الأوّل : لو قطع يد
المجني عليه خطأً فمات[1] ،
فالوليّ يدّعي الموت بالسراية ، فيلزمها الدية الكاملة ـ دية
النفس ـ والجاني يدّعي دية اليد الواحدة ـ أي خمسمائة
دينار ـ
فهنا أقوال ثلاثة : قيل : يقدّم قول الوليّ مطلقاً ،
وقيل يقدّم قول الجاني مطلقاً ، وقيل بالتفصيل بين المدّة القصيرة والمدّة
الطويلة ، فيقدّم قول الوليّ في المدّة القصيرة التي لا يندمل الجرح فيها
عادة ، فإنّ الجاني كاذب في دعواه ، ويقدّم قول الجاني في المدّة
الطويلة كما عند المشهور ، ومستند الأوّل قاعدة (اليمين على من
أنكر) ومستند الثاني الاُصول ، إلاّ أ نّها الغالب فيها
أ نّها من الأصل المثبت.
والإنصاف أنّ المعيار في المسألة هي القاعدة سواء كانت المدّة طويلة أو قصيرة.
والأولى أن تكون المسألة من باب التداعي كما هو المختار فعليهما الحلف وبحلف كلّ واحد تبطل دعوى الآخر ، فيكون العلم الإجمالي المردّد بين الأقلّ والأكثر الاستقلالي ، فإن أمكن الاحتياط فهو الأولى فيؤخذ بالأكثر ، وإن قلنا بعدم وجوب الاحتياط ، فينحلّ العلم الإجمالي حكماً ، والثابت نصف الدية فإنّه القدر المتيقّن ، والزائد مشكوك فيه والأصل فيه البراءة.
ثمّ حلف
الجاني إمّا باليمين البطّي القطعي ، أو الحلف على نفي العلم ، ففي
الأوّل
يقول :
والله إنّه لم يمت بالسراية ، أو مات بعد الاندمال أو لست مشغول الذمّة بأكثر
من خمسمائة دينار ، وفي الثاني : يقول : والله إنّي لا
أعلم أنّ موته بالسراية ، وهذا لا ينفع في المقام ، إذ ربما غيره يعلم
بالسراية ، فلا بدّ حينئذ من الحلف البطّي.
فيقدّم قول الجاني مع يمينه ، ولا بأس بالقرعة بينهما ، فإنّها لكلّ أمر مشكل ، وإن لم يعمل بها الأصحاب في مثل هذه الموارد ، وإن لم نقل بالقرعة فلا بأس بالصلح فإنّه خير ، وإلاّ فيتمسّك بالقاعدة ، فيقدّم قول الجاني مع يمينه.
الثاني : لو وقع
نزاع بين القاطع والوليّ في قطع عضو لميّت أو حيّ ، أو كان ملفوفاً في كساء
مثلا فقدّه إلى نصفين وادّعى الوليّ أ نّه كان حيّاً وادّعى الجاني
أ نّه كان ميّتاً فلا دية كاملة عليه ، فقيل[2] يقدّم قول
الوليّ لاستصحاب الحياة ، وقيل بالبراءة من ضمان الحيّ أو دية النفس أو
استصحاب عدم الضمان أو عدم القصاص ،
إلاّ
أ نّه لا مجال للاستصحاب بعد كون المسألة من باب المدّعي والمنكر أو
التداعي ، فضلا عن كونه من المثبتات . وعند بعض العامّة التفصيل بين من
عليه الكفن وغيره ، فإنّ العرف يقضي بالأوّل أ نّه قطع من ميّت دون
الثاني ، وقيل بالتفصيل بين القطع الذي يكون بعده دم حار فيدلّ على كونه كان
حيّاً ، وبين الدم البارد الدالّ على موته ، إلاّ أ نّه لا تلازم
بينهما فلا يتمّ هذا التفصيل.
والمختار تقديم قول الجاني للقاعدة (اليمين على من أنكر) فيلزم وقوع القطع أو القدّ على الميّت ثمّ الكساء بفتح الكاف يطلق على معان منها : ما يكتسى ـ مطلقاً كما هو في اللغة ، واسم ثان للعباءة العربيّة ، وعلى قماش ونحوه يكتسى به كالغطاء.
الثالث : لو ادّعى
الجاني شلل العضو المقطوع من حين الولادة أو عمى عينه المقلوعة كذلك ، وادّعى
المجني عليه الصحّة ، فقول من يقدّم ؟[3] قيل بتقديم
قول المجني عليه وقيل بتقديم قول الجاني ، وقيل بالتفصيل بين الأعضاء الظاهريّة
فيقدّم قول الجاني والمستورة فيقدّم قول المجني عليه . وقيل بالعكس ،
وأنت خبير أ نّه لا فرق بين الظاهرة كالعين والاُذن ، والمستورة
كالمذاكير ، فإنّ المعيار هو تمكّن المدّعي من إقامة البيّنة على ما
يدّعي ، فيقدّم قوله ويضمن الجاني حينئذ ، وإلاّ فيقدّم قول
الجاني
مع يمينه ، كما هو المختار لو لم يكن للمجني عليه البيّنة ، كما عليه
المشهور.
