شيخي هذا في السير والسلوك كان من حواري الشيخ رجب علي الخياط وأصحاب سرّه ، فإنّه رافقه أكثر من خمسة وعشرين عاماً ، وكان شيخي ابن تاجر معروف في طهران ، إلاّ أ نّه ترك تجارة والده ودنياه ، وواكب جناب الشيخ الذي كان يمتهن الخياطة ، وتتلمذ عنده في العلم والعمل.
كان جناب الشيخ رجب علي الخياط الملقّب بـ (نكوگويان) ـ أي حسن الكلام ـ من أوتاد الأرض صاحب الكرامات والبركات والمقام الشامخ ، قد فح الله بصره وبصيرته ، وسمعه وقلبه ، حتّى كان يرى ما لا يرى غيره ويسمع ما لا يسمع غيره ، كان يرى عالم المعنى وعالم البرزخ ، وتعلّقت روحه بما وراء الطبيعة ، وكسر قشور العالم المادّي ليرتبط بالعالم العِلويى والغيبي التجرّدي.
ومن حكم العالم الطبيعي المادّي أنّ فرخ البيض ، ما دام لم يتكامل جسده ولم يبلغ رشده ، فإنّه يبقى محبوساً في قفص البيضة ، وربما تفسد ويموت الفرخ فيها ، ولو يتمكّن من قفسها حتّى يخرج إلى فضاء رحب ووسيع.
وكذلك الإنسان الذي انطوى فيه العالم الأكبر ، وكرّمه الله على خلقه ، فإنّه في بيضة دنياه الدنيّة ، وإنّه ما دام لم يتكامل في روحه ويبلغ رشده العقلي ، يبقى محبوساً بين جدران بيضة الدنيا ، وإذا تكامل ووصل إلى مرحلة البلوغ والنضوج العقلي ـ ذلك العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ـ فإنّه يكسر جدار بيضة الحياة الماديّة ، ويفقس قشر الدنيا ، ويخرج إلى العالم الغيبي التجرّدي ويحلّق في أجواء ما وراء الطبيعة وفي سماء الميتافيزيقية ، فيرى هناك عالماً آخراً يختلف تماماً عن هذه النشأة المادية والحضيض الهيولاني ، ويشاهد عالماً يحكمه النور ، ولا يقاس بهذا العالم الهيولاني السفلي ، وإذا خرج من بيضة العالم الدنيوي ، فإنّه حينئذ بإمكانه أن يتصوّر بقلبه الذي هو حرم الله وعرش الرحمن ويفسّر الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) الذين هم أركان وسادات ذلك العالم التوحيدي العِلوي والغيبي ، كما هم أرباب وسادات السماوات والأرضين وما فيهنّ.
حينئذ يدرك قول الإمام الصادق (عليه السلام) في الجبر والتفويض ، وأ نّه لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين الأمرين ، لا يعني أ نّه الأمر البيني المركّب والمخلوط من الجبر والتفويض وأ نّه جزء من هذا وشقص من ذاك ، بل هو عالم آخر ومقولة اُخرى غير المقولتين بلا جبر ولا تفويض ولا المركّب منهما.
وكذلك الكلام في كلّ ما ورد عنهم (عليهم السلام) في مثل هذه المعارف السامية والمطالب العالية والموضوعات الدقيقة ، فتنكشف له الحقائق وتتّضح عنده سلسلة العلل والمعاليل في الوجود ، فيعرف فلسفة الحياة وسرّ الخليقة.
ثمّ إنّما يتمكّن الإنسان الكامل من كسر قشور البيض الدنيوي ، حينما يصل إلى مقام المضطرّيّة ثمّ الدعاء .
(أمَّنْ يُجيبُ المُضْطَرَّ إذا دِعاهُ وَيَكْشِفَ السُّوءَ).
(قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاءكُمْ).
وذلك البلوغ والوصول يكون بالصبر ، فإنّ (الصبر مفتاح الفرج) وإنّه (من صبر ظفر) ، كما إنّ من أهمّ وسائله الموصلة إلى ذلك المقام الرفيع هو التقوى والورع عن المحارم والعمل بما علم :
(اتَّقوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ).
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).
(ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) ، و (ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء أن يهديه) ، و (ليس العلم في السماء).
فهذا كلّه من العلم اللدنّي والوراثي الإلهي الذي به يفتح أقفال أسرار الكون المعقّد.
وشيخنا الخيّاط (قدس سره) كان من اُولئك القلائل الأفذاذ الذين وصلوا إلى مقام الولاية بتهذيبهم وتزكية أنفسهم وتربيتها تربية إلهية وقدسيّة رحيميّة ، حتّى كان من المقرّبين.
وإنّي تعلّقت بهذا الشيخ قلباً وروحاً وطلبته سيراً وسلوكاً من خلال أساتذتي الذين أدركوا فيض حضوره.
فوددت أن اُدوّن ما سمعته أو قرأته عنه ، عسى أن أكون مسرجاً ومنوّراً بضوء نوره طريق السالكين إلى الله سبحانه ، وأتقرّب إلى الله بذلك.
وكنت في بداية الأمر أبحث عن سبب رفعته وعلوّه في هذا المسلك والمرام ، وكيف بلغ هذه الدرجة من الروحانيّات ، مع أ نّه لم يحضر عند اُستاذ أو يدرس في مدرسة ، أو يدخل حوزة ...
