التربية دواء ناجح للأسقام والأمراض البشريّة ، وشفاء للأجيال ، وإنّه بالتربية يرتقي الإنسان إلى أوج الرفعة ويطوي مدارج الكمال المنشود في جبلّته ، والتربية بمنزلة الأكسير الأعظم لتبديل الأرواح وتعديلها وتهذيبها ، حتّى تشعّ في ميدانها بكواكب درّيّة وتتجلّى بأنوار باهرة ، فإنّها العامل المهمّ في سعادة البشر ، وإنّها الفنّ المتمّ للقوى الإنسانيّة وغرائزها المتأصّلة تحرّك الرجال نحو الأهداف المقدّسة وتتطّلع إلى قمم الفضائل ، وتؤمّن حياة الأجيال بقوانينها الرصينة ، فإنّها عين الحياة ورمز النجاة ، وإنّها تنظّم الغرائز والأحاسيس والعواطف في الإنسان ، مع تأمين سعادته ورفاه عيشه.
فالتربية كوكبة درّيّة توقد من أصل مبارك ، تنير الدروب ، وتعلّم الناس كيف يعيشوا وكيف يموتوا.
التربية تكشف رموز الحياة والأسرار الطبيعية ، وتبيّن الحقائق والدقائق في العوالم الخلقيّة ، توقظ الاستعدادات الروحيّة والمعنويّة في النفوس ، وتكمّل نهج السعادة في الأرواح المستعدّة.
ومن الواضح أنّ كثير من الآلام والمصائب والبلايا والمتاعب والشقاء والأسقام الروحيّة وانحطاط المجتمعات والاُمم ، إنّما كان من أثر الجهل وسوء التربية وفسادها.
فالتربية في قمّة الشموخ ، وفي اُفق الرفعة والجلال ، يقول أفلاطون الحكيم في شأنها : «لا فنّ أغلى وأثمن من التربية».
والتربية غير التعليم ، وإنّه فرق بين المعلّم والمربّي ، فإنّ المعلّم يعلّم العلوم والفنون بالأقوال والألفاظ ، والمربّي يربّي وينمّي القوى والاستعدادات بأحسن وجه وأتمّ صورة ، وأ نّه كيف يستعمل العلم ، ليكون من العلم النافع ، فالمربّي يساعد طلاّبه على إظهار تلك القوى التي في الروح من دائرة القوّة والإمكان إلى ساحة الفعل والعمل والوجود الوجوبي ، كما أنّ التربية أعمّ من العلم ، فإنّها تعمّ الجمادات والنباتات والحيوانات ، لا سيّما الإنسان ، والتعليم يختصّ بالحيوانات والإنسان ، فالتعليم أحد أجزاء قوانين التربية ، والتربية من عمل العباقرة ، وإنّها فعلٌ جبّار.
وإنّ من أسماء الله الحسنى (الربّ) ، فهو المربّي الأوّل لما سواه جلّ جلاله ، فإنّه ربّ العالمين وربّ الأرباب.
يقول الفارابي[1] ـ المعلّم الثاني ـ في التربية والتعليم : إنّ التعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في الاُمم والمدن ، والتأديب هو طريق إيجاد الفضائل الخلقيّة والصناعات العلمية في الاُمم ، والتعليم يكون بالقول واللفظ فقط ، والتأديب هو أن يعوّد الاُمم والشعوب الأفعال المتبلورة عن الملكات العلميّة ، بأن تنهض عزائمهم نحو فعلها ، وأن تصير تلك وأفعالها مستولية على نفوسهم ويكونوا كالعاشقين لها والمخلصين في تقبّلها والتفاعل معها.
[1]تحصيل السعادة : 29.