الرابع : أداء شهادة البيّنة لقول المجني عليه المدّعى على نحوين : فتارة تشهد بسلامة العضو من حين الولادة ، فيستصحب ذلك ، إلاّ أ نّه من الأصل المثبت ، واُخرى تشهد على سلامته حين القطع ، وهذا النافع كما أشار إليه الفاضل الهندي في شرح القواعد[4].
الخامس : المراد من الأعضاء الظاهريّة ما تدرك بالحسّ البصري بعدم التستّر الشرعي ، والمستورة ما لا تدرك كالمذاكير أعمّ من القبل والدبر في الرجل والمرأة والخنثى ، فإطلاقها من باب التغليب ، وقيل المستور ما يجب ستره شرعاً ، وقيل : شرعاً ومروّة كالفخذين والإليتين ، ويذهب الفاضل الهندي إلى التعميم ، والمختار ذلك لو كان من أصحاب الجاه والمقام[5].
السادس : لو وقع النزاع بين الجاني والمجني عليه في قلع عين ، فيدّعي المجني عليه أ نّه كان بصيراً والجانى ينكرها أو يدّعي عماها ، فتأتي الأقوال التي مرّت هنا أيضاً.
والمختار تقديم صاحب البيّنة ، وإلاّ الجاني مع يمينه.
السابع : لو وقع النزاع بينهما ، ويدّعي الجاني تجدّد العيب في العضو المجني عليه بعد أن كانت سالمة حين الولادة ، ويدّعي المجني عليه سلامتها من الولادة وحتّى الجناية ، وينكرها الجاني ، فتكون المسألة من المدّعي والمنكر ومن باب التداعي فتدبّر.
والمختار القول بالقاعدة في مثل هذه الموارد.
وقيل بكفاية بيّنة الجاني لو كانت ، ولكن يشكل ذلك ، فإنّ عليه الحلف لإنكاره.
الثامن : الافتراء والتجرّي على المسلم حرام ، فذهب المشهور في تقديم قول الجاني ولو كان الزمان قصيراً ، وهذا يعني إسناد الكذب إلى الوليّ وهو حرام وتجرّ ، ولا بدّ من وضع وحمل فعل المسلم على أحسنه ، ونكذّب المسلم ابتداءً كما أشار إليه صاحب الجواهر بقوله (ضرورة أنّ ظهور كذبه بدعوى الاندمال لقصر المدّة لا يقتضي تحقّق السراية المسقطة التي مقتضى الأصل عدمها)[6] ويحتمل على خلاف العادة أن يندمل في مدّة قصيرة ، أو يقال إنّه من الخطأ لا الكذب.
التاسع : لو وقع نزاع بين الجاني والوليّ في القطع الخطأي باعتبار قصر المدّة والجاني ينكرها ، فالجاني يدّعي قصرها ، والورثة أو الوليّ والجاني ينكرها ، فالمسألة ذات قولين : قيل : بتقديم قول الوليّ ، وقيل : قول الجاني تمسّكاً باستصحاب الزمان أو الزماني ، ومعناه أ نّه عند القطع كانت الجراحة ، ونشكّ هل انقضى زمان الاندمال ؟ فنستصحب بقاء الزمان الذي كان فيه الجراحة ولكن المسألة إمّا من باب المنكر والمدّعي وحكم قاعدة (البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر) أو من باب التداعي والقول بالتحالف ، ومع القاعدة لا مجال للاستصحاب كما هو واضح ، فالمشهور تمسّك في مثل هذه الموارد بقاعدة اليمين على من أنكر ، وقال بتقديم الأمارة على الأصل ، وإنّ الاستصحاب أصل موضوعي مقدّم على الحكم رتبة ، ويوجب تغيير البراءة إلى الأصل الحكمي ، فليسا في عرض واحد ، إلاّ أن يكون الاستصحاب معارض باستصحاب آخر ، كاستصحاب عدم السراية باستصحاب عدم أكل السمّ ، أو يقال إنّه من العلم الإجمالي وأنّ الشبهة محصورة وتنحلّ إلى الدية الواحدة المتيقّنة وإلى الأكثر الجاري فيه البراءة.
وعند البعض
في الشكّ بين الدية والديتين يستصحب الديتان ، كما يستصحب
بقاءهما ،
إلاّ أ نّه لم تصل النوبة إلى مثل هذا الاستصحاب بعد كون المورد من الشكّ
السببي والمسبّبي ، ومع جريانه في الأوّل وانحلاله ، أو كونه من موارد
جريان الأمارات ، فلا مجال للثاني كما هو واضح ، فتأمّل.