1 ـ فحدّثني اُستاذي يوماً : إنّه لمّـا كان جناب الشيخ صبيّاً وقبل بلوغه[1] ، كان والده في فراش الاحتضار وحوله إخوته وأقاربه ، فنظر إليهم ثمّ نظر إلى ولده الصغير ، فقال له : ولدي رجبعلي ، إنّي على فراش الموت وذاهب إلى ربّي ، نظرت إلى أعمامك وأخوالك وأردت أن اُوصيهم بكَ خيراً ويتكفّلوا أمرك ، ولكن امتنعت عن ذلك لأنّي اُريد أن اُوصي الله بكَ خيراً ، فجعلته عليك وكيلا ووليّاً ، فأنت في عين الله ، ثمّ فاضت روحه الطاهرة من ساعته ، ومن ذلك اليوم كان الله سبحانه يأخذ بيد الشيخ ويباريه ويهديه إلى الصراط المستقيم ، حتّى بلغ الكمال الإنساني.
2 ـ كما أنّ الشيخ كان يقول : ومن أسباب توفيقي في السير والسلوك أنّي يوماً عملتُ عملا مستحبّاً وأهديته إلى أحد الأموات ، فدعا لي ذلك الميّت المؤمن فاستجاب الله دعاءه فهداني بعناية خاصّة.
3 ـ كما إنّه في أيّام شبابه ـ الظاهر كان عمره 22 سنة ـ اختلت به امرأة جميلة قد عشقته ، فحبسته في دار وطلبت منه ما طلبت زليخا من يوسف ، فامتنع عن ذلك خوفاً من الله ، وكان يقول : قلت في نفسي : يا رجبعلي ، إلى يومك هذا كان الله يمتحنك ، واليوم تعال وامتحن ربّك ، فقلت : يا إلهي ، أترك لك هذا الذنب وأنت تكفّل بتربيتي ، فأخذ الله بيدي وفتح بصري البرزخي ، فرأيت ـ آنذاك ـ ما لا يراه غيري وسمعت ما لا يسمعه غيري.
كان الشيخ يوصي دائماً بالذكر والإخلاص والإحسان إلى الخلق ، فإنّه من ذكر الله سبحانه أحيا قلبه ونوّر عقله ولبّه ، ومداومة الذكر قوّة الأرواح ، والذكر مفتاح الاُنس ، ومن أكثر ذكر الله أحبّه.
ومن أخلص لله أربعين يوماً جرت ينابيع الحكمة من قلبه ، والإخلاص سرّ من أسرار الله ، وليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة حتّى في النوم والأكل ، أخلص تنل ، ومن كان لله كان الله له.
خير الناس من نفع الناس وانتفع الناس منه.
فكان يوصي بالإحسان على الخلق وعلى المؤمنين ، لا سيّما كان يوصي بالإطعام والضيافة.
كان قلب الشيخ مرآة الحقّ تنطبع فيه الحقائق الربانية ، فإنّه وصل إلى ربّه عارفاً به في بحر جوده وفيضه وعظمته.
كان يعمل ويأكل بعرق جبينه ، فاحترف الخياطة واشتهر بها ، فإنّ الكاسب حبيب الله ، والكادّ لعياله كالمجاهد في سبيل الله ، فكان يقنع بما يكفيه وعياله ، ويوزّع الزائد على الفقراء والمساكين ، ولم يدّخر لنفسه شيئاً ، ويرى كلّ ذلك من فضل ربّه.
سرّ توفيقه كان في حبّه لله وإخلاصه في جميع أعماله ، ومن خلال الأدعية والأوراد والأذكار وقف على بواطن الأشياء وحقائقها.
4 ـ في يوم من الأيام سأله شخص عن سبب موت ولده الشاب ، فأطرق رأسه ثمّ قال له : هل كان عندكم في البيت بقرة ، فأجاب : نعم ، فقال : قد ذبحتم عجلها أمام عينها . فقال : نعم ، فقال : إنّها دعت عليكم بفقد ولدكم كما أفقتم عجلها فاستجاب الله لها.
5 ـ كان الشيخ يعرف لسان النباتات وقد علّمه الله منطق الحيوانات ، يقول : عندما كنت مريضاً واستعملت الأقراص الطبّيّة للتداوي رأيتها تستأذن وليّ الله (عليه السلام) في تأثيرها لإزالة المرض.
6 ـ وفي يوم : يأتيه صاحب مطعم يشكو كساد عمله بعدما كان ناجحاً ، فأجابه الشيخ : ومنك السبب . فقال : وكيف ذلك وأنا اُداري زبائني حتّى الأطفال ؟ فقال له الشيخ : أتذكر يوماً دخل عليك سيّد وأكل عندك ولم يكن عنده مال وإلى ثلاثة أيام ، ففي اليوم الثالث دفعته من حانوتك فانكسر قلبه ، فابتلاك الله بنقص في الأموال ، فتذكّر صاحب المطعم ذلك فتاب إلى ربّه وأرضى السيّد وتعاهد مع نفسه بإكرام الفقاء في مطعمه ، وكان يقدّم الطعام إلى المحتاجين بالنسيئة والدين ، فتحسّن أمره وزاد رزقه.
