![]() |
![]() |
![]() |
الأوّل : لا بدّ لتوضيح المقام أن نعرف أوّلا محلّ النزاع ، فهل يسقط القصاص عن اليد اليمنى بعد قطع اليسرى من قبل المجني عليه ؟ وإذا قيل بإعادة القصاص في اليمنى فهل عليه أن يدفع دية اليسرى للجاني ؟
أمّا جواب الأوّل ، ففي المسألة أقوال ولها أربعة صور : فالجاني والمجني عليه كلاهما جاهلان بالموضوع أو بالحكم أو بهما أو عالمان بهما ، ومثال الجهل كالقصاص في الليل الأظلم ، فلو قدّم الجاني يده اليسرى وجنايته كانت في يمنى المجني عليه ، وإنّما قدّمها جهلا بالحكم والموضوع.
فإن كانا جاهلين بالموضوع والحكم ، فقيل بعدم سقوط القصاص عن اليد اليمنى ، وقيل بالسقوط وإن كانا جاهلين بالحكم دون الموضوع ، ذهب الشيخ في المبسوط بعدم القصاص مرّة اُخرى ، ربما لقاعدة (اليد باليد) وإرفاق الشارع ، كما تحسب الرجل اليسرى في عرض اليد اليمنى بدلا كما في السرقة وحدّها ، ولرواية سهل بن زياد عن محمّد بن قيس[1] ، والرواية كما ترى لمكان سهل فإنّ الأمر فيه سهل . ثمّ الأدلّة بعمومها تشترط المماثلة ، مع مصداقيّة اليد . هذا بالنسبة إلى من يقول بالسقوط ، وأمّا العدم كما عند الأكثر ، فإنّ كلا اليدين مورد القصاص ويصدق الجهل عليهما ، وشمول عموم الأدلّة وكون اليمنى بدلا من اليسرى لا بدّ له من دليل ، كما لنا الاستصحاب الوجودي والعدمي وقاعدة المقتضي والمانع ، فيستصحب حقّ المجني عليه عند الشكّ في سقوطه ، فيقال بعدم السقوط وهو المختار.
وقيل بالقصاص بعد اندمال اليد اليسرى الذي لولا الاندمال لكان ينتهي إلى تلف النفس.
ولو بادر المجني عليه وقبل الاندمال قطعوا يد المجني عليه اليمنى أو سرى إلى تلف النفس ، فإن سرت وتلف فعلى من تكون الدية ؟ قال الفاضل الهندي[2] : نصف من المجني عليه والنصف الآخر من الجاني ، وصاحب الجواهر أشكل بأنّ اليسرى جهلا قد قطعت ، وليس لها ضمان الإتلاف ، واليمنى قطعت استحقاقاً ، وقبول هذا الإشكال مشكل ، ويعلم من هذا أنّ المسألة ذات صور :
الاُولى : فما لم تسرِ فلا شكّ لنا ، والتنصيف فيما لو كان الاثنين.
الثانية : أن تكون السراية من سريان الدم من اليسرى فاستعجل المجني عليه ، فيمكن أن يقال بالتنصيف.
الثالثة : أن ينصف باعتماد أهل الخبرة.
الرابعة : لا يعلم من أ يّهما ، فالمختار القرعة لكلّ أمر شكل ، وإلاّ فالمصالحة.
وأمّا جواب الثاني : حيث قبلنا بقاء حقّ المجني عليه وكان يعلم فأقدم فكان القطع عمديّاً وتداركه بالبدل خمسمائة درهم في مقابل اليد اليسرى ، أو العفو عنها ، فإن قلت كان يعلم أ نّه لا تقطع اليد اليسرى ، فإقدامه على القطع كأ نّه أسقط حقّه ، فجوابه إنّ حقّ الجاني على يد المجني لم يكن ساقطاً.
الثاني : في جناية اليمنى للمجني عليه حقّ في اليمنى واختيار القصاص والدية باختيار المجني عليه فإن علم وقطع اليد اليسرى للجاني[3] ، ذهب الشيخ الطوسي إلى سقوط حقّه . وقيل يتبدّل إلى الدية . ومستنده أنّ الحقّ لم يذهب لعدم الاتّحاد المحلّي ، وإن شكّ في سقوط الحقّ فإنّه يستصحب ، والمقتضى يؤثّر حيث لا مانع ، وهنا عندنا شكّ في مانعيّة الموجود . والشهيد الثاني يميل إلى السقوط ، لأنّ الجاني قدّم يده اليسرى فأباحها ، والمجني عليه سقط حقّه عند قطعها ، ولا يضمن لو سرت إلى الموت ، وأنت خبير أنّ رضى الجاني لا يصحّ بالنسبة إلى الحكم.
