العلماء ورثة الأنبياء في علومهم ومعارفهم وسلوكهم ومسؤوليّاتهم وهدايتهم الناس إلى الخير والصلاح والتقوى والعلم والعمل به ، فهم اُمناء الله في الخلق ، وسفراء الرحمن في الأرض ، وهداة الدين ، وقادة الاُمم في مناهل الإحسان والعدل والخير ، عليهم سيماء الصالحين . يتذكّر الإنسان ربّه في محيّاهم ، ويزداد علماً في منطقهم ، ويرغب في الآخرة في عملهم.
وما أروع الأحاديث الشريفة عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) التي تحثّ الناس على طلب العلم ومجالسة الحكماء والعلماء وحضور محافلهم القيّمة ، فربّ علم لا تجده بين السطور ، إنّما يؤخذ من أفواه الرجال وصدور العلماء فإنّه من دقائق العقول.
ومن هذا المنطلق جاء في الحديث الشريف : زاحم العلماء ولو بركبتك . وهذا يدلّ بوضوح على مدى اهتمام الإسلام في معاشرة العلماء الأعلام ، والطواف حول كعبة علومهم وفنونهم ورشحات أفكارهم الظريفة ، التي قلّـما نجدها بين طيّات الكتب والأسفار ، وفي رفوف وزوايا المكتبات.
وقد ورد في الخبر النبويّ الشريف في فضل زيارة العلماء : زيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافاً حول البيت ، وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة مقبولة ، ورفع الله تعالى له سبعين درجة ، وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنّ الجنّة وجبت له[1].
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : العالم كالكعبة يزار ولا يزور . وهذا يعني أنّ الناس عليهم أن يزوروا العلماء ويطوفوا حولهم كالكعبة ، وإذا كان النظر إلى الكعبة عبادة ، بمعنى أ نّه يوجب تعبيد الطريق إلى الله والتقرّب منه ، ويتذكّر الله بالكعبة فكذلك النظر إلى وجه العالم عبادة ، بل إلى باب داره عبادة ، لأ نّه مظهر الزهد في الدنيا ، حتّى داره ، فيتذكّر الإنسان بذلك ربّه ، ويعرف خساسة الدنيا ورذالتها ، فإنّه مثل هذا العالم العاقل تركها ، وهذا يدلّ على دناءتها وانحطاطها في عين الله وأوليائه المقرّبين ، فزيارة العالم أفضل من سبعين طوافاً ، أي زيارته تعادل في التقرّب إلى الله بسبعين طوافاً وأكثر ، بل بسبعين حجّة وعمرة مقبولة ، بل ويرفع الله له سبعين درجة كما يرفع الذين آمنوا والذين اُوتوا العلم درجات ، وتشمله الرحمة الإلهية ويكون من أهل الجنّة كما تشهد الملائكة بذلك ، فما أعظم محافل العلماء وزيارتهم ، ولماذا كلّ هذا الثواب والفضل ؟ ! أليس إلاّ من أجل السعادة المنشودة والكمال المطلوب والهداية المقصودة.
ومن سعادتي وألذّ ساعات حياتي ، تلك السويعات التي أحضى فيها بمجالسة العلماء الربّانيّين والعرفاء الإلهيّين ، وأجثو على الركب أمامهم لأستلهم المعرفة من مناهلهم الرويّة ، واُضيء طريق حياتي بمصابيح كلامهم ، واُحيي قلبي بنفحاتهم القدسية ، ومواعظهم الملكوتية ، وكثيراً ما ينسى الإنسان الدنيا وما فيها ، غارقاً في بحار أنوارهم ، ومجالس اُنسهم.
ومن تلك المجالس التي تعطي للقلب نشاطاً وحيوية ، وللعقل نوراً وهداية ، حينما نالني الشرف وأسعفني الحظّ بلقاء شيخ كريم من المشايخ الكرام سماحة الحجّة العارف بالله الشيخ محمد باقر المحسني دامت بركاته ، فحدّثنا بأحاديث شيّقة من دقائق الآيات ولطائف الروايات وأحوال العلماء والعرفاء ونبذ من أشعارهم العرفانيّة ، ودار الحديث حول رجال الدين الذين هم بركات الأرض.