عرفه الناس بالتواضع وحسن الخلق والخير للناس ، وقد أخذ العلم من أفواه الرجال ، من العلماء الأعلام والخطباء الكرام ، وعمل بما علم فأورثه الله علم ما لم يعلم ، فكان يجاهد نفسه ويزكّي قلبه ، ويصيقلها حتّى كان وعاءً لفيوضات الله وللعلوم والمعارف الإلهية والنبويّة والولويّة ، فكان قلبه مرآة الحقائق.
زهد في دنياه وأخلص في عمله وأحبّ الله وعشقه واعتقده في كلّ وجوده وناجاه في سرّه وسريرته كان ناصحاً واعظاً متّعظاً آمراً بالمعروف مؤتمراً ، ناهياً عن المنكر منتهياً ، متّقياً ورعاً متوكّلا على ربّه في كلّ الاُمور.
7 ـ وحينما يذهب مع أصحابه إلى زيارة قبر من قبور الصالحين يخبرونه أنّ الجسر في الطريق غير صالح ولا يمكن العبور فيقول لهم : توكّلوا على الله ، فيذهبون ويرون الجسر قد عمّروه وأصلحوه.
كان معلّماً لأفاضل أهل العلم ، يعلّمهم حبّ الله ، والإخلاص له ، وأ نّهم لو أخلصوا لفتح الله عليهم أبواب السماوات والأرض مدراراً ، فكان خلاصة كلامه : «العمل لله فقط».
كان يدعو الناس إلى الخيرات والمبرّات والأعمال الصالحة ، وكان يخبرهم عن بعض الأسرار الكونيّة ليجذبهم إلى الله سبحانه ، حتّى كان يبيح بما يجري عليه وتظهر على يديه بعض الكرامات لهداية الناس.
8 ـ قال يوماً : كنت في السوق فخطر على ذهني ذنب ، فاستغفرت الله سريعاً ، ثمّ مرّت عليَّ قافلة جمال فأراد أحدها أن يصيبني بركلة فتنحّيت عنها ونجوت منها ، فأتيت المسجد مصلّياً ففكّرت في ركلة البعير أ نّه لماذا حدث هذا الأمر ، فأخبروني في عالم المعنى أ نّك فكّرت بذنب ، فقلت : ولم أفعله ، فقالوا : ولم يصبك من البعير أذىً أيضاً . فكان يقصد من هذه الحكايات تربية السامعين لا أن يمدح نفسه ويزكّيها.
9 ـ وفي ضيافة يرى اضطراب إخوانه من قلّة الطعام (الأرز) فيقول لهم : لا تخافوا ، ويقول : إن شاء الله لم ينقص . وإذا به يطعم خلقاً كثيراً ويبارك فيه فيأكل الجميع حتّى من كان في الباب واقفاً.
إنّه كان ينصح من يستنصحه فيرى باطنه فيوعظه بما فيه من النقص.
كان يرى خير الأفعال في السير والسلوك أربعة أشياء :
أ ـ الطلب من الله والاستغناء عمّـا في أيدي الناس.
ب ـ الدعاء والتوسّل بالأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فهم باب الله الذي منه يؤتى وإليهم يتوجّه الأولياء.
ج ـ الإحسان إلى الخلائق فخير الناس من نفع الناس وانتفعوا به ومنه.
د ـ التخلّق بأخلاق الله عزّ وجلّ.
كان يدعو الناس دائماً إلى محبّة الله والإخلاص له ، وقد ربّى في هذا الوادي مجموعة من الصالحين والعلماء العاملين من خيرتهم اُستاذنا الحامد قدّس سرّه الشريف.
10 ـ في يوم من الأيّام استدعى خطيباً وقال له : يا سيّد ، خدمة الحسين (عليه السلام) لا يؤخّرون صلاتهم إلى آخر الوقت ، فلا بدّ أن تصلّي في أوّل وقتها.
11 ـ حدّثني اُستاذي : أنّ شخصاً كان يخدم في مجالس سيّد الشهداء (عليه السلام)وكان يترنّم ببيت من الشعر باللغة الفارسية (من حسين دارم چه غم دارم) يعني أنا عندي حسين فلا غمّ لي إذن ، فكان جناب الشيخ رجبعلي يقول في نفسه : إنّ الإمام (عليه السلام) سيتفضّل على هذا الشخص يوم القيامة ويخلّصه من أهوالها وهمومها وغمّها ، فرأى في ليلة يوم المحشر وإذا بالإمام الحسين (عليه السلام) يحاسب الناس وهذا الشخص في أوائل الصفوف ، فيقول الشيخ : قلت في نفسي هذايومك يا رجل هنيئاً لك ، وإذا به أرى الإمام الحسين يأمر ملكاً أن يجعل ذلك الرجل إلى آخر الصفوف ثمّ التفت إليّ وقال : يا شيخ رجبعلي نحن لسنا رؤساء السارقين ، قال ذلك بغضب ، فتعجّبت من ذلك واستيقظت ، فبحثت عن عمل الرجل وإذا به أجده عاملا للدولة ، ويأخذ السكّر ليبيع على الناس بقيمة الحكومي ، وإذا به يسرق مال الناس متحيّلا على الدولة والحكومة آنذاك.