الثالث : ذهب المشهور إلى تعزير الجاني والمجنى عليه حين علمهما بالحكم والموضوع في مسألة الجناية على اليمين وتقديم اليد اليسرى[4].
ويقول الشهيد الثاني : لو كان الجاني عالماً بالموضوع فقدّم يده اليسرى والمجني عليه يعلم بها إلاّ أ نّه احتمل جواز قطعها بدلا عن اليمنى ، وسكوت الجاني عن ذلك يعني إسقاط حقّه ، إلاّ أنّ سكوته أو تقديم يده اليسرى لا يدلاّن على إسقاط الحقّ ، فتأمّل.
الرابع : من القواعد في القصاص (كلّ ما كان المباشر أقوى من السبب فعليه الضمان) وإلاّ فالضمان على السبب ، فلو فرض أنّ المجني عليه كان جاهلا ، وكان يتصوّر صحّة قطع اليسرى بدلا عن اليمنى ، فحينئذ السبب وهو الجاني أقوى من المباشر ، ولمّـا لم يكن الإنسان ضامناً لنفسه فيلزم أن يذهب حقّه هدراً ، فلا شيء على المجني عليه ، ولكن لا يتمّ هذا فإنّ السبب والمباشر ربما يكونا واحداً ، وعند التعدّد فلو كان المباشر مختاراً فهو أقوى من السبب ، وما نحن فيه فلمّـا كان المجني عليه جاهلا بالموضوع فلا يقتصّ منه ، إلاّ أ نّه عليه الضمان للإختيار ، فالجهل رافع القصاص وليس رافعاً للضمان بالدية بدلا.
الخامس : لو قدّم الجاني اليد اليسرى أو كان جاهلا بالحكم ، والمجني عليه كان عالماً بالحكم والموضوع فإنّه يحفظ حقّ الجاني وله القصاص مع ردّ الدية.
السادس : هل يعزّر المجني عليه ، لمّـا كان عاصياً وارتكب محرماً ـ عند العلم بالحكم والموضوع ـ وقطع ما لا يجوز قطعه فإنّه يُعزَّر ، وإن قيل : لماذا لم يتفحّص الجاني ويسأل حتّى يحصل له العلم بالحكم ؟ فجوابه : إنّه في الشبهات الموضوعيّة لا يلزم التفحّص ، فتجب الدية حينئذ خمسمائة دينار لليد الواحدة.
السابع : ما قاله المحقّق من قاعدة (كلّ موضع تضمن اليسار فيه تضمن سرايتها) يلزمها أن تكون اليد مضمونة[5] ، فإذا أراد علاجها إلاّ أ نّه من حيث لا يدري عالجها بالسمّ فصار سبباً للسراية والموت ، فهذا تابع للسمّ لا لقصد الجناية ، فلا قصاص حينئذ إنّما الدية بدلا.
الثامن : هذا كلّه فيما لو كانت الجناية على اليد اليمنى مثلا ، واقتصّ المجني عليه من اليسرى ، فلو انعكس الأمر فكانت الجناية على اليسرى وقدّم الجاني يميناه ، فالكلام الكلام ، وكذلك الحكم في الرجلين.
التاسع : لو كان اندمال الجرح يستلزمه المصاريف ، فيحتمل أن يكون على الجاني ، وربما على المجني عليه فإنّ التداوي من الجناية ، والمختار الصلح فإنّه خير.
العاشر : لو كان المجني عليه يعلم بالموضوع ، وقدّم الجاني يده اليسرى ـ والجناية في اليمنى ـ وكان عالماً أيضاً بالموضوع ، فيدّعي المجني عليه بقاء حقّه في القصاص ، والجاني يدّعي أ نّه قدّم يسراه بقصد البدليّة عن اليمنى ، فبناءً على كفاية قصاص اليسرى باليمنى لعموم (اليد باليد) فيلزم سقوط الحقّ . فإن قيل بعدم سقوطه بناءً على عدم الكفاية ، فيأتي النزاع بين الجاني والمجني عليه ، ويكون طرح الدعوى بنحوين : تارةً من التداعي ، واُخرى من المدّعي والمنكر ، ثمّ الدعاوى تارةً في الكيفيّات النفسانيّة التي لا يعلم صدقها إلاّ من قبل صاحبها كالقصد القلبي ، واُخرى غيرها ، فلو ادّعى المجني عليه أنّ الجاني قصد الهدريّة ، والجاني أنكرها ، فهذا من المدّعي والمنكر ، واُخرى يدّعي البدليّة ـ أن تكون اليسرى بدلا عن اليمنى ـ فهذا من التداعي في الأمرين الوجوديين ، وحكم كلّ واحد منهما واضح كما مرّ.
