[2] لو جنى الجاني على يدي رجل ورجليه كما لو اشتبه
الأمر على شخص وتصوّر أنّ على شخص آخر قصاصين فقطع يديه ورجليه ثمّ علم بخطئه
بأ نّه لم
تصدر
منه جناية توجب ذلك ، وهذا يكون من شبيه العمد ، ففيه صور ،
منها : لو مات بعد مدّة يندمل الجرح عادة ، فعليه دية اليدين
والرجلين ، وإذا مات للجراحة فعليه دية النفس لتداخل دية اليدين والرجلين في
النفس ، ولو اختلف الجاني مع وليّ المجني عليه ، فقال الوارث
الولي ، مات بعد الاندمال حتّى يستحقّ من القاطع ديتين ، وقال
الجاني : مات بالسراية حتّى لا يجب عليه إلاّ دية واحدة لدخول دية
الطرف في النفس ، والمسألة ذات أقوال ثلاثة : فقيل :
يقدّم قول الوليّ مطلقاً ، وقيل يقدّم قول الجاني مطلقاً ،
وقيل : بالتفصيل بين المدّة القصيرة والمدّة الطويلة ويكون النزاع هنا
بين الأقلّ والأكثر.
ومستند الأوّل استصحاب اشتغال ذمّة الجاني بديتين ، إمّا بالاستصحاب الوجودي أو العدمي ، فالأوّل يستصحب بقاء الجراحة إلى حين موته ، والثاني يشكّ في الاندمال حتّى يستند موته إلى سبب آخر ، فيستصحب عدم الاندمال ، إلاّ أ نّه لا يتمّ هذا الاستصحاب لأ نّهما من الأصل المثبت الذي ليس بحجّة عند المحقّقين كما هو المختار ، فإنّه يلزمه استناد الموت بالتسرّي لا بالسبب الآخر ، وذلك بواسطة بقاء الجراحة أو عدم الاندمال ، هذا أوّلا ، وثانياً : لو ثبت أنّ ما نحن فيه من باب قاعدة اليمين على من أنكر والبيّنة على المدّعي لو لم يكن من باب التداعي ، فهذا يعني أ نّه من الأمارة ، وحينئذ لا مجال لجريان الاستصحاب بقسميه ، وثالثاً : الشكّ هنا من المسبّبي ويعلم حكمه من السببي وهو من المثبت ، فالمختار تقديم قول الجاني لا الولي كما عند المشهور ، فتؤخذ منه دية واحدة.
هذا في أصل المسألة ، ومع اختلافهما في طول المدّة وقصرها ، فقيل بالاستصحاب إلاّ أنّ الأمارة مقدّمة عليه . ومستند قول الجاني هو الاستصحاب في الزمان والزماني ، واليمين على من أنكر . فالأوّل يشكّ في زمن الجراحة هل أنقض الاندمال أم لم ينقضه ؟ فيستصحب ذلك الزمان إلى حين التعدّي كاستصحاب النهار للصائم حين الإفطار وشكّه في دخول الليل . وقد وقع اختلاف في تماميّة استصحاب الزمان فمن الاُصوليين من أنكر ذلك مطلقاً ، ومنهم من قال به مطلقاً ، وقيل بالتفصيل بأ نّه إن كان الزمان متقطّعاً ومتجزّئ فإنّه لا يجري الاستصحاب لاختلاف موضوعه ، وإن كان ظرف الزمان يعدّ واحداً ، فإنّه يجري الاستصحاب لوحدة الموضوع ، ومستند القائل بجريانه أنّ الزمان عرض ، وأنّ الاستصحاب يرجع فيه إلى المتفاهم العرفي ، وأ نّه يرى الجريان في الزمان ، ومستند المانع أنّ الزمان لا مكث فيه ، فهو آن بعد آن ، ومستند الثالث أنّ لنا ظرف مكاني وظرف زماني لكلّ الموجودات الماديّة ، ولكلّ واحد أحكامه الخاصّة ، والإنسان له مكان وزمان وبمجرّد موته ينتهي زمان حياته دون المكان ، فإنّ قبره إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حُفر النيران ، ففي عالم اللحاظ يمكن ملاحظة المكان بالتقسيم والتجزئة وربما من دون ذلك ، وكذلك الزمان فتارة يلاحظ النهار بلحاظ واحد واُخرى بتقسيم النهار حسب الساعات أو الدقائق أو الثواني ، ويعلم الأوّل بالوجدان فإنّ الثلاثاء يقابله الأربعاء ، والزمان أمر اعتباري موهوم ينتزع من الحركة ، إمّا من حركة الأفلاك أو النيّرين ـ الشمس والقمر ـ فعند ملاحظة التجزئة فلا معنى للشكّ ، بل يتعيّن الزمان ، فلا معنى للاستصحاب وجريان الحكم في الساعة الثانية من الساعة الاُولى ، وإلاّ فإنّه يلزمه تسوية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وهذا ينافي وحدة الموضوع المشروط في تحقّق الاستصحاب.