كان الشيخ يحيي اسم الله في قلوب سامعيه ومخاطبيه ، فكان يتأثّر به كلّ من يسمع كلامه ويتزوّد به في حياته العملية ، فكان يدعو الناس إلى أن يتحلّوا بصفات الله العليا وأسمائه الحسنى ويتخلّقوا بأخلاقه ويتأدّبوا بآدابه ، فكان يقول للناس حسناً يدعوهم إلى ربّهم وأن يعرفوا أنفسهم ، ولا يرافقوا الأشرار والفسّاق حتّى يفتح لهم سرادق الغيب وحضيرة الملائكة وساحات الأخيار ، فإنّ قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
ثمّ كان محور دعوته هو الإخلاص وحبّ الله ، وإنّه لو كنّا نخاف من عقاب الله جلّ جلاله بمقدار خوفنا من العقرب ولذعته لا نصلح أمرنا وتحسّنت أحوالنا.
ثمّ لا بدّ من تغيير وتبديل كلمة (أنا) الدالّة على الأنانيّة وحبّ الذات إلى نكرانها وربّانيّتها ، وإنّ من أراد غير الله فإنّه أصمّ عن الحقّ وأعمى عن الحقيقة ، وإنّ القلب حرم الله جلّ جلاله ، فصاحب القلب هو ربّ العالمين ، فلا تسكن غير الله فيه ، والقلب مرآة علم الله ، فلا يطبع فيه سوى الله ، ولا تعملوا للثواب أو خوفاً من العقاب ، بل عليكم بعبادة الأحرار والشاكرين . ومن أراد الراحة فعليه أن يعطي عمره لله سبحانه ، وكمال الإنسان في أن يكون مظهراً لصفات الله ، ومن أراد الدنيا وزبرجها فإنّه يصل إليها ، ولكن لا تنفعه بل تكون وبالا عليه ، وإذا أردت أن يناجيك ربّك في سرّك ويأخذ بيدك فعليك أن تعرفه وتتفاعل معه ، ولو وقفتم على باب قلوبكم ولم تدخلوا غير الله فيها ، فإنّكم ترون عالم الملكوت ، ترون ما لا يراه غيركم وتسمعون ما لا يسمعه غيركم ، ومن عمل لله انفتح عين قلبه ، وإنّ الله لطيف بعبده ، حتّى يرد العبد وكأ نّه هو العبد الوحيد لله من كثرة لطفه وإحسانه وهدايته ، فإنّه في كلّ لحظة وكأ نّه يرى الله يكلّمه ويهديه قائلا : افعل هذا ولا تفعل هذا ، حتّى يصلح أمره.
من أراد الدنيا فإنّه في عالم المعنى والباطن يكون كلباً ، ومن أراد الآخرة ، فإنّه بحكم الخنثى ، ومن أراد المولى جلّ جلاله فهو الرجل حقّاً . ومن عمل عملا عليه أن يتقنه ويحكمه ، فإنّ الخياط عليه أن يستعمل الإبرة الجيّدة والخيط الجيّد ويخيّط جيّداً ، وهكذا في كلّ عمل وفعل فإنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : ولكن الله يحبّ عبداً إذا عمل عملا أحكمه.
من أحبّ شخصاً صرف عليه المال ، ونحن لو أحببنا الله سبحانه لا بدّ أن نصرف المال في سبيله ، كما على المؤمن في كلّ صغيرة وكبيرة أن يكون عمله باسم الله ، فإن لو لم يبدأ باسم الله فهو أبتر غير مبارك ، مقطوع الأثر ، وعلى المؤمن أن تكون أعماله عليها صبغة الله وسمته . وكلّ ما عملتموه فانسبوه إلى ربّكم ، فمنه وإليه ، وإنّه من فضل الله عزّ وجلّ . هذا من فضل ربّي.
قبل رحيلكم من دنياكم اعملوا ما تتمنّاه الأموات فإنّهم يتمنّون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا الصالحات :
(رَبِّ ارْجِعوني لَعَلِّي أعْمَلْ صالِحاً).
ليكسبوا رضى الله.
الدين هو ما يقال على المنابر من قبل العلماء والخطباء ، إلاّ أ نّه ينقصه حبّ الله والإخلاص له.
فعليكم بحبّ الله والعمل الخالص والنيّة الخالصة ، ومن عمل لله وكان لله كان الله له ، فيدخل في ملكه وملكوته وسلطنته.
كلّنا نتصوّر بأ نّا مؤمنين ، ولكن عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، وتعرف جواهر الرجال ، فكل نَفَس يتنفّسه الإنسان هو في امتحان ربّه ، فانظروا هل أنفساكم للرحمن وإنّها أنفاس إلهيّة ، أو أ نّها مرتع للشيطان وأنفاس شيطانية تحفّها نوايا ونفحات شيطانية إبليسيّة.
كلّ واحد عند موته وبعده يقول : صدق الله ورسوله لما يعاين من الحقائق ، ولكن الذي ينفعه قوله ذلك قبل الموت وفي حياته قولا وعملا.
لا تهتمّوا ولا تحزنوا لرزقكم فإنّه مكتبو لكلّ واحد ما له من سهم.
طلبت من الله أن يوقفني على سرّ خلقته ، فعرفت أ نّه الإحسان إلى الخلق ، فلا تغفلوا عن ذلك.
أشقى الناس من ابتلي ببليّة وغفل عن ربّه ، وعليكم بتقدير واحترام ذراري رسول الله (صلى الله عليه وآله).
هذا الدين ليس للنتائج ، إنّما هو للمحبّة وعشق الله سبحانه ، خالفوا أنفسكم واعلموا أنّ لقمة الحلال والحرام لها تأثير بالغ حتّى كاد أن يكون ابن الحلال من أثر لقمة الحرام أن يفعل ما يفعله ابن الحرام وكذلك العكس.