الحادي عشر : لو قطع الجاني يد اليمنى من المجني عليه ، فإن تراضيا أن تقطع اليد اليسرى[6] ، فذهب المحقّق إلى بقاء حقّ المجني عليه ، فإنّه لا يحقّ له بأن يرضى باليسرى ، ولو شككنا فلنا الاستصحاب الوجودي والعدمي وقاعدة المقتضي والمانع لو قلنا بحجّيتها ، فإنّها تقول بأنّ الجناية عمدية ونشكّ في المانع فنأخذ بالمقتضي للاستصحاب.
الثاني عشر : لو اشترك جانيان أحدهما بقطع اليد اليمنى والآخر اليد اليسرى ، وتنازعا في اليمنى واليسرى ، فصاحب الجواهر يذهب إلى احتمال أن يسقط حقّ المجني عليه على اليد اليمنى للجاني ، وكذلك أسقط الجاني حقّه عند تسليم يده اليسرى ، وهذا غير تامّ ، فإنّ مقتضى الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع أنّ الحقّ لا زال باق . وقيل : بعدم ضمان المجني عليه ، وقيل بالتهاتر ، فتبرء ذمّتهما قهراً باعتبار العدل ، فإن اتّفقا على البذل وجاء جان آخر وقطع يد الجاني الأوّل ، ووقع النزاع بين المجني عليه وبينه ، فيقول المجني عليه لم تقطع بعنوان البدليّة ، والجاني يدّعي أ نّها قطعت اليمنى والمجني عليه يقول باليسرى ، فاليمين على من أنكر والبيّنة على المدّعي ، فيثبت قول المدّعي مع بيّنته ، وإلاّ يحلف المنكر بأ نّي قصدت البدليّة ، أو ينكل أو يردّ اليمين على المدّعي فإن حلف ثبت قوله ، وإن نكل ، فعلى المشهور يحكم عليه.
وإن لم يحلف المجني عليه ، كان المورد من الأصل السببي والمسبّبي ، والأصل في السببي التساقط ، وإن كان مسبّباً بأ نّه هل حقّ قصاص اليد اليمنى للجاني جائز أم غير جائز ، فمقتضى حكم الشارع عدم القصاص ، فإنّه يحتمل أن يكون قاصداً للبدليّة بتقديمه اليسرى ، إلاّ أ نّه لا يهدر دم المسلم فيؤخذ له بدله خمسمائة دينار الدية ، وبالنسبة إلى المجني عليه الذي قطع اليد اليسرى من الجاني فأخذ البدل.
وهنا يذكرون مؤيّدين لتقديم قول الجاني في ادّعائه البدليّة ، كالتمسّك بحكم العقلاء بأ نّهم لا يهدرون بأيديهم ، وهذا يؤيّد أنّ الجاني لم يقصد الهدريّة ، كما أنّ الأصل حرمة اليد ، ومقتضاه كون قطعه جهلا ، ثمّ صاحب القصد أعرض بالكيف النفساني وبقصده القلبي من غيره.
الثالث عشر : ما حكم المجنون أو الصبي لو جني عليهما بقطع يميناهما ، فقطعا اليد اليسرى من الجاني[7] ؟
قيل : لو لم يكن القصاص للزم أن يذهب هدراً ، وحينئذ يقال ببقاء حقّ المجني عليه على اليد اليمنى ، وتضمّن اليد اليسرى من الجاني لعموم الأدلّة ، وعند الشكّ يستصحب الحقّ . كما أ نّه في قطعهما اليسرى من (قطع ما لا يجوز قطعه شرعاً) فيلزمهما الضمان بالدية.
وقيل : بسقوط حقّ المجنون على اليد اليمنى من الجاني ، ولا يضمن لإذن الجاني بالقطع ، وأنت خبير أ نّه بعنوان البدليّة قد قطعها ، ولم يمضها الشارع المقدّس ، كما أ نّه ضامن بالبدل وهي الدية لقطع يد مسلم ظلماً.
