|
 |
 |
الشيطان على ضوء القرآن ( [1])
المقدّمة
الحمد لله
الذي كرّم الإنسان وأمره أن يستعيذ من الشيطان ، والصلاة والسلام على سيّد
الإنس والجانّ ، وأشرف الأكوان ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، محمّد
وآله المعصومين الطاهرين .
من هو
العدوّ الأوّل ؟ !
قال الله
تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه :
( يَا أ يُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيراً وَنِسَاءً ) ( [2]) .
( وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي
جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إنِّي أعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أنْبِئُونِي بِأسْمِاءِ هَؤُلاءِ إنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَـنَا إلاَّ مَا
عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أنْبِئْهُمْ
بِأسْمِائِهِمْ فَلَمَّا أنْبَأهُمْ بِأسْمِائِهِمْ قَالَ أ لَمْ أقُلْ
لَكُمْ إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ
فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الكَافِرِينَ *
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً
حَيْثُ شِئْتَُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ
الظَّالِمِينَ * فَأزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا
فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات
فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا
جَمِيعاً فَإمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَاىَ فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
اُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( [3]) .
قال أمير
المؤمنين علي (عليه
السلام)
في نهجه في صفة خلق آدم : « ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها
وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت ، ولاطها بالبلّة حتّى
لزبت ، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفضول ، أجمدها حتّى
استمسكت وأصلدها حتّى صلصلت ، لوقت معدود وأجل معلوم ، ثمّ نفخ فيها من
روحه فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرّف بها ، وجوارح
يختدمها ، وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرّق بها بين الحقّ والباطل ،
والأذواق والمشام والألوان والأجناس ، معجوناً بطينة الألوان المختلفة ،
والأشباه المؤتلفة ، والأضداد المتعادية ، والأخلاط المتباينة من الحرّ
والبرد والبلّة والجمود والمساءة والسرور ، واستأدى الله سبحانه وتعالى
الملائكة وديعته لديهم ، وعهد وصيّته إليهم في الإذعان بالسجود له والخنوع
لتكرمته ، فقال سبحانه وتعالى : ( اسجدوا لآدم ) فسجدوا
إلاّ إبليس وقبيلته اعترتهم الحميّة ، وغلبت عليهم الشقوة ، وتعزّزوا
بخلقة النار ، واستوهنوا خلق الصلصال ، فأعطاه الله النظرة استحقاقاً
للسخطة ، واستتماماً للبليّة ، وإنجازاً للعدة ، فقال :
( فَإنَّكَ
مِنَ المُنْظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ) ( [4]) ،
ثمّ أسكن سبحانه آدم داراً أرغد فيها عيشه وآمن فيها محلّته ، وحذّره إبليس وعداوته ،
فاغترّه عدوّه نفاسةً عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار ، فباع اليقين
بشكّه ، والعزيمة بوهنه ، واستبدل بالجدل وجلا وبالاغترار ندماً ،
ثمّ بسط الله سبحانه له في توبته ، ولقّاه كلمة رحمته ، ووعده المردّ
إلى جنّته ، فأهبطه إلى دار البليّة ، وتناسل الذرّية ... »( [5]) .
وقال
سبحانه وتعالى :
( إنْ يُوحَى إلَيَّ إلاَّ أ نَّمَا
أ نَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ
بَشَراً مِنْ طِين * فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ * إلاَّ
إ بْلِيسَ اسْتَكْـبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * قَالَ يَا
إ بْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أاسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ * قَالَ أ نَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ
رَجِيمٌ * وَإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ
فَأنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُـبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * إلَى
يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ
* إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ * قَالَ فَالحَقُّ وَالحَقَّ أقُولُ *
لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [6]) .
وقد وردت
الآيات الكريمة في بيان قصّة خلق آدم وحوّاء (عليهما السلام) ،
وكيف أمر الله ملائكته بالسجود ، وكان الشيطان إبليس معهم فكفر وعصى
ربّه ، وتكرّرت هذه القصّة في القرآن الكريم في موارد وسور كثيرة
منها :
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ لَمْ
يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أ لاَّ تَسْجُدَ إذْ
أمَرْتُكَ قَالَ أ نَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِين * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا
فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أنظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *
قَالَ إنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبَِما أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ
شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ
وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتَُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ
تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ
* فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآ تُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أ لَمْ أنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أنفُسَنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِين * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ
وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ
آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَا أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ * وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا
وَاللهُ أمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللهَ لا يَأمُرُ بِالفَحْشَاءِ أتَقُولُونَ
عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ وَأقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا
بَدَأكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ
إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ
مُهْتَدُونَ ) ( [7]) .
ومنها :
( الحجر : 28 ـ 43 ) ، ( النحل : 99 ـ
100 ) ، ( الإسراء : 61 ـ 70 ) ،
( الكهف : 50 ) ، ( طه : 116 ـ
127 ) .
ويقول أمير
المؤمنين علي (عليه
السلام)
في خطبته القاصعة :
« الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه
دون خلقه ، وجعلهما حِمىً وحرماً على غيره ، وأصطفاهما لجلاله ،
وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثمّ اختبر بذلك ملائكته
المقرّبين ، ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو
العالم بمضمرات القلوب ، محجوبات الغيوب ، إنّي خالق بشراً من
طين ، فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة
كلّهم أجمعون إلاّ إبليس اعترضته الحميّة ، فافتخر على آدم بخلقه ،
وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ الله إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين ، الذي
وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبريّة ، وادّرع لباس
التعزّز ، وخلع قناع التذلّل ، ألا ترون كيف صغّره الله بتكبّره ،
ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدّ له في الآخرة
سعيراً ، ولو أراد الله سبحانه أن يخلق آدم من نور يختطف الأبصار
ضياؤه ، ويبهر العقول رواؤه ـ أي المنظر الحسن ـ وطيب
يأخذ الإنسان عرفه لفعل ، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت
البلوى فيه على الملائكة ، ولكنّ الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله
تمييزاً بالاختبار لهم ، ونفياً للاستكبار عنهم ، وإبعاداً للخيلاء
منهم ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل
وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة ، لا يُدرى أمِن سنيّ
الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كِبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على
الله سبحانه بمثل معصيته ، كلاّ ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر
أخرج منها ملكاً ، إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين
الله وبين أحد من خلقه هوادة ـ أي الميل والصلح ـ في إباحته
حِمى حرّمه الله على العالمين ، فاحذروا عباد الله عدوّ الله أن يعديكم
بدائه ، وأن يستفزّكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد ،
وأغرق لكم بالنزع الشديد ، ورماكم من كلّ مكان قريب ، وقال :
ربّ بما أغويتني لاُزيننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين » الخطبة( [8]) .