العاشر : لو قطع الجاني يد المجني عليه ويدّعي أ نّه كان مجنوناً حين القطع[7] ، والمجني عليه يدّعي سلامته وكمال عقله ، فلو كان عمدياً فعليه القصاص ، وفي شبه العمد عليه الدية من ماله ، وفي الخطأ تكون الدية على عاقلته ، فقيل يقدّم قول الجاني لو كان المجني عليه مسبوقاً بالجنون فإنّه يستصحب ذلك ، ولكن هذا من الأصل المثبت ، كما أ نّه من باب المدّعي والمنكر وحكم القاعدة الأماراتيّة فلا مجال للأصل . وقيل : الأصل عدم صدور الجناية حين العقل فيستصحب هذا العدم ، وهو من المثبت أيضاً ، وإنّه من الاستصحاب الأزلي المختلف في حجّيته ، كما أ نّه معارض بآخر أو بالبراءة ، وأخيراً لا مجال للاُصول مع وجود الأدلّة من الأمارات والقواعد ، فالمختار تقديم قول المنكر مع يمينه لو لم يكن للمدّعي البيّنة.
الحادي عشر : لو اختلفا في الزمان مع قبول الجنون ، فكان نزاعهما في التقدّم الزمني على الجناية وتأخّره ، فهنا حادثان الجنون والقطع ، ويشكّ في تقدّمهما وتأخّرهما ، والأصلان فيها يتساقطان لتكافئهما مع الترجيح بينهما ، فيلزم حينئذ سقوط القصاص للشبهة وأنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، ولا تكون الدية على العاقلة ، فإنّ لنا دليل على أ نّها إنّما تكون على العاقلة في الخطأ ، وهنا إنّما يكون الخطأ حكماً لا حقيقة ، ولا دليل لنا أ نّه في الخطأ الحكمي تكون الدية على العاقلة أيضاً . فيلزم حينئذ أخذ الدية من الجاني إن كان له مال ، وإلاّ فمن بيت المال الذي اُعدّ لمصالح المسلمين ، جمعاً بين الحقّين فإنّه لا يحلّ دم امرئ مسلم.
الثاني عشر : المقصود من العاقلة أقرباء الرجل من طرف الأب كالأعمام وبنيهم ، واصطلح عليهم العاقلة باعتبار أنّ الغالب في أعمال العرب في صدر الإسلام كان عبارة عن الجمال والإبل ، وكانوا يعطون الجمال في الدية ويعقلونها ـ بربط أقدامها بالعقال ـ أمام دار المجني عليه ، فمن باب التغليب في أقسام الدية عبّروا عنهم بالعاقلة.
الثالث عشر : لو وقعت جناية ويدّعي الجاني جنونه والمجني عليه يدّعي سكره[8] ، فكلاهما يدّعيان ويتّفقان على زوال العقل حين الجناية ، إنّما الاختلاف في الأسباب ، فقيل : يقدّم قول الجاني فإنّ الأصل عدم صدور المعصية من الجاني ، ولكن لا مجال لمثل هذه الاُصول فإنّها تحمل في الأفعال الاختياريّة ، وما نحن فيه كان القطع من دون الاختيار وعليه فيقدّم قول الجاني للقاعدة المنصوصة (اليمين على من أنكر) وقيل تكون الدية على عاقلته والمختار على نفسه ومن ماله ، فإنّه ليس من الخطأ الحقيقي ، بل بحكم الخطأ ، ثمّ على العاقلة في قتل النفس ، والكلام فى قطع العضو.
والعقل قوّة إلهيّة مدركة للكليات ، ولها حواجب عن الإدراك كالسكر والجنون والإغماء والنوم ، وما نحن فيه لنا علم إجمالي بأنّ الحاجب السكر أو الجنون ، والعلم الإجمالي منجّز في أطرافه ، والأطراف على قسمين : أمّا من المتباينين أو الأقلّ والأكثر ، والثاني إمّا من الارتباطي أو الاستقلالي ، وما نحن فيه من المتباينين ، فإنّه لا يشكّ في مقدار الدية كخمسمائة دينار لقطع يد ، إلاّ أ نّه لا يعلم على من تكون ؟ على العاقلة لو كان مجنوناً أو على نفسه لو كان سكراناً ، ومقتضى الدليل على الجاني نفسه على كلّ حال.
ثمّ لمّـا لم يتمكّن المجني عليه على إثبات السكر ، فإنّه يكون من القذف وعليه حدّ القذف ، لعموم أدلّته.