قيل : السبب هنا أقوى من المباشر فلا يضمن لحديث الرفع (رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق وعن الصبيّ حتّى يحتلم ـ يبلغ ـ) ولكن لا يصحّ سقوط الحقّ من دون دليل معتبر ، كما لا يصحّ عدم الضمان التي تدلّ الأخبار الشريفة عليه.
ثمّ كلمة (رفع) أو (وضع) كما في أخبار الرفع ، إنّما هي فعل مجهول ، ولا بدّ من نائب فاعل ، فقيل هنا بأربع احتمالات : رفع : 1 ـ المؤاخذة 2 ـ استحقاق المؤاخذة 3 ـ قلم التكليف 4 ـ ما كان رفعه ووضعه بيد الشارع.
والظاهر الأمر الرابع وهي عبارة عن الأحكام التكليفيّة والوضعيّة قد رفعت أو وضعت عن المجنون والصبي.
أمّا الاحتمال الأوّل فهو مختار شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، ولازمه رفع الأحكام الوضعيّة . وأمّا الاحتمال الثاني فهو لبعض العامّة كالغزالي ، والاحتمال الثالث ينحصر في استحقاق الأحكام التكليفيّة ، والرابع للمحقّق الخراساني كما هو المختار ، فرفع عن المجنون الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، إلاّ أن يكون لنا دليل من الخارج على ثبوتها كما في الضمان ، وإن قيل (فعل المجنون كلا فعل) فهو ناظر إلى العقوبة.
والقول الجيّد في أصل المسألة بقاء حقّ المجني عليه ، وقيل : بالتفصيل بأنّ المجنون لو قطع مماثل العضو فإنّه يسقط الحقّ ، وإلاّ فلا ، وفيه لو قلنا أنّ فعله كلا فعل ، فهذا يعني بقاء حقّه.
ثمّ المشهور بين الفقهاء أنّ الدية على المجنون إنّما هي على عاقلته وكذلك الصبي ، باعتبار عمد المجنون والصبي خطأ ـ وكان التشبيه في التقدير أي كالخطأ ـ فيكون المجنون ضامناً للدية ، إلاّ أ نّه عاقلته ، ويشكل ذلك ، فإنّ الدية تؤخذ من محلّ صدور الجناية ، وهو الجاني ، وحملها على الغير خلاف القاعدة ، والقدر المتيقّن في مخالفتها هو في القتل الخطأي ، أمّا في العضو الذي هو اليد اليسرى من الجاني فهو خلاف القاعدة ، كما لم نقبل برواية حبيب السجستاني لضعفه أو أ نّه مجهول الحال ، كما أنّ المناط لم يكن محقّقاً ، بل هو من الظنّي الذي ليس بحجّة ، فتدبّر.
وحينئذ لو كان للمجنون مالا ، فإنّ الوليّ يأخذ دية يسرى الجاني من ماله ، وإلاّ فمن بيت المال الذي اُعدّ لمصالح المسلمين ، وللجمع بين الحقّين يقال : إنّ يد الجاني في ضمان المجني عليه ، والمأمور بإخراج المال من بيت المال هو الحاكم الشرعي ، وعلى المشهور العاقلة تدفعها إلى الحاكم ، وهو يردّها إلى الجاني.
الرابع عشر : لو قطع الجاني اليد اليمنى من المجنون ، والمجني عليه ـ المجنون ـ قطع اليد اليمنى من الجاني ، فهل هذا يعدّ قصاصاً[8] ؟
في المسألة ثلاثة أقوال : قيل بسقوط حقّ المجني عليه بذلك للاستيفاء ، وقيل : ببقاء حقّه فإنّ فعله كلا فعل ، إلاّ أ نّه لم يكن لقصاصه مورداً بعد ذلك فتؤخذ له الدية ، ولمّـا لم يكن أهلا للقصاص فكأ نّه مثل الأجنبي الذي يقطع يد الجاني ، وعند الشكّ نستصحب بقاء الحقّ ، سواء الاستصحاب الوجودي أو العدمي ، وقيل : ببقاء القصاص في اليد اليسرى للجاني أو رجله اليسرى ، ومال إليه الفاضل الهندي ، ومستنده روايات ضعيفة السند والدلالة ، وإن قيل بالقول الثاني ، فإنّ الجاني لم تذهب يده هدراً وهو المختار.
