الثالث  : مذهب سخيف ضعيف ، وهو أنّ الصورة ينطبع في المرآة .

             الرابع  : مذهب أفلاطون ومن سبقه وتبعه من الإشراقيين ، حيث أثبتوا عالماً  آخر سوى هذا العالم الجسماني الذي هو المحدّد للجهات ، مع ما فيه من الأجرام  الفلكية والأجسام العنصرية ، وهو عالم متوسّط بينه وبين عالم المجرّدات العقلية الصرفة المنزّهة عن المقدار والحيّز والجهة والشكل . فإنّ أشخاص هذا العالم صور مثالية ، وأشباح برزخية ، مجرّدة عن الطبائع والموادّ ، نورانيّة ، يسمّى ذلك العالم عالم المثال ، وقالوا  : إنّ الصور المرئية في المرايا وغيرها من الأجسام الصقيلة والصور المتخيّلة وأمثالها صور موجودة قائمة بنفسها ، إذ لو كانت الصور في المرآة لما  اختلف رؤية الشيء باختلاف مواضع نظرنا إليها ، ولو كانت في الهواء لم يكن أن  ترى ، لأنّ الهواء شفّاف لم يكن أن يرى ، وكذا ما حلّ فيه ، وليست هي صورتك بعينها بأن ينعكس الشعاع من المرآة إليك ، لبطلان القول بالشعاع لوجوه مذكورة في كتب القوم ، ولا في القوّة الباصرة أو غيرها من القوى البدنية لوجوه ذكروها ، فهي صور جسمانية موجودة في عالم آخر ، متوسّط بين عالمي الحسّ والعقل يسمّى  بعالم المثال ( المثل الأفلاطونية ) ، وهي قائمة بذاتها معلّقة لا في محلّ ولا  في  مكان ، لها مظاهر كالمرآة في الصور المرئية المرآتية والخيال في الصور الخيالية .

             وجاء في ( المناقب ) لابن شهرآشوب  : ممّـا أجاب الرضا (عليه السلام) بحضرة المأمون لضباع بن نصر الهندي وعمران الصابيّ عن مسائلهما  : قال عمران  : العين نور مركّبة أم الروح تبصر الأشياء من منظرها  ؟ قال (عليه السلام)   : العين شحمة ، وهو البياض والسواد ، والنظر للروح ، دليله أ نّك تنظر فيه فترى صورتك في وسطه ، والإنسان لا يرى صورته إلاّ في ماء أو مرآة وما أشبه ذلك ...([26] )

             قال العلاّمة المجلسي في بيان ذلك  : قوله ( دليله أ نّك تنظر فيه ) كأنّ الغرض التنبيه على أنّ هذا العضو بنفسه ليس شاعراً لشيء ، لأ نّه مثل سائر الأجسام الصقيلة التي يرى فيها الوجه كالماء والمرآة ، فكما أ نّها ليست مدركة لما ينطبع فيها فكذا العين وغيرها من المشاعر ، أو دفع لتوهّم كون الانطباع دليلا على كونها شاعرة ، فيكون سنداً للمنع .

             وجاء في ( تحف العقول )  : سأل يحيى بن أكثم عن قول علي (عليه السلام)   : ( إنّ الخنثى يورث من المبال ) وقال  : فمن ينظر إذا بال إليه  ؟ مع أ نّه عسى أن تكون امرأة وقد نظر إليها الرجال  ؟ أو عسى أن يكون رجلا وقد نظرت إليه النساء  ؟ وهذا ممّـا لا  يحلّ . فأجاب أبو الحسن الثالث (عليه السلام)   : إنّ قول علي (عليه السلام)   : حقٌّ ، وينظر قوم عدول يأخذ كلّ واحد منهم مرآة ، وتقوم الخنثى خلفهم عريانة ، فينظرون في المرايا فيرون الشبح ، فيحكمون عليه .

             قال العلاّمة المجلسي  : بيان  : ظاهره أنّ الرؤية بالانطباع لا بخروج الشعاع ، لقوله (عليه السلام)   : ( فيرون الشبح ) ولأ نّه إذا كان بخروج الشعاع فلا ينفع النظر في المرآة ، لأنّ المرئي حينئذ هو الفرج أيضاً . ويمكن الجواب بوجهين  :

             الأوّل  : إنّ مبنى الأحكام الشرعية الحقائق العرفية ، لا الدقائق الحكمية ، ومن رأى امرأة في الماء لا يُقال لغةً ولا عرفاً  : إنّه رآها ، وإنّما يقال  : رأى صورتها وشبحها ، والنصوص الدالّة على تحريم النظر إلى العورة إنّما تدلّ على تحريم الرؤية المتعارفة ، وشمولها لهذا النوع من الرؤية غير معلوم . فيمكن أن يكون كلامه (عليه السلام) مبنيّاً على ذلك لا على كون الرؤية بالانطباع ، ويكون قوله ( فيرون الشبح ) مبنيّاً على ما يحكم به أهل العرف ، وذكره لبيان أنّ مثل تلك الرؤية لا تسمّى رؤية حقيقية ، لا عرفاً ولا لغةً .

             والثاني  : أ نّه يحتمل أن يكون الحكم مبنيّاً على الضرورة ، ويجوز في حال الضرورة ما لا يجوز في غيرها ـ  كلّما حرّمه الله أحلّه الاضطرار  ـ فيجوز النظر إلى العورة كنظر الطبيب والقابلة وأمثالهما ، ولمّـا كان هذا النوع من الرؤية أخفّ شناعة وأقلّ مفسدة ، اختاره (عليه السلام) لدفع الضرورة هناك بها ، فلا يدلّ على الجواز عند فقد الضرورة ، وعلى الانطباع . والأوّل أظهر . ومع ذلك لا يمكن دفع كون ظاهر الانطباع .

