والله يلعن الشيطان ( لعنه الله ) فإنّ من فرط عداوته للإنسان قال  : (   لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلاُضِلَّنَّهُمْ   )( [195]) عن الحقّ (   وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ   ) الأماني الباطلة ، لطول البقاء في الحياة الدنيوية ، وأ نّه لا بعث ولا عقاب (   وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ   ) ويشقّونها لتحريم ما أحلّه الله وهذا إشارة إلى تحريم كلّ ما أحلّ الله ، ونقص كلّ ما خلق كاملا بالفعل أو بالقوّة (   وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ   ) عن وجهه وصورته ووصفه ، ويندرج فيه ما قيل  : من فقء عين الحامي وخصاء العبيد والوشر والوشم واللواط والسحق وغير ذلك ، وعبادة الشمس والقمر ، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى في ما لا يعود على النفس كمالا ، ولا يوجب لها من الله زلفاً وقرباً ، (   وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ   ) بتقديم قوله على قول الله فيتجاوز طاعة الله إلى طاعة الشيطان فإنّه (   فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً   ) ( [196]) فإنّه ضيّع رأس ماله وعمره الغالي بشيء بخس ورذيل ، وبدّل مكانه من الجنّة بمكان من النار ، وما ذلك من الشيطان في خطواته إلاّ (   يَعِدُهُمْ   ) ما لا ينجز لهم (   وَيُمَنِّيهِمْ   ) ما لا ينالون ويصلون إليه ، (   وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً   ) ( [197]) بإظهار النفع فيما فيه الضرر ، وإبراز الباطل بلباس الحقّ ، وتلوين الكفر بلون الدين ، وتزيين الجهل بتيجان العلم ، كلّ ذلك بالوساوس والخواطر ، ومن خلال لسان أوليائه المردة من شياطين الجنّ والإنس (   وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً   ) ( [198]) ومعدّلا ومهرباً ( [199])  .

             قال الطبرسي (رحمه الله)   : في تفسير الكلبي عن ابن عباس  : إنّ إبليس جعل جنده فريقين  : فبعث فريقاً منهم إلى الإنس ، وفريقاً إلى الجنّ ، فشياطين الإنس والجنّ أعداء الرسل والمؤمنين فتلقي شيطاين الإنس وشياطين الجنّ في كلّ حين فيقول بعضهم لبعض  : أضللت صاحبي بكذا فاُضلّ صاحبك بمثلها ، فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض .

             وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أ نّه قال  : إنّ الشياطين يلقي بعضهم بعضاً فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض فيوحي زخرف القول المموّه المزيّن الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل فيغرونهم بذلك غروراً ، وإنّ الشياطين علماء الكفر ورؤساءهم المتمرّدين في كفرهم ، يوحون ويشيرون إلى أوليائهم الذين اتّبعوهم في الكفر ، ليجادلوا المؤمنين في مثل استحلال الميتة ، فشياطين من الجنّ ليوحون إلى أوليائهم من الإنس ، والوحي هنا بمعنى إلقاء المعنى إلى النفس من وجه خفي ، فيلقون الوسوسة إلى قلوب أهل الشرك والنفاق والفسوق والفجور .

             وهذا كلّه من خطوات إبليس اللعين الذي توعّد بني آدم في إضلالهم (   لأقْعُدَنَّ لَهُمْ   ) وأرصد لهم لأقطع سبيلهم (   صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ   ) ( [200]) ودين الحقّ القويم (   ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ   ) ( [201]) ومن جميع الجهات الأربعة وبأي وجه ممكن ، ومن جهة دنياهم وآخرتهم ومن جهة حسناتهم وسيّئاتهم ، فيزيّن لهم الدنيا ويخوّفهم الفقر ويقول لهم  : لا جنّة ولا نار ولا بعث وحساب ويثبط عزيمتهم عن الحسنات ويشغلهم عنها ويحبّب لهم السيّئات والمعاصي ويحثّهم عليها ، ولم يأت من فوقهم لأ نّه جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له إلى ذلك ، ولم يأتهم من تحت أرجلهم لأنّ الإتيان منه موحش ، فيأتيهم من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم من حيث لا يبصرون ، فيهوّن على الناس أمر آخرتهم ويأمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم ويفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة وبتحبيب اللذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم ، فلا تجد أكثر الناس شاكرين مطيعين كما ظنّ إبليس بذلك (   وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ   ) ( [202])  .

             وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال  : إنّ الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له  : تدع دين آبائك  ؟ فعصاه فأسلم .

             ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال له  : تدع ديارك وتتغرّب  ؟ فعصاه فهاجر .

             ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له  : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك  ؟ فعصاه فقاتل .

             وهذا الخبر يدلّ على أنّ الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلاّ ويلقيها في القلب .

             فالحذار الحذار من وساوس الشياطين ومآربهم وخططهم ... فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم .

             ونقل عن شقيق أ نّه قال  : ما من صباح إلاّ ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع  : من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي .

             أمّا بين يدي فيقول  : لا تخف فإنّ الله غفور رحيم ، فاقرأ  : (   وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً   ) ( [203])  .

             وأمّا من خلفي فيخوّفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ  : (   وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأرْضِ إلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا   ) ( [204])  .

             وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ  : (   وَالعَاقِبَةُ لِلْمُـتَّقِينَ   ) ( [205])  .

             وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قِبَل الشهوات فأقرأ  : (   وَحِيلَ بَـيْنَهُمْ وَبَـيْنَ مَا يَشْتَهُونَ   ) ( [206])  .

             فالشيطان الملعون يبالغ في إلقاء الوسوسة ، ولا يقصّر في وجه من الوجوه الممكنة ، ويأتي الإنسان في خطوات ، من دون أن يشعر به( [207]) .

             ثمّ الملائكة ـ  كما ورد في الخبر الشريف  ـ رقّت قلوبها على البشر لمّـا قال الشيطان ذلك فقالوا  : يا إلهنا كيف يتخلّص الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأربع  ؟ فأوحى الله إليهم أ نّه بقي للإنسان جهتان  : الفوق والتحت ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع ، غفرت له ذنب سبعين سنة( [208]) .