[1]الوسائل 18 : 492 ، باب 5 من أبواب حدّ السرقة ، وفي الباب ستّة عشر رواية ، الحديث 1 ـ محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه وعن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد جميعاً عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في السارق إذا سرق قطعت يمينه ، وإذا سرق مرّة اُخرى قطعت رجله اليسرى ، ثمّ إذا سرق مرّة اُخرى سجنه وتركت رجله اليمنى يمشي عليها إلى الغائط ويده اليسرى يأكل بها ، ويستنجي بها ، فقال : إنّي لأستحي من الله أن أتركه لا ينتفع بشيء ولكنّي أسجنه حتّى يموت في السجن ، وقال : ما قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سارق بعد يده ورجله.
[2]الجواهر (42 : 410) : قال في كشف اللثام : فيضمن نصف السراية ، بخلاف ما لو قطع يدين فإنّه يوالي بين قطع يديه فإنّ السراية إن حصلت فعن غير مضمون) قال صاحب الجواهر : وفيه نظر أمّا (أوّلا) فلاحتمال عدم الضمان فيهما في الفرض للجهل بالأوّل والاستحقاق في الثاني ، وأمّا (ثانياً) فقد يقال بضمانه هنا النفس وإن كان الجرحان معاً غير مضمونين باعتبار اشتراط استيفاء القصاص في الطرف لعدم التغرير بها ، فإذا اقتصّ مغرّراً بها ضمنها وإن لم تكن الجناية مضمونة لو اندملت فهو كما لو قطع اليد الشلاّء التي حكم أهل الخبرة بعدم انحسامها . ولكن مع هذا كلّه والمسألة لا تخلو من إشكال.
[3]الجواهر (42 : 411) : نعم (لو قطعها) المجني عليه (مع العلم) بكونها اليسار ضمنها قطعاً لعموم الأدلّة الذي لا يعارضه الإذن من ذي اليد صريحاً فضلا عن الفعل الدالّ عليها بعد إلغاء الشارع لها وكونها بمنزلة العدم ، لأ نّه لم يجعل الأمر في البدن إليه . ولكن في غاية المراد (هي هدر ، لأ نّه أخرج بنية الإباحة ، ولا يضمن السراية ، ويعزّران لحقّ الله تعالى) وهو كما ترى . وأغرب من ذلك قوله فيها متّصلا لما سمعت : (ولو سكت ولم يخرجها فقطعها والحال هذه أي عالماً بأ نّها اليسار فلإخراج ، لأ نّه سكوت في محلّ يحرم فيه بخلاف السكوت على المال) وعلى كلّ حال فلا إشكال في عدم هدريّتها ، نعم (قال في المبسوط : سقط القود إلى الدية ، لأ نّه أقدم على قطع ما لا يملكه) إذ الفرض علمه (فـ) ـكيف (يكون) شبهة بل هو (كما لو قطع عضواً غير اليد) بإذن منه ، ولا يكفي في الشبهة تولّد الداعي فيه إلى قطعها ببذلها ، بل الظاهر عدم مدخليّة الجهل بالحكم الشرعي في جميع صور المسألة من غير فرق بين الباذل والقاطع ، لأ نّه غير معذور في ذلك على كلّ حال ، وحينئذ فالمتّجه في المقام ثبوت القصاص عليه بها ، كما أنّ المتّجه بقاء القصاص له في يمينه ، وكون اليسار تقطع عن اليمين مع فقدها لا يقتضي بدليّتها عنها في المقام وإن اتّفقا عليه كما هو واضح . ولكن احتمل في غاية المراد الرجوع إلى نيّة المقتصّ ، فإن قال : عرفت أنّ اليسار لا تجزئ ولكن قصدت جعلها عوضاً من تلقاء نفس قوى السقوط وإن قال : ظننت الإجزاء ففيه وجهان : من حيث البناء على ظنٍّ خطأ وإن تضمّنه العفو ، ويلتفت هنا إلى أخذ العوض بلا تلفّظ بالعفو ، أمّا لو قال : استبحته بإباحته فالأقوى البقاء ، فعلى الأوّل له قطع اليمين قصاصاً بعد الاندمال حذراً من توالي القطعين بخلاف ما لو قطع يديه ، والفرق مشاركة المضمون وإن سرى إلى نفسه تثبت الدية في ماله على ما قاله الشيخ.
وهو كما ترى لا حاصل معتدّ به له ، بل وكذا باقي كلامه في المسألة فإنّه أطنب فيها ، ولكنّه بلا حاصل معتدّ به وإن تبعه بعض من تأخّر عنه ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.