وإذا لاحظنا الزمان شيئاً واحداً ، كما في الصوم من طلوع الفجر إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة عند الغروب ودخول الليل ، فإنّه يصحّ حينئذ جريان الاستصحاب ، هذا والمجتهد الحاذق هو الذي يستكشف التجزية وعدمها من الكلام نفسه من الروايات الشريفة ، والمختار جريان الاستصحاب في الزمان ، فنختار فيما نحن فيه القول بالتفصيل ، فتأمّل.
فالمشهور
ومنهم العلاّمة والمحقّق والشهيدان وصاحب الجواهر ذهب إلى تقديم قول الجاني فيلزمه
دية النفس فقط ، ولا مجال للاستصحاب الزماني فإنّه من الأصل المثبت ،
كما إنّ ما نحن فيه من قاعدة اليمين على من أنكر وأ نّه مقدّم على الاستصحاب
لأمارته وإن قيل باستصحاب كلّي الزمان الجامع وهو حين ورود الجراحة في أوّل زمانها
فيتحقّق الكلّي ونتمسّك به ويترتّب الأثر عليه ، فيقال هذا
مخدوش
من جهات ، فإنّه من الأصل المثبت أيضاً ، فإنّه يترتّب على الكلّي طول
الزمان ، ومن ثمّ مات بالسراية ، فليس عليه ديتان ، فهنا
واسطتان ، كما أنّ الكلّي الطبيعي لا وجود له ، فكيف
يستصحب ؟ بناء على من يقول بعدم وجوده ، ومن قال بوجوده ،
فإمّا من باب الحصصيّة وهو باطل كما في المعقول ، أو حلوله في المصاديق وهو
باطل أيضاً ، أو القول بالعينيّة بأنّ الكلّي عين الأفراد كما عند أكثر
الفلاسفة ، وعلى الأوّلين من أوّل الأمر يكون مبهماً في الطويل والقصير فكيف
يستصحب ، وكذلك العينيّة ، فإنّه لا يعلم اتّحادهما مع الزمن الطويل أو
القصير فيشكل حينئذ استصحاب الزمان.
وأمّا الاستصحاب الزماني أي الجراحة الواقعة في زمان ، فعند جرحه ثبت ، وعند موته يشكّ بالسراية أو عدمها فيستصحب الجراحة ، فيكون من الزماني إلاّ أ نّه من الأصل المثبت أيضاً.
ثمّ قاعدة (البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر) من القواعد المنصوصة والمصطادة ، ومعها لا مجال لجريان الاُصول العمليّة كالبراءة والاستصحاب ، فمعها يرتفع الشكّ الذي هو مجرى الاستصحاب والبراءة.
والمختار أنّ المسألة من باب التداعي ، فإنّ أحدهما يدّعي السراية والآخر يدّعي الاندمال . فيقدّم قول الجاني . والذي يسهّل الخطب أنّ النزاع مبنويّ في الاُصول العمليّة إمّا من الأمارات أو غيرها.
ثمّ بعض الأعلام أراد أن يقول بكون القاعدة من المثبت أيضاً ، فإنّه يترتّب عليها كون موت المجني عليه بالسراية فيترتّب عليها اشتغال ذمّة الجاني بدية واحدة ، ولكن لا يضرّ المثبتيّة في الأمارات والقواعد كما هو ثابت في محلّه.