             وسنتكلّم في أصل الحكم في موضعه إن شاء الله تعالى([27] ) . انتهى كلامه رفع الله مقامه .

             أقول  :

             هذا غيض من فيض في حقيقة المرآة والحديث النبوي الشريف  : ( المؤمن مرآة المؤمن ) وما تصوّرناه وتبادر إلى الذهن القاصر من المعاني التي بلغت ( 99 ) معنىً ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وما اُوتينا من العلم إلاّ قليلا ، وفوق كلّ ذي  علم عليم ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم .

             وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .

 

 


([1] )  رسالة طبعت في مجلة ( نور الإسلام ) الصادرة في بيروت العدد 11 و  12 سنة 1409 بـ  ( 35 ) معنى ، وفي مجلة ( الكوثر ) الصادرة في إيران العدد الثاني لسنة 1416 بـ  ( 55 ) معنى ، وطبعت في الموسوعة مع تنقيح وإضافات بـ  ( 99 ) معنى .
([2] )  بحار الأنوار 2  : 184 ، باب 26 .
([3] )  بحار الأنوار 71  : 270 .
([4] )  جاء في بحار الأنوار ( 70  : 333 ) في تفسير القلب وسواده بالذنوب وأنّ القلب يُران ، كما في قوله تعالى  : (   بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ   )  ، فقال العلاّمة المجلسي (قدس سره)   : والمراد بما  كانوا يكسبون الأعمال الظاهرة القبيحة والأخلاق الباطنة الخبيثة فإنّ ذلك سبب لرين القلب وصداه وموجب لظلمته وعماه ، فلا يقدر أن ينظر إلى وجوه الخيرات ، ولا يستطيع أن يشاهد صور المعقولات ، كما أنّ المرآة إذا اُلقيت في مواضع النّدى ركبها الصّدا ، وأذهب صفاءها وأبطل جلاءها ، فلا يتفتش فيها صور المحسوسات . وبالجملة يشبه القلب في قسوته وغلظته وذهاب نوره ، بما يعلوه من الذنوب والهوس ، وما يكسوه من الغفلة والردى ، بالمرآة المنكدرة من الندى ، وكما أنّ هذه المرآة يمكن إزالة ظلمتها بالعمل المعلوم ، كذلك هذا القلب يمكن تصفيته من ظلمات الذنوب وكدورات الأخلاق بدوام الذكر والتوبة الخالصة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، حتّى ينظر إلى عالم الغيب بنور الإيمان ويشاهد مشاهدة العيان إلى أن يبلغ إلى أعلى درجات الإحسان ، فيعبد الله كأ نّه يراه ، ويرى الجنّة وما أعدّ الله فيها =
=   لأوليائه ، ويرى النار وما أعدّ الله فيها لأعدائه . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
البحار (  71  : 270 )  : قال العلاّمة الراوندي في ضوء الشهاب  : المرآة الآلة التي ترى فيها صورة الأشياء وهي مفعلة من الرؤية ، والمعنى أنّ المؤمن يحكي لأخيه المؤمن جميع ما يراه فيه ، فإن كان حسناً زيّنه له ليزداد منه ، وإن كان قبيحاً نبّهه عليه لينتهي عنه . انتهى .
([5] )  بحار الأنوار 68  : 325 .
([6] )  بحار الأنوار ( 73  : 239 )  : ذكر صاحب عوارف المعارف حديثاً أسنده أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان إذا سافر حمل معه خمسة أشياء  : المرآة والمكحلة والمذري والسواك والمشط ، وفي رواية اُخرى والمقراظ . وقد ذكرت أحاديث كثيرة حول الصديق والصداقة في ( معالم الصديق والصداقة ) ، مطبوع في الموسوعة ـ المجلد 11 ، فراجع .
([7] )  بحار الأنوار 10  : 91 .
([8] )  بحار الأنوار 74  ، 65 . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   : يا عليّ إذا نظرت في مرآة فكبّر ثلاثاً وقُل  : ( اللّهم كما حسّنت خلقي فحسِّن خُلقي ) .
([9] )  بحار الأنوار 1  : 169 و  182 .
([10] )  الحجرات  : 12 .
([11] )  المائدة  : 2 .
([12] )  البحار 10  : 313 .
([13] )  البحار 10  : 324 .
([14] )  بحار الأنوار 15  : 104 .
([15] )  الفرقان  : 74 .
([16] )  يقول العلاّمة المجلسي في بحاره ( 71  : 270 )  : قد ذهب بعض الصوفيّة إلى أنّ المؤمن الثاني هو الله تعالى ، أي المؤمن مظهر لصفاته الكمالية تعالى شأنه ، كما ينطبع في المرآة صورة الشخص والحديث يدلّ على أ نّه ليس بمراد من الخبر النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم)  . وقيل  : المراد أنّ كلاّ من المؤمنين مظهر لصفات الآخر ، لأنّ في كلّ منهما صفات الآخر ، مثل الإيمان وأركانه ولواحقه وآثاره والأخلاق والآداب ولا يخفى بُعده .
([17] )  الانشقاق  : 6 .
([18] )  بحار الأنوار 71  : 224 .
([19] )  البحار 71  : 233 .
([20] )  البحار 71  : 337 .
([21] )  البحار 71  : 270 .
([22] )  البحار 71  : 270 .
([23] )  البحار 71  : 233 .
([24] )  البحار 74  : 269 و  414 .
([25] )  بحار الأنوار 58  : 265 .
([26] )  البحار 58  : 205 .
([27] )  البحار 58  : 255 .