فالشيطان
هو العدوّ الأوّل للإنسان ، وإذا أردنا أن نقف على فلسفة خلقته وعدائه ،
فإنّه يمكن ذلك من خلال الرجوع إلى كتاب الله الكريم والروايات الشريفة المرويّة
عن الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته عترته
الطاهرين الأئمة الهداة المهديّين ، فإنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ،
وفي هذا الكون الرحب الوسيع ، فإنّ الله أوقفهم على أسرار خلقه ، وحقائق
الأشياء كما هي .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) لابن مسعود وهو يعظه : يا بن مسعود ،
اتّخذ الشيطان عدوّاً ، فإنّ الله تعالى يقول : ( إنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ) ( [9]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
احذروا عدوّاً نفذ في الصدور خفيّاً ، ونفث في الآذان نجيّاً .
قال الإمام
زين العابدين (عليه
السلام)
في مناجاته : إلهي أشكو إليك عدوّاً يضلّني ، وشيطاناً
يغويني ، قد ملأ بالوسواس صدري ، وأحاطت هواجسه بقلبي ، يعاضد لي
الهوى ، ويزيّن لي حبّ الدنيا ، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى .
قال الإمام
الصادق (عليه
السلام) :
لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور ، فما يقصد فيها إلاّ أولياءنا .
وقال
الإمام الكاظم (عليه
السلام)
لمّـا سئل عن أوجب الأعداء مجاهدةً : أقربهم إليك وأعداهم لك ...
ومن يحرّض أعداءك عليك وهو إبليس .
فعن هشام
بن الحكم قال : سأل الزنديق أبا عبد الله (عليه السلام)
فقال : أفمن حكمته أن جعل لنفسه عدوّاً وقد كان ولا عدوّ له ،
فخلق كما زعمت إبليس فسلّطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته ويأمرهم
بمعصيته ، وجعل له من القوّة كما زعمت يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم فيوسوس
إليهم ، فيشكّكهم في ربّهم ، ويلبس عليهم دينهم ، فيزيلهم عن
معرفته ، حتّى أنكر قوم لما وسوس إليهم ربوبيّته ، وعبدوا سواه ،
فلِمَ سلّط عدوّه على عبيده ، وجعل له السبيل إلى إغوائهم ؟
قال : إنّ هذا العدوّ الذي ذكرت لا يضرّه عداوته ، ولا ينفعه
ولايته ، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئاً ، وولايته لا تزيد فيه
شيئاً ، وإنّما يتّقى العدوّ إذا كان في قوّة يضرّ وينفع ، إن همّ بملك
أخذه ، أو بسلطان قهره ، فأمّا إبليس فعبد خلقه ليعبده ويوحّده ،
وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه ، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتّى
امتحنه بسجود آدم ، فامتنع من ذلك حسداً وشقاوة غلبت عليه ، فلعنه عند
ذلك وأخرجه عن صفوف الملائكة ، وأنزله إلى الأرض ملعوناً مدحوراً ، فصار
عدوّ آدم وولده بذلك السبب ، وما له من السلطنة على ولده إلاّ الوسوسة
والدعاء إلى غير سبيل ، وقد أقرّ مع معصيته لربّه بربوبيّته( [10]) .
فأوّل عدوّ
للإنسان هو الشيطان ، وكلّما كثر إيمان الشخص كثرت عداوة الشيطان له .
يقول
الإمام الصادق (عليه
السلام) :
« إنّ الشياطين أكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم » .
ويقول (عليه
السلام) :
« لقد نصب إبليس حبائله في دار الغرور ، فما يقصد فيها إلاّ
أولياءنا » .
ويقول
الإمام الباقر (عليه
السلام) :
« إذا مات المؤمن خلّي على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين
به » .
فإنّ ربيعة
ومضر من أكبر القبائل العربية ، فذكرهما كناية عن الكثرة ، أي الآلاف
المؤلفة من الشياطين يحومون حول دار المؤمن من اليوم الأوّل من ولادته ،
وحتّى اليوم الأخير يوم رحلته من هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها ، فإنّ
شغلهم هو غواية المؤمن وإضلاله ، وإذا مات فإنّهم ينتقلون إلى مؤمن
آخر ، وهكذا حتّى اليوم المعلوم .
ثمّ ورد في
الخبر النبوي الشريف : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم( [11]) .
قال القمّي
في سفينته : الشيطان فيعال من شطن إذا تباعد ، فكأ نّه
يتباعد إذا ذكر الله تعالى ، وقيل : إنّه فعلان من شاط يشيط إذا
احترق غضباً ، لأ نّه يحترق ويغضب إذا أطاع العبد ، فيقول (صلى الله
عليه وآله) :
إنّ الشيطان لا يزال يراقب العبد ويوسوس في نومه ويقظته ، وهو جسم لطيف هوائي
يمكنه أن يصل إلى ذلك ، والإنسان غار غافل ، فيوصل كلامه ووسواسه إلى
باطن اُذنه فيصير إلى قلبه ، والله تعالى هو العالم بكيفيّة ذلك ، فأمّا
وسواسه فلا شكّ فيه ، والشيطان هنا اسم جنس ولا يريد به إبليس وحسب ،
وذلك لأ نّه له أولاد وأحفاد .
