وهنا فروع

الأوّل : لو رضي المجني عليه بدية أحدهما وعفى عن الاُخرى ، فقيل تؤخذ ديتهما حتّى تفرغ الذمّة يقيناً ، ولكن هذا لا يتمّ ، لعلمنا بثبوت دية واحدة ليد واحدة ، أي خمسمائة دينار ، وقيل بتنصيف نصف دية اليد الواحدة ، أي نصف الدية الكاملة ، تشبيهاً بالدرهم الودعي من باب تنقيح المناط ، إلاّ أ نّه يشكل ذلك فهو من القياس المخرج الباطل في مذهبنا ، والأولى أن يقال بالقرعة بين اليدين ، أو المصالحة فإنّ الصلح خير في حقّ الناس.

الثاني : لو كان الجاني أو المجني عليه اثنين ، وعفى أحدهما ، واشتبه الأمر أ يّهما العافي ، ولم يكن لنا طريق إلى معرفتهما ، فلنا علم إجمالي بينهما ، فالأولى رعاية الاحتياط إن أمكن ، وإلاّ فالتخيير إن لم يكن في البين مرجّحات لأحدهما ، وإلاّ فالصلح خير ، وقيل بعدم القصاص لقاعدة (الحدود تدرأ بالشبهات) ولا الدية ، إذ لم يعلم أي اليدين من النفرين ، إلاّ أ نّه من جهة اُخرى لا يحلّ دم امرئ مسلم ، فجمعاً بين الحقّين تؤخذ الدية من بيت المال ، والمختار الرجوع إلى الصلح ، وكذا الكلام فيما لو تعدّد الجاني واتّحد المجني عليه ، وكذا لو تعدّد الجاني والمجني عليه ، فكلّ هذه الصور من الشبهة المحصورة ، كما هو واضح.

الثالث : لو قطع الجاني أصابع المجني عليه من الأشاجع[1] ، ثمّ عفى المجني عليه ، وبعده سرت الجراحة حتّى أزالت لحم راحة اليد وتواكل الكفّ ، فهل يضمن الجاني ذلك ؟ في المسألة احتمالات وأقوال : فيحتمل عدم القصاص مطلقاً للشبهة الدارءة ، وقيل بسقوط القصاص في الأصابع للعفو عنها ، وأمّا ما كانت بالسراية فهي كالجناية الجديدة فله دية الكفّ حينئذ كما ذهب إليه المشهور ، وقيل لو كان تستند السراية إلى الجاني ، فإنّه عليه دية الكفّ ، وإلاّ فلا ، وقيل عليه بما يراه الحاكم من الحكومة ، وقيل بالقصاص وتتدارك الأصابع بالدية ، تمسّكاً بالعمومات ، إلاّ أ نّه يشكل ذلك فلا سعة في مثل تلك العمومات ، بل ينتقل إلى الدية بدلا على قول : أو بما يراه الحاكم وقيل : بالتفصيل بين علم الجاني بالسراية فعليه الدية ، فإنّ راحة اليد تكون مقصودة بالتبع ، لا سيّما لو كان متوجّهاً إليها حين القطع ، وإن لم يعلم بالسراية كأن يظنّ الاندمال ، ولا تستلزم ذلك الجراحة عادة ، ومن باب الصدفة والاتفاق سرت الجراحة وأضرّت ، فلا شيء عليه ، إنّما يتدارك من بيت المال جمعاً بين الحقّين.

وربما يقال بعدم القصاص للشبهة ، وبعدم الدية لعدم القصد ، وتؤخذ الدية من بيت المال حينئذ جمعاً بين الحقّين.

(والظـاهر عدم القصاص وأخذ الدية من ماله إن كان وإلاّ فمن بيت المال)[2].

الرابع : لو عفى عن المقطوع فمات المجني عليه من أثر الجناية[3] ، فهنا أقوال أربعة : قيل : بالقصاص مع ردّ دية المعفوّ عنه إلى ورثة الجاني ، وقيل : بعدمه وعدم الدية ، إذ المعفوّ عن اللازم يستلزم العفو عن الملزوم ، وقيل : بالتفصيل بين القطع الي قصد القتل معه فعليه القصاص ، وإلاّ فعليه الدية ، فإنّهما يدوران مدار صحّة الاستناد في موته.

والمختار من الأقوال يعرف بعد بيان مستنداتها ، فالأوّل ينحلّ إلى دعويين : الأوّل : القصاص ، والثاني : ردّ دية المقطوع إلى ورثة الجاني ، ودليلهما أ نّه عفى عن المقطوع فلا شيء عليه ، والقصاص من أجل الاستناد إلى الجاني ، فإنّه كان مقدوراً له بالواسطة وهي الجراحة ، ويشكل ذلك ، فيما إذا لم يقصد الموت والقتل ، كما لم يكن من العادة أنّ السراية توجب الموت فكيف يقتصّ منه حينئذ ؟ وجنايته كانت قطع إصبع أو أصابع ، فلا قصاص مطلقاً ، إنّما يتدارك بالدية.