الرابع عشر : لو أورد الجاني جراحتين من الموضحات حيث يبان ويظهر العظم وبينهما حاجز ، ثمّ اُزيل الحاجز واتّحدا ، فوقع نزاع بين الجاني والمجني عليه ، فالجاني يسند الإزالة إلى نفسه حتّى يكون عليه دية موضحة واحدة ، والمجني عليه يدّعي زواله بالإزالة منه لا من الجاني ليكون له دية موضحتين ، ذهب المشهور ومنهم صاحب الجواهر[9] إلى تقديم قول المجني عليه استصحاباً للتعدّد ، وثبوت دية موضحتين عليه.
وقيل عليه ثلاث ديات لو ثبت قول المجني عليه للموضحتين ولإزالة الحاجز ، والأصل عدم تداخل الأسباب ، فإنّ لكلّ مسبّب سبب ، ففي أوّل الأمر أورد جراحتين بسببين ، ثمّ يشكّ عند رفع الحاجز بينهما ، فهل يلزم سقوط دية واحدة على أ نّها تكون جراحة واحدة ؟ الأصل بقاء الجراحتين استصحاباً . هذا هو المشهور ، وقيل يرجع الجاني في معرفة جنايته إلى العرف ، فإن قالوا إنّها واحدة ، فعليه دية واحدة وإلاّ فاثنان ، وهذا لا يتمّ ، فإنّ العرف لو عرف وعلم بالجراحتين فإنّه يحكم بذلك.
الخامس عشر : لو قال الجاني كان إزالة الحاجز قبل الاندمال ، والمجني عليه يقول به بعد الاندمال[10] ، فكما مرّ ، والمختار العمل على طبق القاعدة وهي مبتنية على مسألة التقدّم والتأخّر في واقعتين ، فإمّا أن يكون كلّ منهما معلوم التأريخ ، فالحكم واضح ، أو مجهول التأريخ معاً ، أو الأوّل مجهول والثاني معلوم أو بالعكس ، وعند جهلهما وقع اختلاف بين البيضاوي من علماء العامّة والعلاّمة من فقهاء أصحابنا ، فالعلاّمة يقول بجريان الحالة السابقة عليهما ، والبيضاوي يذهب إلى ضدّ الحالة السابقة عليهما ، والمشهور منّا يقول بتعارضهما وتساقطهما والرجوع إلى العمومات والإطلاقات.
وما نحن فيه قيل ـ عند تعارضهما وتساقطهما ـ بالتخيير بين الاندمال والإزالة ، وعند التحيّر وعدم إمكان التخيير ، فالاحتياط طريق النجاة.
وفي معلوم التأريخ لأحدهما ذهب المشهور إلى أصالة عدم تقدّم المجهول ، والمختار إلحاقهما بالمجهولين ، فإنّ معلوميّة أحدهما في أصل تحقّقهما ، لا أ نّهما مقدّم أو متأخّر ، فلا زال الجهل فيهما ، فمجهول التأريخ على قسمين : تارة مجهول من جهة التحقّق واُخرى من جهة التقدّم والتأخّر وحكمهما واحد ، فتأمّل.
السادس عشر[11] : لو كانت الجناية على رجل كان من قبل كافراً أو رقّاً ، فوقع نزاع بين الجاني والولي ، فيدّعي الولي سبق الإسلام أو العتق على الجناية ، والجاني ينكر ذلك ، فذهب المشهور ومنهم صاحب الجواهر إلى تقديم قول الجاني ، ولو اختلفا في أصل الكفر والرقّ فالمسألة ذات احتمالين : يحتمل تقديم قول الجاني لأصالة البراءة والشبهة الدارئة عن الحدود فلا قصاص عليه ، ويحتمل تقديم قول الولي إذا كانت الجناية في دار الإسلام ، أي في البلاد الإسلاميّة لأنّ الظاهر فيها أن يكون الرجل مسلماً وكذلك حرّاً فالظاهر الإسلام والحرية ، كما أ نّه يستصحب الحرية والإسلام فإنّهما الأصل ، إلاّ أ نّه يعارضه ظهور الكفر في دار الكفر ، فيلزم تساقطهما حينئذ.
السابع عشر : لو كانت الجناية على إصبع فقطعها ، فداواها المجني عليه إلاّ أ نّه تأثّر الكفّ وتآكل[12] فادّعى الجاني أنّ تآكله إنّما كان بالدواء والمجني عليه يقول إنّه كان بالقطع ، يقدّم قول الجاني مع شهادة أهل الخبرة بذلك بأ نّه تآكل من الدواء ، وإلاّ إن لم يشهد أهل الخبرة ففي قواعد العلاّمة قدّم قول المجني عليه حتّى ولو اشتبه الحال وشككنا في ذلك ، وإنّما يقدّم قوله لأ نّه المداوي لإصبعه فهو أعرف بصفته ـ فربما هذا من الدعاوى التي لا يعلم صدقها إلاّ من قبل صاحبها ـ ولأنّ العادة والمتعارف عند الناس أنّ الإنسان لا يتداوى بما يضرّه ويوجب تآكل كفّه.
صاحب الجواهر يرى المناقشة والبحث في مثل هذا الاستدلال فكأ نّه من المستحسنات الظنّية ، ويذهب إلى أنّ الأقوى في المسألة كونها كالاُولى بتقديم قول الجاني والله العالم بحقائق الاُمور ـ انتهى كلامه رفع الله مقامه ـ .
[1]الجواهر (42 : 418) : (أمّا) لو كانت المسألة بالضدّ من الفرض الأوّل كما (لو قطع يده فمات وادّعى الجاني الاندمال) حتّى لا يغرم إلاّ دية اليد (وادّعى الوليّ السراية) حتّى يستحقّ دية النفس (فالقول قول الجاني إن مضت مدّة يمكن) فيها (الاندمال) وفي اليمين البحث السابق ، ولكن هل يحلف أ نّه لم يمت بغير السراية ؟ وجهان من الاحتمال ومن انحصار دعوى الجاني في الاندمال وعلى كلّ حال فيقدّم قوله ، لأنّ الأصل البراءة ، ولا يعارضه أصل عدم الاندمال فإنّ الذي لا يقضي بالسراية.
واحتمل بعض : أنّ السراية غير منجّزة لاستحقاق الدية ، بل تكون متزلزلة كتزلزل البيع الفضولي ، وثمرته أ نّه عند الجناية يثبت عليه استحقاق الديتين تارةً منجّزاً واُخرى معلّقاً ، فعند عدم الاندمال نكشف أ نّها كانت معلّقة ، وعند الاندمال نكشف بأ نّها كانت منجّزة أو نعلم بتنجّزها ، ولكن يشكل ذلك ، فلنا شكّ في حصول إحدى الديتين ، والشكّ في المانع ، ونستصحب بقاء الديتين ، إلاّ أ نّه لا يقابل قاعدة اليمين على من أنكر.
هذا وإن كانت المدّة طويلة فذهب المشهور إلى عكس الفرض الأوّل ، وقدّموا قول الوليّ ولمّـا كانت الديتان ثابتتين ، فيستصحب ذلك ، إلاّ أ نّه قيل هذا من الأصل المثبت ، فإنّ استصحاب بقاء الجناية حتّى ينجرّ إلى الموت ، فالأثر الشرعي كان مع الواسطة ، كما أنّ الأمارات مقدّمة على الاُصول ، فقاعدة (اليمين على من أنكر) مقدّمة على الاستصحاب . ثمّ الشكّ في اشتغال ذمّة الجاني بدية أو ديتين من الشكّ السببي والمسبّبي ، والمختار خلاف المشهور فنقول بدية واحدة ويقدّم قول الجاني ، فتأمّل.
وفي تكملة المنهاج 2 : 181 ، مسألة 194 : لو قطع يد رجل فمات وادّعى الوليّ الموت بالسراية وأنكره الجاني ، فالقول قول الجاني ـ وذلك لأنّ استناد الموت إلى السراية أمرٌ حادث ، فعلى من يدّعي ذلك الإثبات ، فإن أثبته شرعاً فهو ، وإلاّ فالقول قول من ينكر ذلك مع الحلف ـ ومثله ما إذا قدّ الملفوف ـ كما سنذكر المسألة في المتن ـ في الكساء نصفين فادّعى الوليّ أ نّه كان حيّاً وادّعى الجاني أ نّه كان ميّتاً مع احتمال صدقه عادة ـ فإنّ على الوليّ إثبات أ نّه كان حيّاً إلى زمان قدّه نصفين شرعاً ، واستصحاب حياته إلى هذا الزمان لا يجدي لأ نّه لا يثبت استناد موته إلى قدّه نصفين إلاّ على القول بالأصل المثبت ولا نقول به ، فإذن القول قول الجاني مع يمينه ـ .
وفي المسالك (2 : 488) : في قوله (ولو ادّعى الجاني) هنا مسألتان إحداهما متفرّعة على ما لو قطع إحدى يديه ومات فقال الجاني مات بسبب آخر من قتل أو شرب سمّ وليس عليه إلاّ نصف الدية، وقال الولي بل مات بالسراية وعليك دية تامّة فقد تعارض هنا أصلا براءة الذمّة فما زاد على نصف الدية الثابت وجوبه بالجناية وعدم وجود سبب آخر وفي تقديم قول أ يّهما وجهان : أحدهما وهو الذي اختاره المصنّف تقديم قول الجاني ترجيحاً لأصل براءة الذمّة على أصل عدم تناول السمّ لأنّ تناوله لا يستلزم موته بالجناية بل يحتمل الأمرين فكان أضعف من أصل البراءة المفضي إلى المطلوب من ترجيح جانب الجاني . الثاني : تقديم قول الولي ترجيحاً لأصله من حيث أنّ أصل البراءة قد انقطع بوجود سبب الضمان فلا يزول إلى أن يعلم الاندمال وفي المبسوط اقتصر على نقل الوجهين ولم يرجّح شيئاً وله وجه . الثانية : لو قدّ ملفوفاً في ثوبين بنصفين وقال إنّه كان ميّتاً وادّعى الوليّ أ نّه كان حيّاً فمن المصدّق باليمين فيه وجهان ، أظهرهما وهو الذي اختاره المصنّف هنا تقديم قول الجاني ... وللبحث صلة فراجع.