[4]وفي كشف اللثام (2 : 472) : بقي الكلام في أنّ المصنّف فصّل المسألة بعلم المجني عليه بأنّ المبذول هو اليسار وجهله كما في الشرائع والمهذّب وفصّلت في المبسوط بعلم الباذل وجهله من غير فرق بين علم القاطع وجهله ، فذكر فيه أ نّه إذا سمع الجاني من المجني عليه : أخرج يمينك فأخرج يسراه مع العلم بأ نّها يساره وبأنّ القود لا يسقط عن يمينه بقطع يساره فلا ضمان على المجني عليه من قود ولا دية لأ نّه بذل يده للقطع عمداً بغير عوض ، وهل على القاطع التعزير فإن كان جاهلا بأ نّها يساره فلا تعزير لأ نّه لم يقصد قطعها بغير حقّ وإن قطعها مع العلم بحاله فعليه التعزير لأ نّه قطع يداً عمداً بغير حقّ وليس إذا سقط حقّ الآدمي بالترك سقط حقّ الله تعالى كما لو قال له اقتل عبدي فقتله سقط عنه الضمان الذي هو للسيّد ولم يسقط حقّ الله من الكفّارة ... وللبحث صلة فراجع.
[5]الجواهر (42 : 412) : (و) على كلّ حال فـ (ـكل موضع تضمن اليسار فيه) دية أو قصاصاً (تضمن سرايتها) كذلك لما عرفته من تبعيّة السراية للجناية في ذلك (و) حينئذ فـ (ـلا يضمنها) أي السراية (لو لم يضمن الجناية) لأنّ ما لا يضمن أصله لا تضمن سرايته ـ وإلاّ يلزم زيادة الفرع على الأصل ـ لكن قد عرفت سابقاً الإشكال القوي في ما لو اقتصّ في الطرف مع خوف السراية بسبب شلل في الطرف مثلا ، اللهمّ إلاّ أن يقال بضمان الطرف حينئذ باعتبار تعيّن الدية له دون القصاص ، ولكنّه كما ترى مع فرض اندمال الجرح وعدم السراية ، فتأمّل جيّداً ، ويقال إنّه بسرايته ينكشف ضمان أصل الجناية في الطرف وإن دخل هو في النفس حينئذ ، وعلى كلّ حال فالكلّية في اليسار تامّة مع إرادة عدم الضمان من حيث تلك الجناية لا ما إذا فرض حصول الإسراء بسبب آخر من دواء أو جناية اُخرى أو غير ذلك ، والله العالم.
[6]الجواهر (42 : 413) : (و) كيف كان فـ (ـلو اتّفقا على بذلها بدلا لم تقع بدلا) لكونه اتّفاقاً فاسداً بعدم الإذن شرعاً في ذلك ، ضرورة عدم مشروعيّة القصاص في غير محلّ الجناية ، بل هو ليس قصاصاً ولا إذن من الشارع للإنسان في بدنه . (و) من هنا (كان على القاطع ديتها) مع اشتباهه إلاّ فعليه القصاص (وله القصاص في اليمين لأ نّها موجودة) وقد بطل الاتّفاق المزبور فهو على استصحاب بقاء حقّه.
(و) لكن (في هذا تردّد) من ذلك ومن تضمّنه العفو عمّـا له من القصاص وإن لم يصحّ الاتّفاق المزبور ، ولعلّ من ذلك يحصل الإشكال أيضاً في القصاص لليسار أو الدية ، إذ احتمال ثبوت أحدهما على المقتصّ مع سقوط حقّه أصلا في اليمين واضح الضعف ، نعم قد يحتمل سقوط حقّه من القصاص خاصّة والانتقال إلى الدية فيتقاصّان حينئذ مع التساوي وإلاّ ـ كما لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة ـ اُعطي التفاوت من كان عليه.
وكيف كان فقد ظهر لك بالتأمّل في ما ذكرناه حكم جميع الصور المذكورة في المقام ، فإنّه وإن جعلها في غاية المراد والمسالك بل وكشف اللثام ثمانية ، لكن جعلوا محلّ الكلام فيها مقامات ثلاث : التغرير وسقوط القصاص عن اليمين وضمان اليسرى ، ومن المعلوم أنّ التعزير لا يكون إلاّ مع العلم الموجب للإثم دون الجهل ، كمعلوميّة عدم سقوط القصاص عن اليمنى مع الاتّفاق عليه منهما فضلا عن غيره ، وإن ذكروا وجوهاً في خلافه ، إلاّ أ نّها واضحة الضعف ، كما عرفت الكلام فيه وفي ضمان اليسرى في حال علم القاطع . ومنه يعلم أنّ المدار على علم القاطع وجهله ، لا المقتصّ منه ، كما هو المحكيّ عن الشيخ ، وعلى الجهل بالموضوع دون الحكم الشرعي ، وبذلك كلّه يظهر لك حال ما أطنب فيه في غاية المراد وكشف اللثام وغيرهما من حكاية كلام الشيخ وغيره ، فلاحظ وتأمّل.