لا تعتمدوا على مكاشفاتكم ، ولا تتيقّنوا بها ، فمنها ما هي شيطانية ، إنّما قادتكم واُسوتكم أئمّتكم الأطهار (عليهم السلام).
الملعقة للأكل ، والفنجان للشاي ، والإنسان إنّما خلق ليكون إنساناً كاملا.
كان الشيخ يأمر إخوانه بمدّ موائد الأطعمة في بيوتكم لما فيها من البركات والخيرات وإنّها من أهمّ مصاديق الإحسان.
كان يقول : التقوى هو الاجتناب عن غير الله سبحانه ، فلا محبّة في سويداء القلب سوى محبّته جلّ جلاله ، وعلى العارف بالله أن يجلس في باب قلبه ويمنع الأغيار عن دخوله ، وسيّد الأغيار النفس الأمّارة بالسوء ، فلا بدّ من مخالفتها ، فقد أفلح من زلّها وقد خاب من دسّها.
كما أنّ الحيلة والمكر لا يتلاءم مع روح التقوى ، ولكن من المؤسف أنّ أكثر تجّارنا وكسبتنا اليوم يحاولون تحليل القضايا بحيل شرعيّة ، كبني إسرائيل حين منعهم الله عن الصيد يوم السبت ، فإنّهم كانوا يتحيّلون في جمع السمك يوم السبت لصيدها في اليوم الآخر.
من يصل إلى مرتبة العقل فإنّه لا يخالف ربّه ولا يعصيه ، فإنّ العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان.
نحن لا ندري ماذا أعدّ وراء الستار وماذا يكون وراء الغيب ، فربّ قول أو فعل يوجب سخط الله وله آثار وضعيّة خطرة نغفل عنها فتؤثّر في حياتنا وتزداد محننا ومشاكلنا ومصائبنا وحتّى تؤثّر في أولادنا ، فلا بدّ من الاستغفار كثيراً ، ليل نهار.
من كان موحّداً ويتجلّى فيه كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) فإنّه لا يعبد سواه ولا يتعلّق قلبه بغيره ، ولا تقدر النفس والشيطان حينئذ عليه.
من زهد في الدنيا فإنّه يدخل في حظيرة الله وقدسه ، ويسير المعرفة يوجب الزهد ، والقلب حرم الله وعرشه ، فلا يمليه ولا يطمئنّ إلاّ بذكر الله.
(ألا بِذِكْرِ اللهِ تطْمَئِنُّ القُلوبُ)[2].
ومن كان ربّه في قلبه ، فإنّه يتمكّن أن يجعل جميع أعماله لله سبحانه ، وإلاّ فإنّ من تعلّق بغيره ، فإنّه يتشكّل به في عالم البرزخ والمعنى ، فالمرء مع من أحبّ ، فلا بدّ لمن أراد الوصول إلى صانعه أن يكون مريده ، ويطيعه شوقاً وحبّاً ، وإنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ، والإحسان هي المرتبة العالية في المعاملات والأفعال.
وقد تكفّل الله رزق العباد :
(وَما مِنْ دابَّة إلاّ عَلى اللهِ رِزْقُها)[3].
فليس المطلوب منّا ذلك ، إلاّ أ نّه نركض وراءه وكأنّ الله لم يتكفّل ، ونسينا أ نّه خلقنا للآخرة والوصول إلى الله سبحانه ، وإلى ربّك المنتهى ، وإنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه.
الإنسان تجلّى فيه روح الله :
(وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ روحي).
فعليه أن يفعل فعل الله ، فإنّ روح البقرة تفعل فعل البقرة من الخوار ، وروح الديك يفعل فعل الديك من الصياح ، وروح الإنسان الذي هو من روح الله لا بدّ أن يفعل فعل الله ويقول بقول الله ، ومن أحسن من الله صبغة ومن أصدق من الله قيلا.
هذه جملة وصايا[4] شيخنا الأجلّ في مجالسه الروحانية ، ومن أخلاقه الرفيعة كرمه وجوده واحترامه الضيوف كثيراً ، وأكثر من ذلك احترامه وتقديره لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان يراعي آداب الضيافة غاية المراعاة.
كان يهتمّ بالنوافل والمستحبّات حتّى صار مصداق قوله تعالى :
(سَيَجْعَلْ لَهُمُ الرَّحْمنُ وِدَّاً)[5].
فدخل في القلوب فملكها وأحبّه الجميع.
إنّه كان في خدمة الناس ، يريهم ما فيه الخير والصلاح بفراسة من الله ونوره.
12 ـ حينما شكى بعض الفلاحين في مازندران قلّة المطر والجدب ، يأمرهم أن يذبحوا بقرة ويطعموا الناس والفقراء ، فلمّـا فعلوا ذلك ، وقبل أن يجمعوا المائدة ، نزلت الأمطار الغزيرة برحمة الله الواسعة.
أفتح الله بصر الشيخ في رؤية المغيّبات وسلسلة العلل والمعاليل في هذا الكون الرحب الوسيع ، وانكشفت له بعض الأسرار الكونيّة ، وما وراء الطبيعة ، كلّ ذلك لكفّ نفسه عن المحرّمات والورع حتّى عن المكروهات ، وعشقه لله وإخلاصه في العمل ، فكان يقرأ الضمائر ويرى البواطن.