قال
المجلسي عليه الرحمة : لا خلاف بين الإمامية بل بين المسلمين في أنّ
الجنّ والشياطين أجسام لطيفة يُرَون في بعض الأحيان ، ولا يرون في
بعضها ، ولهم حركات سريعة وقدرة على أعمال قوية ، ويجرون في أجساد بني
آدم مجرى الدم ، وقد يشكّلهم الله بحسب المصالح بأشكال مختلفة وصور
متنوّعة ، كما ذهب إلى هذا القول علم الهدى السيّد المرتضى عليه
الرحمة ، وجعل الله لهم القدرة على ذلك كما هو الأظهر من الأخبار .
والكافي
بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما
من قلب إلاّ وله اُذنان على أحدهما ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتّن ، هذا
يأمره وهذا يزجره : الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها ،
وهو قول الله عزّ وجلّ : ( عَنِ
الَيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إلاَّ لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( [12]) .
قلب
الإنسان مثال بيت له أبواب تنصب إليها الأحوال من كلّ باب ، وكالمرآة تمرّ
عليها صور مختلفة ، وهي التي تسمّى بالخواطر المحرّكة للرغبة ، وإنّها
تنقسم إلى خواطر خير ، وهي ما تدعو إلى الخير ما ينفع في الآخرة وهي خواطر
نوريّة ، وخواطر شرّ وما يضرّ في العاقبة وهي خواطر ناريّة ، والأوّل
يسمّى بالخاطر المحمود ، ويسمّى إلهاماً ، والثاني بالخاطر المذموم
ويسمّى وسواساً ، ولكلّ حادث سبب ، وسبب الأوّل يسمّى ملكاً ، وسبب
الثاني يسمّى شيطاناً ، واللطف الذي به يتهيّأ القلب لقبول إلهام الملك يسمّى
توفيقاً ، والذي به يتهيّأ لقبول وسواس الشيطان يسمّى إغواء وخذلاناً ،
فإنّ المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة .
والملك
عبارة عن خلق خلقه الله شأنه إفاضة الخير ، وإفادة العلم ، وكشف الحقّ
والوعد بالمعروف ، وقد خلقه الله وسخّره لذلك ، والشيطان عبارة عن خلق
شأنه ضدّ ذلك ، وهو الوعد بالشرّ والأمر بالفحشاء ، والتخويف عند الهمّ
بالخير بالفقر ، والوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة
الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان ، وإليه الإشارة بقوله
تعالى :
( وَمِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( [13]) .
فإنّ
الموجودات كلّها متقابلة مزدوجة إلاّ الله تعالى فإنّه لا مقابل له ، بل هو
الواحد الحقّ الخالق للأزواج كلّها .
ثمّ هذا
الصراع بين الحقّ والباطل ، والنور والظلمة ، والخير والشرّ ،
والفضائل والرذائل ، كان من بدو الخلقة ولا يزال ، وسيبقى إلى اليوم
المعلوم ، وكان معسكر الحقّ والخير يتمثّل بآدم (عليه السلام) ،
ومعسكر الشرّ والباطل يتمثّل بإبليس ، ولكلّ موسى فرعون .
والقلب
الإنساني متجاذب بين الشيطان والملك ، بين الحقّ والباطل ، وقال النبيّ (صلى الله
عليه وآله) :
للقلب لمّتان ، لمّة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك
فليعلم أ نّه من الله فليحمد الله ، ولمّة من العدوّ إيعاد بالشرّ
وتكذيب الحقّ ، ونهي عن الخير ، فمن وجد ذلك فليتعوّذ من الشيطان ،
ثمّ تلا : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ
الفَقْرَ ) ( [14]) .
ثمّ من
العدل الإلهي يكون القلب بأصل الخلقة والفطرة صالحاً لقبول آثار الملائكة
والشياطين على حدّ سواء ، وإنّما يترجّح أحدهما على الآخر باتّباع الهوى
والشهوات والغضب ، فإنّه باتباع الهوى وطول الأمل يظهر تسلّط الشيطان
عليه ، ويصير القلب عشّه ومعدنه ، فإنّ الهوى مرعاه ومرتعه ، وإن
جاهد الشهوات وتشبّه بأخلاق الملائكة صار قلبه مستقرّ الملائكة ومهبطهم .
ولمّـا كان
القلب لا يخلو من الصفات الرذيلة صار ميداناً لوسوسة الشيطان ، وقال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : ما منكم من أحد إلاّ وله شيطان .
وإذا كان
العقل هو الحاكم في وجود الإنسان فلا تكون الشهوة إلاّ فيما ينبغي وإلى الحدّ الذي
ينبغي ، فلا تدعوه إلى الشرّ ، فيكون مهبط الملائكة ، وإذا غلب على
القلب حبّ الدنيا وذكرها ومقتضيات الهوى ، فإنّ الشيطان يجد مجالا لوسوسته
وإغوائه .
فكلمّا
انصرف القلب لذكر الله تباعد الشيطان ووسوسته ، وأقبل الملك وإلهامه ،
فالعراك بين جنود الملائكة وجنود الشياطين ، بين جنود العقل وجنود الجهل في
ميادين القلب دائم إلى أن يتغلّب أحدهما على الآخر ، وأكثر القلوب قد فتحها
جنود الشيطان وملكوها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة على
الآخرة ، وتقديم الدنيا ونسيان ذكر الله ، ومبدأ استيلائها اتباع
الهوى ، ولا يمكن فتح القلب بعدها إلاّ بتخلية القلب من الرذائل ، وجنود
الشيطان بمخالفة الهوى وذكر الله وعبادته ، حتّى لا يكون للشيطان
سلطان :
( إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ ) ( [15]) .
وكلّ من
اتّبع الهوى فهو عبد الهوى فيتسلّط عليه الشيطان :
( أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ
هَوَاهُ ) ( [16]) .