ومستند القول الثاني بأن لا قصاص ولا دية بناءً على أنّ العفو عن الملزوم يستلزم العفو عن اللازم ، فلو عفى عن المقطوع ، فقد عفى عن ملزوماته أيضاً ومنها سراية الجراحة إلى الموت والدية ، ويشكل كلّية ذلك ، فإنّه لا يجري في الأنفس والدماء ، بل تؤخذ الدية.

ومستند الثالث : بأن لا يعطى دية المقطوع ويقتصّ منه بناءً على تداخل دية الجزء في الكلّ ويشكل ذلك كما مرّ.

والمختار هو القول الرابع القائل بالتفصيل بين ما يكون قاصداً حين القطع القتل فيقتصّ منه مع ردّ دية المقطوع المعفوّ عنه ، وبين ما يكون غير قاصد فعليه الدية.

وفي عبارة العلاّمة في القواعد (فيه إشكال) ربما المراد منه ذكر احتمالين في المسألة ، فيحتمل القصاص بناءً على استناد الموت إليه ، وعدمه بناءً على استلزام العفو عن الملزوم بالعفو عن اللازم.

الخامس : لو عفى المجني عليه عن الجناية المستقبليّة والآتية[4] ، فالموت المستند إلى السراية من أثر القطع مثلا ، فموته يستند إلى الجاني ، فالعفو عن المستقبل كالعفو عن الماضي ، فإذا عفى عن القطع وصحّ عفوه ، فهل يتمّ عفوه عن المستقبل أيضاً.

في المسألة تردّد واختلاف ، فقيل بصحّة عفوه تمسّكاً بوجوه :

الأوّل : عموم قوله تعالى : ( فَمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له )[5] فعفوه صدقة وتكون كفارة لذنوبه ، ففي التصدّق رجحان.

الثاني : قياساً باستبراء الطبيب عند معالجة المريض لو أخطأ في طبابته ، وكذلك البيطار طبيب الحيوانات ، فكيف يستبرء من شيء لم يثبت ؟ فكذلك العفو هنا.

الثالث : العفو من مصاديق العبادة والأعمال الراجحة عقلا وشرعاً.

الرابع : عموم (المؤمنون عند شروطهم إلاّ ما حرّم حلالا أو حلّل حراماً) ـ كما ورد هذا القيد في الأخبار الشريفة ـ والعفو بمنزلة الشرط من قبل المجني عليه بأ نّه لا يدّعي الضمان لا هو ولا ورثته ووليّ دمه عند موته.

الخامس : المسبّب تابع للسبب ولو بالواسطة ، فالعفو عن السبب يذهب كما يذهب المسبّب ولو بالواسطة.

هذا ولكن هذه الوجوه قابلة للنقاش ، فإنّ العفو ليس من مصاديق الصدقة المصطلحة ، إلاّ إذا احتمل المراد من الصدقة مطلق فعل الخير ، ولكن فعل الخير ليس معناه سلب الحكم الشرعي أي وجوب القصاص ، فيحكم بالضمان عند الموت إلاّ أن يسقط ثانياً.

وأمّا عمل الطبيب والبيطار وإن كان استبراءهما صحيحاً للأخبار الواردة في المقام إلاّ أ نّه يختلف عمّـا نحن فيه ، فهو من المقياس مع الفارق ، وأ نّه من تنقيح المناط المخرج وهو باطل في مذهبنا ، وأمّا المؤمنون عند شروطهم فإنّه يجب الوفاء بالشرط ضمن عقد لازم كما أ نّه للمشترط بنفسه ، والمطالبة هنا إنّما تكون للوليّ الوارث كما عليه الدليل لصحّة الاستناد إلى الجاني ، كما لا يصحّ الاشتغال بالمستقبليّات حتّى يقال بشرطيّتها أو عباديّتها ، وأمّا تابعيّة المسبّب للسبب ولو بالواسطة فلا يصحّ إطلاقه ، فإن قطع العضو مثلا تارةً يكون مع العلم بالسراية والموت ، أي الجاني يعلم بذلك فكان قاصداً للقتل ، فعليه القصاص حتّى لو عفى عن القطع ، واُخرى لم يقصد ولم يعلم ولم تكن عادة السراية موجبة للموت ، إلاّ أ نّها سرت ومات ، فهنا لو زال السبب بالعفو لزال المسبّب أيضاً ، فتدبّر.

وأمّا القول الثاني في المسألة ، فبناءً على أنّ العفو يؤثّر في مورده المتحقّق فعلا دون الموارد الاُخرى التي لم يتحقّق موضوعها.

