( إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ اللهِ ) ( [95]) .
( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى
أوْلِيَائِهِمْ ) ( [96]) .
فهذا هو
حزب الشيطان ومرامه ونظامه ، ومثله الأحزاب الشيطانية المستوردة من الشرق أو
الغرب ، فاحذره كلّ الحذر ، ولا تثني عزيمتك في خلافهم ونضالهم
ومحاربتهم حتّى القضاء عليهم ، ولا بدّ من نصرة الحقّ وخذلان الباطل ،
وهناك من لم ينصر الباطل إلاّ أ نّه يخذل الحقّ عندما يكون في حياد عنه كعبد
الله بن الحرّ في قصّة كربلاء .
3 ـ شرك الشيطان وحبائله :
إنّ
الشيطان اللعين يشارك الإنسان في كلّ شيء حتّى في الأولاد والأموال كما قال
سبحانه :
( وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [97]) .
وقال إبليس
لنوح نبيّ الله : اذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى
العبد إذا كان في إحداهن : اذكرني إذا غضبت ، واذكرني إذا حكمت
بين اثنين ، واذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد( [98]) .
ومن عوامل
مشاركة الشيطان مع الإنسان هو ترك التسمية بالله سبحانه في مقدّمة أعماله ،
كما أ نّه من ترك البسملة فإنّ عمله مبتور أي مقطوع البركة ، فكلّ عمل
لم يذكر فيه اسم الله فهو أبتر ، كما ورد في الخبر .
4 ـ صوت الشيطان وخيله :
إنّ للقلب
اُذنان : اُذن يهمس فيه الشيطان وأعوانه ليرتكب الإنسان الأعمال
القبيحة والمعاصي والذنوب ويفتر عن الواجبات والعبادات ، واُذن اُخرى تهمس
فيها الملائكة لهداية الناس :
( فَأ لْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَـقْوَاهَا ) ( [99]) .
فالإنسان
بين دعوتين ، وإنّه دائماً في صراع ملائكي وشيطاني حتّى يتغلّب أحدهما على
الآخر باختيار الإنسان ، فهديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً ،
وليس للإنسان إلاّ ما سعى ، وإنّ سعيه سوف يُرى .
فالشيطان
يأتي الإنسان بصوته ، وربما بعض يسمع ذلك الصوت ويحسّ بوحي الشيطان ،
فإنّ الشياطين يوحـون إلى أوليائهم ، فيستفزّ اُولئك الذين يتبعونه .
والله
سبحانه يقول :
( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
بِصَوْتِكَ وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي
الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ
غُرُوراً ) ( [100]) .
5 ـ سعة ميدان عمل الشيطان :
إنّ
الشيطان اُعطي له بحكمة من الله سبحانه صلاحيات وسيعة ، وميادين طوليّة
وعرضيّة ، من أجل إضلال بني آدم ، فإنّه من اليوم الأوّل ، وقبل
الهبوط إلى الأرض قد دخل في عروق آدم ، وتسلّط على بدنه إلاّ القلب ،
فإنّ الله منعه عن ذلك ، إذ جعل قلب المؤمن حرمه وعرشه سبحانه ، فهو
محلّ علمه وأنواره القدسيّة ، وإنّه مرآة الحقائق ومهبط الألطاف الإلهيّة
الخفيّة .
فالشيطان
بسط يده في غيّ الإنسان وانحرافه عن الصراط المستقيم ، فإنّه يأتيه من الجهات
الأربعة : من خلفه ومن بين يديه ، وعن يمينه وشماله ، يوسوس
له بكلّ شيء ، حتّى بالدين ليخرجه عن الدين ، ويقسم بالله كذباً إنّه
لمن الناصحين ، فميدان عمل الإنسان وسيع جدّاً . فقال لعنه الله أبد
الآبدين في مقام المخاصمة مع ربّ العالمين :
( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ *
ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ( [101]) .
وقد ورد في
الخبر الشريف عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ،
قال : الصراط الذي قال إبليس هو علي (عليه السلام) ( [102]) .
كما أنّ من
ميدانية الشيطان الوسيعة أن يطمع في إضلال كلّ الخلق حتّى الأنبياء
والأولياء .
قال الصادق
(عليه
السلام) :
جاء إبليس إلى موسى بن عمران (عليه السلام) وهو يناجي
ربّه ، فقال له ملك من الملائكة : ما ترجو منه وهو في هذه الحال
يناجي ربّه ؟ فقال : أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم( [103]) .
ومقصود
الشيطان هو إغواء كلّ الناس ، إلاّ أ نّه قد فرغ عن الكثير فبقي القليل
القليل ، وهم المؤمنون حقّاً أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ،
كما أخبر بذلك الإمام الباقر (عليه السلام) حيث قال
زرارة : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) :
قوله : ( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ
شَاكِرِينَ ) ( [104]) ؟
فقال أبو جعفر (عليه
السلام) :
يا زرارة ، إنّما صمد ـ عمد ـ لك ولأصحابك ،
فأمّا الآخرين فقد فرغ منهم( [105]) .
وإنّما
يتسلّط على أبدانهم لا أديانهم وعقائدهم الحقّة ، فعن أبي بصير ، عن أبي
عبد الله (عليه
السلام) ،
قال : سمعته يقول : ( فَإذَا
قَرَأتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إنَّهُ
لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّـلُونَ
* إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ ) ( [106]) ،
قال : فقال : يا أبا محمّد ، يسلّط والله من المؤمنين
على أبدانهم ولا يسلّط على أديانهم ، قد سلّط على أيوب فشوّه خلقه ، ولم
يسلّط على دينه ، قلت له : قوله : ( إنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ ) ؟ قال : الذين
هم بالله مشركون يسلّط على أبدانهم وعلى أديانهم( [107]) .
وعن
قتادة ، قال : لمّـا هبط إبليس قال آدم : أي ربّ قد
لعنته فما علمه ؟ قال : السحر . قال : فما
قراءته ؟ قال : الشعر . قال : فما
كتابته ؟ قال : الوشم . قال : فما طعامه ؟
قال : كلّ ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه . قال : فما
شرابه ؟ قال : كلّ مسكر . قال : فأين
مسكنه ؟ قال : الحمّـام . قال : فأين مجلسه ؟
قال : الأسواق . قال : فما صوته ؟
قال : المزمار . قال : فما مصائده ؟
قال : النساء( [108]) .
قال رسول
الله : قال إبليس لربّه تعالى : يا ربّ قد اُهبط آدم وقد
علمت أ نّه سيكون كتب ورسل ، فما كتبهم ورسلهم ؟
قال : رسلهم الملائكة والنبيّون ، وكتبهم التوراة والإنجيل
والزبور والفرقان ، قال : فما كتابي ؟
قال : كتابك الوشم ، وقراءتك السحر ، ورسلك الكهنة ،
وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه ، وشرابك كلّ مسكر ، وصدقك
الكذب ، وبيتك الحمّـام ، ومصائدك النساء ، ومؤذّنك المزمار ،
ومسجدك الأسواق( [109]) .
وروي أنّ
الله تعالى قال لإبليس : لا أخلق لآدم ذرّية إلاّ ذرأت لك مثلها ،
فليس أحد من ولد آدم إلاّ وله شيطان قد قرن به( [110]) .
وقيل :
إنّ الشياطين فيهم الذكور والإناث يتوالدون من ذلك ، وأمّا إبليس فإنّ الله
تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكراً وفي اليسرى فرجاً فهو ينكح هذه بهذا ، فيخرج
له كلّ يوم عشر بيضات ، يخرج من كلّ بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة .
في الخبر
الصادقي (عليه
السلام) :
والذي بعث بالحقّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) للعفاريت والأبالسة
على المؤمن أكثر من الزنابير على اللحم ، والمؤمن أشدّ من الجبل ،
والجبل تدنو إليه بالفأس فتنحت منه ، والمؤمن لا يستقلّ من دينه( [111]) .
عن أبي
جعفر (عليه
السلام) :
إنّ إبليس عليه لعائن الله يبثّ جنود الليل من حين تغيب الشمس وتطلع ،
فأكثروا ذكر الله في هاتين الساعتين ، وتعوّذوا بالله من شرّ إبليس وجنوده
وعوّذوا صغاركم من هاتين الساعتين فإنّهما ساعتا غفلة .
هذا
باعتبار الزمان والمكان وكذلك الأشخاص ، ومن الروايات في ذلك ما جاء
في تفسير العياشي : ما من مولود يولد إلاّ وإبليس من الأبالسة
بحضرته ، فإن لم يكن من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) أثبت سبّابته
في دبره ، فكان مأبوناً ، أو في فرجها فكانت فاجرة ، فعند ذلك يبكي
الصبيّ والله بعد ذلك يمحو ما يشاء ويثبت( [112]) .
وهذا يعني
أنّ غير الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) فيه أرضية الفساد
وسرعان ما يقع في مثل الزنا ـ والعياذ
بالله ـ فإنّ حبّ أهل البيت (عليهم السلام) صمّـام أمان من مثل
هذه الكبائر والموبقات ، فتدبّر .
قال الله
تعالى :
( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ
ظَنَّهُ فَاتَّـبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ ) ( [113]) .
( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا ) ( [114]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله أن يعدكم بدائه ، وأن
يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم
سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ،
فقال : ( رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي
لاَُزَيِّـنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [115]) قذفاً
بغيب بعيد ، ورجماً بظنّ غير مصيب ، صدّقه به أبناء الحميّة ،
وإخوان العصبيّة ، وفرسان الكِبر والجاهلية .
قال الإمام
الصادق (عليه
السلام)
في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَّقَ ) فصرخ
إبليس صرخةً فرجعت إليه العفاريت فقالوا : يا سيّدنا ، ما هذه
الصرخة الاُخرى ؟ فقال : ويحكم حكى الله والله كلامي قرآناً
وأنزل عليه : ( وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّـبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ
المُؤْمِنِينَ ) ثمّ رفع رأسه إلى السماء ثمّ
قال : وعزّتك وجلالك لألحقنّ الفريق بالجميع . قال :
فقال النبيّ (صلى
الله عليه وآله) : بسم الله الرحمن الرحيم ( إنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) ( [116]) .
وإنّما
سلّط الله الشيطان على الإنسان للابتلاء ، حتّى يميّز الخبيث من
الطيّب ، ويعرف الحقّ من الباطل ، والخير من الشرّ .
قال الله
تعالى :
( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَان
إلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ
وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء حَفِيظٌ ) ( [117]) .
قال الإمام
الرضا (عليه
السلام)
في قوله تعالى: ( لِـيَـبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ
عَمَلا ) ( [118]) ،
أ نّه عزّ وجلّ خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته ، لا على سبيل
الامتحان والتجربة ، لأ نّه لم يزل عليماً بكلّ شيء .
ثمّ
الشيطان اللعين بحكمة من الله اُنظر إلى يوم معلوم ، وإنّه يقتل على يد رسول
الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام) كما جاء في الخبر الصادقي (عليه
السلام) :
ذكر فيه قتال بين أمير المؤمنين (عليه السلام) في أصحابه وبين إبليس
في أصحابه في أرض من أراضي الفرات قتالا لم يقتتل مثله ، منذ خلق الله
تعالى ، فيرجع أصحاب علي (عليه السلام) إلى خلفهم مائة قدم ،
فتنزل الملائكة وقضي الأمر برسول الله (صلى الله عليه وآله) أمامه
بيده حربة من نور ، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقرى ناكصاً على عقبيه ،
فيقولون له أصحابه : أين تريد وقد ظفرت ؟
فيقول : ( إنِّي أرَى مَا لا
تَرَوْنَ ) ( [119]) ،
فيلحقه النبيّ (صلى
الله عليه وآله) فيطعنه بين كتفيه فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه ،
فعند ذلك يعبد الله عزّ وجلّ ولا يشرك به شيئاً( [120]) .
وفي
رواية : يذبح رسول الله إبليس على الصخرة التي كانت في بيت المقدس( [121]) .
وذكر مجاهد
أنّ من ذرّية إبليس : لاقيس وولها وهو صاحب الطهارة والصلاة ،
والهفاف وهو صاحب الصحاري ، ومرّة وبه يكنّى ، وزلنبور وهو صاحب الأسواق
ويزيّن اللغو والحلف الكاذب ومدح السلعة ، وبئر وهو صاحب المصائب يزيّن خمش
الوجوه ولطم الخدود وشقّ الجيوب ، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء ،
والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة ، وداسم وهو الذي
إذا دخل الرجل بيته ولم يسلّم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ، فإذا دخل
الرجل بيته ولم يسلّم ولم يذكر الله ورأى شيئاً يكره فليقل :
( داسم داسم أعوذ بالله منه ) ، ومطرش وهو صاحب الأخبار يأتي بها
فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يكون لها أصل ولا حقيقة( [122]) .
والعلاّمة
المجلسي له مباحث مفصّلة في بحاره عن الجنّ والملائكة والشياطين والفرق بينها
وأحكامها وغير ذلك من الفوائد ، فراجع( [123]) .
الفصل الثاني
تمثّل الشيطان وحكاياته
خلق
الشيطان من النار ، وإنّه من طائفة الجنّ ، فهو عنصر ناري ليس فيه كثافة
مادية ملموسة ومحسوسة ، إلاّ أ نّه بإمكانه أن يتمثّل بالأجسام
وبالإنسان ، إلاّ الأنبياء والأوصياء .
قال
العلاّمة المجلسي في بحاره : لا خلاف بين الإمامية بل بين المسلمين في
أنّ الجنّ والشياطين أجسام لطيفة يرون في بعض الأحيان ولا يرون في بعضها ،
ولهم حركات سريعة وقدرة على أعمال قويّة ، ويجرون في أجساد بني آدم مجرى
الدم ، وقد يشكّلهم الله بحسب المصالح بأشكال مختلفة وصور متنوّعة كما ذهب
إليه السيّد المرتضى (رضي الله عنه) أو جعل الله لهم القدرة على ذلك كما هو
الأظهر من الأخبار والآثار .
قال صاحب المقاصد : ظاهر الكتاب
والسنّة وهو قول أكثر الاُمة أنّ الملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات
بأشكال مختلفة كاملة في العلم والقدرة على الأفعال الشاقة ـ وساق
الكلام إلى قوله ـ : والجنّ أجسام لطيفة هوائية متشكّل
بأشكال مختلفة ويظهر منها أفعال عجيبة ، منهم المؤمن والكافر والمطيع
والعاصي ، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء النفس في الفساد والغواية
بتذكير أسباب المعاصي واللذّات ، وإنساء منافع الطاعات وما أشبه ذلك ،
على ما قال تعالى حكايةً عن الشيطان : ( وَمَا
كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي
فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ ) ( [124]) ،
وقيل : تركيب الأنواع الثلاثة من امتزاج العناصر الأربعة إلاّ أنّ
الغالب على الشيطان عنصر النار ، وعلى الآخرين عنصر الهواء ...
ثمّ ذكر مذاهب الحكماء في ذلك
فقال : والقائلون من الفلاسفة بالجنّ والشيطان زعموا أنّ الجنّ جواهر
مجرّدة لها تصرّف وتأثير في الأجسام العنصرية من غير تعلّق بها تعلّق النفوس
البشرية بأبدانها والشياطين هي القوى المتخيّلة في أفراد الإنسان من حيث استيلائها
على القوى العقلية وصرفها عن جانب القدس واكتساب الكمالات العقلية إلى اتّباع
الشهوات واللذات الحسيّة والوهمية .
ومنهم من زعم أنّ النفوس البشرية بعد مفارقتها
عن الأبدان وقطع العلاقة عنها إن كانت خيّرة مطيعة للدواعي العقلية فهم
الجنّ ، وإن كانت شرّيرة باعثة على الشرور والقبائح معينة على الضلال
والانهماك في الغواية فهم الشياطين( [125]) .
وعند الأكثر أنّ الشيطان ليس من الملائكة بل هو
من الجنّ كما جاء ذلك في الأخبار وهو مذهب الإمامية وكثير من المعتزلة وأصحاب
الحديث .
وأمّا بالنسبة إلى كيفية تكاثره وتوالده ،
فإنّ لسان الروايات في ذلك مختلفة ، فعن أبي عبد الله (عليه
السلام) ،
قال : الآباء ثلاثة : آدم ولد مؤمناً ، والجان ولد
كافراً ، وإبليس ولد كافراً ، وليس فيهم نتاج ، إنّما يبيض
ويفرخ ، وولده ذكور ليس فيهم إناث( [126]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : إنّ الله عزّ وجلّ حين أمر آدم أن يهبط هبط
آدم
وزوجته ،
وهبط إبليس ولا زوجة له ، وهبطت الحيّة ولا زوج لها ، فكان أوّل من يلوط
بنفسه إبليس فكانت ذرّيته من نفسه ، وكذلك الحيّة ، وكانت ذرّية آدم من
زوجته ، فأخبرهما أ نّهما عدوّان لهما( [127]) .
وسمّي
إبليس لأ نّه أبلس من الخير كلّه يوم آدم (عليه السلام) ( [128]) ،
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) : أنّ اسم
إبليس الحارث ، وإنّما قول الله عزّ وجلّ : يا إبليس يا
عاصي ، وسمّي إبليس لأ نّه ابلس من رحمة الله . قال
الراغب : الإبلاس : الحزن المعترض من شدّة اليأس ،
يقال : أبلس ومنه اشتقّ إبليس فيما يقال ، قال تعالى :
( وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُـبْلِسُ الُمجْرِمُونَ ) ( [129]) .
ويسمّى
بالرجمى ومعناه ـ عن الإمام العسكري (عليه السلام) ـ
أ نّه مرجوم باللعن مطرود من مواضع الخير ، لا يذكره المؤمن إلاّ
لعنه ، وإنّ في علم الله السابق أ نّه إذا خرج القائم (عليه
السلام)
لا يبقى مؤمن في زمانه إلاّ رجمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوماً باللعن( [130]) .
وأمّا
تمثّل الشيطان :
عن تفسير
الفرات : بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال :
رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) على بابه شيخاً فعرفه أ نّه
الشيطان فصارعه وصرعه ، قال : قم عنّي يا علي حتّى اُبشّرك ،
فقام عنه ، فقال : بِمَ تبشّرني يا ملعون ؟
قال : إذا كان يوم القيامة صار الحسن عن يمين العرش والحسين عن يسار
العرش يعطيان شيعتهما الجواز من النار ، قال : فقام إليه
وقال : اُصارعك ؟ قال : مرّة اُخرى ،
قال : نعم ، فصرعه أمير المؤمنين قال : قم عنّي حتّى
اُبشّرك ، فقام عنه فقال : لمّـا خلق الله آدم خرج ذرّيته من ظهره
مثل الذرّ فأخذ ميثاقهم فقال : ( أ لَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( [131]) ،
قال : فأشهدهم على أنفسهم فأخذ ميثاق محمّد وميثاقك فعرف وجهك الوجوه
وروحك الأرواح ، فلا يقول لك أحد : اُحبّك ، إلاّ
عرفته ، ولا يقول لك أحد : اُبغضك ، إلاّ عرفته ،
قال : قم صارعني ، قال : ثلاثة ،
قال : نعم ، فصارعه وصرعه فقال : يا عليّ
لا تبغضني وقم عنّي حتّى اُبشّرك ، قال : بلى وأبرأ منك
وألعنك ، قال : والله يا بن أبي طالب ما أحد
يبغضك إلاّ شركت في رحم اُمّه وفي ولده فقال له : أما قرأت كتاب الله ( وَشَارِكْهُمْ
فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ ) ( [132]) .
وفي تفسير
علي بن إبراهيم القمّي بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصّة
طويلة في حجّ إبراهيم وذبحه ابنه إلى أن قال : وسلّما لأمر الله وأقبل
شيخ فقال : يا إبراهيم ما تريد من هذا
الغلام ؟ قال : اُريد ذبحه ، فقال : سبحان
الله تذبح غلاماً لم يعصِ الله عزّ وجلّ طرفة عين ؟ ـ يرجى
الانتباه كيف الشيطان يريد إخراج نبيّ الله إبراهيم من الدين باسم الدين وباسم
الوظيفة الدينية ، وهكذا يفعل الشيطان بالمؤمنين ، فإنّ وسوسته إيّاهم
في بداية خطواته ليس بالخمر والزنا ، بل بالصلاة والصوم بما يتلائم مع النفس ،
لا بما يريده الله ، فتأمّل ـ فقال إبراهيم : إنّ الله
أمرني بذلك ، فقال : ربّك ينهاك عن ذلك وإنّما أمرك بهذا
الشيطان ، فقال له إبراهيم : إنّ الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي
أمرني به ، والكلام الذي وقع في اُذني ، فقال : لا والله ما
أمرك بهذا إلاّ الشيطان ، فقال إبراهيم : لا والله لا
اُكلّمك .
ثمّ عزم
إبراهيم على الذبح فقال : يا إبراهيم إنّك إمام يقتدى بك ، وإنّك
إذا ذبحته ذبح الناس أولادهم ، فلم يكلّمه وأقبل على الغلام واستشاره في
الذبح ـ وساق الحديث في الفداء إلى قوله : ـ
ولحق إبليس باُمّ الغلام حين نظرت إلى الكعبة في وسط الوادي بحذاء البيت فقال
لها : ما شيخ رأيته ؟ قال : إنّ ذلك بعلي ،
قال : فوصيف رأيته معه ؟ قالت : ذلك ابني ،
قال : فإنّي رأيته وقد أضجعه وأخذ المدية ليذبحه ،
فقالت : كذبت إنّ إبراهيم أرحم الناس كيف يذبح ابنه ؟
قال : فوَ ربّ السماء والأرض وربّ هذا البيت لقد رأيته أضجعه وأخذ
المدية ، فقالت : ولِمَ ؟ قال : يزعم أنّ
ربّه أمره بذلك ، قالت : فحقّ له أن يطيع ربّه( [133]) .
وعن أبي
عبد الله (عليه
السلام) ،
قال : ظهر إبليس ليحيى بن زكريا (عليه السلام) وإذا عليه
معاليق من كلّ شيء ، فقال له يحيى : ماهذه المعاليق يا
إبليس ؟ فقال : هذه الشهوات التي أصبتها من ابن آدم ،
قال : فهل لي منها شيء ؟ قال : ربما شبعت
فثقّلتك عن الصلاة والذكر ، قال يحيى : لله عليّ أن لا أملأ بطني
من طعام أبداً ، فقال إبليس : لله عليّ أن لا أنصح مسلماً
أبداً ، ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام) : يا حفص
ولله على جعفر وآل جعفر أن لا يملؤوا بطونهم من طعام أبداً ، ولله على جعفر
وآل جعفر أن لا يعملوا للدنيا أبداً .
عن الإمام
الرضا ، عن آبائه (عليهم السلام) : أنّ
إبليس كان يأتي الأنبياء (عليهم السلام) من لدن آدم (عليه
السلام)
إلى أن بعث الله المسيح (عليه السلام) يتحدّث عندهم
ويسائلهم ، ولم يكن بأحد منهم أشدّ اُنساً منه بيحيى بن زكريا (عليه
السلام) ،
فقال له يحيى : يا أبا مرّة إنّ لي إليك حاجة ، فقال
له : أنت أعظم من أردّك بمسألة ، فاسألني ما شئت فإنّي غير مخالفك
في أمر تريده .
فقال
يحيى : يا أبا مرّة اُحبّ أن تعرض عليَّ مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها
بني آدم ، فقال له إبليس : حبّاً وكرامة ، وواعده لغد ،
فلمّـا أصبح يحيى (عليه السلام) قعد في بيته ينتظر الموعد وأغلق عليه
الباب إغلاقاً ، فما شعر حتّى ساواه من خوخة ـ شباك ـ
كانت في بيته ، فإذا وجهه صورة وجه القرد ، وجسده على صورة
الخنزير ، وإذا عيناه مشقوقتان طولا ، وإذا أسنانه وفمه مشقوقاً طولا
عظماً واحداً ، بلا ذقن ولا لحية ، وله أربعة أيد : يدان في
صدره ويدان في منكبه ، وإذا عراقيبه قوادمه ، وأصابعه خلفه ، وعليه
قباء قد شدّ وسطه بمنطقة فيها خيوط معلّقة بين أحمر وأصفر وأخضر وجميع
الألوان ، وإذا بيده جرس عظيم ، وعلى رأسه بيضة ، وإذا في البيضة
حديدة معلّقة شبيهة بالكلاّب .
فلمّـا
تأمّله يحيى (عليه
السلام)
قال له : ما هذه المنطقة التي في وسطك ؟ فقال :
هذه المجوسية أنا الذي سننتها وزيّنتها لهم ، فقال له : ما هذه
الخيوط والألوان ؟ قال له : هذه جميع أصناع النساء لا تزال
المرأة تصنع الصنيع حتّى يقع مع لونها ، فأفتن الناس بها ، فقال
له : فما هذا الجرس الذي بيدك ؟ قال : هذه مجمع
كلّ لذّة من طنبور وبربط ومغرفة وطبل وناي وصرناي ، ـ وهذه من
الآلات الموسيقية ، وما أكثرها في عصرنا الراهن ، وما أكثر الناس الذين
افتتنوا بها ، وزيّن لهم الشيطان ذلك ، باسم الفنّ والفنانين ،
حتّى في مثل البلاد الإسلامية وعند المسلمين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله
العليّ العظيم ـ وإنّ القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذّونه فاُحرّك
الجرس فيما بينهم ، فإذا سمعوه استخفّهم الطرب ، فمن بين من يرقص ،
ومن بين من يفرقع أصبعه ، ومن بين من يشقّ ثيابه ، فقال له :
وأيّ الأشياء أقرّ لعينك ؟ قال : النساء هنّ فخوخي
ومصائدي ، فإنّي إذا اجتمعت عليّ دعوات الصالحين ولعناتهم ، صرت إلى
النساء فطابت نفسي بهنّ ، فقال له يحيى (عليه السلام) :
فما هذه البيضة ـ أي الدرع ـ التي على رأسك ؟
قال : بها أتوقّى دعوة المؤمنين ، قال : فما هذه
الحديدة التي أرى فيها ؟ قال : بهذه أقلب قلوب
الصالحين ، فقال يحيى (عليه السلام) : فهل
ظفرت بي ساعة قطّ ؟ قال : لا ولكن فيك خصلة تعجبني .
قال يحيى : فما هي ؟ قال : أنت رجل أكول فإذا
أفطرت أكلت وبشمت ـ أي شبعت ـ فيمنعك ذلك من بعض صلاتك
وقيامك بالليل ، قال يحيى (عليه السلام) : فإنّي اُعطي
الله عهداً أ نّي لا أشبع من الطعام حتّى ألقاه ، قال له
إبليس : وأنا اُعطي الله عهداً أ نّي لا أنصح مسلماً حتّى
ألقاه ، ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك( [134]) .
عن عبد
السلام ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ،
قال : قال : يا عبد السلام احذر الناس ونفسك .
فقلت : بأبي أنت واُمّي أمّا الناس فقد أقدر على أن أحذرهم ،
وأمّا نفسي فكيف ؟ قال : إنّ الخبيث يسترق السمع يجيئك
فيسترق ثمّ يخرج في صورة آدمي فيقول : قال عبد السلام ، فقلت :
بأبي انت واُمّي هذا ما لا حيلة له ، قال : هو ذاك( [135]) .
عن جابر بن
عبد الله الأنصاري قال : كنّا بمنى مع رسول الله (صلى الله
عليه وآله)
إذ بصرنا برجل ساجد وراكع ومتضرّع ، فقلنا : يا رسول الله ما أحسن
صلاته ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : هو الذي
أخرج أباكم من الجنّة ، فمضى إليه علي (عليه السلام) غير
مكترث ، فزّه هزّة أدخل أضلاعه اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ،
ثمّ قال : لأقتلنّك إن شاء الله تعالى ، فقال : لن
تقدر على ذلك إلى أجل معلوم من عند ربّي ، ما لك تريد قتلي ؟
فوالله ما أبغضك أحد إلاّ سبقت نطفتي إلى رحم اُمّه قبل نطفة
أبيه ، ولقد شاركت مبغضيك في الأموال والأولاد ، قال النبيّ (صلى الله
عليه وآله) :
صدق يا علي ، لا يبغضك من قريش إلاّ سفاحي ، ولا من الأنصار إلاّ
يهودي ، ولا من العرب إلاّ دعيّ ، ولا من سائر الناس إلاّ شقي ،
ولا من النساء إلاّ سلقليقة وهي التي تحيض من دبرها ، ثمّ أطرق مليّاً ،
ثمّ رفع رأسه فقال : معاشر الأنصار أعرضوا أولادكم
على محبّة علي ، قال جابر بن عبد الله : فكنّا نعرض حبّ عليّ على
أولادنا ، فمن أحبّ علياً (عليه السلام) علمنا أ نّه من
أولادنا ، ومن أبغض علياً انتفينا منه( [136]) .
وعن أمير
المؤمنين علي (عليه
السلام) ،
قال : كنت جالساً عند الكعبة فإذا شيخ محدودب قد سقط حاجباه على عينيه
من شدّة الكبر وفي يده عكازة وعلى رأسه بُرنس أحمر ، وعليه مدرعة من
الشعر ، فدنا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) والنبيّ مسند ظهره
على الكعبة ، فقال : يا رسول الله ادعُ لي بالمغفرة ، فقال
النبيّ (صلى
الله عليه وآله) : خاب سعيك يا شيخ وضلّ علمك ، فلمّـا
تولّى الشيخ قال لي : يا أبا الحسن أتعرفه ؟
قلت : لا ، قال : ذلك اللعين إبليس ، قال عليّ (عليه
السلام) :
فعدوت خلفه حتّى لحقته وصرعته إلى الأرض وجلست على صدره ووضعت يدي في حلقه لأخنقه
فقال لي : لا تفعل يا أبا الحسن فإنّي من المنظرين إلى يوم الوقت
المعلوم ، والله يا عليّ إنّي لاُحبّك جدّاً ، وما أبغضك أحد إلاّ شركت
أباه في اُمّه فصار ولد زنا ، فضحكت وخلّيت سبيله( [137]) .
قال أبو
عبد الله (عليه
السلام) :
صعد عيسى (عليه
السلام)
على جبل بالشام يقال له : أريحا ، فأتاه إبليس في صورة ملك فلسطين
فقال له : يا روح الله أحييت الموتى وأبرأت الأكمه والأرص ، فاطرح
نفسك عن الجبل ، فقال (عليه السلام) : إنّ ذلك
اُذن لي ، وإنّ هذا لم يؤذن لي فيه( [138]) .
وعنه (عليه
السلام)
قال : جاء إبليس إلى عيسى فقال : أليس تزعم أ نّك تحيي
الموتى ؟ قال عيسى : بلى ، قال إبليس :
فاطرح نفسك من فوق الحائط ، فقال عيسى (عليه
السلام) :
ويلك العبد لا يجرّب ربّه ، وقال إبليس : يا عيسى ، هل يقدر
ربّك على أن يدخل الأرض في بيضة والبيضة كهيئتها ؟ فقال :
إنّ الله تعالى عزّ وعلا ، لا يوصف بالعجز ، والذي
قلت لا يكون ـ أي هو مستحيل في نفسه كجمع
الضدّين ـ .
وآخر يوم
يتمثّل إبليس هو ما جاء في خبر إسحاق بن عمّـار ، قال : سألت أبا
عبد الله (عليه
السلام)
عن قول إبليس : ( رَبِّ فَأنظِرْنِي إلَى
يَوْمِ يُـبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ
المَعْلُومِ ) ( [139]) ،
قال له وهب : جعلت فداك أيّ يوم هو ؟ قال : يا
وهب ، أتحسب أ نّه يوم يبعث الله فيه الناس ؟ إنّ الله أنظره
إلى يوم يبعث فيه قائمنا ، فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة ،
وجاء إبليس حتّى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول : يا ويله من هذا اليوم ،
فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه ، فذلك يوم الوقت المعلوم( [140]) .
والشيطان
يتمثّل بصورة إنسان ، فعن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ،
قال : سمعته يقول : كان الحجّاج ابن شيطان يباضع ذي
الردهة ، ثمّ قال : إنّ يوسف دخل على اُمّ الحجّاج فأراد أن
يصيبها فقالت : أليس إنّما عهدك بذلك الساعة ؟ فأمسك عنها
فولدت الحجّاج( [141]) .
قال أمير
المؤمنين (عليه
السلام) :
لقد سمعت رنّة الشيطان حين اُنزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) ،
فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا
الشيطان قد آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ
أ نّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير ، وإنّك لعلى خير( [142]) .
عن أبي
حمزة الثمالي ، عن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه
السلام) ،
قال : كان عابد من بني إسرائيل فقال إبليس لجنده : من له
فإنّه قد غمّني ، فقال واحد منهم : أنا له ،
فقال : في أيّ شيء ؟ قال : اُزيّن له
الدنيا ، قال : لست بصاحبه ، قال الآخر : فأنا
له ، قال : في أيّ شيء ؟ قال : في
النساء ، قال : لست بصاحبه ، قال الثالث : أنا
له ، قال : في أيّ شيء ؟ قال : في
عبادته ، قال : أنت له ، فلمّـا جنّه الليل طرقه
فقال : ضيف ، فأدخله ، فمكث ليلته يصلّي حتّى أصبح ،
فمكث ثلاثاً يصلّي ولا يأكل ولا يشرب ، فقال له
العابد : يا عبد الله ما رأيت مثلك ، فقال له : إنّك
لم تصب شيئاً من الذنوب وأنت ضعيف العبادة ،
قال : وما الذنوب التي اُصيبها ؟ قال : خذ أربعة
دراهم فتأتي فلانة البغيّة فتعطيها درهماً للحم ودرهماً للشراب ودرهماً لطيبها
ودرهماً لها فتقضي لها فتقضي حاجتك منها ؟ قال : فنزل وأخذ
أربعة دراهم فأتى بابها فقال : يا فلانة يا فلانة ، فخرجت فلمّـا
رأته قالت : مفتون والله ، مفتون والله ، قالت
له : ما تريد ؟ قال : خذي أربعة دراهم فهيّئي لي
طعاماً وشراباً وطيباً وتعالي حتّى آتيك ، فذهبت فدارت فإذا هي بقطعة من حمار
ميّت فأخذته ، ثمّ عمدت إلى بول عتيق فجعلته في كوز ، ثمّ جاءت به
إليه ، فقال : هذا طعامكِ ؟ قالت :
نعم ، قال : لا حاجة لي فيه ، وهذا شرابكِ ؟ فلا
حاجة لي فيه ، اذهبي فتهيّئي ، فتقذّرت جهدها ، ثمّ جاءته فلمّـا
شمّها قال : لا حاجة لي فيكِ ، فلمّـا أصبحت كتب على
بابها : إنّ الله قد غفر لفلانة البغيّة بفلان العابد( [143]) .
عن أبي عبد
الله (عليه
السلام) ،
قال : كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئاً ،
فنخر إبليس نخرة فاجتمعت إليه جنوده ، فقال : من لي
بفلان ؟ فقال بعضهم : أنا ، فقال : من أين
تأتيه ؟ فقال : من ناحية النساء ، قال :
لست له لم يجرّب النساء ، فقال له آخر : فأنا له ،
قال : من أين تأتيه ؟ قال : من ناحية الشراب
واللذّات ، قال : لست له ، ليس هذا بهذا ، قال
آخر : فأنا له ، قال : من أين تأتيه ؟
قال : من ناحية البرّ ، قال : انطلق فأنت صاحبه ،
فانطلق إلى موضع الرجل فقام حذاءه يصلّي ، قال : وكان الرجل
ينام ، والشيطان لا ينام ، ويستريح والشيطان لا يستريح .
فتحوّل
إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله ، فقال : يا عبد الله
بأي شيء قويت على هذه الصلاة ؟ فلم يجبه ، ثمّ عاد عليه فلم
يجبه ، ثمّ عاد عليه فقال : يا عبد الله إنّي أذنبت ذنباً وأنا
تائب منه ، فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة ، قال : فأخبرني
بذنبك حتّى أعمله وأتوب ، فإذا فعلته قويت على الصلاة ،
فقال : ادخل المدينة فسل عن فلانة البغيّة فأعطها درهمين ونل
منها ، قال : ومن أين لي درهمين ؟ ما أدري ما
الدرهمين ؟ فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين فناوله إيّاهما ،
فقام فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن فلانة البغية ، فأرشدوه الناس وظنّوا
أ نّه جاء يعظها ، فأرشدوه فجاء إليها فرمى إليها بالدرهمين
وقال : قومي ، فقامت فدخلت منزلها وقالت : ادخل ،
وقالت : إنّك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها ، فأخبرني بخبرك ،
فأخبرها ، فقالت له : يا عبد الله إنّ ترك الذنب أهون من طلب
التوبة ، وليس كلّ من طلب التوبة وجدها ، وإنّما ينبغي أن يكون هذا
شيطاناً مثّل ذلك ، فانصرف فإنّك لا ترى شيئاً ، فانصرف ، وماتت من
ليلتها ، فأصبحت فإذا على بابها مكتوب : احضروا فلانة فإنّها من
أهل الجنّة ، فارتاب الناس فمكثوا ثلاثاً لا يدفنونها ارتياباً في
أمرها ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّ من الأنبياء الا أعلمه إلاّ موسى بن
عمران (عليه
السلام)
أن ائتِ فلانة فصلّ عليها ومُر الناس أن يصلّوا عليها فإنّي قد
غفرت لها ، وأوجبت لها الجنّة ، بتثبيطها عبدي فلاناً عن معصيتي( [144]) .
وعن أبي
جعفر (عليه
السلام) ،
قال : كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب
الشديد ، وكان من فضلهم وخيرتهم أ نّهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا
بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم ، لم يزل إبليس يعتادهم وكانوا إذا رجعوا خرّب
إبليس ما يعملون ، فقال بعضهم لبعض : تعالوا نرصد هذا الذي يخرّب
متاعنا ، فرصدوه ، فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقالوا
له : أنت الذي تخرب متاعنا مرّة بعد اُخرى ، فأجمع رأيهم على أن
يقتلوه ، فبيّتوه عند رجل ، فلمّـا كان الليل صاح فقال له :
ما لك ؟ فقال : كان أبي ينوّمني على بطنه ، فقال
له : تعال فنم على بطني ، قال : فلم يزل يدلك الرجل
حتّى علمه أن يفعل بنفسه ، فأوّلا علّمه إبليس والثانية علّمه هو ، ثمّ
انسلّ ففرّ منهم فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويعجبهم منه وهم لا
يعرفونه ، فوضعوا أيديهم فيه حتّى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ، ثمّ جعلوا
يرصدون مارّة الطريق فيفعلون بهم حتّى تنكّب مدينتهم الناس ، ثمّ صار الشيطان
إلى النساء فصيّر نفسه امرأة ، ثمّ قال : إنّ رجالكنّ يفعل بعضهم
ببعض ؟ قالوا : نعم قد رأينا ذلك ، وكلّ ذلك يعظهم لوط
(عليه
السلام)
ويوصيهم ، وإبليس يغويهم حتّى استغنى النساء بالنساء . الحديث طويل( [145]) .
فكان
الشيطان يتمثّل للأنبياء والأولياء وغيرهم فيما سبق ، كحديثه مع نوح وما جرى
بينهما في الكرم والنخل( [146]) ،
وما جرى على أيوب من إبليس لعنه الله ( [147]) ،
وما جرى بينه وبين موسى( [148]) ،
وشكاية الشياطين الذين كانوا يعملون لسليمان بن داود (عليه السلام) إلى
إبليس ، وما قال في جوابهم الذي صار سبباً للتشديد عليهم( [149]) ،
وشركته في قتل زكريا (عليه السلام) ( [150]) ،
وحديثه مع عيسى في إدخال البيضة في الأرض وجوابه ، وعن أبي جعفر (عليه
السلام)
قال : لقى إبليس ( لعنه الله) عيسى بن مريم فقال : هل
نالني من حبائلك شيء ؟ قال : جدّتك التي ( قَالَتْ
رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا اُنْثَى وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالاُنْثَى وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإنِّي اُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ( [151]) ،
يعني كيف ينالك من حبائلي وجدّتك دعت حين ولدت والدتك أن يعيذها الله وذرّيتها من
شرّ الشيطان الرجيم وأنت من ذرّيتها( [152]) .
وقصّته يوم
بدر ، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : كان
إبليس يوم بدر يقلّل المؤمنين في أعين الكفّار ويكثّر الكفّار في أعين
الناس ، فشدّ عليه جبرئيل بالسيف فهرب منه وهو يقول : يا جبرئيل
إنّي مؤجّل ، حتّى وقع في البحر( [153]) .
وكان صورته
بصورة سُراقة بن مالك ، وللشيخ المفيد في ذلك كلام( [154]) .
وصيحته
( لعنه الله) ليلة بيعة الأنصار : يا معشر قريش والعرب ، هذا
محمّد (صلى الله عليه وآله) والصباة من الأوس
والخزرج على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم( [155]) .
واجتماعه
مع كفّار قريش في دار الندوة للمشاورة في أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ( [156]) .
وتمثّله في
دار الندوة بصورة أعور ثقيف( [157]) .
وصيحته يوم
اُحد : قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( [158]) .
ونداؤه
( لعنه الله ) حين وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
إنّ نبيّكم طاهر مطهّر ، فادفنوه ولا تغسّلوه ، وجواب
أمير المؤمنين (عليه
السلام) :
إخسأ عدوّ الله ، فإنّه أمرني بغسله وكفنه ودفنه وذاك سنّة( [159]) .
وظهوره
لسلمى بنت عمرو وقوله لها : إنّ هاشم بن عبد مناف رجل ملول للنساء كثير
الطلاق جبان في الحروب ، لئلاّ ترغب في هاشم حين جاء خاطباً لها( [160]) ،
وبكاء إبليس حين ذكر هاشم ما يمهره لسلمى وقوله لأبيها : اطلب
الزيادة ، فروي أ نّه كلّما زاد هاشم أشار إبليس بالزيادة ، وكان
( لعنه الله ) بصورة شيخ في جملة من حضر النكاح مع اليهود إلى أن صابح
به أبو سلمى وقال : يا شيخ السوء اخرج( [161]) .
وهذا يدلّ
على أنّ من يزيد في مهر النساء فإنّه من النعرات الشيطانية ، فتدبّر .
وقول أمير
المؤمنين (عليه
السلام)
له حين رآه بصورة شيخ وكان يصلّي فهزّه هزّة أدخل أضلاعه اليمنى في اليسرى واليسرى
في اليمنى ، فقال (عليه السلام) :
لأقتلنّك إن شاء الله( [162]) .
وإغوائه
مرحب اليهودي حين فرّ من مبارزة أمير المؤمنين (عليه السلام) خوفاً
ممّـا حذّرته ظئره( [163]) .
وبيعته في
السقيفة لبعض أعداء الله على صورة شيخ كبير متوكّئاً على عصاه بين عينيه سجّادة
شديد التشمير( [164]) .
ووقوفه على
باب فاطمة وعلي (عليهما السلام) وسؤاله أن يطعموه ممّـا كانوا يأكلون
من طعام الجنّة .
وقول رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : إنّها لمحرمة على هذا السائل ، وقول
إبليس لرسول الله : اشتقت إلى رؤية علي (عليه السلام) فجئت آخذ
منه الحظّ الأوفر ، وأيم الله إنّي من أودّائه وإنّي لاُواليه( [165]) .
وتمثّله
بصورة الفيلة في المسجد الحرام ، وبصورة شيخ محدودب قد سقط حاجباه على عينيه يسأل
النبيّ (صلى
الله عليه وآله) أن يدعو له بالمغفرة ، وبصورة رجل راكع ساجد متضرّع
بمنى ، وبصورة راع على جبل بقرب المدينة ، وسؤال أمير المؤمنين (عليه
السلام) إيّاه :
هل مرّ بك رسول الله ؟ وجوابه : ما لله من رسول ، فأخذ
علي (عليه
السلام)
جندله ، وفي رواية اُخرى : فغضب علي (عليه السلام) وتناول
حجراً ورماه فأصاب بين عينيه ، فصرخ الراعي فإذا الجبل قد امتلأ بالخيل
والرَّجِل ، فما زالوا يرمونه بالجندل ، واكتنف علياً طائران
أبيضان ، فما زال يمضي ويرمونه حتّى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ،
فأخبره : إنّ الراعي إبليس ، والطائران : جبرئيل
وميكائيل( [166]) .
وهناك
حكايات كثيرة ومثيرة للإعجاب وللتأمّل ، وللموعظة والتدبّر ، لم نتعرّض
لها طلباً للاختصار .
الفصل الثالث
خطوات الشيطان
سياسة خطوة
خطوة وقدم بعد قدم :
من صفات
العدوّ أ نّه يخطّط لخصمه ، وينتظر به الفرص ، ليقع به بشتّى الطرق
والحيل ، وحتّى في ساحات الوغى وميادين القتال وفي الحروب والنضال ، كلّ
واحد من الطرفين في المنازعة والمخاصمة والحرب يحاول أن يستغلّ غفلة الطرف الآخر
ونقاط ضعفه ، فيخطّط له ويأتيه خطوات ، حتّى يقضي عليه .
وكذلك
الشيطان عدوّ الإنسان ، فإنّه يتغلّب على بني آدم خطوة خطوة ، فيبدأ
بالمراحل الأوّلية ، فإن استجاب الإنسان دعوته ، فإنّه يأمره بشيء آخر
أعظم من الأوّل ، حتّى ينتهي به إلى الكفر ، لأنّ الشيطان لا يرضى من
الإنسان إلاّ بكفره ، ولكن لا يقول له في أوّل مرّة اكفر بالله ، بل في
أوّل الأمر يوسوس له بارتكابه المكروهات ، فإن تسلّط عليه فإنّه يأمره
بالمحرّمات الخفيفة ، ثمّ المنكرات الثقيلة ، وهكذا حتّى يصل به إلى
الكفر وأن يسجد له ، كما في قصّة العابد برسيسا .
والقرآن
الكريم يشير إلى مقصود إبليس وحزبه الشيطاني أوّلا ، ثمّ يذكّر الإنسان أنّ
هذا العدوّ اللدود يأتيك من كلّ الجوانب الأربعة ، كما أ نّه يستعمل كلّ
الأساليب والمخطّطات التي ينفذ من خلالها في وجودك ، ليضلّك عن سبيل الله
سبحانه ، فاحذره غاية الحذر ، ولا تخف منه فإنّ كيده مهما يكن في مقابل
كيد الله ونصرته ، كان ضعيفاً ، فلا تستجب لدعوته من البداية ،
فإنّه ربما يأتيك في فكرك من طريق حلال ، حتّى يوقعك في آخر الأمر في
الحرام ، وربما باسم الدين يخرجك من الدين ، كما أخرج آدم وأغرّه
بقوله :
( إنِّي لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ ) ( [167]) .
فباسم
النصيحة أخرجه من حضيرة القدس وجنّة الله .
في تفسير
الميزان( [168]) :
إنّ المراد من اتّباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من
الباطل ، بل اتّباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين ، بأن يزيّن شيئاً من
طرق الباطل بزينة الحقّ ، ويسمّي ما ليس من الدين باسم الدين ، فيأخذ به
الإنسان من غير علم .
عن الإمام
الباقر (عليه
السلام)
لمّـا قرأ ( وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) ( [169]) ،
قال : كلّ يمين بغير الله تعالى فهي من خطوات الشيطان( [170]) .
وعن الإمام
الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) : إنّ من
خطوات الشيطان الحلف بالطلاق ، والنذور في المعاصي ، وكلّ يمين بغير
الله .
عن ابن
عبّاس ، قال : ما خالف القرآن فهو من خطوات الشيطان( [171]) .
فإليك
أ يّها الإنسان الكريم ما يريده الشيطان منك في دعوته الجهنّمية ، ثمّ
كيف يخطّط لك في خطواته النارية ، ثمّ بيان أهمّ الأساليب الشيطانية .
ولا يخفى
على ذوي النهى أنّ الله في كتابه يخاطب الناس بنحوين تارةً بخطاب عام ،
وكأ نّما يخاطب عامّة الناس ، كما يقول بأنّ كتابه الكريم هو هداية
للناس وهذا من الهداية العامة ومن الرحمة الرحمانية ، واُخرى يخاطب الخواصّ
من الناس ، ويقول بأنّ كتابه الحكيم إنّما هو هداية للمتقين ( هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ ) ( [172]) ،
فمن خطاب العامة حينما يريد أن يدعوهم إلى التوحيد ومعرفته سبحانه وتعالى يخاطبهم
بقوله :
( أ فَلا يَـنْظُرُونَ إلَى الإ بِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ ) ( [173]) .
( أ فَرَأيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ) ( [174]) .
( أفَرَأيْتُمُ المَاءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ ) ( [175]) .
وأمّا خطاب
الخاصّة فيقول :
( أ لَمْ تَرَ إلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ ) ( [176]) .
فإنّ
المرئي في الأوّل هو مثل الإبل والمني والماء ، ولكن في الثاني هو الله خالق
الخلق سبحانه وتعالى .
والمثال
الآخر في الخطاب الأوّل قوله تعالى :
( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ ) ( [177]) .
فيدعو
الناس إلى عبادة الله من خلال التوجّه إلى الكعبة الشريفة في صلاتهم .
ولكن في
الخطاب الثاني يختلف لسان الدعوة الإلهية في عبادته قائلا عزّ وجلّ :
( فَـلْـيَـعْـبُدُوا رَبَّ هَذَا
الـبَـيْتِ ) ( [178]) .
ففي الأوّل
أشار سبحانه إلى البيت ، وأمّا الثاني فإلى ربّ البيت .
فتدبّر في
آيات الله لتقف على بعض أسرار وتأويل الآيات ، فإنّ القرآن الكريم يصوّر لك
الحقائق وكأ نّك ترى وتسمع ، فإنّ حواره الفنّي يمثّل لك الصوت
والصورة .
وفي عداء
الشيطان للإنسان يصوّر لنا القرآن تكتيكات الشيطان الحربيّة ، وأ نّه
يستغلّ الموقف خطوة خطوة ، فلا يهجم على الإنسان بكلّ ما عنده ، ولا
يطلب منه الكفر رأساً ، فإنّه من الواضح لمن كان مؤمناً متمسّكاً بدين الله
سبحانه من الصعب الصعاب أن يقال له اترك دينك واكفر بالله ، أو اشرب
الخمر ، وافعل الزنا ، بل يأتيه من ارتكاب المكروهات ثمّ ترك المستحبّات
والنوافل ، ثمّ ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات .
ومن هذا
المنطلق يحذّرنا الله اللطيف بعباده أن لا يتّبعوا آثار الشيطان ولا يقتفوا
خطواته في قوله تعالى :
( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [179]) .
فإنّه
نتيجة الاتباع هو الكفر ، فإنّ الشيطان لا يرضى من الإنسان إلاّ بذلك ،
وإن كان في نهاية الأمر يخذله ، بل ويتبرّأ منه ، محتجّاً عليه
أ نّه يخاف الله سبحانه ، كما قال عزّ وجلّ :
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ
ا كْفُرْ فَلَمَّا كَـفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أخَافُ
اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) ( [180]) .
