات في كتاب القضاء عند سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد رضا الگلپايگاني (قدس سره) ، وفي كتاب القصاص عند سماحة آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي (قدس سره) ، ثمّ خلال أربعة عشر سنة في كتاب الطهارة عند سماحة آية الله العظمى الشيخ جواد التبريزي دام ظلّه ، هذا وقد كتبت تقريرات دروس الخارج ـ الفقه والاُصول ـ وبتوفيق من الله طبع كتاب ( القصاص على ضوء القرآن والسنّة ) في ثلاث مجلّدات . وقد حضرت سنتين في كتاب الصلاة عند سماحة آية الله السيّد رضا الصدر (قدس سره) ، كما حضرت لأشهر عند سماحة آية الله العظمى السيّد الروحاني عند قدومه من النجف الأشرف إلى قم المقدّسة في بيع المكاسب .

* وأمّا علم التجويد وعلوم اُخرى :

فعلم التجويد عند سماحة الوالد (قدس سره) ، والتفسير : عند آية الله الشيخ حسين التقوي وآية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي ، ونهج البلاغة : عند سماحة العلاّمة آية الله العظمى الشيخ حسين النوري ، وعلم النفس وتأريخ الأديان : عند العلاّمة الشيخ محمد آل اسحاق ، وعلم الهيئة : عند سماحة العلاّمة آية الله الشيخ حسن زاده الآملي ، وخلاصة الحساب : عند العلاّمة السيّد جواد الذهني ، وأمّا علم الدراية وعلم الرجال : فعند سماحة آية الله العظمى السيّد موسى الشبيري الزنجاني دام ظلّه.

أسأل الله سبحانه أن يجازي أساتذتي الكرام ، العلماء الأعلام ، خير الجزاء وأجمل العطاء ، وسلام الله عليهم أبد الآبدين ، ما بقيت وبقي الليل والنهار .


[1] طبعت في مجلّة « الذكر » اللبنانية الصادرة بقم ، العدد 7 ـ 10 .

هذ ، وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة سنة 1401 أشار عليّ بعض الزملاء الكرام أن اُقدّم رسالة علميّة لأخذ الدكتوراه ، وكان ذلك يستلزم شهادة أساتذتي العظام بحضوري درس الخارج ، فشهد لي بذلك شيخنا الاُستاذ آية الله العظمى الشيخ محمّد فاضل اللنكراني دام ظلّه ، ثمّ بعد ذلك قدّمت رسالة ( زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ) ، وبعد ( الدفاع ) نلت الشهادة ، ومن الله التوفيق والسداد .