وفي إيضاح الفوائد (4 : 651) : أمّا لو قطع يد واحدة ثمّ وجد ميّتاً فادّعى الوليّ السراية والجاني الاندمال قدّم قول الجاني إن احتمل الزمان وإلاّ قول الوليّ ولو كان قصيراً فقال الجاني مات بسبب آخر وقال الولي مات بالسراية قدّم قول الولي ويحتمل قول الجاني ـ قال فخر المحقّقين (قدس سره) : وجه الاحتمال احتمال الحال قول كلّ واحد منهما فيرجع إلى الأصل وهو براءة الذمّة ممّـا زاد على دية العبد ، ووجه تقديم قول الولي أنّ الجناية سبب للإتلاف غالباً والأصل في السبب التأثير إلاّ لمانع والأصل عدمه وهو الأصحّ عندي ، والاحتمال ضعيف جدّاً ـ قال العلاّمة : ولو اختلفا في المدّة قدّم قول الولي على إشكال ـ قال فخر المحقّقين : ينشأ من تعارض أصل براءة الذمّة ممّـا زاد على دية اليد وعدم تقدّم الجناية على الزمان الذي يدّعيه الجاني ـ .
وفي السرائر (3 : 398) : إذا قطع يدي الرجل ورجليه ومضت مدّة يندمل فيها ثمّ مات فقال الجاني مات بالسراية ، فعليّ دية واحدة وقال الولي بغير سراية ، وجب أن يكون القول قول الولي ، لأنّ الظاهر وجوب ديتين حتّى يعلم غيره.
وفي المبسوط (7 : 106) : فرع : رجل قطع يدي رجل ورجليه واختلفا فقال القاطع : مات من السراية فعليّ دية واحدة وقال الولي مات من غير السراية وهو أ نّه شرب سمّاً فمات أو قال قتل فعليك كمال الديتين ، فليس بينهما ها هنا خلاف في مدّة وإنّما الخلاف فيما مات المجني عليه منه ، فمع كلّ واحد منهما ظاهر يدلّ على ما يدّعيه ، مع المجني عليه ظاهر لأنّ الأصل أ نّه ما شرب السمّ ، ومع الولي ظاهر وهو أنّ الأصل وجوب الديتين على القاطع ، وقال بعضهم يحتمل وجهين : أحدهما : أنّ القول قول الولي لأنّ الظاهر وجوب الديتين وهو يدّعي ما يسقطهما فكان القول قول الولي كما إذا أوضحه موضحتين ثمّ انخرق ما بينهما وصارت واحدة ، ثمّ اختلفا ، فقال الجاني انخرق ما بينهما بالسراية فعليّ دية موضحة واحدة ، وقال المجني عليه أنا خرقت بينهما فعليك دية موضحتين ، فالقول قول المجني عليه ولا فصل بينهما . ويحتمل أن يكون القول قول الجاني لأنّ الأصل أنّ المجني عليه ما شرب السمّ فقد ثبت أنّ كلّ واحد منهما معه ظاهر يدلّ على ما يدّعيه ويجري مجرى مسألة الملفوف في الكساير ، إذا قطعه قاطع بنصفين ثمّ اختلفا فقال القاطع كان ميّتاً حين القطع ، وقال الولي كان حيّاً حين القطع ، فإنّه يقول بعضهم : القول قول القاطع لأنّ الأصل براءة ذمّته ، وقال غيره القول قول الولي لأنّ الأصل بقاء الحياة كذلك ها هنا.
