قيل : من آلاف آلاف الذرّات الجماديّة واحدة تكون تراباً ، ومن آلاف آلاف ذرات التراب واحد يتكوّن منها النبات الذي يحمل النفس النباتيّة من القوى الثلاثة التعذية والرشد وتوليد المثل ، ومن آلاف النباتات جزء منها يتكوّن منه الحيوان الذي يحمل الحياة الحيوانيّة من القوى الثلاثة بأ نّه جسم نامي وأ نّه حسّاس متحرّك بالإرادة ، ومن آلاف الحيوانات جزء منها يتكوّن الإنسان الذي يحمل النفس الإنسانية الناطقة الدرّاكة للكلّيّات ، فهذه أطوار أربعة : الجماد ثمّ النبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان.
ثمّ من ألف
أجزاء وأعضاء وجوارح الإنسان جزء منها يكون المني ، ومن آلاف ذرات المني جزء
يكون منه النطفة ، ومن آلاف أجزاء النطفة جزء يكون منه المولود ، ومن
آلاف المتولّدين واحد منهم يعيش ، ومن آلاف الذين يعيشون واحد يكون من
المسلمين ، ومن آلاف المسلمين واحد يؤمن بالله حقّاً كاملا ، ومن آلاف
المؤمنين واحد يكون طالباً لله سبحانه ، ومن آلاف الطالبين واحد يكون من أهل
العلم ، ومن آلاف العلماء واحد يكون سالكاً ، ومن آلاف السالكين واحد
يكون واصلا إلى الله عزّ وجلّ بعد طيّ منازل السير والسلوك الوعرة ذات الأشواك
الخطرة ، فالناس كلّهم هالكون إلاّ العلماء ، والعلماء كلّهم هالكون
إلاّ العاملين ،
والعاملون
كلّهم هالكون إلاّ المخلصين ، والمخلصون على خطر عظيم.
والمقصود من جملة الكائنات والمخلوقات العِلوية والسفليّة ، السماوية والأرضيّة هو ذلك الواصل إلى الحقّ جلّ جلاله ، وهو الإنسان الكامل الذي أصبح مظهر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، ذلك الإنسان الذي خاطبه الله في حديثه القدسيّ : «خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي» ، وأمّا ما سواه فهو طفيلي الموجودات.
وقد دعا الله سبحانه كلّ إنسان إلى هذا المقام العظيم الشامخ (مقام الوصل والفناء في الله سبحانه).
وهذا يعني أنّ كلّ واحد منّا بإمكانه وباختياره وجهده وجهاده ـ الأصغر والأكبر ـ يتمكّن من الوصول إلى هذا المقام الرفيع والمنزلة السامية ، لأنّ الله كلّفنا بذلك ، ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها . والوسع بمعنى أ نّه لو كان لنا قدرة حمل خمسين كيلو حنطة فأمرنا الله أن نحمل نصفها فهذا من الوسع ، فلمّـا كلّفنا الله عزّ وجلّ بمثل هذا المقام الشامخ ، فإنّه يدلّ على أ نّه بقدرتنا أكثر من ذلك ، فتدبّر . فإنّه بوسعنا أن نصل في القوس الصعودي إلى جنّة الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، مع الذين أنعم الله عليهم من الأنبياء والأولياء (إنّا لله وإنّا إليه راجعون) ، وإلى ربّك المنتهى ...
«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك ، إلهي واجعلني ممّن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق لجلالك ، فناجيته سرّاً وعمل لك جهراً ...»[1].
[1]من دعاء الشعبانية ـ مفاتيح الجنان : 159.