والمختار التفصيل بين كون الجاني في قطعه كان قاصداً للقتل ويعلم بالسراية وأثرها ، فعليه القصاص ، ولا يؤثّر عفو المجني عليه عن المستقبل ، وإن لم يقصد ولم يعلم ولم تكن السراية من العادة ، فلا قصاص عليه ، إنّما عليه الدية ، لأخبارها الدالّة على صحّة الاستناد ـ استناد الموت إلى الجاني ـ وعدمه ، فتأمّل.

بقي الكلام في عبارة شيخ الطائفة عليه الرحمة في كتابه الخلاف[6] : (يصحّ العفو عنها وعمّـا يحدث عنها فلو سرت كان عفوه ماضياً من الثلث ، لأ نّه بمنزلة الوصيّة) ، فالعفو يؤثّر مطلقاً بالنسبة إلى الجناية الفعليّة وبالنسبة إلى الجناية الاستقباليّة التي تتحقّق بالسراية ، إلاّ أنّ بدل الجناية الآتية من مصاديق الوصيّة ، فإنّه عندما يعفو عن الآتية ، فكأ نّما أوصى بديته للجاني لعدم أخذها منه ، وهذا مثل : أعطوا الجاني ألف درهم ، فهو بحكم الوصيّة وتكون من ثلث الميّت حينئذ وهذا القول من الشيخ إمّا متمّم للقول الأوّل أو يكون قولا ثالثاً في المسألة ، ويشكل ذلك ، فإنّه مثل التصرّف في مال الغير ، فإنّ ديته والقصاص يكون لوليّه الوارث ، فإنّه ينتقل إلى الميّت آناً ما ، ثمّ ما تركه الميّت فلوارثه ، فكيف يتصرّف فيه قبل موته بالعفو عنه : (فلا وجه للوصيّة به قبل استحقاقه إيّاه المتوقّف على إزهاق روحه ووجود الجناية أعمّ من ثبوته حالها ، ضرورة استناده إلى سرايتها التي هي غيرها ، اللهمّ إلاّ أن يقال بصحّة الوصيّة بمثل ذلك ، للعمومات الشاملة له ، لما يملكه بعد موته كالذي يعيده في شبكته التي نصبها حال جنايته ، ولكنّ الجميع محلّ نظر وبحث)[7]فتدبّر فإنّه من القياس مع الفارق[8].

السادس[9] : لو كان مستحقّ القصاص في النفس أو الطرف طفلا أو مجنوناً لم يكن لهما الاستيفاء لعدم استيالهما له ... فإن بذل لهما الجاني العضو فقطعاه ذهب هدراً ، وبقي عليه القصاص أو الدية ولا يستحقّ عليهما أو على عاقلتهما دية ، وكذا النفس سواء كان يزعم أ نّه يقع قصاصاً أو لا ، لأ نّه الذي أتلف على نفسه لضعف المباشر . ولو قطع يمين مجنون فوثب المجنون فقطع يمينه قيل يقع قصاصاً ، لأ نّه إذا كان له حقّ معيّن فأتلفه كان بمنزلة الاستيفاء كما لو كان له وديعة عند غيره فهجم عليها فأتلفها فلا ضمان على المودع لأ نّها تلفت بغير خيانته ولا تفريط منه فهو كما لو أتلفها غير المجنون ، فلهذا سقط عنه الضمان ، وليس كذلك ها هنا لأنّ الضمان لا يسقط عنه الضمان بذهاب يمينه ، وإن كان هلاكها بغير تفريط منه ، ويكون قصاص المجنون باقياً كما في الشرايع يغني من يساره أو رجليه ، فإن فقد الجميع فالدية وأطلق في المبسوط والتحرير بقاء الدية له ، ودية جنايه المجنون على عاقلته عندنا ، ومن العامّة من أوجبها عليه فحكم هنا بالتقاصّ كلا أو بعضاً.


[1]الجواهر (42 : 426) : (و) كيف كان فـ (ـلو قال : عفوت عن الجناية ثمّ سرت إلى الكفّ) خاصّة (سقط القصاص في الإصبع) بلا خلاف ولا إشكال ، لأنّ الفرض العفو عنه دون ما استحقّه بالسراية التي هي لم تكن حال العفو ، فهي كالجناية الجديدة (و) من هنا كان (له دية الكفّ) كما في المسالك ومحكي الإرشاد والروض ومجمع البرهان ، بل هو المحكي عن المبسوط أيضاً وإن كان تعليله لا يخلو من نظر بل منع واضح ـ وللبحث صلة فراجع ـ .