13 ـ يحدّث أحد المؤمنين أنّي كنت في حضرة الشيخ فخطر على ذهني أ نّه هل يمكن أن يكون للإنسان الدنيا والآخرة معاً ؟ فالتفت إليَّ الشيخ وقال : إقرأ كثيراً :
(رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).
14 ـ وعندما يلتقي بأحد العلماء الذين توغّلوا في المنهج العقلاني والفلسفيات ، ويطلب من الشيخ النصيحة ، فيقول له : ماذا أقول لمن يعتمد على علومه أكثر ممّـا يعتمد على فضل ربّه.
فيطرق العالم رأسه غارقاً في نفسه ، وبعد برهة يرفع عمامته ويضرب رأسه بالحائط باكياً متأثّراً بكلام الشيخ.
15 ـ وعندما يدخل عليه الخطيب والشيخ في مناجاته مع إخوانه فيقول الخطيب في نفسه : لو كان الشيخ من المقرّبين عند الله لتحسّن حالي ومجالسي في هذه السنة ، وكان يقصد الجانب المادّي والاقتصادي ، وإذا بالشيخ وهو في وسط تلاوة الدعاء يقول : أنا أقول له دع المال ، وهو يمتحنني بالمال ، ثمّ استمرّ في دعائه.
16 ـ وعندما يدخل مقبرة كاشان مع أصحابه يشمّ رائحة الوردة الحمراء ، فيسأل صاحب المقبرة عمّن دُفن في هذا اليوم ، فيشير إليه بقبر جديد ، فيأتيه الشيخ ويقول : لقد جاء سيّد الشهداء (عليه السلام) لرؤية صاحب هذا القبر ، وهذه الرائحة الطيّبة إنّما هي منه (عليه السلام) ، وقد رفع الله العذاب عن أهل هذه القبور ببركة سيّد الشهداء (عليه السلام).
17 ـ وعندما يرى الشيخ شاباً في شبّاك الإمام الرضا (عليه السلام) يبكي ويدعو ربّه في طلب حاجة ، يقول الشيخ لأحد أصحابه : إذهب وأخبر هذا الشابّ أ نّه قضيت حاجتك . فيسألون الشيخ عن القصّة فيجيبهم أ نّه يطلب زواج بنت امتنع أهلها عن تزويجه إيّاها ، فرأيت الإمام (عليه السلام) يقول بقضاء حاجته.
18 ـ ولشخص آخر يخبره أ نّك أردت ولداً من الإمام الرضا (عليه السلام) ، فإنّه يعطي لكَ ذلك بفضل الإمام وسمّه (رضا).
19 ـ وفي يوم من الأيام يعطي مالا لأحد أصحابه ليوصله إلى إمام جماعة مسجد في طهران ، وبعد ذلك يسألونه فيقول إمام الجماعة : في ذلك اليوم أتاني ضيفٌ ولم يكن لديّ شيٌ اُقري به الضيف ، فتوسّلت بصاحب الزمان (عليه السلام) ، فأتاني المال المطلوب من قبل الشيخ (قدس سره).
20 ـ وحينما يسأله أحد أصحابه أن يدعو له بولد طالباً ذلك من الإمام الرضا (عليه السلام) فيقول له : سيولد لك مولدان ، فاذبح لكلّ واحد منهما بقرة لله سبحانه واطعم الناس منها . ففعل للأوّل بعد ولادته ، ولكن للثاني اعترض عليه الناس على أ نّه من يقول بأنّ كلام الشيخ صحيح ، فلم يذبح ، فمات الولد الثاني ، ولمّـا أخبروا الشيخ بذلك قال : على المسلم أن يفِ بوعده وعهده.
(أوْفوا بِعَهْدي اُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
21 ـ وعندما يسرق مال كثير من شخص قد أعدّه لشراء دار ، وكلّما يبحث عنه لم يجده ، حتّى توسّل بصاحب الزمان (عليه السلام) فاُشير عليه بأن يذهب إلى الشيخ ، فيأتيه ، فيدلّه على دار في كرج وأنّ المال بجنب تنّور في منديل أحمر من حرير ، يأخذه ويخرج سريعاً من الدار ، ويدعوه إلى شرب الشاي فلا يستجب لهم ، فكان الأمر كما قال الشيخ ، وكانت الدار لخادم صاحب المال.
وهذه كرامات أراد الله سبحانه لأوليائه وخصّها بهم.
(وَجَعَلَني مِنَ المُكْرَمينَ)[6].
فيكون وليّ الله في حياته وبعد مماته نجماً ساطعاً وكوكباً دُرّيّاً يهتدى به ، فهو الذي يديم خطّ الأنبياء وشرائعهم السماوية ، وهو يرث العلماء في علومهم وأخلاقهم وبركاتهم ، فهو الأمين والشهيد الشاهد على المجتمع في رعايتهم المبادئ القيّمة والعقائد السليمة ، فمن سنن الله جلّ جلاله أن تظهر النبل والكرامات على يد أوليائه لتكون الحجّة البالغة لله سبحانه ، وتظهر آثار الأمانة والثقة والمسؤولية من الكرامات على يد الصلحاء الأخيار ليهتدي من يهتدي على بيّنة من أمره وبصيرة تامّة في حياته.