[2]الجواهر (42 : 419) : (ولو ادّعى الجاني أ نّه شرب سمّاً) أو لدغته حيّة ونحو ذلك (فمات وادّعى الوليّ موته من السراية) ففي القواعد (قدّم قول الوليّ مع قصر الزمان) ولعلّه لأنّ الأصل عدم حدوث غير الجناية ، ولكن فيه أنّ ذلك لا يقتضي الموت السراية (فـ) ـالمتّجه أنّ (الاحتمال فيهما سواء) إذ السراية أمر حادث والأصل عدم شرب السمّ مثلا كذلك . (ومثله الملفوف في كساء) مثلا (إذا قدّه) قادّ (نصفين وادّعى الوليّ أ نّه كان حيّاً وادّعى الجاني أ نّه كان ميّتاً إذ الاحتمالان) فيه أيضاً (متساويان) لا ترجيح لأحدهما على الآخر بمقتضى الاُصول ، لأنّ استصحاب حياته لا يقتضي أ نّه قدّه حيّاً إلاّ بالأصل المثبت الذي هو غير حجّة كما تقرّر في محلّه ، وحينئذ موته بالقدّ أو بسبب آخر بالنسبة إلى الاُصول على حدّ سواء (فـ) ـالمتّجه الرجوع إلى أصل آخر غيرهما ، وهو يقتضي أن (يرجّح قول الجاني) كما عن الخلاف والجواهر (لأنّ الأصل عدم الضمان) (و) لكن مع ذلك (فيه احتمال آخر ضعيف) وإن اختاره في الأوّل في القواعد ، للأصل الذي قد عرفت البحث فيه ، ولذا كان خيرة كشف اللثام ومحكي التحرير فيه تقديم قول الجاني لما عرفت ، وفي الثاني في محكي السرائر ، لأصالة الحياة التي قد عرفت عدم اقتضائها كون القدّ نصفين وقع عليه حالها ، إذ هو ليس من أحكام المقدود كي يستصحب ، وإن استصحب حياته في وجوب النفقة عليه ونحوه ممّـا هو من أحكامه شرعاً بخلاف الفرض الذي هو ضدّه من قتله ونحوه من الأحكام العرفيّة ، ولذا كان خيرة من عرفت تقديم قول الجاني أيضاً فيه وأضعف من الاحتمال المزبور ما يحكى في الثاني من أ نّه إن كان ملفوفاً في الكفن قدّم قول الجاني ، لظهور الموت ، وإلاّ فقول الوليّ ، إذ هو مجرّد اعتبار.
وفي إيضاح الفوائد (4 : 651 ـ 652) : ولو ادّعى الوليّ موته بسبب غير الجناية كلدغ حيّة أو وقوع من شاهق أو قتل آخر وادّعى الجاني استناده إلى جنايته احتمل تقديم قول الجاني لأصالة عدم حدوث سبب آخر ، وقول الولي لأنّ الجاني يدّعي سوط حقّ يثبت المطالبة به ... ولو قدّ ملفوفاً في كساء بنصفين ثمّ ادّعى أ نّه كان ميتاً وادّعى الوليّ الحياة احتمل تقديم قول الجاني لأنّ الأصل البراءة ، وتقدّم قول الوليّ لأنّ الأصل الحياة ، وكذا لو أوقع عليه حائطاً.
[3]الجواهر (42 : 420) : لو ادّعى الجاني شلل العضو المقطوع من حين الولادة أو عمى عينه المقلوعة كذلك ـ من حين الولادة ـ وادّعى المجني عليه الصحّة فإن كان العضو ظاهراً كالعين والرجل ففي القواعد ومحكيّ المبسوط والخلاف قدّم قول الجاني ، لأصالة البراءة ، وإمكان إقامة المجني عليه البيّنة على السلامة ، وإن كان مستوراً كالمذاكير ففي القواعد احتمل تقديم قول الجاني أيضاً ، للأصل المزبور ، وقول المجني عليه كما عن المبسوط والخلاف ، لأصل الصحّة ، وفيه أ نّه لا يقتضي وقوع الجناية عليه كذلك.
وفي إيضاح الفوائد (4 : 652) : ولو ادّعى الجاني شلل العضو المقطوع من حين الولادة أو عمى عينه المقلوعة وادّعى المجني عليه الصحّة فإن كان العضو ظاهراً قدّم قول الجاني لإمكان إقامة البيّنة على سلامته وإن كان مستوراً احتمل تقديم قول الجاني والمجني عليه وكذا الإشكال لو ادّعى الجاني تعدّد العيب.
[4]الجواهر (42 : 420) : وفي كشف اللثام (ويكفي في البيّنة إذا قامت أن تشهد بالسلامة قبل الجناية مطلقاً) وفيه أنّ استصحابها لا يثبت وقوع الجناية عليها أيضاً سالمة فأصل البراءة حينئذ محكّم.