[2] الجواهر 42 : 416 ، المسألة الرابعة ـ (لو قطع يدي رجل ورجليه مثلا (خطأ) شبيهاً بالعمد (واختلفا فقال الولي : مات بعد الاندمال) فيستحقّ من القاطع ديتين (وقال الجاني : مات بالسراية) كي لا يجب عليه إلاّ دية واحدة لدخول الطرف في النفس (فإن) اتّفقا على المدّة و (كان الزمان قصيراً لا يحتمل الاندمال) عادةً (فالقول قول الجاني) كما عن الشيخ والفاضل والشهيدين وغيرهم ، لأصل البراءة المعتضدة بالظاهر وأصالة عدم حدوث سبب آخر ، مع أ نّه لم يدّعه الولي ، بل توقّف غير واحد في استحقاق اليمين للعلم بكذب دعواه في الاندمال ولم يدع سبباً آخر وإن قال المصنّف هنا تبعاً للمحكي عن الشيخ أنّ القول قوله (مع يمينه) لعموم قوله (صلى الله عليه وآله) (واليمين على من أنكر) وغيره ممّـا يدلّ عليه ، ولجواز أن يكون الموت بسبب حادث كلدغ حيّة وشرب سمّ مدنف ... ثمّ المصنّف يشكل في هذا المقام قائلا : لكن قد يشكل أصل تقديم قول الجاني إذا لم يعلم استناد الموت إلى جنايته بأصالة بقاء استحقاق الديتين عليه بعد ثبوت سببه ، وعدم العلم بالسراية ، وظهور الكذب بدعوى الاندمال لقصر الزمان لا يقتضي ثبوت السراية المقتضية لسقوط استحقاق الديتين ، نعم لو قيل بعدم الاستحقاق باعتبار المراعاة اتّجه ذلك ، لكن قد عرفت سابقاً أنّ السراية مسقطة لا كاشفة عن عدم الاستحقاق.
وعلى كلّ حال (فـ) ـهذا مع قصر الزمان ، وأمّا (إن) كان الزمان طويلا و (أمكن الاندمال) فيه (فالقول قول الولي لأنّ الاحتمالين متكافئان والأصل وجوب الديتين) ولم يعلم السراية المسقطة ودعوى أنّ ثبوتها مراعى وظهوره ظهور وهمي متزلزل لا عبرة به ، فلا استصحاب يدفعها أ نّه مبني على كون السراية كاشفة لا مسقطة ، وقد عرفت سابقاً فساده ، فلاحظ وتأمّل . (ولو اختلفا في المدّة) فقال الجاني : مات قبل أن تمضي مدّة يندمل في مثلها إمّا مطلقاً أو مع تعيّنها بالأيّام ، وقال الولي : بل مضت مدّة تندمل في مثلها كذلك (فـ) ـفي المسالك وفاقاً للمتن (القول قول الجاني) مع اليمين كما في القواعد وغيرها ، لأنّ الأصل بقاء المدّة حتّى يعلم انتفاؤها وبقاء الجناية والسراية حتّى يعلم برؤها ، وفيه نظر يعرف ممّـا سبق ويأتي مضافاً إلى عدم صحّة الأصلين المزبورين بحيث يثبت منهما قوله ، ويقطعان أصالة ثبوت استحقاق الديتين ، فتأمّل جيّداً.