زهد الشيخ المؤسس :
فقال دام عزّه : كنت في حضرة شيخنا الاُستاذ مؤسّس الحوزة العلمية في قم آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) ، وذلك عندما حطّ الرحال في قم المقدّسة عشّ آل محمد (صلى الله عليه وآله) ، فدخلت علينا امرأة من الأشراف ، فقالت لشيخنا الاُستاذ : هل عليك قرض ؟ فأجابها بالإثبات ، وهو ستّة آلاف تومان استقرضها لخبز فقراء قم لمدّة عام ، فدفعت إليه اثني عشر ألف تومان ، ستّة للقرض وستّة اُخرى للعام الثاني.
ثمّ قالت : أيّ مقدار تصرف من المال لمعيشتك مع العائلة في كلّ شهر ؟
فقال الشيخ : ستّين تومان.
فتعجّبت المرأة وقالت : ستّين تومان ، أي في كلّ يوم تومانان (درهمان) ؟
قال : نعم.
فقالت : اُريد أن اُقدّم لسماحتكم لكلّ شهر ثلاثمائة تومان ولمدّة ستّة سنوات.
فتعجّب الشيخ من قولها وقال لها : لا بل ستّين تومان لكلّ شهر ولمدّة ستّة أشهر فقط.
فأعطت المرأة ذلك ودموعها جارية متعجّبة من زهد الشيخ ، فقال لها الشيخ العظيم : لقد فرّجتِ عنّا فرّج الله عنكِ ، فقد أرحتينا من سهم الإمام (عليه السلام) لمدّة ستّة أشهر.
فإذا كان مراجعنا وأساتذتنا حياتهم ذلك فماذا نقول ؟
مراعاة الفقراء :
ثمّ حكى الشيخ دام مجده حكايةً اُخرى ، فقال : كنت أنزل من السلّم في مدرسة الفيضية وأنا أرتدي القباء والجبّة الصوفية الثمينة ، وكان الشيخ المؤسّس يصعد السلّم ، فلمّـا رآني أخذ كمّي بيده وقال متعجّباً : شيخ محمّد باقر ، شيخ محمد باقر ! فذهب ، فعلمت بعدم استئناسه من هذه الملابس ، فذهبت ليلا واشتريت قماشاً كلّ متر بثلاث قرانات (القران يساوي الفلس) وأعطيته الخيّاط فخاطه في نفس الليلة بأربع قرانات ، وصباحاً ارتديته وحضرت درس الاُستاذ ، فلمّـا رآني تبسّم ، وبعد برهة قال : عليك أن تراعي فقراء الطلبة في ملبسك (ومأكلك) فهناك من الطلاّب ما ليس له أن يشتري ويلبس كما تلبس ، فلا بدّ من مراعاتهم.
كرامة الإمام الرضا (عليه السلام) :
ثمّ دار الحديث عن العرفاء وولائهم لأهل البيت (عليهم السلام) ، فاغتنمت الفرصة إذ سمعت من قبل إنّه تشرّف بلقاء مولانا الإمام الرضا (عليه السلام) في عالم المكاشفة ، فسألته عمّـا حدث له في السنين الغابرة من ألطاف وعنايات لا سيّما الاستخارة ـ فإنّه معروف ومشهور بذلك ـ فأجابني مبتسماً : سأذكر لك ذلك إجمالا ممّـا يجوز لي نقله وأترك بعض المواقف.
قبل سنين ـ وكنت في ريعان الشباب ، ولم أتجاوز الخمسة والعشرين من عمري ـ سكنت خراسان مشهد مولانا الرضا (عليه السلام) ، وكان بجنب الصحن الشريف (ولا يزال) مدرسة علميّة باسم (مدرسة بالا سر = مدرسة فوق الرأس) وفيها حجرة معروفة باسم ملاّ هادي السبزواري صاحب المنظومة في الحكمة والمنطق ، ويذكرون لها خصائص روحانيّة ، وفيها نافذة مدوّرة تطلّ على الحرم الشريف ، وكانت الغرفة مقفلة ، فأعطيت الخادم مئتي تومان وأخذت منه مفتاح الحجرة ، وكنت في كلّ ليلة أسهر وأجلس أمام الحرم الشريف ، ولم أتوسّد ولم أمدّ رجلي ، بل وبكلّ أدب وتعظيم أجلس أمام ضريح مولانا الإمام الرضا (عليه السلام) ، ومن النافذة تشعّ الغرفة بأنوار الحرم الشريف ومصابيحها المضيئة ، وطال هذا الأمر والحال لمدّة ثلاث سنوات وثمان أشهر ، وبعد هذه المدّة يوماً ما دخلت الحرم الشريف ، وعند الباب المقدّس رأيت رجلا عليه العمّة الخضراء صبيح الوجه أسمر اللون وبيده صحن فيه الأرز ، ونظرت داخل الحرم الشريف فرأيت من الذوات المقدّسة بنفس الهيئة جالسين حول الضريح المقدّس ، فسلّمت على ذلك السيّد الجليل فأعطاني الصحن ، فأكلت ما فيه ، فأفاض الله عليَّ من ذلك ما أفاض ، ومنها الاستخارة.