[5]الجواهر (42 : 420) : واختلف في المستور فقيل ما أوجب الشارع ستره ، وقيل ما أوجبته المروّة ، فيشمل الفخذ والسرّة والركبة ، وفي كشف اللثام هو أظهر سواء وافق المروّة فستره أو خالفها ، إذ كما أنّ المروّة تقتضي ستره كذلك تقتضي الغضّ عنه . وفيه أ نّه ليس في شيء من الأدلّة العنوان المزبور كي يحتاج في تفسيره إلى ما سمعت كما أ نّه ليس في شيء منها مراعاة الاعتبار المذكور ومن هنا كان المحكي عن ابن إدريس تقديم قول المجني عليه مطلقاً مدّعياً عليه الإجماع ، وهو لو تمّ كان حجّة ، وإلاّ ففيه البحث السابق ، وعن بعض العامّة تقديم قول الجاني مطلقاً ، وقد عرفت قوّته ، والله العالم.
[6]الجواهر 42 : 418.
[7]الجواهر (42 : 422) : ولو ادّعى الجنون وقتها وعرف له حال جنون ، ففي القواعد قدّم قوله وإلاّ فلا ، ولعلّ للأصل فيهما ، ولكن لا يخلو من بحث.
وفي إيضاح الفوائد (4 : 652) : ولو ادّعى الجاني صغره وقت الجناية قدّم قوله مع الاحتمال ، وإلاّ حكم بشاهد الحال . ولو ادّعى الجنون وعرف له حالة جنون قدّم قوله وإلاّ فلا ، ولو اتّفقا على زوال العقل حال الجناية لكن ادّعى المجني عليه السكر والجاني الجنون قدّم قول الجاني.
[8]الجواهر (42 : 422) : ولو اتّفقا على زوال العقل حال الجناية لكن ادّعى المجني عليه السكر والجاني الجنون قدّم قول الجاني وإن لم يعرف حالة جنون ، لأصل عدم العصيان وأصل البراءة خصوصاً الغافل.
[9]الجواهر 42 : 422.
وفي إيضاح الفوائد (4 : 652) : ولو أوضحه في موضعين وبينهما حاجز ثمّ زال فادّعى الجاني زواله بالسراية والمجني عليه بالإزالة ، قدّم قول المجني عليه ، ولو اتّفقا على أنّ الجاني أزاله لكن قال المجني عليه بعد الاندمال فعليك ثلاث موضحات وقال الجاني قبله فعليّ موضحة واحدة ، فالقول في الموضحتين قول المجني عليه ، لأنّ الجاني يدّعي سقوط المطالبة بأرش إحدى الموضحتين ، وفي الموضحة الثالثة قول الجاني لأنّ المجني عليه يدّعي وجود الاندمال والأصل عدمه.
[10]الجواهر (42 : 422) : ولو اتّفقا على أنّ الجاني أزاله لكن قال للمجني عليه : بعد الاندمال ليكون عليه ثلاث موضحات وقال الجاني : قبله ليكون عليه أرش موضحة واحدة فالقول في الموضحتين قول المجني عليه ، لأنّ الجاني يدّعي سقوط المطالبة بأرش أحدهما وفي الموضحة الثالثة قول الجاني لأنّ المجني عليه يدّعي وجود الاندمال قبلها والأصل عدمه ، ويدّعي أرش موضحة ثالثة ، والأصل البراءة وليس هذا عملا بمتناقضين لابتناء ثبوت أرش موضحتين على تقدّم الاندمال على زوال الحاجز ، والبراءة من أرش الثالثة على تأخّره ، لأ نّهما مبنيّان على أصل واحد وهو الاستصحاب لثبوت ما ثبت والبراءة عمّـا لم يثبت ، أو لاحتمال النقيضتين من غير عمل بهما ، أو لأنّ مثل ذلك في الاُصول كثير.
[11]الفروع التالية وكذلك المسألة الخامسة لم أجدها في تقريراتي التي راجعتها بعد ستّة عشر عاماً ، ولم اُوفّق للوقوف على تقريرات اُخرى لزملائي في البحث آنذاك ، فاكتفيت في ذلك بالاقتباس من الجواهر 422 ـ 424 ليتمّ الموضوع وتعمّ الفائدة ، وما توفيقي إلاّ بالله العليّ العظيم.
وفي إيضاح الفوائد (4 : 653) : ولو قتل من عهد كفره أو رقّه فادّعى الوليّ سبق الإسلام أو العتق قدّم قول الجاني مع اليمين ، ولو اختلفا في أصل الكفر والرقّ احتمل تقديم قول الجاني لأصالة البراءة وتقديم قول الوليّ لأنّ الظاهر في دار الإسلام الحريّة.
[12]في إيضاح الفوائد (4 : 653) : ولو داوى الإصبع فتآكل الكفّ فادّعى الجاني تآكله بالدواء والمجني عليه بالقطع قدّم قول الجاني مع شهادة العارفين بأنّ هذا الدواء يأكل الحيّ والميّت ، وإلاّ قدّم قول المجني عليه ، وإن اشتبه الحال لأ نّه هو المداوي فهو أعرف بصفته ، ولأنّ العادة قاضية بأنّ الإنسان لا يتداوى بما يضرّه.