|
 |
 |
منهل الفوائد
في تتمّة الرافد
السيد
عادل العلوي
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله
الذي خلق الإنسان ، علّمه البيان ، علّمه بالقلم ، علّمه ما لم
يعلم .
والصلاة
على أشرف خلق الله الصادر الأوّل والفاتح لما خلق والخاتم لما سبق محمّد المصطفى
المختار وآله الشرفاء الأبرار أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ، واللعن
الدائم على أعدائهم الفجّار ومنكري فضائلهم الكفّار من بدء الخلق إلى دار
القرار .
أمّا
بعد .
فهذه فوائد
جمعتها وحرّرتها في أيام شبابي في ساعات الفراغ ، وكثير من المؤلّفين
والمصنّفين من عنده هذا النمط من التأليف ، وهو كشكول يحتوي على مطالب
متنوّعة للتسلّي ورفع الأتعاب العلمية والعملية .
وقد كتب
والدي العلاّمة (قدس سره) من قبل كتابه ( الرافد ) وهو كشكول
بديع ، ومن الأمثال ما يقال : ( الولد على سرّ أبيه ،
ومن شابه أباه فما ظلم ) ، فإحياءً لمقام الوالد العزيز أنزل الله على
رمسه شآبيب رحمته وأسكنه فسيح جنّاته ، سمّيت المجموعة ( منهل الفوائد
في تتمّة الرافد ) .
المقدّمة
الحمد لله
الذي خلق الإنسان ، علّمه البيان ، والصلاة والسلام على نبيّنا الخاتم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين .
وبعدُ .
فهذه فوائد
لا يجمعها موضوعٌ واحد ، حرّرتها أيام الشباب ويفاعة العمر ، شأني في
ذلك شأن كثير من المؤلفين في هذا الباب ، والذين أتحفوا المكتبة العربية
والإسلامية بكشاكيلهم الممتعة ، والتي تمتاز عن غيرها من الكتب بطابع التنوّع
في المواضيع المتناولة ، باُسلوب سلس سهل يبعد عن التخصّصية الجافّة ،
إذ أ نّها لا تنسجم مع غرض مثل هذه الكتب التي إنّما تعدُّ
لتنزيه الخاطر المتعوب المثقل بالأعمال والهموم والمشاكل .
أضف إلى ما
تقدّم أنّ الكتب التي تحمل طابع التعدّد والتنوّع ، يكون طلابها أكثر شريحةً
وأشدّ إقبالا ، وأمّا الكتب التي تتناول موضوعاً واحداً ، فإنّ طلابها
من هواة هذا الموضوع ليس إلاّ ، وأمّا غيرهم فلا يلقون إليها بالا ; فهي
غير داخلة في حيّز اهتماماتهم ، والإنسان ينشدّ ويسعد ويأنس بما يكون ضمن
دائرة اهتمامه ، ولو أنّ هذا قد فعل وتناول كتاباً ليس مستساغاً لديه ،
فستكون عملية التناول قسريّة غير مجدية في أغلب الأحيان ، فسرعان ما ينفضه من
بين يديه ، ليقبل على ما تميل إليه نفسه ، ويرضاه طبعه ، الذي هو
وليد عوامل شتّى ، منها التربوي والنفسي الذي يلعب دوراً مهمّاً في تكيّف
الإنسان مع وسطه الذي يوجد فيه .
وقد كان
لوالدي العلاّمة السيّد علي العلوي (قدس سره) شوطاً في هذا المضمار
حيث كتب من قبلُ كتابه ( الرافد ) والذي حوى ما لذَّ وطاب من فنون وعلوم
وأخبار سهلة التناول ، قريبة المأخذ ، كبيرة الفائدة ، تنشّط
الخاطر الكسلان ، وتنزّه الفكر المكدّر ، وإنّي اُسمّي كتابي هذا
( منهل الفوائد في تتمّة الرافد ) إحياءً لذكراه وبرّاً به ، وكما
قيل : الابن سرّ الوالد المستودع ، ومن شابه أباه فما ظلم ،
والحمد لله ربّ العالمين .
فائدة 1
من مقدّمات الكتب
جاء في
مقدّمة كتاب الكشكول لشيخنا البهائي (قدس سره) :
الحمد لله
الواحد المعين ، وصلّى الله على سيّدنا وآله أجمعين . وبعد فإنّي لمّـا
فرغت من تأليف كتابي المسمّى بالمخلاة الذي حوى من كلّ شيء أحسنه وأحلاه ،
وهو كتاب كتب في عنفوان الشباب ، قد لفّقته ونسّقته وأنفقت فيه ما
رزقته ، وضمّنته ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين : من جواهر التفسير
وزواهر التأويل وعيون الأخبار ومحاسن الآثار ، وبدائع حكم يستضاء
بنورها ، وجوامع كلم يهتدى ببدورها ، ونفحات قدسية تعطّر مشام
الأرواح ، وواردات إنسية تحيي رميم الأشباح ، وأبيات رائقة تشرب من
الكؤوس لسلاستها ، وحكايات شائقة تمزج بالنفوس لنفساتها ، ونفائس عراس
تشاكل الدرّ المنثور ، وعقائل مسائل تستحقّ أن تكتب بالنور على وجنات
الحور ...
ثمّ عثرت
بعد ذلك على نوادر تتحرّك لها الطباع وتهشّ لها الأسماع ، وطرائف تسرّ
المحزون وتزري بالدرّ المخزون ، ولطائف أصفى من رائق الشراب ، وأبهى من
أيام الشباب ، وأشعار أعذب من الماء الزلال ولطائف من السحر الحلال ،
ومواعظ لو قرئت على الحجارة لانفجرت ، أو الكواكب لانتثرت ، وفِقَر أحسن
من ورود الخدود ، وأرقّ من شكوى العاشق حال الصدود ...
ولمّـا لم
يتّسع المجال لترتيبه ، ولا وجدت من الأيام فرصة لتبويبه جعلته كسفط مختلط
رخيصه بغاليه ، أو عقد انفصم سلكه فتناثرت لآليه ، وسمّيته بالكشكول
ليطابق اسمه اسم أخيه ...
فسرح نظرك
في رياضه ، واسقِ قريحتك من حياضه ، وارتع بطبعك في حدائقه ،
واقتبس أنوار الحكم من مشارقه ، وعض عليه أنياب حرصك عضّاً ، ولا تفضه
على من كان غليظ القلب فضّاً ، واتّخذه وأخاه جليسين لوحدتك ، وأنيسين
لوحشتك ، وموجبين لسلوتك ، وصاحبين في خلوتك ، ورفيقين في
سفرك ، ونديمين في حضرتك ...
جاء في
الكشكول للشيخ يوسف البحراني (رحمه الله) :
بعد الحمد
والصلاة ، غير خفي على ذوي الأفهام الوقّادة ، والأذهان النقّادة ،
والعقول السليمة ، والطباع القويمة ، أنّ الإنسان في هذه الدار ،
لمّـا كان غرضاً للهموم والأكدار ، وهدفاً للغموم والآصار ، سيّما عند
امتطاء مطايا الأسفار ، وارتكاب مشقّة الغربة في الأمثار ، وعند عروضها
يتوزّع منه البال ، ويعتريه الضجر والملال ، وتعتوره أيدي السآمة
والاختلال ، فلربما منعه ذلك من مطالعة العلوم الدينية ، والاقتطاف من
لذيذ ثمارها الجنيّة ، بل التقلّب في جملة اُموره الضرورية ، فيضطرّ إلى
ترطيب الدماغ بلطائف المدعبات ، وترويح الروح بطرائف المطايبات ، من إيراد
النكت الفائقة ، والنوادر الرائقة ، إراحة لتلك الأفكار المعتلّة ،
وتنشيطاً لتلك القلوب المختلّة ، لما روي عن الإمام الصادق (عليه
السلام)
الصادع بالحكمة والناطق الذي بنور علمه انكشف دياجير الظلمة :
( إنّ الأرواح تكلّ كما تكلّ الأبدان ، فابتغوا لها طرائف
الحكمة ) ، وعن جدّه سيّد الساجدين ومصباح المتهجّدين : سلام
من الرحمن نحو جنابهم ، فإنّ سلامي لا يليق ببالهم ( إنّ للقلوب إقبالا
وإدباراً ، فإذا أقبلت فاقبلوا على النوافل ، وإذا أدبرت
فدعوها ) ، وما روي عن ابن عباس أ نّه كان إذا فرغ من التدريس
ورواية الأحاديث يقول لتلاميذه : حمضونا حمضونا ، فيخوضون عند ذلك
في الأشعار والطرائف والأخبار .
وهذا الأمر
وإن كان قد يحصل بالاجتماع بإخوان الصفا من اُولي الألباب ، وخلاّن الوفا من
الأحباب ، إلاّ أ نّهم في مثل هذا الزمان الخوان لا يدخلون في حيّز
الوجود ، بل ولا في حيّز الإمكان ، فرأيت أن أصنع كتاباً متضمّناً
لطرائف الحكم والأشعار ، مشتملا على نوادر القصص والآثار ، قد حاز جملة
من الأحاديث المعصومية ، والمسائل العلمية ، والنكات الغريبة ،
والطرائف العجيبة ، يروح الخاطر عند الملال ، ويشحذ الذهن عند
الكلال ، جليس أنيس يأمن الناس شرّه ، يذكر أنواع المكارم والنهى ويأمر
بالإحسان والبرّ والتقى ، وينهى عن الطغيان والشرّ والأذى .
وقد وسمته
بعد الإتمام بتوفيق الملك العلاّم وبركة أهل الذكر عليهم ألف صلاة وسلام
بـ ( أنيس المسافر وجليس الخاطر ) ، حيث إنّ المسافر مع
الوحدة يحتاج إلى الأنيس ، والخاطر مع فقد المسافر يضطرّ إلى الجليس .
ولعمري لا
جليس ولا أنيس أحسن من الكتاب ، لا أمين ولا معين أعود نفعاً منه في هذا
الباب ...
جاء في
كتاب ( البدائع ) للشيخ محمّد تقي التستري :
الحمد لله
على أفضاله ، والصلاة على محمّد وآله .
وبعد :
فهذه جوامع بدائع متضمّنة لحكايات عجيبة ، وقصص غريبة ، ونكت
أدبيّة ، ولمع عربيّة .
وجاء في
( بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين ، للسيّد عبد الحسين شرف
الدين )([1]) ،
في حديث عن العباس صاحب كتاب ( نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس )
ورحلاته وأ نّه أتى عدن وغيرها من مدن اليمن حتّى انتهى إلى بندر
المخا ، وفيه الوزير الكبير الفقيه أحمد بن يحيى الخزندار وولده عبد الله
فقال : وألّف العباس في المخا كتاب رحلته المشتمل على تفاصيل سياحته
وأسماه ( نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس ) ، ألّفه باسم ذلك
الوزير شكراً لأياديه عنده وأداءً لحقوق أنعامه عليه ، وكان الفراغ منه رابع
شوّال سنة 1148 وطبع في مصر سنة 1193 في مجلّدين أوّلهما في 299 صفحة والثاني في
412 صفحة ، وقد قرّظه مؤلفه بقوله :
جميع
الكتب يدرك من قراها *** ملال أو فتور أو سآمة
سوى
هذا الكتاب فإنّ فيه *** بدائع لا تملٌّ إلى القيامة
على أنّ في
كتابه من السجع ما تمجّه الأسماع ، ولا سيّما في عصرنا الحاضر ، وفيه من
عدم التنسيق ما يذهب برونقه .
وقد وزّع
فيه الرحلة توزيعاً ضيّعها في منعرجات الكتاب ومطاويه ، فلا يبلغها
الطالب إلاّ بشقّ الأنفس ، وكان الواجب أن تكون سهلة التناول ، إذ هي
الغاية المقصودة من ذلك التأليف .
ومع هذا
كلّه ، فإنّ الكتاب كشكول فوائد وفرائد ، ونوادر وحكم وأمثال وعبر وخطب
وأدب ووقائع وسِير ، وألغاز منظومة ومنثورة ، ومسائل مستطرفة من فنون
شتّى ، وعلوم مختلفة .
وقد تناول
بعض الآيات الكريمة من الذكر الحكيم والفرقان العظيم ، فبحث عن
مكنونها ، وتعرّض لبعض السنن المشكلة ، فأجاد في رفع إشكالها .
وترجم أئمة
العترة الطاهرة ، فأورد من خصائصهم وفضائلهم ما تحتمله التقيّة .
وترجم
كثيراً من أهل الفضل والأدب ، فأورد من أخبارهم وأشعارهم ما يطرد
فيه رونق البديع .
ووصف
الأمصار التي جاس خلالها ، وله كتاب آخر أسماه ( أزهار الناظرين في
أخبار الأوّلين والآخرين ) ، واختصر في كتاب سمّـاه ( أرج الأزهار
في انتقاء الأخبار ) سلك في ( نزهة الجليس )
و ( أزهار الناظرين ) مسلكي المسعودي من أصحابنا في
كتابيه : ( مروج الذهب )
و ( الوصيّة ) .
فكان
المسلك في ( النزهة ) كالمسلك في ( المروج ) ، والمسلك
في ( أزهار الناظرين ) كالمسلك في ( كتاب الوصيّة ) ،
يعرف هذا من أنعم النظر في الاُمور التي تحال في ( النزهة ) على
( أزهار الناظرين ) ، انتهى كلامه رفع الله مقامه .
« ولا نقصد ما في هذا الكتاب ، الوقوف على الماضي للبكاء
عليه والنحيب والعويل ، لأنّ ذلك من أفعال الكسالى والبطّالين .
ولا نتجاهل الماضي مع ما فيه من خير واسع
وتجارب نافعة ، إذ ذاك شأن الحاقدين أو الجاهلين ، بل من الجميل والوعي
الكامل أن نستلهم ونستوحي من ماضينا في بناء نهضتنا العريقة ، متّصلة أمجادها
بأمجاد الماضي ، لتتّصل أمجاد المستقبل
بأمجاد
الحاضر ، فيستمرّ الموكب نحو التقدّم والازدهار ويكتمل البناء مشيّداً
بالحضارة .
أقول : كلّ من يقرأ كتاباً من صنف
الكشكول وما شابه ، فإنّه يرى في مقدّمته مكتوب مثل ما نقلناه عن بعض
المقدّمات : بأنّ هذا الكتاب وهذا الكشكول يحتوي على كيت وكيت ،
وأ نّه أدبي عرفاني فلسفي قرآني روائي تأريخي ، فيه ما فيه من حلّ
مشكلات العلوم والنكات والفكاهيات والمتعة وكذا وكذا وما شابه ذلك ، ولا سيّما
في كتب القدماء حيث يذكرون ذلك بسجع ونثر خاصّ ، وبطبيعة الحال من يريد أن
ينهج منهجهم ويسلك مسلكهم ، لا بدّ وأن يسطّر الكلمات الجذّابة ،
والألفاظ الخلاّبة والاُسلوب الأدبي الرفيع ، ليجذب روح القارئ ،
ويستهوي ذهن المطالع ، ويصيد فراغه ليقضي تفثه ، ولو لدقائق متمتّعاً
بما في الكتاب .
ولكن ليس مقصودي هذا المعنى وإن كان المشرب
واحداً ، وإنّما أردت بكتابي هذا أن اُتحف القرّاء الكرام بفوائد ، قد
كتبتها في قصاصات الوريقات من أوّل حياتي الدراسية ، عسى أن يكون من العلم
النافع في الحياة وبعد الممات ، وسمّيته ( منهل الفوائد في تتمّة
الرافد ) إحياء لكتاب ( الرافد ) المطبوع للعلاّمة المغفور له
والدي (قدس
سره)
وأسكنه فسيح جنانه ، وأنزل على رمسه شآبيب رضوانه .
ثمّ أخيراً وقفت على كتابين قيّمين لاُستاذ في
علم الفلك والنجوم آية الله الشيخ حسن حسن زاده الآملي دام ظلّه الوارف ،
وهما ( هزار و يك نكته ) و ( هزار و يك
كلمه ) ، والأوّل بمعنى ألف نكتة ونكتة ، والثاني ألف كلمة
وكلمة ، وهما كشكولان نافعان ، فاخترت لكتابي هذا اسماً آخر ،
فسمّيته ( ألف فائدة وفائدة ) ، ومن الله التوفيق والسداد .
فائدة 2
الفرق بين الرافد
والمنهل لغةً
جاء في
معجم مقاييس اللغة([2])
لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى ( 395
هـ ) : ( رفد ) الراء والفاء والدال أصل واحد
مطرد منقاس ، وهو المعاونة والمظاهرة بالعطاء وغيره ، فالرفد مصدره رَفَدَه
يرفده ، إذا أعطاه ، والاسم الرفد . وجاء في الحديث :
( ويكون الفيء رفداً ) أي يكون صلات لا يوضع مواضعه .
ويقال : ارتفدت من فلان : أصبتُ من كسبه . وأرفدت
المال : اكتسبته . والرافد : المعين ، والمرفدُ
أيضاً . ورَفَدَ بنو فلان فلاناً ، إذا سوّدوه عليهم وعظّموه ، وهو
مرفّد . والرفدان : دجلة والفرات . قال الفرزدق :
بعثت
على العراق ورافديه *** فزاريّاً أحَذَّ يد القميصِ
وترافدوا ،
إذا تعاونوا عليه ، والرفادة : شيء كانت قريش ترافدُ به في
الجاهلية ، يخرج كلّ إنسان شيئاً ، ثمّ يشترون به للحاجّ طعاماً وزبيباً
وشراباً ، والرَّوافِد : خشب السقف ، وهو من الباب ،
لأ نّه يرفد بها السقف . قال :
روافده
أكرم الرافدات *** بخ لك بخ لبحر خضمّ
وجاء في
أساس البلاغة([3])
لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفّى ( 538
هـ ) : رفاد ـ رفده وأرفده : أعانه بعطاء أو قول
أو غير ذلك . وفلان نعم الرافد ، إذا حلّ به الوافد . ورافده
وترافدوا . وهو كثير الإرفاد والرافد . وعظيم الرفد والمرفد ،
قال :
رفدت
ذوي الأحساب منهم مرافدي *** وذا الذّحل حتّى عاد حُرَّاً سنيدُها
... ومن المجاز : هذا النهر له رافدان :
نهران يمدّانه . وقيل لدجلة والفرات : الرافدان لذلك ...
وجاء في
كتاب المصباح المنير([4])
لأحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي المتوفّى ( 770
هـ ) :
رفده :
( رفداً ) من باب ضرب أعطاه أو أعانه ،
و ( الرفد ) بالكسر اسم منه ،
و ( أرفده ) بالألف مثله ،
و ( ترافدوا ) تعاونوا ،
و ( استرفدته ) طلبت ( رِفدَه ) .
وجاء في
كتاب ( التحقيق في كلمات القرآن الكريم )([5]) للشيخ حسن
المصطفوي من المعاصرين ، نقلا عن مفردات الراغب :
الرفد :
المعونة والعطية ، والرفد : مصدر ، والمرفد ما يجعل فيه
الرفد من الطعام ولهذا فسّر بالقدح ، وقد رفدته : أنلته
بالرفد ، وأرفدته : جعلت له رفداً يتناوله شيئاً فشيئاً فرفده
وأرفده نحو سقاه وأسقاه ، ورفد فلان فهو مرفد ، استعير لمن اُعطي
الرئاسة ، والرفدد : الناقة التي تملأ المرفد لبناً من كثرة
لبنها ، وقيل المرافد من النوق والشاة : ما لا ينقطع لبنه صيفاً
وشتاءً .
والتحقيق :
أنّ الأصل الواحد في هذه المادّة : هو العطيّة بعنوان الإعانة ،
وهذا هو الفرق بينها وبين الإعطاء والإعانة .
ففي كلّ من
موارد استعمال المادّة : يلزم أن يلاحظ هذا الأصل ، ثمّ إنّ عنوان
الإعانة لازم أن يتحقّق في الواقع ، وإن لم يقصد أو لم يلاحظ حين
الإعطاء ، كالرفود يعطي اللبن ويكون عوناً .
فهذه إشارة
إلى كلمة الرافد ومعناها اللغوي ، والظاهر أنّ مقصود الوالد من كتابه
الرافد هو العطاء المستمرّ والنهر الممتدّ ـ كامتداد الرافدين في أرض
عراقنا الحبيب ـ الحاوي للمطالب المتنوّعة النافعة
من الحكم والمواعظ والقصص والأدب والنوادر وغير ذلك ، لخصب النفوس ،
وإحياء القلوب ، وإزاحة الهموم من الصدور .
وأمّا معنى
المنهل لغةً :
جاء في
لسان العرب([6])
لأبي الفضل محمّد بن مكرم بن منظور المصري ما ملخّصه :
نهل :
النهل : أوّل الشرب ، تقول أنهلت الإبل وهو أوّل سقيها ...
والنهل : الريّ والعطش ، ضدّ .
والمنهل :
المشرب ثمّ كثر ذلك حتّى سمّيت منازل السفّار على المياه مناهل . وقال
ثعلب : المنهل الموضع الذي فيه الشرب . والمنهل :
الشرب ... قال خالد بن جنبة الغنوي وغيره : المنهل كلّ ما يطؤه
الطريق مثل الرحيل والخفير والمنهل من المياه : كلّ ما يطؤه الطريق .
الجوهري : المنهل المورد وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي ،
وتسمّى المنازل التي في المفاوز على طريق السفار مناهل لأنّ فيها ماء ...
الناهل العطشان والناهل الريّان وهو من الأضداد ، وقال النابغة :
الطاعن
الطعنة يوم الوغى *** ينهل منها الأسلُ الناهل
جعل الرماح
كأ نّها تعطش إلى الدم فإذا شرعت فيه رويت ... وفي حديث
لقيط : ألا فيطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله ،
يقول : من رَوِي منه لم يعطش بعد ذلك أبداً .
وجاء في
مصباح المنير([7]) :
نهل : البعير ( نهلا ) من باب تعب شرب الشرب الأوّل حتّى روى
فهو ( ناهل ) ... و ( المنهل ) بفتح الميم
والهاء المورد وهو عين ماء ترده الإبل .
وفي مجمع
البحرين([8])
للشيخ فخر الدين الطريحي المتوفّى ( 1085 هـ ) :
( نهل ) في حديث الحوض ( لا يظمأ والله
ناهله ) الناهل الريّان والعطشان من نهل البعير بالكسر شرب الشرب الأوّل حتّى
يروى . ويريد من روى منه : لم يعطش بعده أبداً .
والمنهل : المورد وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي وتسمّى المنازل
التي في المفاوز على طريق السفار : مناهل لأنّ فيها ماء . وما كان
على غير الطريق لا يسمّى منهلا والمنهل المشهود يراد به الكوثر ، والنهل
بالتحريك : الشرب الأوّل ، لأنّ الإبل تسقى في أوّل الورد ،
فتردّ إلى العطن ، ثمّ تسقى الثانية ، وهي العلل فترد إلى المرعى .
فمقصودي من
منهل الفوائد أن يرتوي القارئ من عين الفوائد ، ومن رافد الوالد فوجودي من
وجوده ، فكان لي المعلّم الأوّل ، والمربّي الناصح ، والوالد
الحنون ، والمنهل الفيّاض ، والرافد الممتدّ ، والمعين
الشفيق .
ربّي اغفر
لوالديّ وارحمهما كما ربّياني صغيراً ، وجازهما بالإحسان إحساناً وبالسيّئات
غفراناً وارزقني برّهما في حياتهما وبعد مماتهما ، واسعدهما في الدارين
وجازهما خير الجزاء ، وأحسن العطاء ، وأتمّ الثناء ، آمين يا ربّ
العالمين .
فائدة 3
كلمة التوحيد
أ يّها
المسلم المؤمن : هل فكّرت يوماً حينما تردّد كلمة التوحيد ، ويلهج
به لسانك ، وتسمعها بين حين وحين وعند كلّ صلاة ، وتأخذ بمسامع
قلبك ؟
يا تُرى هل
تدبّرت في قولك ( لا إله إلاّ الله ) ، فما المراد وما
الغاية ؟ وما هو المقصود وما الهدف من هذه الكلمة الجامعة
المانعة ، التي تجمع التوحيد الخالص ، وتمنع الأغيار وما سوى الله
سبحانه ؟
ما أروع
هذه الكلمة النورانية التي تحيطها هالة من التقديس ، والتي تدير دفّة الحياة
إلى سواحل السلامة وشواطئ السعادة ، ورحاب الهناء والعيش الرغيد ، وتسوق
الإنسان إلى كماله المنشود ، وتحلّق به في آفاق الكمال المطلق ومطلق
الكمال ، ذلك الوجود الحت الذي واجب لذاته ولا يحدّ بحدّ ، فهو الأوّل
وهو الآخر ، وهو الظاهر وهو الباطن ، هو الأبدي الأزلي السرمدي ،
ليس كمثله شيء .
لو علم
المرء ما في كلمة التوحيد من أسرار ورموز ، ومقامات شامخة ودرجات
رفيعة ، وعظمة وشموخ ، لاندهش والهاً ، وانبهت متحيّراً ، ولو
علم أنّ نداءه بكلمة التوحيد ، يعلن عن رسوخ عزمه ، وعلوّ همّته ،
وعمق تصميمه ، لما كان يقضي عمره بالتسويف والآمال ، ولما تحسّر على
تقلّب الأحوال ، ولما تأسّف على الدنيا الدنيّة ، التي ارتضعت من ثدي
الجاهلية ، وربت في مهدها العنكبوتي الوهن .
وكيف يمكن
للبشرية أن تدرك عظمة هذه الكلمة المقدّسة التي تنير الدرب وتضيء المسير ،
وتقود الإنسان إلى النجاة ، وخير الحياة وحسن الممات .
لو علمت
أنّ المنادي الهاتف بقوله : ( أشهد أن لا إله إلاّ الله )
يقصد أن لا أعرف أيّ حاكم وسلطان ومعبود ومعشوق إلاّ الله
سبحانه ، ولا أخضع ولا أستسلم لأيّ حكومة جائرة ودولة
ظالمة ، وقانون غير حكم الله ، ولا اُقرّ بحكم أيّ محكمة من محاكمكم
الدنيوية ، وقدراتكم البشرية ، ولا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ،
ولا اُقرّ لكم إقرار العبيد ، ولا أعترف بقوانينكم الوضعيّة ، وحكومتكم
الفاسقة ، ولا اُطيع أمراً إلاّ أمر الله ، ولا أنقاد إلاّ إليه ،
فلا تقاليد الجاهلية الاُولى ، ولا العلمانية الجاهلية الثانية ، ولا
اُبالي بمميّزاتكم الشخصية وحدودكم الجغرافية ، وجوازاتكم المزيّفة ،
ولا أركع أمام أيّ سيّد باسم المولوية ، ولا أيّ أب بعنوان القسّيسية ،
إلاّ اُولئك الذين أمرني الله بطاعتهم ، ومتابعتهم ، فلا أتذلّل لأيّ
سلطة استكباريّة ، أو حكومة استعمارية ، أو قوانين استثمارية ، فلا
ظلم ولا جور ولا فسوق .
إنّما أؤمن
بربٍّ جليل ، وأخضع للقوّة الربوبية والحكومة الإلهية ، وأكفر بالجبت
والطاغوت والجبابرة والأصنام الخشبيّة واللحمية والحزبية الصنميّة ،
والدكتاتورية وغيرها .
فما هو
تصوّرك أيّها المسلم بعد هذا النداء الملكوتي ، فهل يحقّ لك أن تقعد ملوماً
محسوراً ، والاستعمار ينهب ثرواتك ويمتصّ دمك ، جاعلك اُلعوبة
بيده ، وآلةً لاستثماره ، وماكيتاً لسياسته ؟ فهل لك أن تغفل
وتجهل ، وأعراض المسلمين تهتك ؟ ! وأموالهم
تسرق ؟ ! ويصرخون : يا لَلمسلمين ، يا
لَلمسلمين ...
فهل يحقّ
للمسلم بعد أن يقف على مغزى كلمة التوحيد وجوهرها ، وتدخل في أعماق
وجوده ، ويتغذّى من أنوارها حتّى تسري في دمه وعروقه ، ويشتدّ عظمه
ولحمه بالتوحيد ، فهل يحقّ له بعد هذا أن يساق كالأنعام ، لا يعرف زمانه
وأبناء زمانه ، ولا يفهم من حياته شيئاً ، إلاّ سدّ الرمق والجوع ،
ويتمطّاه الأجانب الكفّار ، بيدهم زمام أمره ؟
فهل للمسلم
بعد كلمة التوحيد حقّاً أن يجعل ثروة بلاده وخيراتها من المعادن والسواعد العاملة
باختيار الأجنبي الكافر ؟
إلى متى
هذا السبات العميق ؟ وإلى متى نغطّ بالنوم ونحلم بالسعادة ؟
هلاّ حان
الموعد ودقّت ساعة الصفر لنجاة مجتمعك من براثن الاستعمار ومخالب الجهل والفقر
والمرض ، وسلاسل عبودية الإنسان للإنسان والأغلال والأواصر البشريّة
الممقوتة .
فانهض وقم
واجعل شعارك القرآن ، فما يغيّر الله بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ،
وإن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ، وابشر بقول الجبّار
العظيم :
( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأ نْتُمُ
الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )([9]) .
ولا تخف من
طنطنة العدوّ وزوزته واستعدّ :
( وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ
وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا
مِنْ شَيْء فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأ نْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ )([10]) .
ولا تخف من
اتّهامك بالإرهابي ، بل أنت من المجاهدين .
وقد فضّل
الله المجاهدين على القاعدين درجات ، ولنا في أسلافنا الثائرين اُسوة
حسنة ، فإنّهم آمنوا حقّاً وجاهدوا صدقاً ، وتحمّلوا البلايا والرزايا
في سبيل كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ، وإعلاء كلمة الإسلام والقرآن
العظيم .
وإنّ
التأريخ ليشهد وإنّه لحافل ببطولاتهم وتضحياتهم ، وقد سطّر على صفحاته
المشرقة أروع آيات الفداء والبطولة ، حتّى نالوا شرف :
( أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ )([11]) .
وأصبحوا
جواهر تسطع نوراً وبهاءً وجمالا في جبين الإنسانية ، وأقماراً مضيئة تشع
بهجةً وحبوراً في سماء البشريّة .
تخلّقوا
بأخلاق الله ، ونالوا شرف لقاء الله ، وسقاهم ربّهم شراباً
طهوراً .
فكانوا في
دنياهم كالجبل الراسخ عشقاً بالله سبحانه وإيماناً بدينه الحنيف ، واختمرت
مفاهيم الإسلام في أرواحهم ، وارتوت عقولهم من المعارف الإسلامية ،
وتجلّت كلمة التوحيد في سلوكهم وسيرتهم وسريرتهم ، وامتزج الإيمان وعشق الله
المقدّس بدمائهم الزكية وأرواحهم الطاهرة ، فبذلوا النفس والنفيس ،
وتقبّلوا المشاقّ والمشانق برحابة الصدر ، واستأنسوا بالسجون والزنزانات ،
والجروح والتعذيب والنفي وقطع الرقاب وسفك الدماء البريئة الطاهرة .
فرحوا بما
آتاهم الله من رحمته القريبة من المحسنين ، فطوبى لهم وتلك الجنّات التي تجري
من تحتها الأنهار ، ورضوان الله أكبر .
كلّ هذا من
أسرار كلمة التوحيد ، فما أعظمها من كلمة ، لو نزلت على جبل لرأيته
خاشعاً متصدّعاً من خشية الله .
فهلمّ إلى
رحاب كلمة التوحيد وساحة الإسلام العظيم ، من أجل إحياء العقائد السليمة
والسنن الصالحة والأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية ، ومن أجل تركيز المفاهيم
الصحيحة ، نحو الهدف المقدّس ، من أجل إقامة الصلاة والشرائع السماوية
السمحاء وإيجاد الشخصيات المؤمنة ونجاة المجتمعات البشرية من حضيض الجهل
والشقاء ، وتحطيم الأغلال وسلاسل الطغاة وإصلاح العالم الإنساني وإسعاد
الإنسانية ، وتعزيز القوى والإرادة والمحبّة والعبودية لله الواحد القهّار
عالم الغيب والأسرار ، وتبارك الله عمّـا يصفون .
قد أفلح
المؤمنون .
قولوا :
لا إله إلاّ الله ، تفلحوا .
قد أفلح من
زكّاها ، وقد خاب من دسّاها .
فائدة 4
كلمة في الإخلاص
قال الله
تعالى في كتابه الكريم :
( إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّـيِّبُ )([12]) .
ورد في
الحديث الشريف : أي الخالص .
( قُلْ إنِّي اُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَاُمِرْتُ لاِنْ أكُونَ أوَّلَ
المُسْلِمِينَ )([13]) .
وفي الكافي([14]) ،
وبحار الأنوار([15]) ،
باب الإخلاص عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)أنّ أمير المؤمنين (عليه
السلام)
كان يقول : طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ، ولم يشغل قلبه
بما ترى عيناه ، ولم ينس ذكر الله بما تسمع اُذناه ، ولم يحزن صدره بما
أعطى غيره .
أساس العمل
وروحه هو الإخلاص ، ومن أخلص لله في قوله وعمله فإنّه يسعد في حياته وبعد
مماته ، والمخلص مرتاح قانع بما عنده ، غير هلوع ولا طمّـاع ولا يحسد
غيره ، فإنّه قلبه مشغول بذكر الله سبحانه . فلا يصاب بالحزن
الشيطاني ، والاتصاف بهذه الصفات القلبيّة إنّما يتيسّر لمن قطع عن نفسه
علائق الدنيا ، فإنّ في الخبر الشريف إشارة بأنّ الإخلاص في العبادة والدعاء
الذي هو مخّ العبادة ، وأتمّ مصاديقها ، لا يحصل إلاّ لمن قطع عروق حبّ
الدنيا من قلبه ووجوده ، فيزهد في دنياه ويرغب في آخرته .
وفي البحار([16]) ،
عن البرقي بسنده قال : سأل النبيّ (صلى الله عليه وآله)
جبرئيل : عن تفسير الزهد ؟ قال : الزاهد يحبّ من
يحبّ خالقه ، ويبغض من يبغض خالقه ، ويتحرّج من حلال الدنيا ، ولا
يلتفت إلى حرامها ، فإنّ حلالها حساب وحرامها عقاب ، ويرحم المسلمين كما
يرحم نفسه ، ويتحرّج من الكلام كما يتحرّج من الميتة التي قد اشتدّ
نتنها ، ويتحرّج عن حطام الدنيا وزينتها كما يتجنّب النار أن يغشاها ،
وأن يقصر أمله ، وكان بين عينيه أجله .
ولازم هذا
الزهد الخوف والرجاء ، وقال أبو عبد الله (عليه السلام) :
يا إسحاق ! خف الله كأ نّك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنّه
يراك ، وإن كنت ترى أ نّه لا يراك فقد كفرت ، وإن كنت تعلم
أ نّه يراك ، ثمّ برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك([17]) .
وقال (عليه
السلام) :
من عرف الله خاف الله ، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا .
وعنه (عليه
السلام)
في قوله الله عزّ وجلّ : ( وَلِمَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّـتَانِ )([18]) ،
قال : من علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ويفعله ويعلم ما يعمله من
خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام
ربّه ، ونهى النفس عن الهوى([19]) .
وقال (عليه
السلام) :
لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً
راجياً ، حتّى يكون عاملا لما يخاف ويرجو .
فالمخلص
العامل والعامل المخلص هو الذي يخاف من ذنوبه ويرجو رحمة ربّه ، فهو بين نوري
الخوف والرجاء ككفّتي الميزان ، لو وزن هذا على هذا لم يزدد . كما
أ نّه يزهد في الدنيا ويتجافى عن دار الغرور ، فينشرح صدره
للإسلام ، كما قال سبحانه :
( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ للإسْلامِ )([20]) .
ولمّـا
نزلت هذه الآية الشريفة سأل الأصحاب النبيّ عن معنى شرح الصدر وعلامة ذلك فقال (صلى الله
عليه وآله) :
نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح صدره وينفسح ، فقيل : هل
لذلك أمارة يعرف بها ؟ فقال : نعم ، التجافي عن دار
الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله .
وقد ورد في
الخبر الشريف أ نّه يستحبّ أن يقرأ في سجدة الصلاة : اللهمّ إنّي
أسألك التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد
للموت قبل حلول الفوت ، كما كان يفعل الإمام الكاظم (عليه السلام) .
الله الله في الإخلاص فإنّه أشرف نهاية ،
وهو الغاية ، وعبادة المقرّبين ، وملاك العبادة وأعلى الإيمان وشيمة
أفاضل الناس ، وفي إخلاص الأعمال تتنافس اُولى النهى والألباب ، وفي
الإخلاص يكون الخلاص . وأ نّه سرّ من أسرار الله سبحانه ، يستودعه
قلب من يحبّ من عباده ، وكلّما أخلصت عملا بلغت من الآخرة أملا ،
وبالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين ، فاعمل لوجه واحد يكفيك الوجوه
كلّها ، ولا بدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون ، لأ نّه
إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلا ، والغافلون قد وصفهم الله تعالى
فقال :
( اُوْلَئِكَ
كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ ) .
وقال :
( اُوْلَئِكَ
هُمُ الغَافِلُونَ )([21]) .
وما أنعم الله عزّ وجلّ على عبد أجلّ من أن لا
يكون في قلبه مع الله غيره ، فطوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه وحبّه
وبغضه ، وأخذه وتركه وكلامه وصمته وفعله وقوله ، والإبقاء على العمل
حتّى يخلص أشدّ من العمل ، فأخلص قلبك يكفيك القليل من العمل ، إنّما
يتقبّل الله من المخلصين ، فأخلصوا أعمالكم لله فإنّه لا يقبل
إلاّ ما خَلَصَ له .
فالعمل كلّه هباء إلاّ ما اُخلص فيه ،
وضاع من كان له مقصد غير الله ، ألا لله الدين الخالص .
فأين الذين أخلصوا أعمالهم لله ، وطهّروا
قلوبهم لمواضع نظر الله ؟ !([22]) .
فائدة 5
الحياة الطيّبة في
القرآن الكريم
اعلم أنّ
القرآن الكريم كتاب الله سبحانه ، وإنّه عظيم ومهيمن على كلّ الكتب السماوية
والأرضيّة ، ومن عظمته أ نّه كتاب جامع يجمع بين دفتيه المباركة جميع
اُصول العلوم العقليّة والنقليّة ، وإنّ لسان القرآن لسان الفطرة ، وإن
كانت لغته عربياً مبيّناً .
يذكر
السيوطي([23])
في جامعية القرآن : أ نّه يحتوي على الطبّ وعلم المناظرة والهندسة
والجبر والمقابلة والنجوم وغيرها .
ويرى
العلاّمة الطباطبائي([24])
أ نّه جاء ذكر من العلوم غير علم الدين فإنّه باعتبار ما فيها من
الهداية ، فإنّ القرآن الكريم كتاب هداية ( يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أقْوَمُ )([25]) .
فإذا قيل
كلّ شيء في القرآن الكريم يقصد منه جانب الهداية فيه ، فالقرآن تبيان لكلّ
شيء ، بيان وتبيان لآياته ، ولكلّ شيء غيره ، فلم يكن في القرآن
تقصيراً :
( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ
شَيْء )([26]) .
( وَلا رَطْب وَلا يَابِس إلاَّ فِي كِتَاب
مُبِين )([27]) .
وفي اُصول
الكافي([28]) ،
بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) :
( إنّ الله عزّ وجلّ أنزل في القرآن تبياناً لكلّ شيء حتّى والله ما ترك
شيئاً يحتاج إليه العبد حتّى والله ما يستطيع عبد أن يقول لو كان في القرآن هذا
دليلا وقد أنزله الله فيه ) .
فكلّ ما
يخطر في البال نرى خطوطه الأوّلية ومطالبه الكلّية واُصوله وأساسه في القرآن
الكريم .
قال الإمام
الباقر (عليه
السلام) :
( إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّة إلى يوم القيامة
إلاّ أنزل في كتابه ) .
وهذا يدلّ
على خلود القرآن الكريم ، وأ نّه غضّ جديد لا يُبلى ، فإنّه يتماشى
مع كلّ عصر وفي كلّ مصر ، جاء ليقوم الناس بالقسط ، وليصنع من الإنسان
إنساناً كاملا في عقيدته وسلوكه وأخلاقه ، ليكون خليفة الله في أرضه ،
تتجلّى فيه أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، وليسعد في الدارين ،
فالقرآن كتاب هداية وسعادة ، ولا بدّ من إثارة علومه ومعارفه بين حين
وحين .
عن رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) ، قال : ( من أراد علم الأوّلين
والآخرين فليثور القرآن )([29]) .
فلا بدّ من
التعمّق والتأمّل والتمعّن في القرآن الكريم ، والغور في بحار أنواره
لاستخراج كنوزه وخزائنه .
هذا
والقرآن التدويني العلمي هو كتاب الله الكريم ، وإنّ للقرآن من يترجمه ويبيّن
آياته وهو القرآن العيني العملي التطبيقي ، أعني الرسول الأكرم والعترة
الطاهرة (عليهم
السلام) .
ولا يمكن أن يستغنى بأحدهما عن الآخر ، بل لا بدّ من التمسّك بهما
معاً ، كما ورد في حديث الثقلين ، المتّفق عليه عند الفريقين .
ثمّ من
آيات القرآن الكريم الدالّة على سعادة الإنسان وحياته الطيّبة قوله
تعالى :
( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَر أوْ اُنثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَـنُحْيِيَـنَّهُ حَيَاةً طَيِّـبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )([30]) .
فقوله
تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَر
أوْ اُنثَى ) يدلّ على أنّ من يعمل الأعمال
الصالحة ، ولا فرق في ذلك بين الألسن والقبائل والطوائف والمذاهب والطبقات
الاجتماعية من رئيس أو مرؤوس ومن ملك أو رعيّة ، ومن صغير أو كبير ، ومن
أبيض أو أسود ، فإنّه من يعمل صالحاً بشرط أن يكون مؤمن بالمبدأ والمعاد وما
بينهما من العقائد الحقّة ، فإنّه يجزى على عمله في الدنيا ، بأن تكون
له حياة طيّبة ، وعيشاً رغيداً ، وفي الآخرة بأن يكون له أجراً
عظيماً ، جنّات عرضها السماوات والأرض ، بأحسن ما كانوا يعملون .
فميزان
الحياة الطيّبة إنّما هو بكفّتين : الإيمان والعمل الصالح .
والإيمان
يعني ربط العمل الصالح بالله سبحانه فيكون مخلّداً ، وهذا يعني أنّ العمل
الصالح لولا الإيمان لكان قابلا للزوال والمحو ، فإنّ كلّ شيء مادّي يزول لا محالة
بزوال الدنيا ، فمن عمل صالحاً من دون إيمان كالمخترعين الكفّار ،
فإنّهم خدموا البشريّة إلاّ أنّ أجرهم إنّما يكون في الدنيا بإحياء ذكرهم ،
ما دام الاختراع مستمرّاً ، لأ نّهم فعلوا للدنيا فنصيبهم يكون من
الدنيا أيضاً ، تطبيقاً للعدل الإلهي .
فالعمل
الصالح الذي يخلد بخلود النفس الناطقة لو كان متجذّراً في الإيمان ، ويستسقي
ماءه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، فيتجلّى فيه نور التوحيد ، وإلاّ
فإنّه في الغالب يكون مشوباً بالشرك والرياء وحبّ السمعة والإطراء والمدح والمنّة
والأذى .
وقانون
القرآن يحكم بأنّ الزبد يذهب جفاءً ، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في
الأرض ، فما كان لغير الله ، فإنّه سرعان ما يكشف أمره ويفتضح
سرّه ، فيمحى رسمه ويبلى أثره ، وأمّا الذي كان لله فإنّه ينمو ويزداد
ويبارك بخير وأجر مستمرّ ومستقرّ إلى يوم القيامة ، فمن يعمل للناس يشكره
الناس ، وشكر الناس يزول ، ومن يعمل لله يشكر الله وشكر الله باق ببقاء
الله السرمدي سبحانه وتعالى .
وأمّا
الحياة الطيّبة في مفهوم القرآن الكريم ، فهي تعني الحياة النظيفة والطاهرة
من الآثام ولوث المعاصي والذنوب والأخلاق الذميمة والرذائل والمحرّمات .
وقيل :
تعني المال الحلال من طريق حلال ، ويصرف في الحلال ، ويؤدّى حقوقه من الزكوات
والأخماس وحقّ السائل والمحروم .
أو يرزق
بما يكفيه ، فلا يكون شاكياً من حياته ، بل يقنع ويرضى بما عنده ،
ويحسّ بالسعادة في ذلك .
وقيل :
الحياة الطيّبة يعني توفيق الطاعة وبعد المعصية .
وسئل أمير
المؤمنين (عليه
السلام)
عن الحياة الطيّبة ، فقال : هي القناعة ، ( والقناعة
كنزٌ لا يفنى ) .
فالحرص
يجعل الإنسان ذليلا في حياته ، وأمّا القناعة والاكتفاء الذاتي يوجب العزّة
والكرامة والمباهاة ، ويسلم من القيل والقال والحرب والجدال .
ويستفاد من
الآية الشريفة تساوي المرأة والرجل في النظام الاجتماعي ، فإنّ كلّ واحد
منهما يعمل بمقدار سعته الوجوديّة ، وينال أجره الدنيوي من الحياة
الطيّبة ، والاُخروي من الأجر العظيم .
ثمّ لم
يذكر سبحانه نوع الجزاء الاُخروي إنّما أكّد ذلك ، وإنّما يجازى من جمع بين
الحسنيين : الحسن الفعلي والحسن الفاعلي ، فالإيمان وإنّه مؤمن
إشارة إلى الحسن الفاعلي ، والعمل الصالح إشارة إلى الحسن الفعلي ،
فيجزون حينئذ بأحسن ما كانوا يعملون ، ولم يقل سبحانه لنجزينهم حسناً ،
بل أشار إلى أ نّهم هم الذين نالوا هذه الدرجة بعملهم ، وأ نّهم
يجزون بالأحسن ، لأ نّهم من المؤمنين ، وإنّ عملهم كان صالحاً ،
فلهم أحسن بما كانوا يفعلون ويعملون .
|
 |
 |