وفي المسالك (2 : 487) : في قوله (لو قطع يدي رجل) إذا قطع يديه ورجليه فمات واختلف الجاني والولي فقال الجاني مات بالسراية فعليّ دية واحدة لدخول دية الطرف في دية النفس والحال أنّ القطع خطأ شبيه العمد ليكون النزاع بينهما في محلّه ، وقال الولي بل مات بعد الاندمال فعليك ديتان فإن لم يكن الاندمال في مثل تلك المدّة عادة لقصر الزمان كيوم ويومين فالقول قول الجاني لتطابق الأصل والظاهر على صدقه ، وهل يفتقر والحال هذه إلى اليمين أم لا ؟ جزم المصنّف وقبله الشيخ في المبسوط بالأوّل لعموم واليمين على من أنكر ولجواز أن يكون الموت بسبب حاديث كلدغ حيّة وشرب سمّ مدنف ، ويحتمل قوياً عدم اليمين لأنّ المفروض عدم إمكان الاندمال ، والسبب الحادث لم يجر له ذكر حتّى يبقى ، وإنّما يجري التحليف بحسب الدعوى والإنكار ، وإن أمكن الاندمال في تلك المدّة وعدمه ، فالقول قول الولي مع يمينه لتكافؤ الاحتمالين فيستصحب الحكم بوجوب الديتين ، ولا يسقط بأمر يحتمل ، هذا إذا اتّفقا على المدّة ، فأمّا إن اختلفا فيها فقال الجاني مات قبل أن يمضي مدّة تندمل في مثلها إمّا مطلقاً كما قلنا ، أو مع تعيّنها بالأيام ، وقال الولي بل مضت مدّة تندمل مثلها كذلك ، فالقول قول الجاني ، لأنّ الأصل بقاء المدّة حتّى يعلم انقضاؤها وبقاء الجناية والسراية حتّى يعلم برؤها ، ولو كانت المسألة بالضدّ من هذا الحكم بأن كان قد قطع يد رجل فمات المقطوع ، ثمّ اختلفا فقال الجاني مات بعد الاندمال فعلى نصف الدية وقال الولي قبل الاندمال فعليك كمال الدية ، فإن كان قبل أن يمضي مدّة يمكن فيها الاندمال فلا إشكال في تقديم قول الولي لتطابق الأصل والظاهر على عدمه والكلام في يمينه كما مرّ ، وإن كان بعد مضيّ مدّة يمكن فيها الاندمال فقد تعارض أصلا عدم الاندمال وبراءة ذمّة الجاني ممّـا زاد عن النصف فقدم قول الجاني لشهادة الظاهر له مع الأصل ، وإن اختلفا في المدّة فقال الجاني قد مضت مدّة يندمل في مثلها ، وقال الولي ما مضت ففي تقديم أ يّهما وجهان : أحدهما وهو الذي قطع به الشيخ في المبسوط تقديم قول الولي لأنّ الأصل عدم مضيّ المدّة فالوليّ في هذه كالجاني في تلك ، والثاني : تقديم قول الجاني لأصالة البراءة ممّـا زاد على نصف الدية ، والأشهر الأوّل ، وممّـا ذكرنا يظهر وجه التردّد.
وفي إيضاح الفوائـد (4 : 651) : الفصل السادس في الاختلاف : إذا قطع يدي رجل ورجليه خطأً ورأينا المجني عليه فادّعى الجاني موته من السراية وادّعى الولي الاندمال والموت بغيرها ، فإن لم يحتمل الاندمال لقصر الزمان صدق الجاني وفي إحلافه إشكال ـ قال فخر المحقّقين : مراد المصنّف بالخطأ شبيه العمد أو في موضع لا يلزم العاقلة كما لو ثبت الجناية بإقراره لأ نّها لو ثبت بالبيّنة وكانت خطأً محضاً كانت الدية على العاقلة فتكون الدعوى قبل الثبوت بين الولي والعاقلة في النفس وبين المقطوع وبينها فيما دونها مع حياته فإن لم يحتمل اندمال القطع قدّم الجاني وفي إحلافه إشكال ينشأ من عموم اليمين على من أنكر ومن أنّ دعوى الولي غير محتمل فلا تسمع فلا يتوجّه عليه يمين ـ قال العلاّمة الحلّي (قدس سره) : وإن أمكن قدّم قول الولي مع اليمين ، فإن اختلفا في المدّة قدّم قول الجاني مع اليمين.
وفي المهذّب (2 : 486) : وإذا قطع يدي رجل ورجليه ، كان عليه ديتان دية في اليدين ودية في الرجلين ، فإن مات بعد الاندمال استقرّت الديتان على الجاني وإن سرى القطع إلى النفس كان عليه دية واحدة ، لأنّ أرش الجناية يدخل في بدل النفس . وإذا قطع يد عبد كان عليه نصف قيمته ، ويمسكه سيّده ، فإن قطع يدي عبد أو رجليه ، كان عليه قيمته كاملة يتسلّم العبد ـ انتهى كلامه رفع الله مقامه ـ .