ولا يمحو
وسوسة الشيطان عن القلب إلاّ ذكر الله سبحانه ، ولا يعالج الشيطان إلاّ
بضدّه ، وهو ذكر الله والاستعاذة من شرّ الوسواس الخنّاس :
( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ
طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( [17]) .
قال مجاهد
في قوله : ( مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ
الخَـنَّاسِ ) ( [18]) ،
قال : هو منبسط على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله سبحانه خنس
وانقبض ، وإذا غفل انبسط على قلبه ، فالتطارد بين ذكر الله ووسوسة
الشيطان كالتطارد بين النور والظلام ، وبين الليل والنهار ، ولتطاردهما
قال الله تعالى : ( اسْتَحْوَذَ عَلَـيْهِمُ
الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ ) ( [19]) .
وفي
الحديث : إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله
خنس ، وإن نسي الله التقم قلبه .
ولأجل
اكتناف الشهوات بالقلب من جوانبه الأربعة :
( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ *
ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ( [20]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : إنّ الشيطان قعد لابن آدم في طرقه ،
فقعد له بطريق الإسلام ، فقال له : أتسلم وتترك دينك ودين
آبائك ؟ فعصاه فأسلم .
ثمّ قعد له
بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك ونساءك ؟ فعصاه
فهاجر .
ثمّ قعد له
بطريق الجهاد فقال : أتجاهد وهو تلف النفس والمال ؟ فتقاتل
فتقتل فتنكح نساؤك وتقسم مالك ؟ فعصاه فجاهد .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : فمن فعل ذلك فمات كان حقّاً على الله أن
يدخله الجنّة .
فالشيطان
هو العدوّ الأوّل للإنسان ، وقد عرّفه الله سبحانه وعرّف عداوته في مواضع
كثيرة من كتابه الكريم ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى :
( إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِـيَكُونُوا مِنْ أصْحَابِ
السَّعِيرِ ) ( [21]) .
فينبغي
للعبد أن يشتغل بدفع العدوّ عن نفسه وعياله :
( قُوا أنفُسَكُمْ وَأهْلِيكُمْ
نَاراً ) ( [22]) .
وينبغي أن
يسأل عن كيفية الخلاص من عدوّه المبين ، وما هي الأسلحة التي تهلكه وتبعده
عنه .
وهذا ما
ستقف عليه في هذه العجالة إن شاء الله تعالى .
وعن الكافي
بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ،
قال : إنّ للقلب اُذنين ، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح
الإيمان : لا تفعل ، أو قال له الشيطان :
افعل ! وإذا كان على بطنها ـ أي المرأة المزني
بها ـ نزع منه روح الإيمان( [23]) .
قال
العلاّمة المجلسي في بيان هذا الخبر الشريف : للنفس طريق إلى الخير
وطريق إلى الشرّ ، وللخير مشقّة حاضرة زائلة ، ولذّة غائبة دائمة ،
وللشرّ بعكس ذلك لذّة حاضرة فانية ، ومشقّة غائبة باقية ، والنفس
ـ لنزعتها المادية ـ تطلب اللذّة وتهرب عن المشقّة ،
فهي دائماً متردّدة بين الخير والشرّ ، فروح الإيمان يأمره بالخير ،
وينهاه عن الشرّ ، والشيطان بالعكس .
وبالنسبة
إلى روح الإيمان ذكروا وجوهاً :
1 ـ أن يكون المراد به الملك ، كما صرّح به في بعض الأخبار
وسمّي بروح الإيمان لأ نّه مؤيّد له ، وسبب لبقائه ، فكأ نّه
روحه وبه حياته .
2 ـ أن يراد به العقل ، فإنّه أيضاً كذلك ، ومتى لم يغلب
الهوى والشهوات النفسانية العقل ، لم يرتكب الخطيئة ، فكأنّ العقل
يفارقه في تلك الحالة .
3 ـ أن يراد به الروح الإنساني من حيث اتّصافه بالإيمان ،
فإنّها من هذه الجهة روح الإيمان ، فإذا غلبها الهوى ولم يعمل بمقتضاها
فكأ نّها فارقته .
4 ـ أن يراد به قوّة الإيمان وكماله ونوره ، فإنّ كمال
الإيمان باليقين ، واليقين بالله واليوم الآخر لا يجتمع مع ارتكاب الكبائر
والذنوب الموبقة ، فمفارقته كناية عن ضعفه ، فإذا ندم بعد انكسار الشهوة
ممّـا فعل وتفكّر في الآخرة وبقائها وشدّة عقوباتها وخلوص لذّاتها يقوى يقينه
فكأ نّه يعود إليه .
5 ـ أن يراد به نفس الإيمان وتكون الإضافة للبيان ، فإنّ
الإيمان الحقيقي ينافي ارتكاب موبقات المعاصي ، كما اُشير إليه بقولهم (عليهم
السلام) :
« لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » ، فإنّ من آمن وأيقن بوجود
النار وإيعاد الله تعالى على الزنا أشدّ العذاب فيها ، كيف يجترئ على الزنا
وأمثالها ، إذ لو أوعده بعض الملوك على فعل من الأفعال ضرباً شديداً أو قتلا
بل ضرباً خفيفاً أو إهانة وعلم أنّ الملك سيطّلع عليه لا يرتكب
هذا الفعل ، وكذا لو كان صبي من غلمانه أو ضعيف من بعض خدمه
ـ فكيف الأجانب ـ حاضراً لا يفعل الاُمور القبيحة ،
فكيف يجتمع الإيمان بأنّ الملك القادر القاهر الناهي الآمر المطّلع على السرائر
ولا يخفى عليه الضمائر ، مع ارتكاب الكبائر بحضرته ، وهل هذا إلاّ من
ضعف الإيمان ، ولذا قيل : الفاسق إمّا كافر أو مجنون .