ثمّ ابتليت بمرض الرعاف لمدّة أربعة أشهر ، وكان شديداً للغاية ، حتّى منعني من الكلام الجهوري ، ومن المشي وأكل الخبز ، وسلب منّـي الراحة بتمام المعنى ، فآل الأمر إلى أن أتداوى في همدان عند دكتور أخصّائي معروف آنذاك ، فقبل ركوبي السيّارة خطر على بالي الأبيات التي كتبها المحقّق خاتم المحدّثين الشيخ عبّاس القمّـي في مفاتيح الجنان مخاطباً مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ومطلعها :
إذا متّ فادفنّي إلى جنبِ حيدر *** أبي شبّر أكرم به وشبيرِ
فلستُ أخاف النار عند جوارهِ *** ولا أتّقي من منكر ونكيرِ
فعارٌ على حامي الحمى وهو في الحمى *** إذا ضلّ في البيدا عقال بعيرِ
وأخذت
اُناجي ربّـي وأندب مولاي الرضا (عليه السلام) وأ نّي بحماك
وأخرج من بلدتك الطيّبة وأنا مبتلى بهذا الداء العضال ، وعند المسير ارتجّت
السيّارة ، حيث كان الانتظار أن أقذف دماً ، ولكن لم أرَ
شيئاً من الدم ، فتعجّبت وتعجّب الركّاب معي ، وعند الغداء أكلت الخبز
ولم يكن ذلك بمقدوري من قبل ، فأدركت أنّ الإمام الرضا (عليه
السلام)
تلطّف عليَّ بالشفاء بإذن الله سبحانه وتعالى . ولمّـا وصلت إلى همدان
كنت
لا أحسّ بشيء من الألم والوجع ، وعندما حضرت الطبيب قلت له : لقد
شافاني مولانا الرضا (عليه السلام) ، وكان عنده بعض الجلساء ،
فأخذ أحدهم يستهزئ بي ، فغضبت لذلك ، وأخذت أتكلّم وبكلّ حماس ودفاع
ولائي ، وأذكر له فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، وأ نّهم
السبيل الأعظم والرحمة الموصولة والباب المبتلى به الناس ، من أتاهم
نجى ، ومن تخلّف عنهم غرق وهوى ، وطال المجلس أكثر من ساعة ،
وحينئذ سألت عن المستهزئ فقالوا : هو الشيخ عارف القزويني
الزنديق.
ثمّ حدّثنا الشيخ دام علاه بأحاديث شيّقة اُخرى ، ولمّـا حان موعد صلاة الظهر خرجنا منه وكلّنا شوق وسرور واطمئنان ، ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب.
نعم ، أهل البيت (عليهم السلام) أنوار زاهية في دياجي حياة البشر ، ومشاعل وضّاءة لمن أراد السعادة والعيش الرغيد ، ويبذل الجهد من أجل هناء المجتمع ، فإنّهم سفينة النجاة للمذنبين ومصباح الهدى للمتّقين ، وجه الله الذي يتوجّه إليه الأولياء ، وباب الله الذي يطرقه الأتقياء ، وقد بقروا العلوم ، وفتحوا أبوابها ، وبيّنوا ما يسعد الإنسان ، وتعرّضوا لكلّ جوانب الحياة الفردية والاجتماعيّة بتمام مظاهرها من الثقافة والسياسة والأخلاق والاقتصاد وغير ذلك ، فهم دعاة الخلق إلى طاعة الله وساسة العباد إلى الخير ، فقولهم : (زاحم العلماء ولو بركبتيك) فيه أسرار وفوائد جمّة ، سيّما للذين آلوا على أنفسهم أن يسيروا بنهجهم ، ويستنيروا بنورهم ، ويقتدوا بسيرتهم ، فإنّهم اُسوة حسنة وقدوة صالحة ، فخير المجالس مجالس العلم والعلماء العاملين بعلمهم ، الذين لا فرق بين قولهم وعملهم ، وهم حكّام على الناس وعلى الملوك ، وهم اُمناء الله على الدين والدنيا ، وهم ورثة الأنبياء في مسؤولياتهم العظمى.
[1]عدّة الداعي : 66.