فظهرت الكرامات على يد هذا الرجل العظيم الذي أوقف نفسه لله ، فأحبّه وقرّبه وقدّم له الذكر العليّ والثناء الجليّ.
22 ـ عندما يدخل داراً ليبارك صاحبها بعرس ولده ، وقد فتح الشاب الطائش الگرامافون ليرقصوا حوله ، فينهرهم صاحب الدار احتراماً للشيخ ، إلاّ أ نّهم لم يرتدعوا ، فيخرج الشيخ ، فيعطل الگرامافون ، فيبدّلوه بآخر ، فكذلك يعطّل ، فعرفوا أنّ هذا من كرامات الشيخ.
23 ـ وحينما يخبروه أنّ أحد أولاد أقربائه قد اُصيب بحادث سيّارة ، وهو في المستشفى في حالة خطرة ، يأمر أهله أن يذبحوا شاة ويطعم بها الفقراء ، وأربعين نفراً من عمّـال الفواكه ، ويدعون له ، فيفعلون ، وإذا بالولد سريعاً ما يشفى ببركة الإحسان إلى الناس.
24 ـ ولمّـا يدخل عليه أحد أصحابه وقد رأى في الطريق امرأة جميلة أخذت قلبه ، فيقول له الشيخ : يا هذا ، أرى فيك الظلمة ، فيقول الرجل في نفسه : (يا ستّار العيوب) ، فيضحك الشيخ ويقول : ماذا فعلت ؟ فإنّه محي عنك ما كنت أراه.
25 ـ وفيما يطلب منه أحد أصحابه أن يرزقه الله ولداً ، فيأمره بإطعام الطعام ، وإذا ولد له مولوداً يسمّيه (مهدي) ، ففعل ذلك الرجل وجمع إخوانه في وليمة وقرأ مجلس عزاء سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ، وفي اليوم التالي لمّـا أتى الشيخ أخبره الشيخ بكلّ ما جرى في المجلس حتّى قال له : وكان بيدك إناء أخضر تصبّ فيه الماء وسط المائدة ، ففي تلك اللحظة كان سيّد الشهداء (عليه السلام) بجنب المنبر جالساً وقد دعا لك بالولد ، وبعد زمان قصير رزقه الله ولداً سمّـاه (مهدي).
26 ـ وعندما يطلب منه صاحب منصب عال في الحكومة أن يدعو له في شفاء رجله ، فيقول له : كانت لك سكرتيرة كتبت لك يوماً خطّاً غير جيّد ، فوبّختها ، فانكسر قلبها وبكت ، وكانت تلك المرأة من العلويّات من ذرّية رسول الله ، فإذا أردت الشفاء والصحّة فعليك أن تطيّب خاطرها وتعتذر منها ، فبحث عنها حتّى وجدها فأرضاها واعتذر فشافاه الله سبحانه.
27 ـ ولمّـا يدخل عليه سائق سيّارة يخاطبه الشيخ : ماذا فعلت بالأمس ، فإنّي أرى فيك نوراً . وكان السائق في أمسه أعان أعمى على عبور الشارع وأركبه سيّارته وأوصله إلى مقصده مجاناً.
28 ـ وامرأة تضرب ولدها ضرباً مبرحاً لخطأ صدر منه ، فتبتلى بالحمّى الشديدة ، وفي طريقها إلى المستشفى في السيّارة بمعيّة الشيخ يشكو زوجها انحراف صحّة زوجته للشيخ فيقول لهما : لا يضرب الطفل هكذا ، فعليها بالاستغفار وأن ترضي ولدها ، ففعلت فتعافت.
29 ـ وأحد أصحابه في رجوعه من زيارة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يسأل عن سبب عدم توفيقه الدخول في يوم إلى الحرم الشريف حيث أنّ الكيشوان لم يستلم حذاءه ولثلاث مرّات حتّى يبكي تحت الميزاب فيتوفّق للدخول . فيقول الشيخ : إنّما السبب منك ، فإنّك كنت تذهب إلى عطّار المحلّة عصراً وتجلس عنده ، فأنت زائر الإمام فلماذا هذا الجلوس ؟
30 ـ وشخص قد اُصيب برأسه جرحاً ، فيسأل الشيخ عن السبب ، فيقول له : لقد آذيت طفلا في مصنعك ، فما دام لم يرضَ عنك فإنّ عقابك يتكرّر ، فيصدّقه ويرضي الطفل ، فيرتفع عنه البلاء.
31 ـ وحكم على شابّ بالأعدام ، فيطلب منه الشيخ خلاصه ، فيقول : عليكم باُمّه ، فإن رضت فإنّه ينجو ، فيأتون باُمّه ، فتقول : وأنا أدعو له بالخلاص أيضاً ، إلاّ أ نّهم يحفّونها بالسؤال فتقول : نعم ، لقد انكسر قلبي منه يوماً ، في بداية زواجه ، كنت وزوجته وهو على مائدة الطعام ، وبعد الأكل جمعت المائدة وسلّمتها إلى زوجته لتأخذها إلى المطبخ ، فقام ولدي وأخذها من يدها وقال مغضباً : إنّي لم آت لكِ بخادمة ، فتألّمت كثيراً ، ولكن الآن رضيت عنه ، ففي اليوم الثاني نجا الشابّ من الإعدام وخرج من السجن على أ نّه وقع اشتباه بالنسبة إليه.
كلّ هذه الكرامات إنّما هي من تقوى الشيخ وإخلاصه وإيمانه الراسخ وإطاعته لله سبحانه.
في الحديث القدسي الشريف : «عبدي أطعني أجعلك مثلي ، أقول للشيء : كُن فيكون ، وتقول للشيء : كُن فيكون».
32 ـ حدّثني اُستاذي : إنّه كان مع الشيخ في ضيافة أحد إخوانه في طهران ، وقبل الحديث قال لصاحب الدار : أحسّ بضعف ، فاُتي له بنصف قرصة خبز صغيرة تصنع في الدار فأكلها الشيخ ، وكان من دأبه أ نّه بعد صلاته يسلّم على الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وكان يسمع الجواب ـ كما جاء في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) : (أشهد أ نّك تسمع كلامي وتردّ سلامي) إلاّ أنّ الذنوب هي التي تحجب ذلك ـ وفي ذلك اليوم سلّم بعد الصلاة فلم يسمع جواباً ، فعلم أ نّه صدر منه ما منعه من الجواب ، فكلّما حاسب نفسه لم يهتدِ إلى السبب ، فتوسّل بالأئمة (عليهم السلام) فأعلموه في عالم المعنى أ نّه : يا شيخ ، لقد أكلت كلّ القرصة وكان نصفها يرفع الضعف ، فلماذا أكلت كلّها ؟ وهذا معنى قولهم (عليهم السلام) : «وفي حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب» ، وإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، فربما أكل القرصة لا مانع فيه لعامّة الناس ، ولكن مثل الشيخ يعاتب على ذلك ويحاسب ، فإنّه من أولياء الله وأوتاد الأرض.
33 ـ وفي يوم يسرق حذاؤه ، فأراد الشيخ أن يعرف السبب ، فقالوا له في عالم المعنى : إنّك وضعت قصاصة القماش الذي تخيطه للناس في حذائك ـ وكانت هذه القصاصات لا قيمة لها وترمى في المزبلة ـ إلاّ أ نّه مثل الشيخ يحاسب عليها.
34 ـ وفي يوم في القطار يحسّ بظلمة القلب والباطن ، فيتوسّل بالله ليعرف السبب ، فيقال له : إنّ الشاي الذي شربته في القطار إنّما هو من مال الحكومة الظالمة.
35 ـ ولمّـا يسأله أحد إخوانه عن سبب فقد حالاته الروحانيّة والمعنويّة يقول في جوابه : السبب هو الكباب الذي أكلته ، فإنّه من مال فلان التاجر الذي أعدّه من أموال عجوزة قد غصبها.
36 ـ وحينما يشيّع جنازة آية الله العظمى السيّد البروجردي (قدس سره) يسأله في عالم البرزخ عن سبب كثرة المشيّعين ، فيقول له السيّد (قدس سره) : لأ نّي درّست طلاّب العلم كلّهم لله سبحانه.
37 ـ ويحدّث الشيخ عن نفسه لهداية الناس قائلا : لمّـا أراد ولدي أن يدخل الجنديّة أردت أن أسعى له لخلاصه ، إلاّ أ نّه جاءني في ذلك اليوم رجل وامرأة في حاجة فبقيت معهما حتّى قضيتها ، ولم اُوفّق لخلاص ولدي ، فرجع وأخبرني بتسريحه وقال : إنّه قبل أن يصل إلى المعسكر اُصيب بصداع شديد وورم عجيب في رأسه ، فلمّـا فحصه الدكتور أعفاه عن الجنديّة ، فما أن خرج إلاّ وذهب الورم والصداع وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً ، فقال الشيخ : نعم واحدة بواحدة ، قضينا حاجة الناس فقضا الله حاجتنا.
38 ـ قال يوماً : كانت لي حاجة عند الله ، كنت أدعو ليل نهار في قضائها ولم اُوفّق ، فقلت في نفسي : ندعو للناس بهذا الدعاء فيستجاب ، ولكن لنا لم يستجب الله فكأ نّه حتّى رسول الله وعترته الطاهرين (عليهم السلام) لم يفكّروا بنا ، يقول الشيخ : فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه الغبار قائلا : ما بك يا شيخ ؟ نحن قبل ألف سنة من خلقة آدم كنّا نفكّر بكم ...
39 ـ يقول الشيخ : كنت أقول : أفدي نفسي لمن كان قلبه ولسانه واحداً ، فأراني الله سلمان رضوان الله عليه ، وقالوا لي : هذا لسانه وقلبه واحد ، ونريد أن نفديك إيّاه ، فامتنعت عن ذلك ، لأ نّي اُريد أن أفدي نفسي لمحمّد وآله ، وعلمت ـ آنذاك ـ أنّ كلّ ما نقوله نحاسب عليه ، فقلت من بعد هذا : أنا خادم لمن كان لسانه وقلبه واحد ، لأ نّي اُريد خدمة سلمان المحمّدي رضوان الله عليه.
[1]كان عمره آنذاك 12 سنة وهو الوحيد لوالده المرحوم مشهدي باقر ، أسكنهما الله فسيح جنانه.
[2]الرعد : 28.
[3]هود : 6.
[4]اقتباس من كتاب (تنديس اخلاص) حياة الشيخ رجبعلي الخيّاط باللغة الفارسية ، بقلم الشيخ ري شهري.
[5]مريم : 96.
[6]يس : 27.