6 ـ أن يقال : في الكافر ثلاثة أرواح هي موجودة في
الحيوانات ، وهي الروح الحيوانية والقوّة البدنية والقوّة الشهوانية ،
فإنّهم ضيّقوا الروح ـ الإيمانية ـ التي بها يمتاز الإنسان
عن سائر الحيوان وجعلوها تابعة للشهوات النفسانية والقوى البهيمية ، فإمّا أن
تفارقهم بالكلّية كما قيل ، أو لمّـا صارت باطلة معطّلة ، فكأ نّها
فارقتهم ، ولذا قال تعالى :
( إنْ هُمْ إلاَّ كَالأ نْعَامِ بَلْ هُمْ
أضَلُّ سَبِيلا ) ( [24]) .
وفي
المؤمنين أربعة أرواح ، فإنّه يتعلّق بهم روح يصيرون به أحياء بالحياة
المعنوية الأبدية ، فهي مع الأرواح البدنية تصير أربعاً ، وفي الأنبياء
والأوصياء (عليهم
السلام) روح
خامس : هو روح القدس ، وهذا على بعض الوجوه قريب من الوجه
الثالث .
والحاصل :
أنّ الإنسان في بدو الأمر عند كونه نطفة جماد ، ولها صورة جمادية ثمّ يترقّى
إلى درجة النباتات ، فتتعلّق به نفس نباتية ، ثمّ يترقّى إلى أن تتعلّق
به نفس حيوانية هي مبدأ للحسّ والحركة ، ثمّ يترقّى إلى أن يتعلّق به روح آخر
هو مبدأ الإيمان ، ومنشأ سائر الكمالات ، ثمّ يترقّى إلى أن يتعلّق به
روح القدس فيحيط بجميع العوالم ، ويصير محلا للإلهامات الربانية والإفاضات
السبحانية .
وقال بعضهم
بناءً على القول بالحركة في الجوهر ـ كما عند صدر المتألهين الشيرازي ـ
أنّ الصورة النوعية الجمادية المنويّة تترقّى وتتحرّك إلى أن تصير نفساً
نباتية ، ثمّ تترقّى إلى أن تصير نفساً حيوانية ، وروحاً
حيوانياً ، ثمّ تترقّى إلى أن تصير نفساً مجرّداً على زعمه مدركة
للكليات ، ثمّ تترقّى إلى أن تصير نفساً قدسياً ، وروح القدس على زعمه
يتّحد بالعقل .
هذا ما حضر
لي ممّـا يمكن أن يقال في حلّ هذه الأخبار ، باختلاف مسالك العلماء ومذاهبهم
في تلك الاُمور ، والأوّل أظهر على قواعد متكلّمي الإمامية وظواهر
الأخبار ، والله المطّلع على غوامض الأسرار ، وحججه صلوات الله عليهم ما
تعاقب الليل والنهار ـ انتهى كلامه رفع الله مقامه .
وعن الكافي
بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ،
قال : ما من مؤمن إلاّ ولقلبه اُذنان في جوفه : اُذن ينفث
فيها الوسواس الخنّاس ، واُذن ينفث فيها الملك ، فيؤيّد الله المؤمن
بالملك ، وذلك قوله : ( وَأيَّدَهُمْ
بِرُوح مِنْهُ ) ( [25]) .
فالإنسان
له قلب صنوبري في قفص صدره على الجانب الأيسر يضخّ منه الدم ، ومن ورائه قلب
معنوي ، إمّا أن يكون حرم الله ، أو يسرقه الشيطان فيعشّش فيه
ويفرّخ ، فيصير بيت الشيطان ، فقلب الإنسان إمّا حرم الرحمان وعرشه أو
بيت الشيطان وعشّه( [26]) ،
ثمّ له اُذنان ، إحداهما للرحمن ، فما يسمع بها يكون من الإلهام ،
والاُخرى للشيطان ، وما يسمع بها يكون من الوسواس ، فالإنسان دائماً بين
جذبتين ودعوتين : جذبة ودعوة الرحمن ، وجذبة ودعوة الشيطان ،
وأخيراً إمّا أن يكون رحمانياً إلهيّاً أو شيطانياً إبليسياً ، وهذا الصراع
مع الإنسان منذ اليوم الأوّل ، فهو بين نزعتين : نزعة مثالية
توحيدية ، ونزعة مادّية كفريّة . فالحاكم في وجوده إمّا الحقّ والخير
والنور فيسعد في الدارين ، وإمّا الباطل والشرّ والظلام فيشقى في الدنيا
والآخرة . شاءت حكمة الله ذلك ، ولن تجد لسنّة الله تبديلا ولا
تحويلا .
ثمّ هذا
الكتاب الذي بين يديك يحتوي بعد المقدّمة على فصول وخاتمة ، ومن الله التوفيق
والتسديد ، وهو خير ناصر ومعين .
وعلى
الإنسان أن يعتبر من كلّ شيء حيّ ، ومن الشيطان وما جرى عليه ، فقد ورد
عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) :
« فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده
الجهيد ( الجميل ) وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى
أمِن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كِبر ساعة واحدة » .
وعلينا أن
نعبد الله كما أراد سبحانه وكما أمر ونهى ، لا كما تشتهي أنفسنا ، وكما
نرتأيه وكما يحلو لنا ، فإنّ بعض الناس عندما يضرّه الصوم ويحرم عليه
ذلك ، يقول قلبي يريد الصوم ، وكأ نّما إرادته مقدّمة على إرادة
الله سبحانه ، وهذا من الشيطان أيضاً .
قال الإمام
الصادق (عليه
السلام) :
أمر الله إبليس بالسجود لآدم فقال : يا ربّ ، وعزّتك إن أعفيتني
من السجود لآدم لأعبدنك عبادةً ما عبدك أحد قطّ مثلها ، قال الله جلّ
جلاله : إنّي اُحبّ أن اُطاع من حيث اُريد .
الفصل الأوّل
معالم الشيطان
إذا أردنا
أن نعرف الأشياء ، فإمّا أن نعرفها بنفسها وبالمباشرة ، ونقف على العلّة
ابتداءً ومن دون واسطة ، أو نعرف الشيء من خلال آثاره ومعلولاته ،
فتارةً نرى الشمس ، واُخرى نحسّ بحرارتها وأشعّتها ، وإنّما نعرف
الأشياء بنفسها لو كانت في حوزتنا وفي حيّز حواسّنا الظاهريّة ، كما لو كانت
من الأجسام ، أمّا لو كانت من المجرّدات كالعقل ، فإنّما نعرفه ونعلم به
من خلال آثاره ومعالمه ومعاليله ، وهذا أمر واضح لا غبار عليه .
وحينئذ
لمّـا لم نتمكّن من معرفة عدوّنا الأوّل وهو الشيطان مباشرةً ووجهاً لوجه ،
فلا بدّ أن نعرفه من خلال معالمه وآثاره ، وإنّما نتغلّب على العدوّ لو
عرفناه أوّلا ، وعرفنا ما عنده من السلاح ، ومن العُدّة والعِدّة ،
وعرفنا مخطّطاته وجنوده وأعوانه من الجنّ والإنس .
وإنّما
يعرف حقيقة الشيطان وواقعه ، من كان صانعه وخالقه ومحيطاً به ، وهو الله
سبحانه وتعالى ، فإذا أردنا أن نعرف الشيطان فإنّما نعرفه حقّاً بتعريف
وتوصيف من الله عزّ وجلّ ، ومن ثَمّ إنّما نقف على حقيقة عدوّنا الأوّل من
خلال القرآن الكريم كتاب الله الحكيم أوّلا ، وثانياً من خلال أقوال النبيّ
الأعظم محمّد (صلى
الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين .
وإليك بعض
المعالم لمعرفة الشيطان ، فاعرف عدوّك حتّى تعرف كيف تحاربه وتنتصر
عليه ، والله المستعان .
( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا
أوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ( [27]) .
( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان
إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أ نْفُسَكُمْ ) ( [28]) .
قال الإمام
الكاظم (عليه
السلام)
في وصيّته لهشام :
فله
ـ أي لإبليس ـ فلتشتدّ عداوتك ، ولا يكوننّ أصبر على
مجاهدته لك منك على صبرك لمجاهدته ، فإنّه أضعف منك ركناً في قوّته ،
وأقلّ منك ضرراً في كثرة شرّه ، إذ أنت اعتصمت بالله فقد هديتَ إلى صراط
مستقيم .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
قد أصبحتم
في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدباراً ، ولا الشرّ فيه إلاّ إقبالا ،
ولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً ، فهذا أوان قويت
عدّته ، وعمّت مكيدته ، وأمكنت فريسته( [29]) .
( لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ
عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلاُضِلَّنَّهُمْ وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ
اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ) ( [30]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
يا
كميل ، إنّ إبليس لا يعِد عن نفسه وإنّما يعِد عن ربّه ، ليحملهم على
معصيته فيورّطهم .
قال الإمام
الصادق (عليه
السلام) :
لمّـا نزلت
هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً ) ( [31]) ،
صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له ثور ، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا
إليه ، فقالوا : يا سيّدنا لِمَ دعوتنا ؟
قال : نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين
فقال : أنا لها بكذا وكذا ، فقال : لست لها ،
فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال : لست لها ، فقال الوسواس
الخنّاس : أنا لها ، قال : بماذا ؟
قال : أعدهم واُمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوا
الخطيئة أنسيتهم الاستغفار ، فقال : أنت لها . فوكّله بها
إلى يوم القيامة .
وقال (عليه
السلام) :
إنّ الشيطان يدير ابن آدم في كلّ شيء ، فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ
برقبته .
قال أمير
المؤمنين (عليه
السلام) :
إنّ
الشيطان يُسنّي لكم طريقه ، ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة
الفُرقة .
وعنه (عليه
السلام) :
الشيطان موكّل به ـ أي العبد ـ يزيّن له المعصية
ليركبها ، ويمنّيه التوبة ليسوّفها .
وأمّا
معالم الشيطان وعوالمه فهي كثيرة ، أهمّها :
1 ـ دعوة الشيطان ووعوده :
قال الله
تعالى :
( إنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالفَحْشَاءِ
وَأنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( [32]) .
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ
وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ
وَفَضْلا ) ( [33]) .
( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [34]) .
( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ( [35]) .
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ
إنَّ اللهَ وَعَدَ كُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ مَا أ نَا بِمُصْرِخِكُمْ
وَمَا أ نْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِي مِنْ
قَبْلُ ) ( [36]) .
وعن جابر
الأنصاري عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ،
قال : كان إبليس أوّل من ناح ، وأوّل من تغنّى ، وأوّل من
حدا ، قال : لمّـا أكل آدم من الشجرة تغنّى ، فلمّـا اُهبط
حدا به ، فلمّـا استقرّ على الأرض ناح ، فأذكره ما في الجنّة ،
فقال آدم : ربّ هذا الذي جعلت بيني وبينه العداوة لم أقوَ عليه وأنا في
الجنّة ، وإن لم تعنّي عليه لم أقوَ عليه ، فقال الله :
السيّئة بالسيّئة والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ، قال : ربّ
زد لي ؟ قال : لا يولد لك ولد إلاّ جعلت معه ملكاً أو ملكين
يحفظانه ، قال : ربّ زدني ؟ قال : التوبة مفروضة
في الجسد ما دام فيها الروح ، قال : ربّ زدني ؟
قال : أغفر الذنوب ولا اُبالي ،
قال : حسبي . قال : فقال إبليس : ربّ هذا
الذي كرّمت عليّ وفضّلته وإن لم تفضّل عليّ لم أقوَ عليه ، قال :
لا يولد له ولد إلاّ ولد لك ولدان ، قال : ربّ زدني ؟
قال : تجري منه مجرى الدم في العروق ، قال : ربّ
زدني ؟ قال : تتّخذ أنت وذرّيتك في صدورهم مساكن ،
قال : ربّ زدني ؟ قال : تعدهم وتمنّيهم وما
يعدهم الشيطان إلاّ غروراً( [37]) .