             ثمّ في قول الشيطان (   ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ   ) ( [209])  ، أنّ التعدية بحرفي الجرّ ( من وعن ) في الأوّلين بمن وفي الآخرين بعن ، ربما كان باعتبار أنّ المراد من قوله  : (   مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ   ) الخيال والوهم والضرر الناشي منهما هو حصول العقائد الباطلة وهو الكفر ، ومن قوله  : (   وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ   ) الشهوة والغضب وذلك هو المعصية ، ولا شكّ أنّ الضرر الحاصل من الكفر لازم لأنّ عقابه دائم ، وأمّا الضرر الحاصل من المعصية فسهل ، لأنّ عقابه منقطع ، فلهذا خصّ هذين القسمين بكلمة ( عن ) تنبيهاً على أنّ هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأوّل .

            ثمّ قول الشيطان (   وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ   ) ( [210]) أ نّه جعل للنفس تسع  عشر قوّة ، وكلّها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية والطيّبات الشهوانية ، فعشرة منها الحواسّ الظاهرة والباطنة ، وإثنان  : الشهوة والغضب ، وسبعة هي  القوى الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والموّلدة ، فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغّبها  في طلب اللذات الدنيوية والبدنية ، وأمّا العقل فهو قوّة واحدة وهي  التي  تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى والتقرّب منه والفوز بالسعادة الروحانية .

             ومن المعلوم أنّ استيلاء تسع عشر قوّة أكمل من استيلاء القوّة الواحدة( [211]) .

             ولمثل هذا تجد أكثر الناس غير شاكرين ، مع أنّ الله هداهم النجدين  : نجد وطريق الخير ، ونجد وسبيل الشرّ ، وأيّد العقل بالشرع وبالأنبياء والكتب السماوية والعلماء الصلحاء والمؤمنين الأبرار ، ووعد على من يؤمن ويعمل صالحاً جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار ، والشيطان يعد الإنسان إلاّ أ نّه يخلف في وعده ، والله لا يخلف الميعاد .

             (   وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللهَ وَعَدَ  كُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي   ) ( [212])  .

             وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أ نّه إذا جمع الله الخلق وقضي الأمر بينهم يقول الكافر  : قد وجد المسلمون من شفع لهم ، فمن يشفع لنا  ؟ ما هو إلاّ إبليس هو الذي أضلّنا ، فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول (   إنَّ اللهَ وَعَدَ  كُمْ وَعْدَ الحَقِّ   ) وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفّى لكم (   وَوَعَدْتُكُمْ   ) خلاف ذلك (   فَأخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان   ) من قدرة ومكنة وتسلّط وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي واُلجئكم إليها (   إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ   ) بخطوات بوسوستي وتزييني (   فَاسْتَجَبْتُمْ لِي   ) مع أ نّكم لم تروني وحذّركم الله من عداوتي وإنّي لكم عدوّ مبين (   فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ   ) فإنّه لم يكن منّي إلاّ الوسوسة وكنتم سمعتم دلائل الله ، وشاهدتم بصائره ، ورأيتم أنبياءه ، وقرأتم كتبه ، فكان عليكم أن لا تغترّوا بقولي ولا تلتفتوا إليّ ، فلمّـا رجّحتم قولي على الدلائل الظاهرة والبراهين الواضحة ، كان اللوم عليكم لا على غيركم ، فما فعلتموه إنّما هو باختياركم فلوموا أنفسكم ، ولا قدرة لي عليكم في إزالة عقولكم وتعويج أعضائكم وتصريعكم و   (   مَا أ نَا بِمُصْرِخِكُمْ   ) ومغيثكم من العذاب (   وَمَا أ نْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ   ) (2) في دار الدنيا .

             والشيطان من اليوم الأوّل قسم بعزّة الله أن يغوي الجميع إلاّ القليل ، بل وحتّى القليل يطمع في غوايتهم ، فهذا بلعم بن باعوراء ، كان من العلماء ، وكان يعرف الاسم الأعظم فيدعو به فيستجاب له ، فمال إلى فرعون ، فلمّـا مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم  : ادعُ الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا ، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى ... وانسلخ الاسم من لسانه وهو قوله  :

             (   فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَـلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ   ) ( [213])  .

             وهو مثل ضربه ليكون عبرةً للناس ودرساً للمؤمنين .

             ويقول الإمام العسكري (عليه السلام)   : قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام)   : ومن شرّ خلق الله بعد إبليس وفرعون و ...  ؟ قال  : العلماء إذا فسدوا( [214]) .

             وفساد العلماء ليس كفساد عامة الناس ، فإنّ الشيطان لا يأتيهم من طريق الزنا وشرب الخمر ، إنّما يأتيهم من طريق الدين ، وباسم الدين يخرجهم من الدين ، يأتيهم من طريق العلم فيفسد عليهم علمهم حتّى يفسدوا ، وإذا فسد العالِم فسد العالَم .

             فغواية العلماء من طريق حبّ المقام والرئاسة والجاه والغرور والجدال والتطاول على الناس .

             قال الإمام الصادق (عليه السلام)   : إنّ من العلماء من يحبّ أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه ، فذاك في الدرك الأوّل من النار ، ومن العلماء من إذا وعظ أنف وإذا وعظ عَنُف ، فذاك في الدرك الثاني من النار ، ومن العلماء من يرى أن يضع العلم عند ذوي  الثروة والشرف ولا يرى له في المساكين وضعاً فذاك في الدرك الثالث من النار ، ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين ، فإن رُدّ عليه شيء من قوله أو قصّر في شيء من أمره غضب ، فذاك في الدرك الرابع من النار ، ومن العلماء من يطلب أحاديث اليهود والنصارى ليغزُرَ به علمُه ويكثُرَ به حديثه ، فذاك في الدرك الخامس من النار ، ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول  : ( سلوني ) ولعلّه لا يصيب حرفاً واحداً ، والله لا يحبّ المتكلّفين فذاك في الدرك السادس من النار ، ومن العلماء من يتّخذ علمَه مروّة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار( [215]) .