فمتى يعقل
الإنسان ويرى ما حوله ، وما يفعله الشيطان .
( وَلَـقَدْ أضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاّ كَثِيراً
أ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ( [181]) .
فإنّه :
( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [182]) .
وهلاّ حان
الوقت لتخشع القلوب لذكر الله ، ومتى نتّبع قوله تعالى :
( وَأطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ
وَاحْذَرُوا فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أ نَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
البَلاغُ المُبِينُ ) ( [183]) .
فمن لم
يدخل في ولاية الله ورسوله وأهل بيته اُولى الأمر وطاعتهم ، فإنّه يدخل لا
محالة في ولاية الشيطان .
( وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ
دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ) ( [184]) .
( إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( [185]) .
فلا
تتّبعوا خطوات الشيطان ولا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرّموا الحلال وتحلّلوا
الحرام ( إنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( [186]) ظاهر
العداوة عند ذوي البصيرة وأصحاب العقل السليم ، وإن كان في بداية الأمر يظهر
الموالاة لمن يغويه ، ولذلك سمّـاه ولياً في قوله تعالى : ( أوْلِيَاؤُهُمُ
الطَّاغُوتُ ) ( [187]) .
ومن خصائصه
البارزة أ نّه يخرجهم من النور إلى الظلمات ، من الأخلاق الطيّبة إلى
الرذائل والخسائس ، كمن كان سخيّاً ، فيخرجه من نور السخاء إلى ظلمة
البخل بتخويفه الفقر ، وكذلك الصفات الاُخرى :
( إنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ
وَالفَحْشَاءِ ) ( [188]) .
وهذا من
التحذير لبيان عداوة الشيطان ووجوب التحرّز منه ، واستعير الأمر ( أي
قوله تعالى : إنّما يأمركم ) لتزيينه وبعثه لهم على الشرّ تسفيهاً
لرأيهم وتحقيراً لشأنهم ، والسوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه
الشرع ، والعطف لاختلاف الوصفين فإنّه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء
باستقباحه إيّاه .
وقيل :
السوء يعمّ القبائح ، والفحشاء ما يجاوز الحدّ في القبح من الكبائر .
وقيل :
الأوّل ما لا حدّ فيه ، والثاني ما شرع فيه الحدّ ( وَأنْ
تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( [189]) ،
كاتّخاذ الأنداد وتحليل المحرّمات وتحريم الطيّبات .
قال فخر
الرازي : اعلم أنّ أمر الشيطان وسوسوته عبارة عن هذه الخواطر التي
نجدها في أنفسنا ، وقد اختلف الناس في هذه الخواطر من وجوه :
أحدها :
اختلفوا في ماهيّاتها ، فقال بعض : إنّها حروف وأصوات
خفيّة ، قالت الفلاسفة : إنّها تصوّرات الحروف والأصوات وأشباهها
وتخيّلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا ، فإنّ تلك الصور تشبه تلك
الأشياء من بعض الوجوه وإن لم تكن متشابهة لها من كلّ الوجوه .
ثمّ هذه
الخواطر الشيطانية إنّما هي بوسوسة الشيطان ، كما هناك إلهامات ملائكيّة يشير
إليها قوله تعالى : ( إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى
المَلائِكَةِ أ نِّي مَعَكُمْ فَثَبِّـتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) ( [190]) ، أي
ألهموهم بالثبات ، كما جاء في الأخبار : « للشيطان لمّة بابن آدم ،
وللملك لمّة » ، وفي الحديث : إذا ولد المولود لبني آدم قرن
إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً ، فالشيطان جاثم على اُذن قلبه
الأيسر ، والملك قائم على اُذن قلبه الأيمن ، فهما يدعوانه .
ومن
الفلاسفة من فسّر الملك الداعي إلى الخير بالقوّة العقليّة ، والداعي إلى
الشرّ هو الشيطان ، وفسّر بالقوّة الشهوانية والغضبيّة .
ثمّ قوله
تعالى : ( إنّما يأمركم ) دلّت الآية على الحصر ، لمكان
أنّ الشيطان لا يدعو ولا يأمر إلاّ بالقبائح ، وإذا دعا
إلى الخير في بعض الموارد فإنّ غرضه أن يجرّه منه إلى الشرّ ، فإنّه ربما
باسم الدين يخرج الإنسان من الدين ، كما نجد ذلك من بعض أصحاب المذاهب
الفاسدة ، فربما باسم الخير يدعو في النهاية إلى الشرّ ، وهذا أيضاً من
خطوات الشيطان ، فربما يجرّه من الأفضل إلى الفاضل السهل ، ومن السهل
إلى الأفضل الأشقّ ليصير ازدياد المشقّة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة
بالكلّية .
ومن
خطواته : أ نّه ( يعدكم الفقر ) فإبليس وسائر الشياطين
من الجنّ والإنس ، بل وحتّى النفس الأمّارة بالسوء تخوّف الإنسان
بالفقر ، فللشيطان لمّة وهي الإيعاد بالشرّ والفقر ، كما للملك لمّة وهي
الوعد بالخير والغنى ، فمن وجد ذلك من نفسه فإنّه من الله وليشكر الله على
ذلك ، ومن وجد الأوّل فإنّه من الشيطان وليتعوّذ بالله منه ( إنَّمَا
ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَاءَهُ ) ( [191])
بالوسوسة ، ولكن ليعلم كلّ واحد من المؤمنين ( إنَّ
كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ( [192]) ،
لأنّ الله ينصر أوليائه والشيطان ينصر أولياءه ، ولا شكّ أن نصرة الشيطان
لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ، ألا ترى أنّ أهل الخير والدين يبقى
ذكرهم الحميد على مرّ الدهور والأحقاب ، وإن كانوا حال حياتهم يعادوهم
الناس ، ويعيشون الفقر والانعزال ، وأمّـا الملـوك والجبابرة فإنّهم إذا
ماتوا انقرضوا ولا يبقى لهم ذكر إلاّ بالسوء واللعنة .
( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ ) بإنزال الكتب السماوية وإرسال الرسل ( لاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ ) في خطواته بالكفر والضلال ( إلاَّ
قَلِيلا ) ( [193]) منكم
تفضّل الله عليه بعقل راجح وقلب سليم وفطرة طاهرة اهتدى بها إلى الحقّ والصواب
والصراط المستقيم ، وعصمه الله عن متابعة الشيطان .
فالشيطان
ينتهي في الإنسان في مقام العداء والبغض إلى الكفر وعبادة الأصنام ( إنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاَّ إنَاثاً ) يعني
اللات والعزّى ومناة ونحوها ، فإنّه كان لكلّ حيّ صنم يعبدونه ويسمّونه اُنثى
بني فلان ، وذلك إمّا لتأنيث أسمائها ، أو لأ نّها كانت
جمادات ، والجمادات تؤنّث لشباهتها بالإناث لانفعالها ، ولعلّه سبحانه
وتعالى ذكر الأصنام بهذا الاسم تنبيهاً على أ نّهم يعبدون ما يسمّونه إناثاً
لأ نّه ينفعل ولا يفعل ، والحال من حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير
منفعل ، وقيل : المراد ( الملائكة ) لقولهم بنات الله ( وإنْ
يَدْعُونَ ) ويعبدون بعبادتها ( إلاَّ
شَيْطَاناً مَرِيداً ) ( [194])
لأ نّه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكان طاعته في ذلك عبادة
له . والمارد والمريد : الذي لا يعلق بالخير وأصل التركيب للملابسة ،
ومنه صرح ممرّد وغلام أمرد .