وعن أبي
عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) :
ربما حزنت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد ، وربما فرحت فلا أعرف في أهل ولا
مال ولا ولد ، فقال : إنّه ليس من أحد إلاّ ومعه ملك
وشيطان ، فإذا كان فرحه كان دنوّ الملك منه ، وإذا كان حزنه كان دنوّ
الشيطان منه ، وذلك قول الله تبارك وتعالى : ( الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( [38]) .
قال
العلاّمة المجلسي في بيانه : كان المراد أنّ هذا الهمّ لأجل وساوس
الشيطان ، لكنّه لا يتفطّن به الإنسان فيظنّ أ نّه بلا سبب . أو
المراد : أ نّه لمّـا كان شأن الشيطان يصير محض دنوّه سبباً
للهمّ ، أو أراد السائل عدم كونه لفوت تلك الاُمور في الماضي ويجري جميع
الاُمور في الملك أيضاً .
وقال (عليه
السلام) :
ما من قلب إلاّ وله اُذنان على أحدهما ملك مرشد ، وعلى الآخر شيطان
مفتّن ، هذا يأمره وهذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصي ، والملك
يزجره عنها ، وهو قول الله عزّ وجلّ : ( عَنِ
الَيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إلاَّ لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ( [39]) .
وقال (عليه
السلام) :
إنّ للقلب اُذنين ، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح الإيمان : لا تفعل ،
وقال له الشيطان : افعل ، وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان( [40]) .
فكلّ واحد
بالوجدان يحسّ في نفسه وقلبه أنّ هناك دعوتين : دعوة رحمانية إلى الخير
والعمل الصالح ، ودعوة شيطانية إلى الشرّ والعمل الطالح ، فبين إلهام
ووسواس ، وصراع بين الحقّ والباطل ، بين النور والظلام ، بين الخير
والشرّ ، بين الوجود والعدم .
2 ـ حزب الشيطان وجنوده :
إنّ
للشيطان الرجيم حزب وأعوان وجنود من الجنّ والإنس كما قال سبحانه :
( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالغَاوُونَ *
وَجُنُودُ إبْلِيسَ أجْمَعُونَ ) ( [41]) .
وقد ورد في
الخبر الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) : ليس
لإبليس جند أشدّ من النساء والغضب( [42]) .
أي يتسلّط
على الإنسان بعاملين أساسيين ، أحدهما من الخارج وهم النساء ، والآخر من
الداخل وهو الغضب .
من كتاب
لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) إلى الحارث الهمداني : احذر
الغضب فإنّه جند عظيم من جنود إبليس .
وقال (عليه السلام) :
اتّخذوا التواضع مسلحةً بينكم وبين عدوّكم إبليس وجنوده ، فإنّ له من كلّ
اُمّة جنوداً وأعواناً ورجلا وفرساناً .
وقال (عليه
السلام) :
ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم ، ولا تطيعوا الأدعياء ،
اتّخذهم إبليس مطايا ضلال وجنداً بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على
ألسنتهم( [43]) .
( إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِـيَكُونُوا مِنْ أصْحَابِ
السَّعِيرِ ) ( [44]) .
وحزب
الشيطان من كان في خطّه كناكثي البيعة في صدر الإسلام ، ففي الخبر الصادقي (عليه
السلام)
في قول النبيّ (صلى
الله عليه وآله) في غدير خم : « من كنت مولاه فعليٌّ
مولاه » : فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر ، وحثّوا التراب
على رؤوسهم ، فقال لهم إبليس : ما لكم ؟
قالوا : إنّ هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شيء إلى يوم
القيامة ، فقال لهم إبليس : كلاّ ، إنّ الذين حوله قد وعدوني
فيه عدة لن يخلفوني ، فأنزل الله على رسوله : ( وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ ) ( [45]) .
ثمّ
المقصود من الحزب هو المعنى اللغوي ، أي بمعنى الجماعة ، فحزب الشيطان
يعني جماعة الشيطان وأتباعه ، وأمّا المعنى المصطلح ، الذي كان أساسه من
رجل يهودي في القرن الثامن عشر الميلادي فإنّه بمعنى الاخطبوطي أو الخيوط التي
تمتدّ إلى رأس واحد ، أو بمعنى الشكل الهرمي كالجبل الذي له قمّة
وقاعدة ، ومن ثمّ تكون هناك كوادر حزبية وحلقات حزبية بين القمّة
والقاعدة ، يضمّهم نظام حزبي خاصّ ، لهم أهداف وبرامج خاصة للوصول إلى
أهدافهم الحزبيّة ، وهذا المعنى ينطبق على الحزب الشيطاني كما يلي :
تأريخ
تأسيس الحزب :
يرجع
تأريخه إلى بدء خلق آدم نبيّ الله أبي البشر (عليه السلام) ،
وقد هبط مع آدم وحوّاء على الأرض ليكون عدوّاً لهما ولذرّيتهما إلى اليوم
المعلوم .
أمير سرّ
الحزب :
الاسم
واللقب : الاسم ( إبليس ) وقد ذكر في القرآن الكريم
( 11 ) مرّة ، واشتهر باسم ( الشيطان ) ، وقد ذكر
في القرآن ( 88 ) مرّة بصيغة الجمع والمفرد ، واللقب
( الرجيم ) ، وقد ذكر في القرآن ( 6 ) مرّات ، وهو
من طائفة الجنّ ، ومقصوده إغواء الإنسان وهلاكه إلى يوم القيامة .
ومن
أخلاقياته أ نّه :
1 ـ متكبّر :
( قَالَ أأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ
طِيناً ) ( [46]) .
2 ـ يخلف الوعد :
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ
ا كْفُرْ فَلَمَّا كَـفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أخَافُ
اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) ( [47]) .
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ
إنَّ اللهَ وَعَدَ كُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أ نْفُسَكُمْ ) ( [48]) .
3 ـ يوسوس إلاّ أنّ كيده كان ضعيفاً :
( إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ
ضَعِيفاً ) ( [49]) .
ومع
الشياطين من صنفه :
أحدهم يوحي
إلى الآخر :
( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى
أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) ( [50]) .
رموز
توفيقاته الحزبية :
التسلّط
على الإنسان من خلال نقاط ضعفه :
1 ـ يضلّ الناس :
( قَالَ رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي
لاَُزَيِّـنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ ) ( [51]) .
2 ـ يزيّن لهم أعمالهم :
( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) ( [52]) .
3 ـ يتسلّط عليهم من طريق البطن :
( كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّباً
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) ( [53]) .
4 ـ يخوّفهم بالفقر :
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ
وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا
وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( [54]) .
5 ـ يخوّفهم بالحرب ونتائجها :
( إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( [55]) .
6 ـ الاستفادة من الوسائل الخطرة :
( يَا أ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا
الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( [56]) .
( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) ( [57]) .
7 ـ الوسوسة في الصدور :
( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ
لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) ( [58]) .
( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ
النَّاسِ ) ( [59]) .
8 ـ النجوى وإيذاء المؤمنين :
( إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ
لِـيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ( [60]) .
9 ـ الأولاد والأموال :
( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ
بِصَوْتِكَ وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي
الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ
غُرُوراً ) ( [61]) .
10 ـ رَصد طرق الهداية ليضلّ الناس :
( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
المُسْتَقِيمَ ) ( [62]) .
11 ـ الهجوم المضاعف :
( ثُمَّ
لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) ( [63]) .
12
ـ تخريب العلاقات :
( وَقُلْ
لِعِبَادِي يَـقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ
إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ) ( [64]) .
العلاقات الحزبية :
1
ـ مع الله سبحانه :
غير شاكر :
( وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) ( [65]) .
يعصي الله :
( إنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ) ( [66]) .
2
ـ مع عامة الناس :
لهم قرين :
( وَمَنْ
يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ) ( [67]) .
الكادر والقيادة المركزية :
1 ـ المبذّرون :
( إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ
الشَّيَاطِينِ ) ( [68]) .
2 ـ الكفّار :
( إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( [69]) .
3 ـ المرتدّون عن الحقّ :
( إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَـيَّنَ لَهُمْ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلَى
لَهُمْ ) ( [70]) .
4 ـ المنافقون :
( اسْتَحْوَذَ عَلَـيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ) ( [71]) .
5 ـ الناسون ذكر الله :
( فَأنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ
رَبِّهِ ) ( [72]) .
6 ـ المكذّبون :
( هَلْ اُ نَبِّـؤُكُمْ عَلَى مَنْ
تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم ) ( [73]) .
7 ـ لاعب القمار والسكّير :
( إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ
وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ) ( [74]) .
8 ـ المذنبون :
( كُلِّ أفَّاك أثِيم ) ( [75]) .
9 ـ الذين يحاربون الحقّ :
( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى
أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ ) ( [76]) .
وأمّا نظام
الحزب :
1 ـ مع الله : عدم الإطاعة وعدم الشكر :
( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً ) ( [77]) .
( إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ
عَصِيّاً ) ( [78]) .
2 ـ مع الأنبياء : المحاربة .
3 ـ مع الناس : الكذب والخدعة وزينة الدنيا ونسيان الله
والقيامة .
وأمّا
الأهداف الحزبية :
1 ـ الخذلان :
( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ
خَذُولا ) ( [79]) .
2 ـ الفقر :
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ) ( [80]) .
3 ـ الانحراف عن الحقّ :
( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا
بَعِيداً ) ( [81]) .
4 ـ ترويج وإشاعة الفحشاء والمنكر :
( وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ) ( [82]) .
5 ـ محاربة الحقّ :
( لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ ) ( [83]) .
وأمّا
الأوامر الحزبيّة والدساتير التي يمليها الشيطان على قاعدة حزبه ، ومن يدور
في فلك الحزب ، فمنها :
1 ـ الأمر بالمنكرات والمعاصي :
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ
وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ) ( [84]) .
2 ـ نسيان الله :
( فَأنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ
رَبِّهِ ) ( [85]) .
3 ـ الوساوس :
( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ
لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا ) ( [86]) .
4 ـ التفرقة والاختلاف :
( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ ) ( [87]) .
5 ـ تزيين القبائح :
( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ) ( [88]) .
6 ـ الأماني والوعود الباطلة :
( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ) ( [89]) .
7 ـ الإسراف والتبذير :
( إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ
الشَّيَاطِينِ ) ( [90]) .
وأمّا
انطباع الناس واتجاههم بالنسبة إلى الحزب الشيطاني ومقدار تفاعلهم :
فهم على طوائف ثلاثة :
1 ـ المخلصون : فإنّهم لا يدخلون في الحزب ، بل
يحاربونه ، ولا يقدر الشيطان على إغوائهم وجذبهم إلى حزبه :
( وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ ) ( [91]) .
2 ـ المسلمون : إنّ الشيطان يحاول أن يجرّهم إلى
الحزب ، فيوسوس لهم ، ويأتيهم بسياسة قدم بقدم وخطوة خطوة
ـ كما سنذكر تفصيل ذلك ـ فمنهم من يسمع نجواه ويدخل في
حزبه ، ومنهم من ينكر عليه ذلك ويدخل في زمرة المخلصين ، وهم حزب الله
سبحانه وهم قليلون :
( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي
الشَّكُورُ ) ( [92]) .
وإلاّ فإنّ
أكثر الناس من حزب الشيطان :
( وَأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ( [93]) .
فالشيطان
مع هؤلاء في جزر ومدّ :
( يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) ( [94]) .
3 ـ المنافقون والكفّار : فإنّ الشيطان استحوذ عليهم
وأدخلهم في حزبه فكانوا من أوليائه وأنصاره :
|
 |
 |