             هـذا وإليـك بيان خطوات الشيطان ، كما يستفاد ذلك من كرائم القرآن المجيد  :

             1 ـ الوسوسة  :

             يبدو لي أنّ الوسوسة الشيطانية تعدّ من الخطوات الاُولى للشيطان ، فإنّه في بداية الأمر يوسوس في صدره ، فإن استجاب له فيأتيه بخطوة اُخرى ، وإلاّ فإنّه يبقى في دائرة الوساوس يصارع الإنسان حتّى يتغلّب عليه ، أو إذا تذكّر المتّقي فيما إذا مسّه طائف من الشيطان وتبصّر فيرجع إلى نقاوته وتقواه ، فإنّ الشيطان يندحر عنه ، وينكص ويتراجع أمامه  :

             (   إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ   ) ( [216])  .

             فالخطوة الاُولى للشيطان هي الوسوسة  :

             (   الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ   ) ( [217])  .

             قال العلاّمة المجلسي  : فإن قال قائل  : بيّنوا لنا حقيقة الوسوسة  ؟

             قلنا  : الفعل إنّما يصدر عن الإنسان لحصول اُمور أربعة يترتّب بعضها على البعض ترتيباً لازماً طبيعياً .

             بيانه  : أنّ أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصليّة والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك والإقدام والإحجام ، فلمّـا لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنّه يمتنع صدور الفعل ، وذلك الميل هو الإرادة الجازمة والقصد الجازم .

             ثمّ إنّ تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلاّ عند حصول علم واعتقاد أو ظنّ بأنّ ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر ، فإن لم يحصل فيه هذا الاعتقاد لم يحصل ميل ، لا إلى الفعل ولا إلى الترك .

             فالحاصل  : أنّ الإنسان إذا أحسّ بشيء ترتّب عليه شعور بكونه ملائماً له أو بكونه منافراً له ، أو بكونه غير ملائم ولا منافر ، فإن حصل الشعور بكونه ملائماً له ترتّب عليه الميل الجازم إلى الفعل ، وإن حصل الشعور بكونه منافراً له ترتّب عليه الميل الجازم إلى الترك ، وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل ميل لا إلى الشيء ولا  إلى ضدّه ، بل بقي الإنسان كما كان ، وعند حصول ذلك الميل الجازم يصير القدرة مع ذلك الميل موجباً للفعل .

             إذا عرفت هذا فنقول  : صدور الفعل عن مجموعي القدرة والداعي الخالص أمر واجب ، فلا يكون للشيطان مدخل فيه ، وحصول تصوّر كونه خيراً أو تصوّر كونه شرّاً غير مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه ، فلم يبقَ للشيطان مدخل في هذه المقامات إلاّ في أن يذكره شيئاً بأن يلقي إليه حديثه ، مثل أن  كان الإنسان غافلا عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في صدره وفي خاطره ، والشيطان لا قدرة له إلاّ في هذا المقام ، وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أ نّه قال  :

             (   وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَان إلاَّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي   ) ( [218])  .

             يعني ما كان منّي إلاّ هجس ـ  وخطور بالبال  ـ هذه الدعوة ، فأمّا بقية المراتب ما صدرت منّي وما كان لي أثر قطعاً .

             ثمّ يتعرّض العلاّمة إلى بيان كيف يتعقّل تمكّن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه ، فراجع( [219]) .

             وخلاصة الكلام  : إنّ الشيطان لا يكون جسماً يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشرّ ، والنفس الإنسانية كذلك ، فلا يبعد على هذا التقدير أن يلقي شكّ من تلك الأرواح أنواعاً من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية . ويذكر في المقام احتمالات اُخرى .

             عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال  : لمّـا نزلت هذه الآية  : (   وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ   ) ( [220])  ، صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له  : ثور ، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا  : يا سيّدنا لِمَ  دعوتنا  ؟

             قال  : نزلت هذه الآية ، فمن لها  ؟

             فقام عفريت من الشياطين فقال  : أنا لها بكذا وكذا .

             قال  : لست لها .

             فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال  : لست لها .

             فقال الوسواس الخنّاس  : أنا لها .

             قال  : بماذا  ؟

             قال  : أعدهم واُمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار .

              فقال  : أنت لها . فوكّله بها إلى يوم القيامة .( [221])

             وجاء في تفسير (   مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَـنَّاسِ   ) ( [222])  ، اسم الشيطان في صدور الناس يوسوس فيها ويؤيّسهم من الخير ويعدهم الفقر ويحملهم على المعاصي والفواحش ، وهو قول الله  : (   الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ   ) ( [223])  .

             وعن أبي عبد الله (عليه السلام)   : إذا قرأت (   قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَـلَقِ   ) ( [224]) فقل في نفسك  : أعوذ بربّ الفلق ، وإذا قرأت (   قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ   ) ( [225]) فقل في نفسك  : أعوذ بربّ الناس( [226]) .

             وعن ابن عباس في قوله (   مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَـنَّاسِ   ) ( [227])   : يريد الشيطان على قلب ابن آدم له خرطوم مثل خرطوم الخنزير ، يوسوس ابن آدم إذا أقبل على الدنيا وما لا يحبّ الله ، فإذا ذكر الله عزّ وجلّ انخنس ، يريد رجع ، قال الله  : (   الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ   ) ( [228])  ، ثمّ أخبر أ نّه من الجنّ والإنس ، فقال عزّ وجلّ  : (   مِنْ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ   ) ( [229])  ، يريد من الجنّ والإنس ( [230])  .

             قال الإمام السجّاد (عليه السلام)   : فليس في غنى الدنيا راحة ، ولكنّ الشيطان يوسوس إلى ابن آدم أنّ له في جمع ذلك راحة ، وإنّما يسوقه إلى التعب في الدنيا والحساب عليه في الآخرة( [231]) .

             فجمع الأموال وتكديس الثروة وحرص الدنيا وحبّها ، والاهتمام بفتح المعامل والحوانيت والدكاكين والمخازن وما شابه ذلك ، إنّما هو من وساوس الشيطان ، فإنّه يتعبك في الدنيا بجمعها ، وفي الآخرة بجواب حسابها ، ففكّر قليلا ولا  تغفل ولا تغترّ فإنّك تقف على حقيقة ما أقول ، والله المستعان .

             يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)   : آثروا عاجلا وأخّروا آجلا وتركوا صافياً وشربوا آجاناً ، ازدحموا على الحطام وتشاحّوا على الحرام ، ودعاهم الشيطان فاستجابوا وأقبلوا( [232]) .

             2 ـ الهمزة  :

             فإنّ الشيطان بعد وسوسته يلمز ويهمز في دعوته الشيطانية ، وعلى المؤمن بالله المعتصم به والمتوكّل عليه أن يتعوّذ بالله سبحانه ، ويلجأ إليه من همزات الشياطين  :

             (   وَقُلْ رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ   ) ( [233])  .

            وهذا يعني أنّ الهمزة مقدّمة الحضور ، واُمّ مريم قبل ولادتها تدعو الله سبحانه قائلةً  :

             (   وَإنِّي اُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ   ) ( [234])  .

             وهذا يدلّ على أن ندعو لأبنائنا بل وذرّيتنا جيلا بعد جيل أن لا يتسلّط عليهم الشيطان ، فنوكل أمرهم وأمرنا إلى الله سبحانه ، ونتعوّذ من همزاته ونفخاته ونفثاته .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   : تعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فإنّ من تعوّذ بالله أعاذه الله ، وتعوّذوا من همزاته ونفخاته ونفثاته ، أتدرون ما هي  ؟ أمّا همزاته  : فما  يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت .

             قالوا  : يا رسول الله ، وكيف نبغضكم بعدما عرفنا محلّكم من الله ومنزلتكم  ؟

             قال  : أن تبغضوا أولياءنا وتحبّوا أعداءنا .

             قيل  : يا رسول الله ، وما نفخاتهم  ؟

             قال  : هي ما ينفخون به عند الغضب في الإنسان الذي يحملونه على هلاكه في دينه ودنياه ، وقد ينفخون في غير حال الغضب بما يهلكون به ، أتدرون ما أشدّ ما  ينفخون  ؟ وهو ما ينفخون بأن يوهموا أنّ أحداً من هذه الاُمّة فاضل علينا أو عدل لنا اهل البيت ، وأمّا نفثاته  : فإنّه يرى أحدكم أنّ شيئاً بعد القرآن أشفى له من ذكرنا أهل البيت ومن الصلاة علينا( [235]) .

             3 ـ النزغة  :

             فإنّ الشيطان بعد وسوسته وهمزه وحضوره يغمز الإنسان وينزغه ، ويقرصه في إضلاله ليحسّ به ، وعلى المؤمن أن يستعيذ بالله من نزغته  :

             (   وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ   ) ( [236])  .

             (   وَقُلْ لِعِبَادِي يَـقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً   ) ( [237])  .

             فالنزغ وسوسة من الشيطان في القلب ، وقيل  : الإزعاج بالإغواء ونخسة في القلب ، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب ، وأصله الإزعاج بالحركة ، وقيل  : الفساد ، ومنه  :

             (   نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَـيْنَ إخْوَتِي   ) ( [238])  .

             وأصله من نخس الرائض الدابة وحملها على الجري ، فتأتي النزغة بمعنى الطعنة والرمي .

             وقال الزجّاج  : النزغ أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة (   فَاسْتَعِذْ بِاللهِ   )  ، أي سل الله عزّ اسمه أن يعيذك منه (   إنَّهُ سَمِيعٌ   ) للمسموعات (   عَلِيمٌ   ) بالخفيّات ، سميع لدعائك عليم بما عرض لك ، وقيل  : النزغ أوّل  الوسوسة ، والمسّ لا يكون إلاّ بعد التمكّن ، ولذلك فصّل الله سبحانه بين النبيّ  وغيره ، فقال للنبيّ  : (   وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ   )  ، وقال للناس  : (   إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ   ) فوسوس إليهم الشيطان وأغراهم بمعاصيه (   تَذَكَّرُوا   ) ما عليهم من العقاب بذلك  فيجتنبونه ويتركونه (   فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ   ) للرشد والصواب والصراط المستقيم .

             وفي الدعاء والمناجاة  : ( إلهي أشكوا إليك عدوّاً يضلّني وشيطاناً يغويني قد ملأ بالوسواس صدري ، وأحاطت هواجسه بقلبي ، يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حبّ الدنيا ، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى ) .

             4 ـ الزلّة  :

             إنّ الشيطان بعد أن يوسوس في الصدور ويهمز في النفوس وينزغ في الأرواح فيرتكب الإنسان المعاصي ويكتسب الذنوب ، فيسترسله الشيطان ويستزلّه ، ويوقعه في الزلاّت واحدة بعد الاُخرى  :

             (   إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا   ) ( [239])  .

             فيكون التفاعل بين دعوة الشيطان واستجابة الإنسان ، ومن ثمّ يقع في  الزلاّت ثمّ الهلاك لولا التوبة والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه بنيّة صادقة خالصة .

             5 ـ الغواية  :

             بعدما يوسوس الشيطان ويهمز للإنسان وينزغه فيتبعه ليغويه عن الصراط المستقيم ، فإنّ الإنسان في بداية أمره ، لما يحمل من الفطرة السليمة والعقل السليم يكون في صراط الله المستقيم ، إلاّ أ نّه بوسوسة الشيطان ينحرف عن الصواب ، ويدخل في غواية الشيطان  :

             (   قَالَ فَبَِما أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أجْمَعِينَ   ) ( [240])  .

             وقال سبحانه  :

             (   وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون * فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ *إلاَّ إبْلِيسَ أبَى أنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا لَكَ أ لاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإنَّكَ رَجِيمٌ * وَإنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأ نْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُـبْعَثُونَ * قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّـنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ * وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أجْمَعِينَ   ) ( [241])  .

             6 ـ المقارنة  :

             إذا اتّبع الإنسان شيطانه ، فإنّ الشيطان يفتح ذراعيه ليضمّه إلى صدره ، فيصادقه في العداء والإغواء ويكون له خليلا وقريناً ، فمعه في رحله وترحاله ، في سكونه وحركاته ، ويزيّن له أعماله السيّئة كما قال سبحانه  :

             (   وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّـنُوا لَهُمْ   ) ( [242])  .

             (   وَإنَّهُمْ لَـيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ مُهْتَدُونَ   ) ( [243])  .

             (   حَتَّى إذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَـيْنِي وَبَـيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ   ) ( [244])  .

             (   وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً   ) ( [245])  .

             7 ـ الحزب  :

             فإنّ الشيطان بعد أن يكون قريناً للإنسان فإنّه يدخله في حزبه الخاسر  :

             (   ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ   ) ( [246])  .

             وإذا أردت أن تعرف صفات الذين ينتمون إلى حزب الشيطان الذي أساسه الشرك والكفر فاقرأ معي هذه الآيات الكريمة  :

             (   أ لَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَـعْلَمُونَ * أعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ا تَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُـنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً اُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَـبْعَـثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ عَلَى شَيْء ألا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِ بُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَـيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ   ) ( [247])  .

             وقد ذكرت تفصيل معالم الحزب الشيطاني كما مرّ ، فراجع .

             8 ـ الاُخوّة  :

             بعد أن كان الشيطان قرين الإنسان ورفيقه في مسيرة الحياة ودخوله في التحزّب الشيطاني ، فإنّه يؤاخيه في الضلال والكفر ، فيأمره بالظلم والإسراف والتبذير  :

             (   إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً   ) ( [248])  .

             ومن الواضح أنّ الاُخوّة تكون نتيجة كثرة المقارنة وقربها ، وهي تكون نتيجة الزلاّت الكثيرة والإغواء الشديد ومتابعة الوساوس والنزغات الشيطانية .

             9 ـ الاستحواذ  :

             بعد تلك المراحل والخطوات الشيطانية فإنّ الشيطان اللعين يستحوذ عليه ، أي يستلبه بسرعة ويتغلّب عليه ، وذلك عندما يرى نفسه ، وتحكمه أنانيته ، ويعجب بنفسه ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   :

             بينما موسى (عليه السلام) جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان ، فلمّـا دنا من موسى خلع البرنس وقام إلى موسى فسلّم عليه ، فقال له موسى  : من أنت  ؟ قال  : أنا إبليس ، قال  : أنت  ؟ فلا قرّب الله دارك ، قال  : إنّي إنّما جئت لاُسلّم عليك لمكانك من الله ، قال  : فقال له موسى  : فما هذا البرنس  ؟ قال  : به أختطف قلوب بني آدم ، فقال له موسى  : فأخبرني عن الذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه  ؟ قال  : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينيه ذنبه( [249]) .

             ولمثل هذه الذنوب استحوذ الشيطان على جيش معاوية ويزيد في حرب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولديه الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)  ، كما قال سيّد  الشهداء (عليه السلام) في وصف جيش عمر بن سعد  : لقد استحوذ عليهم الشيطان .

             10 ـ الولاية الشيطانية  :

             بعد أن يقارن الشيطان الإنسان ويكون له أخ وقرين ، فإنّه لا يرضى بذلك ، بل يكون عليه ولياً ، وكأنّ الإنسان يكون طفلا بيده فيتولّى أمره ، كما يتولّى الوالد أمر ولده ، فيخرج من ولاية الله ورسوله واُولى الأمر ليدخل في ولاية الشيطان ، وذلك حينما يصل إلى مرحلة الكفر وعدم الإيمان ، كما قال سبحانه  :

             (   إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ   ) ( [250])  .

             (   وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً   ) ( [251])  .

             (   وَلاُضِلَّنَّهُمْ وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً   ) ( [252])  .

             (   إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ   ) ( [253])  .

             (   فَقَاتِلُوا أوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ   ) ( [254])  .

             (   يَا أبَتِ إنِّي أخَافُ أنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً   ) ( [255])  .

             (   إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ   ) ( [256])  .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   : إذا استحقّت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر ، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر( [257]) .

             11 ـ الوحي الشيطاني والتنزّل  :

             بعد أن دخل الإنسان في ولاية الشيطان فإنّه يوحي إليه المنكرات والمعاصي وما فيه ضلاله وإضلال غيره ، والله يخبرنا على من يتنزّل الشيطان في قوله تعالى  :

             (   هَلْ اُ نَبِّـؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أ لَمْ تَرَ أ نَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ * وَأ نَّهُمْ يَـقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ   ) ( [258])  .

             (   أ لَمْ تَرَ أ نَّا أرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أزّاً   ) ( [259])  .

             (   وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ   ) ( [260])  .

             12 ـ الاستحمار  :

             لا تعجب من هذا العنوان ، فإنّ الشيطان في نهاية المطاف يستحمر من يدخل في ولايته ، وهذا ما قاله من بدو الخلقة بأن يجعل زمامه في حنك كثير من الناس فيمتطي ظهورهم ويسوقهم ويهديهم نحو جهنّم وعذاب السعير  :

             (   قَالَ أرَأيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أخَّرْتَنِي إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاََحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّـتَهُ إلاَّ قَلِيلا   ) ( [261])  .

             فإنّ الشيطان قال مقولته النكراء لله سبحانه ، وكان يتوقّع ذلك إلى يوم القيامة ، كما يتوقّع إضلال البشرية كلّها إلاّ قليلا  :

             (   وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إ بْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّـبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المُؤْمِنِينَ   ) ( [262])  .

             (   وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا   ) ( [263])  .

             فلا تجد أكثرهم من الشاكرين ، بل وقليل من عبادي الشكور ... كما يتجلّى هذا المعنى في قصّة كربلاء وواقعة الطفّ يوم عاشوراء ، فإنّ في معسكر يزيد شارب  الخمور ثلاثين ألفاً استحوذ عليهم الشيطان ، وفي معسكر الإمام الحسين سيّد  الشهداء (عليه السلام) اثنان وسبعون نفراً من الطيّبين الأبرار الأخيار عليهم رضوان الله أبد الآبدين ، وكلّ واحد في كلّ زمان ومكان لا بدّ أن يرى نفسه في أيّ  المعسكرين  : معسكر الحقّ الحسيني أو الباطل اليزيدي ، فإنّ كلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء ، وقفوهم إنّهم مسؤولون .

             وجاء في الخبر الشريف  :  ... ثمّ رفع رأسه ـ  الشيطان  ـ ثمّ قال  : وعزّتك وجلالك لألحقنّ الفريق بالجميع ، قال  : فقال النبيّ  : بسم الله الرحمن الرحيم  : إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان .

             (   إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّـلُونَ   ) ( [264])  .

             (   إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ   ) ( [265])  .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   : فإذا أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينه ، وألم  جراحاته فداوموا على طاعة الله وذكره والصلاة على محمّد وآله ، وإن زلتم عن ذلك كنتم اُسراء ، فيركب أقفيتكم بعض مردته( [266]) .

             وركوب القفى يعني الاستحمار ...

             أجل ، حبّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)  ، من أعظم العوامل لطرد الشيطان والخلاص من خطواته وأعوانه ، وإنّ الكبريت الأحمر والأكسير الأعظم هو حبّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأهل بيته وموالاتهم ، فما أكثر الروايات في هذا المقام .

             فقد جاء في المناقب في حديث طويل عن علي بن محمّد الصوفي ، أ نّه لقي إبليس وسأله فقال له  : من أنت  ؟

             قال  : أنا من ولد آدم .

             فقال  : لا إله إلاّ الله ، أنت من قوم يزعمون أ نّهم يحبّون الله ويعصونه ويبغضون إبليس ويطيعونه .

             فقال  : من أنت  ؟

             فقال  : أنا صاحب الميسم والاسم الكبير والطبل العظيم ، وأنا قاتل هابيل ، وأنا راكب مع نوح في الفلك ، أنا عاقر ناقة صالح ، أنا صاحب نار إبراهيم ، أنا مدبّر  قتل يحيى ، أنا ممكّن قوم فرعون من النيل ، أنا مخيّل السحر وقائده إلى موسى ، أنا صانع العجل لبني إسرائيل ، أنا صاحب منشار زكريا ، أنا السائر مع أبرهة إلى  الكعبة بالفيل ، أنا المجمّع لقتال محمّد يوم اُحد وحنين ، أنا ملقي الحسد يوم السقيفة في قلوب المنافقين ، أنا صاحب الهودج يوم الخريبة ( يوم البصرة ) والبعير ، أنا  الواقف في عسكر صفّين ، أنا الشامت يوم كربلاء بالمؤمنين ، أنا إمام المنافقين ، أنا  مهلك الأوّلين ، أنا مضلّ الآخرين ، أنا شيخ الناكثين ، أنا ركن القاسطين ، أنا ظلّ  المارقين ، أنا أبو مرّة ، مخلوق من نار لا من طين ، أنا الذي غضب الله عليه ربّ  العالمين .

             فقال الصوفي  : بحقّ الله عليك إلاّ دللتني على عمل أتقرّب به إلى الله وأستعين به على نوائب دهري  ؟

             فقال  : اقنع من دنياك بالعفاف والكفاف ، واستعن على الآخرة بحبّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وبغض أعدائه ، فإنّي عبدت الله في سبع سماواته وعصيته في سبع أرضيه ، فلا وجدت ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلا إلاّ وهو يتقرّب بحبّه .

             قال  : ثمّ غاب عن بصري ، فأتيت أبا جعفر فأخبرته بخبره فقال  : آمن الملعون بلسانه وكفر بقلبه( [267]) .

             أجل ، الغاوون اُولئك الذين اتّبعوا الشيطان وقد وصفهم أمير المؤمنين علي   (عليه السلام) في ذمّهم  :

             « اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً ، واتّخذهم له أشراكاً ، فباض وفرّخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في جحورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه »( [268]) .

             13 ـ الإضلال  :

             بعد أن يركب الشيطان ظهر الإنسان ويمتطيه ويكون زمامه بيده ، فإنّه يسوقه إلى ما فيه الضلال والهلاك  :

             (   وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيداً   ) ( [269])  .

             فهذا من كيد الشيطان وإن كان ضعيفاً  :

             (   إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً   ) ( [270])  .

             (   وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا   ) ( [271])  .

             والعجب ولا العجب فإنّ الشيطان عدوّ الإنسان ، فلا يرضى بالضلال القليل والقريب ، بل ضلالا بعيداً ينتهي إلى الكفر والهلاك واستحقاق النار والعقاب ـ  اللهمّ أعذنا من شرور أنفسنا ومن شرّ الشيطان الرجيم ومن حزبه وأعوانه من الجنّ والإنس  ـ .

             14 ـ الكفر  :

             الشيطان عندما يستحمر أتباعه ليسوقهم إلى وادي الكفر والضلال  :

             (   إذْ قَالَ لِلإنسَانِ ا  كْفُرْ فَلَمَّا كَـفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ   ) ( [272])  .

             وعن أبي عبد الله (عليه السلام)   : ما من أحد يحضره الموت إلاّ وكّل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ويشكّكه في دينه حتّى تخرج نفسه ، فمن كان مؤمناً لم يقدر عليه .

             وما أكثر الشواهد على ذلك ، فما يضمره الإنسان من حبّ الدنيا والملاذ يظهره عند الاحتضار وعند الموت ، حتّى يصعب على المرء قول الشهادتين ، وربما  يموت كافراً ـ  والعياذ بالله  ـ .

             (   فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أ نَّهُمْ مُهْتَدُونَ   ) ( [273])  .

             (   اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ   ) ( [274])  .

             قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)   : ألا وإنّ شرائع الدين واحدة ، وسبله قاصدة ، من أخذ بها اُلحق وغنم ، ومن وقف عنها ضلّ وندم( [275]) .

             وعنه (عليه السلام)   : انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم ... لا تسبقوهم فتضلّوا ولا  تتأخّروا عنهم فتهلكوا . ضلّ من اهتدى بغير هدى الله . ولمّـا مرّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقتلى الخوارج يوم النهروان قال  : بؤساً لكم ، لقد ضرّكم من غرّكم ، فقيل  له  : من غرّهم يا أمير المؤمنين  ؟ فقال  : الشيطان المضلّ والأنفس الأمّارة بالسوء .

             وفي كتاب إلى معاوية بن أبي سفيان قال (عليه السلام)   : فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الأباطيل فراراً من الحقّ وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ، ممّـا قد وعاه سمعك ، وملئ به صدرك ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين( [276]) .

             15 ـ عبادة الشيطان  :

             يقولون  : ليت الشيطان كان يكتفي بكفر الإنسان ، إلاّ أ نّه لم يرضَ له ، إلاّ أن يعبده ، وهذا نهاية خطواته الشرّيرة ، والله سبحانه قد عهد على الإنسان من اليوم الأوّل في قوله تعالى  :

             (   أ لَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَـنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ   ) ( [277])  .

             فسبحانه كما يريد من الإنسان الرفض والإثبات بأن يرفض كلّ آلهة ومحبوب ومعبود ، ويؤمن بالله الذي لا شريك له ، كما في كلمة التوحيد (   لا إلَهَ إلاّ اللهَ   ) كذلك الشيطان فإنّه لا يرضى بكفر الإنسان بالله ، بل يريد أن يؤمن به ويعبدونه دون غيره ، والعجب أنّ الشيطان كان كيده ضعيفاً ، ولكن ما زال يتغلّب على الإنسان في خطواته ، حتّى يصل الأمر إلى أن يترك عبادة الله الجميل الرحمن إلى عبادة القبيح الشيطان ، والله بلطفه العميم يحذّر الإنسان من مغبّة الشيطان وعبادته .

             يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ذمّ أتباع الشيطان  :

             اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً ، واتّخذهم له أشراكاً ، فباض وفرّخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في جحورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ، ونطق بالباطل على لسانه .

             وهذا كلّه من آثار عبادة الشيطان ، كما من آثار عبادة الله ـ  كما ورد في الخبر الشريف  ـ أنّ العبد يتقرّب إلى الله بالنوافل ، حتّى يحبّه الله سبحانه ، فإذا أحبّه كان سمعه الذي يسمع به ولسانه الذي ينطق به وعينه الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، أي تكون يده يد الله سبحانه ، ويد الله فوق أيديهم .

             ومن كتاب لأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) إلى معاوية قال  : فإنّك مترفٌ قد أخذ الشيطان منك مأخذه ، وبلغ فيك أمله ، وجرى منك مجرى الروح والدم( [278]) .

             وعنه (عليه السلام)   : إنّ رجلا كان يتعبّد في الصومعة ، وإنّ امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء ، فأتوه بها ، فزيّنت له نفسه فوقع عليها ، فجاءه الشيطان فقال  : اقتلها ، فإنّهم إن ظهروا عليك افتضحت ، فقتلها ودفعها ، فجاؤوه فأحذروه فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال  : إنّي أنا الذي زيّنت لك فاسجد لي سجدة اُنجيك ، فسجد له ، فذلك قوله  : (   كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ ا  كْفُرْ   ) ( [279])    ( [280])  .

             وهناك صراع منذ البداية بين الرحمن والشيطان ، ويجري هذا الصراع في الزمان والمكان وفي وجود الإنسان ، كأن تكون الاُذن لله ، حتّى يسمع الإنسان بها الموعظة والنصيحة فيتأثّر بها ، وتكون العيون للشيطان حتّى يرى بها الملاذ والشهوات فيغويه ويرديه ... وهكذا في المكان كأن تكون أمريكا للشيطان وإيران للرحمن ، وإذا بإيران الإسلام تثور لتكون ثورتها انفجار نور ، ومن غلبة الرحمن على الشيطان الأكبر  : (   لاََغْلِبَنَّ أ نَا وَرُسُلِي   ) ( [281])  . فتدبّر وقس عليه الموارد الاُخرى . واستعن بالله الكريم .


الفصل الرابع

أساليب الشيطان

             لا شكّ أ نّه في مقام الحرب والمخاصمة يستعمل كلّ واحد اُسلوبه الخاصّ للغلبة والانتصار ، والشيطان في عداوته يتّخذ أساليب خاصّة ليتسلّط على الإنسان ، ومن أهمّها  :

             1 ـ التسويل  :

             فإنّ الإنسان المؤمن والمهتدي والذي عرف الحقّ واهتدى له ، ربما يصاب بالانحراف عن ذلك ، وكم يذكر لنا التأريخ أنّ اُناساً كانوا في بداية أمرهم من أهل الورع والتقوى ومن أتباع الحقّ ، ولكن في عاقبة الأمر غلبت عليهم شقوتهم ، فكانوا من الفاسقين والملحدين .

             فكم من شاب كان يصلّي ويصوم ولكن في وسط الطريق انقلب على عقبه ، فصار شيوعياً أو بعثيّاً وما شابه ذلك ، فترك دينه وابتلي بالفساد والظلم والجور وشرب الخمور وغير ذلك من المنكرات والمفاسد ، ليس ذلك إلاّ من تسويل الشيطان اللعين ، كما قال سبحانه وتعالى  :

             (   إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَـيَّنَ لَهُمْ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلَى لَهُمْ   ) ( [282])  .

             ومن تسويلات الشيطان تصوير الباطل وتزيينه ، وتمويه الحقّ وتشويهه ، فيحسب أ نّه يحسن صنعاً ، وإلى هذا المعنى يشير الإمام السجّاد (عليه السلام) في دعائه قائلا  : « فلولا أنّ الشيطان يخدعهم عن طاعتك ما عصاك عاص ، ولولا أ نّه صوّر لهم الباطل في مثال الحقّ ما ضلّ عن طريقتك ضالّ »( [283]) .

             ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام)   : « إنّ الشيطان يسني لكم طرقه ، ويريد أن يحلّ دينكم عقدة عقدة ويعطيكم بالجماعة الفرقة »( [284]) .

             2 ـ الإفك والإثم  :

             الذنوب والمعاصي ومنها الكذب والإفك والآثام ، إنّما هي من سنخ الشيطان ، لأ نّه مظهرها ، والفلاسفة تقول  : ( السنخيّة علّة الانضمام ) ، والجنس مع الجنس يميل ، فمن يرتكب الذنوب فإنّه يميل إلى شيطانه ، والشيطان يستغلّه في مآربه وشيطنته ، فيكون الفاسق والفاجر من أعوان الشيطان لإضلال الناس ، فكلّ من فسق عن أمر ربّه ، فقد شارك الشيطان في ذلك ، فيدخل في حزبه ، فهو القمّة والقيادة والأوّل لمثل تلك القاعدة والحزب ، فيملي الشيطان على أعوانه ، وينزل عليهم بسرق أخبار السماء ليضلّوا العباد ويخرّبوا البلاد ، ويفسدوا فيها ، فتكون حكومة البلاد بيد الأفّاكين الآثمين المفسدين الشياطين ، فعلى نحو الموجبة الكلية إنّما ينزل الشيطان ويوحي إليه هو كلّ أفّاك أثيم ، كما قال سبحانه  :

             (   هَلْ اُ نَبِّـؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أفَّاك أثِيم   ) ( [285])  .

             3 ـ الغفلة عن ذكر الله  :

             فمن أساليب الشيطان نسيان ذكر الله والغفلة عنه ، فإنّ المتذكّر والمعتصم بالله لا يقدر الشيطان أن يستحوذه ويتسلّط عليه ، فإنّه لا سلطان له على عباد الله المخلصين ، ومن نسي الله ولم يذكره في مقام فعل الحرام ، فإنّه يرتكب المعاصي والآثام بسهولة ، وهذا من أهداف الشيطان ، فإنّه أقسم بعزّة الله أن يغوي الناس ويضلّهم ويدخلهم جهنّم وذلك هو الخسران المبين ، ليس ذلك إلاّ كما قال سبحانه  :

             (   اسْتَحْوَذَ عَلَـيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ   ) ( [286])  .

             فالمجتمع الذي لم يذكر الله سبحانه ، فإنّه مجتمع شيطاني وإنّه من حزب الشيطان .

             بينما موسى نبيّ الله جالساً إذ أقبل إبليس ، قال موسى  : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه  ؟ قال  : إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه( [287]) .

             وهذا يدلّ على أنّ هذه الاُمور إنّما هي مقدّمة نسيان ذكر الله بعد استيلاء الشيطان .

             وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)   : مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشيطان( [288]) .

             من شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظلمات وارتبك في الهلكات ومدّت به شياطينه في طغيانه وزيّنت له سيّئ أعماله .

             4 ـ المجادلة بغير علم  :

             الجدال في نفسه غير ممدوح ، وإنّما يمدح ويجوز لو كان يترتّب عليه ما يحسّنه كإثبات حقّ ، والجدال بالتي هي أحسن  :

             (   وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ   ) ( [289])  .

             وهذا الجدال الحسن إنّما يتمّ ويضفى عليه لباس الحسن لو كان عن علم ومن أجل العلم وإحقاق الحقّ ، فإنّه من الله وإلى الله وفي سبيل الله ، ولكن من يجادل بغير  علم وبصيرة ، إنّما اتباعاً للهوى والرذيلة كالتعصّب لشخص أو قبيلة ، فإنّه بجداله اتبع الشيطان وتولاّه وربما هو لا يدري ، فلا بدّ له أن يترك المراء والجدال حتّى ولو كان محقّاً ، فإنّه سبحانه يقول  :

             (   وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَان مَرِيد * كُتِبَ عَلَيْهِ أ نَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأ نَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلَى عَذَابِ السَّعِيرِ   ) ( [290])  .

             فالجدال بغير العلم من فتن الشيطان في إضلال الإنسان وغوايته ، لينتهي إلى عذاب السعير .

             وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)   : سيكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، إلاّ من أحياه الله بالعلم .

             (   وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ   ) ( [291])  .

             5 ـ دخول الفتن  :

             قال أمير المؤمنين (عليه السلام)   : « كن في الفتنة كابن اللبون ، لا ظهر فيركب ، ولا  ضرع فيحلب » . وهذا يعني أنّ الإنسان يبتلى في حياته بالفتن والاُمور الملتبسة  وغير واضحة السبيل ، وليس عليها برهان ودليل ، بل تكون كالليل المظلم والسواد المدلهم ، وهذا من أساليب الشيطان وفتنه ، والله سبحانه يحذّر الناس بقوله تعالى  :

             (   يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ   ) ( [292])  .

             فإنّ الشيطان كثير الفتن والمخاطر والمهالك ، فاحذروا كلّ الحذر فلا يفتننكم ـ  بنون الثقيلة الدالّة على التأكيد  ـ فيضلّكم عن الصراط المستقيم .

             يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام)   : « الفتن ثلاث  : حبّ النساء وهو سيف الشيطان ، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان ، وحبّ الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان » .

             الدنيا وإن كانت دار امتحان واختبار ، وكلّ واحد يفتن فيها ، فحنّه لم يخلق عبثاً وسدىً من دون حساب وكتاب ، إلاّ أ نّه تارةً يبتلى الإنسان ببلاء حسن ، ومن لطف الله سبحانه فإنّ البلاء للولاء ، وكلّما كثر الإنسان قربه من الله كثر بلائه ومحنته في هذه الحياة ، فإنّ الجنّة حفّت بالمكاره ، والنار حفّت بالشهوات ، وربما يبتلى ببلاء سيّئ بما كسبت يديه ، والشيطان ربما يفتن الإنسان ويغرّه عن الصواب ، وهذه هي الفتنة المذمومة في الآيات والروايات وإنّ المؤمن يكون فيها كابن اللبون لا ضرع فيحلب ولا ظهر فيركب ، والله سبحانه يحذّر خلقه من فتنة الشيطان  :

             (   إنَّ الشَّيْطَانَ للإنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ   ) ( [293])  .

             (   لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ   ) ( [294])  .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   : إنّ لكلّ اُمّة فتنة ، وفتنة اُمّتي المال .

             قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)   : إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان  : رجلٌ وكّله الله إليه نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به .

             وقال (عليه السلام)   : أ يّها الناس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)   : ستكون فتن يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمسي كافراً إلاّ من أحياه الله تعالى بالعلم .

             وقال (صلى الله عليه وآله)   : كفى بالمرء في دينه فتنةً أن يكثر خطؤه ، وينقص عمله ، وتقلّ حقيقته ، جيفة بالليل بطّال بالنهار كسول هلوع رتوع .