وفي السرائر (3 : 404) : ومن شجّ غيره موضحة أو غيرها من الجراح ، فعفى صاحبها عن قصاصها أو أرشها ، ثمّ رجعت عليه وسرت إليه فمات منها ، كان على جارحه ديته إلاّ دية الجرح الذي عفى عنه ، فإن أرادوا القود ، ردّوا على قاتله دية الجرح الذي عفى عنه صاحبه.

[2]هذا المعنى لم يذكره سيّدنا الاُستاذ (قدس سره).

[3]الجواهر (42 : 427) : (ولو سرت) جناية الإصبع التي فرض العفو عنها (إلى نفسه كان للوليّ القصاص في النفس) بلا خلاف ولا إشكال فيه عندنا ، كما اعترف به غير واحد بل عن المبسوط هو الذي رواه أصحابنا ، بل عن الخلاف عليه إجماع الفرقة وأخبارهم ، ضرورة اندراجه في جميع ما دلّ على القصاص من قوله تعالى : (النفس بالنفس) وغيره ، والعفو عن الجناية السابقة لا يقتضي العفو عن السراية ، نعم به يكون كمالو قتل كامل ناقصاً ، فيقتصّ منه (بعد ردّ دية ما عفا عنه) من الإصبع ـ ويذكر صاحب الجواهر (قدس سره) هنا إشكالا عن القواعد وكذا عن المحقّق الأدربيلي من احتمال سقوط القصاص فراجع ـ .

وفي كشف اللثام (2 : 475) : ولو قال عفوت عنها وعن سرايتها صحّ العفو عنها وفي صحّته في السراية كما في الخلاف إشكال من أ نّه أبرأ ما لم يثبت في الدية وأ نّه وصّيته للقاتل ، وإسقاط لحقّ الغير وهو وليّه وهو خيرة المبسوط والخلاف والتحرير وأبي علي قال أبو علي : يزيل القود للخلاف والشبهة ، ويوجب الدية على القاتل في ماله ، وفي الخلاف لا يسقط القود باعتبار العفو الباطل ، ومن الأصل وعموم قوله تعالى فمن تصدّق به فهو كفّارة له وبثبوت الإبراء عن الجناية . قبلها شرعاً للطبيب والمتبطّر فبينها وبين السراية أولى . وقيل في الخلاف : يصحّ العفو عنها وعمّـا يحدث عنها من الثلث لكونه بمنزلة الوصيّة ، وفي المبسوط فأمّا إذا سرى إلى النفس فالقود في النفس لا يجب لأ نّه عفا عن القود في الإصبع وإذا سقط فيها سقط في الكلّ لأنّ القصاص لا يتبعّض ...

[4]الجواهر (42 : 428) : (ولو صرّح بالعفو) عن الجناية وعن سرايتها (صحّ) العفو (ممّـا كان ثابتاً وقت الإبراء ، وهو دية الجرح) أو القصاص فيه (أمّا القصاص في النفس أو الدية ففي) صحّة (العفو) والإبراء عنهما (تردّد) وخلاف فعن الشيخ في الخلاف الأوّل ، قيل : وكأ نّه مال إليه أو قال به الشهيدان في غاية المراد والروض والمقدّس الأردبيلي في مجمع البرهان لعموم قوله تعالى : (فمن تصدّق به فهو كفّارة له) وثبوت الإبراء عن الجناية قبلها شرعاً للطبيب والبيطار فبينهما وبين السراية الاُولى ، ولأنّ الأصل صحّة العفو المناسبة لما ورد من الترغيب فيه شرعاً ترغيباً يكون به عبادة ، فيناسبه الصحّة ، ولأنّ الجناية على الطرف سبب لفوات النفس التي لا تباشر بالجناية ، ووجود السبب كوجود المسبّب ولوجوب الوفاء بالوعد وعموم المؤمنون عند شروطهم ـ ثمّ يذكر المصنّف القول الآخر ووجهه ويناقش وجوه القول الأوّل وأخيراً يقول : فالتحقيق عدم صحّته وحينئذ لا يترتّب عليه شيء ، فراجع ـ .

[5]المائدة : 45.

[6]الجواهر (42 : 429) : بعد بيان وجه التردّد في عبارة الشرائع يقول : (و) من هنا قال (في الخلاف : يصحّ العفو عنها وعمّـا يحدث عنها ، فلو سرت كان عفوه ماضياً من الثلث لأ نّه بمنزلة الوصيّة) وإن كان لا يخفى عليك ما فيه من منع كون العفو وصيّة أوّلا ، ولو سلّم فهي باطلة ، خلافاً للمحكي عن المبسوط لو صرّح بها ، ضرورة صحّتها في ما هو للميّت والفرض أنّ القصاص للوارث لا له ـ وللبحث صلة فراجع ـ .

[7]الجواهر 42: 429.

[8]هذا المعنى لم يذكره سيّدنا الاُستاذ.

[9]جاء في كشف اللثام 2 : 477.

المسألة السابعة( )