وفي كشف اللثام (2 : 472) : ولو اتّفقا على بذلها بدلا عن اليمنى لم تصر بدلا وعلى القاطع الدية أو القصاص كما عرفت وبقي له قصاص اليمنى على إشكال في الجميع فإنّ الإشكال في بقاء القصاص له يستلزمه في لزوم الدية لليسار أو القصاص عنها وفي صيرورتها بدلا عن اليمين ومنشأه من أنّ الأصل أن لا يقتصّ عن اليمين إلاّ اليمين إذا كانت ولا دليل على البدلية إلاّ مع الفقد والتراضي بها معارضة فاسدة ، ومن ثبوت قطع كلّ منهما قصاصاً عن الاُخرى في الجملة مع أنّ رضى المجني عليه بذلك في قوّة العفو عن القصاص هذا إذا ادّعى أ نّه قطعها بدلا بزعم الإجزاء أو لا بزعمه أمّا لو قال إنّما استحبّ قطعه بإباحته لا بدلا فيضعف سقوط القصاص والشيخ أيضاً متردّد في ذلك ، وذكر أنّ من أسقط القصاص قال له دية يمينه وعليه كان يسار الباذل فإن تساوت الديتان تقاصّا وإلاّ فإنّ أحدهما رجلا والآخر امرأة تقاصّا فيما اتّفقا فيه ويرجع صاحب الفضل بالفضل ...
[7]الجواهر (42 : 415) : (ولو كان المقتصّ) طفلا أو (مجنوناً فبذل له الجاني غير العضو) أو العضو (فقطعه ذهب هدراً) وبقي ما عليه من الاستحقاق بلا خلاف أجده فيه بين من تعرّض له بل ولا إشكال ، وكذا النفس (إذ ليس للمجنون) ولا للطفل ـ ولاية الاستيفاء) ولأنّ السبب فيه أقوى من المباشر (فيكون الباذل مبطلا حقّ نفسه) من غير فرق بين علم الباذل بالحكم الشرعي وجهله ، نعم لو لم يعلم بجنونه وبذل له العضو الذي يراد منه القصاص أمكن القول بثبوت الدية على عاقلته ، كما لو قطع من غير بذل ، ويمكن العلم ، لأنّ ضمان العاقلة على خلاف الأصل ، والفرض أ نّه الباذل ، وعدم علمه بجنونه لا يرفع قوّة السبب فيه.
وفي المسالك (2 : 487) : في قوله (ولو قطع يمين مجنون) القولان حكاهما الشيخ في المبسوط واختارهما الثاني وهو الحقّ لأنّ المجنون ليس له أهليّة استيفاء حقّه فكان فعله على عاقلته لأنّ عمده خطأ كما تقرّر . ووجه القول بالسقوط أنّ المجنون إذا كان له حقّ معيّن فأتلفه كان بمنزلة الاستيفاء كما لو كان له وديعة عند غيره فهجم عليها وأتلفها فلا ضمان على المستودع ...
وفي المبسوط (7 : 103) بعد بيان أصل المسألة في قطع اليسرى والجناية في اليمنى قال المصنّف (قدس سره) : هذا الكلام فيه إذا كانا عاقلين فأمّا إن كان أحدهما مجنوناً نظرت ، فإن كان الجاني عاقلا ثمّ جنّ قبل القصاص عنه والمجني عليه المقتصّ عاقل ، فقال له العاقل أخرج يمينك لأقطعها فأخرجها فقطعها فقد استوفى حقّه من المجنون ، لأ نّه قبض ما كان واجباً عليه ، فوقع الاستيفاء موقعه لا ببذل المجنون ، فهو كما لو وثب على حقّه من القصاص واستوفاه وقع موقعه ، ولا يراعى جهة المقتصّ منه كذلك ها هنا . وإذا قال لهذا المجنون أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها نظرت في المقتصّ فإن كان جاهلا بأ نّها يسار المجنون فلا قود عليه شبهة ، وعليه دية يسار المجنون ، وإن كان عالماً بأ نّها يساره فعليه القود في يساره لأنّ المجنون لا يصحّ منه البذل ، فهو كما لو قطع يساره كرهاً ، فقد وجب عليه للمجنون قطع اليسار وله قطع يمين المجنون . فإن كانت بالضدّ وهو أنّ جنّ المجني عليه والجاني عاقل ، فقال له المجنون أخرج يسارك فأخرجها له فقطعها المجنون هدرت ، ولا ضمان عليه سواء اعتقد أ نّه يستوفيها بدلا عن يمينه أو لم يعتقد ذلك لأنّ من بذل يده للمجنون يقطعها فقطعها فهو الذي أبطل حقّ نفسه ، كما لو بذل له ثوباً فخرقه ، وإن قال له المجنون أخرج يمينك فأخرجها فقطعها المجنون ذهبت هدراً أيضاً لأ نّه لا استيفاء للمجنون فيكون كأ نّها سقطت بآكلة ، فيكون للمجنون ديتها ...
