رؤيا صالحة فيها منقبة للعلاّمة المجلسي

جاء في الخبر الشريف : «من ورّخ مؤمناً فقد أحياه» ، والتأريخ اشتقّ من ورّخ بعد القلب والإبدال.

وقال الله تعالى في كتابه المجيد : (وَمَنْ أحْياها فَكَأ نَّما أحْيى النَّاسَ جَميعاً)فتأريخ المؤمن حياة الاُمّة ، ومن قال أو كتب عن حياة مؤمن فقد أحياه ومن أحياه فكأ نّما أحيى الناس جميعاً طوال الأحقاب والدهور جيلا بعد جيل.

إذ الإنسان ذو بعدين : بعد جسمي وبعد زماني ، والبعد الأوّل عند الأوائل عبارة عن الامتداد الثلاث ، أي : الطول والعرض والعمق ، وهو البعد المكاني ، ولا يختصّ بالإنسان ، بل كلّ جسم هو كذلك.

وعند المعاصرين للجسم بعداً رابعاً وهو البعد الزماني ، والتأريخ عن حياة شخصيّة أو حياة مجتمع واُمّة ليس إلاّ حديث البعد الزماني وحكايته ، فهو أشعّة الإنسان عبر الزمن ، ليس إلاّ ذكرى حياة إنسان صنع التأريخ بعبقريّته ونبوغه ونصاله وجهاده وعلمه وأدبه ، أو حياة شعب فاق الشعوب أو انحطّ وسقط في الهاوية.

وإحياء المؤمن بالثناء عليه وجعل لسان صدق في الآخرين بمكارمه وفضائله وحياته الخصبة بالخير والإحسان لأفضل بكثير من إحياء جسده الذي مآله التراب إذ منه وإليه.

فالبعد الزماني هو الذي يكوّن للمؤمن شخصيّة خالدة بين الناس وفي المجتمع الإنساني طوال السنين والدهور.

ومن ذكر أو كتب عن حياة المؤمن ونشاطه وجهوده وتضحياته فقد أحياه ، ومن ذكر العلماء بخير وكشف القناع عن آثارهم العلميّة والعمليّة فقد أحياهم.

ومن هذا المنطلق علينا أن نذكر علماءنا الأعلام ، ونترجم حياتهم ، فإنّهم نبراس هدىً ومشاعل حقّ في طريق الاُمّة والجماهير ، فإنّهم القدوة الصالحة والاُسوة الحسنة لمن أراد سعادته وسعادة المجتمع ، وكان يفكّر في إصلاح نفسه ، وفي إصلاح الآخرين ، ويكون كالشمعة يحترق ليضيء الطريق.

ومن أعاظم علمائنا الأبرار ومن المؤمنين الأخيار وحيد عصره وفريد زمانه ، العلم العلاّمة فخر الاُمّة الفيض القدسي الشيخ محمّد باقر المجلسي (قدس سره) ، الذي ذاع صيته في الآفاق واشتهر بتصانيفه القيّمة ، وفي طليعتها بحار الأنوار ، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار.

ولد عام 1037 هـ وتوفّي 1111 هجري ، في 27 رمضان ، وقد أجمع العلماء على جلالة قدره وتبرّزه في العلوم النقليّة والعقليّة والحديث والرجال والأدب ، فهو من أكابر الرجال في علوم الدين والشريعة الإسلاميّة ، والقلم يعجز عن بيان مآثره ، واللسان يكلّ عن ذكر محاسنه ومفاخره ، فإنّه باب الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، وإنّه قدوة العلماء الأخيار ، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً ، وإنّا على دربه ونهجه وعلمه لسائرون.

حدّثني سيّدنا الاُستاذ آية الله العظمى السيّد النجفي المرعشي قدّس سرّه الشريف : إنّه في العقد الثالث من عمره في ليلة رأى في عالم الرؤيا قد قامت القيامة ، وحشرت الخلائق ، واجتمع الناس في المحشر الرهيب ، وكان كما ورد في أخباره وعوالمه في الآيات القرآنية والروايات الشريفة ، يوم تذهل كلّ مرضعة عمّـا أرضعت ، ويفرّ المرء من أخيه واُمّه وبنيه وفصيلته التي تؤويه ، وترى الناس حيارى سكارى وما هم بسكارى ، لكلّ امرء يومئذ شأنٌ يغنيه ، ثمّ سمعت نداءً بأنّ العلماء يحشرون في مكان خاصّ ، وعلمت في المنام أنّ الله يفعل ذلك رحمة ورفقة بهم حفظاً لماء وجههم ، لم يجعل حسابهم أمام الناس الذين كانوا يعتقدون بهم في الدنيا ، بل حسابهم حساب خاصّ وفي مكان خاصّ ، فدخلنا في مثل صالون كبير جدّاً ، فرأيت صفوفاً واقفة ، فسألت ما هذه الصفوف فقالوا : كلّ صفّ عبارة عن قرن من القرون ، فأوقفوني في الصفّ الرابع عشر على أ نّي من علماء قرنه ، ثمّ رأيت رسول الله هو الذي يحاسب العلماء وبجنبيه عن اليمين واليسار رجلان جليلان أمامهما كتب ، وكان أحدهما أكثر من الآخر ، ولمّـا كان النبيّ يحاسب عالماً ، فإذا تلعثم عندما يُسأل عن فتوى أفتاها أو عمل عمله ، كنت أرى الرجلين يشفعان له ، وكان صاحب الكتب الأكثر يشفع أكثر من الآخر ، فقلت في نفسي : لا بأس أن أعرفهما حتّى إذا ما احتجت إلى شفاعتهما أتوسّل بهما ، فسألت من كان بجنبي عنهما فقال : أحدهما شيخ الطائفة الشيخ الطوسي وهو صاحب الكتب القليلة ، والآخر باب الأئمة (عليهم السلام) العلاّمة المجلسي ، فاستيقظت من النوم وعلمت أنّ للشيخ منزلة عظيمة عند رسول الله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).

ثمّ حدّثني سيّدنا الاُستاذ بخلق من أخلاق العلاّمة المجلسي ، بأ نّه وجد في كتاب خطّي قديم من زمن العلاّمة المجلسي أ نّه كتب على جلده من الداخل : من أخلاق العلاّمة المجلسي ، ثمّ حكى لي هذه القصّة : إنّه يوماً أراد بعض شباب إصفهان من شقاواتها أن يمتحنوا حلم العلاّمة وأ نّه كعلمه في الغزارة ، فاتّفقوا على أن يبعثوا إليه أجرأهم ، فجاء إلى الشيخ بعد منتصف الليل في ليلة ينزل فيها الثلج من ليالي الشتاء القارسة ، فدقّ الباب فخرج إليه الخادم ، وسأله عن حاجته إلاّ أنّ الشاب طلب العلاّمة بنفسه فخرج إليه على كبر سنّه ورحبّ به ، ثمّ قال : سل حاجتك يا ولدي ، فقال الشابّ : وكان يقصد إثارته : هيبتك يا شيخ أنستني الحاجة والمسألة . فقال له العلاّمة متلطّفاً ببشر وابتسامة : إذهب ومتى ما تذكّرتها فارجع واسأل حاجتك . فذهب الشابّ وبعد سويعة رجع ودقّ الباب فخرج العلاّمة إليه مرّة اُخرى ، فقال الشابّ : إنّي نسيتها مرّة اُخرى ، فقال العلاّمة : لا بأس عليك اذهب ومتى تذكّرتها فارجع واسأل . فذهب وقريب السحر رجع الشابّ وخرج إليه العلاّمة بكلّ رحابة صدر فقال الشابّ : لقد تذكّرت مسألتي ، فقال العلاّمة : هاتها ، فقال الشابّ بكلّ وقاحة : يا شيخ ، أخبرني عن طعم العذرة ؟ فقال العلاّمة : أوّله حلو ، ثمّ يكون حامضاً ، ثمّ يصبح مرّاً ، فانذهل الشابّ من علمه وحلمه وزاد في وقاحته قائلا : يا شيخ ، كيف عرفت ذلك ، فإنّ هذا الإخبار كإخبار من تذوّقه في مرّات ثلاثة . فقال العلاّمة : ليس كذلك ، إنّما عرفت هذا من الآثار ، فإنّ الأثر يدلّ على المؤثّر ، فإنّي رأيت لمّـا يضع الإنسان غائطه يجتمع حوله الذباب ، فعلمت أنّ طعمه حلو ، لأنّ الذباب إنّما يجتمع حلو الحلويّات ، ثمّ بعد مدّة رأيت حشرات الخلّ تجتمع حول العذرة ، فعلمت أنّ طعمها أصبح حامضاً ، وبعد برهة من الزمن رأيت خروج الدود من العذرة ، والدود إنّما يتولّد في مكان مرّ، فعلمت أنّ طعمها صار مرّاً.

فتعجّب الشابّ من هذا الحلم الرفيع والعلم الوسيع ، وأخبر أصحابه بذلك ، فاجتمعوا بالشيخ بتوبة نصوحة وأصبحوا من مردة الشيخ الفدائيين ، وهذا معنى : «العلم أمير ووزيره الحلم» ، فاعتبروا يا أهل العلم النافع والعمل الصالح.

كرامة لمولانا أبي الفضل العباس (عليه السلام)