ثمّ المصنّف يذكر هنا فروعاً من أرادها فعليه بالمراجعة ، ولا يتبادر إلى ذهنك الشريف أنّ مثل هذه المسائل ممّـا لا طائل تحتها لعدم وقوعها أو ندرتها جدّاً بحيث يكون الفرد النادر كالمعدوم ، فلماذا هذا التطويل وكأ نّما المقصود ـ من باب سوء الظنّ بالمؤلف ـ هو تضخيم حجم الكتاب ، بل المراد هو معرفة المسألة وسيرها التأريخي خلال القرون المتمادية ، ثمّ تعليم القارئ الكريم كيفية الاستنباط من باب الأشباه والنظائر ، وإن كان من أهل الاستنباط كالمجتهد فإنّه يستغني بهذا الكتاب الذي بين يديك عن مراجعته للمصادر الأوّلية عند الشيعة والسنّة ، فإنّه من الفقه المقارن كما فيه ما يحتاجه الفقيه والمجتهد من معرفة المصادر والمدارك لكلّ مسألة ، هذا وإنّ الدرس حرف والتكرار ألف ، وفي التكرار إفادة التقرير ، ومع هذا نعتذر والعذر عند كرام الناس مقبول.
[8]الجواهر (42 : 415) : (ولو قطع يمين مجنون فوثب المجنون فقطع يمينه قيل) وإن كنّا لم نعرف القائل منّا : (وقع الاستيفاء موقعه) لأ نّه كما لو كان له وديعة فهجم عليها فأتلفها . وفيه أ نّه في غير موقعه بعد أن لم يكن له أهليّة الاستيفاء ، ضرورة كونه حينئذ كالأجنبيّ وعدم الضمان في الوديعة لعدم التفريط ، لا لأ نّه استيفاء وإن كان هو مالا هنا له بخلاف اليمين ، فإنّه لا يسقط عنه الضمان وإن تلفت بغير تفريط . (و) من هنا (قيل) والقائل الشيخ في محكيّ المبسوط : (لا يكون) ذلك (قصاصاً لأنّ المجنون ليس له أهليّة الاستيفاء وهو أشبه) باُصول المذهب وقواعده وفاقاً للفاضل وثاني الشهيدين وغيرهما (و) حينئذ (يكون قصاص المجنون باقياً على الجاني) كما في القواعد (ودية جناية المجنون على عاقلته) بلا خلاف فيه بيننا ، بل ولا إشكال.
إنّما الكلام في الأوّل ، ففي كشف اللثام (يعني من يساره أو من رجليه) فإنّ فقد الجميع فالدية ، وأطلق في المبسوط والتحرير بقاء الدية له) وكأ نّه أخذ ممّـا عن الإيضاح وحواشي الشهيد من أنّ المراد ببقاء قصاص المجنون أحد أمرين : إمّا على القول بأ نّه إذا فقدت اليمين التي وجب القصاص فها تقطع اليسار ، أو بمعنى أ نّه ينتقل إلى حكم العمد مع فوات المحلّ ، فعلى القول بسقوطه كما قاله بعضهم يسقط هنا ، وعلى القول بالدية فهنا كذلك ، فمع الصلح ظاهر ، ومع امتناعه كما هو مقرّر شرعاً ، لكن فيه أنّ من شرط القصاص نفساً وطرفاً العقل ، فلا يقتصّ منه ، ولعلّه لذا أطلق الدية في المبسوط ، على أنّ الخلاف المزبور إنّما هو في النفس دون الطرف الذي لا معنى لتنزيل نحو العبارة عليه ، ضرورة أ نّه لا وجه للبقاء على القول بسقوطه قصاصاً ودية فلا يبعد إرادة المصنّف وغيره من القصاص الدية ، والله العالم.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |