والاُسرة
السعيدة([31])
تلك التي يحكمها الإيمان بالله واليوم الآخر أوّلا ، ثمّ تعمل الأعمال
الصالحة ثانياً ، فالله سبحانه يتكفّل بحياتهم ويجعلها طيّبة تسودها المودّة
والرحمة . وترفرف عليها السعادة وتحوطها الغمرة والسرور وينبثق منها النشاط
والحيوية والتقدّم والازدهار .
فائدة 6
الحاجة
إلى الدين
لا تصل الجوامع البشريّة إلى كمالها وغايتها من
دون الوحي ، فإنّ العقل الذي يستدلّ به على ضرورة النبوّة ، ربما يتصوّر
في مورد أ نّه يتعارض مع الوحي والدين ، والحال لا تعارض بين الدين
والعقل ، فإنّ العقل يرى ضرورة الوحي والدين ، كما أنّ الدين يرى من
أهمّ الأدلّة هو العقل ، والعقل من المنابع الغنيّة في الدين ، فلا
يقابل الدين ولا يعارضه أبداً ، وربما يتعارض الدليل العقلي والنقلي في
الظاهر ، إلاّ أ نّه في الباطن إنّما هو لتشريع الدين وتبيينه ،
وله معيار خاصّ لحلّهما ، فكما يتعارض الدليلان النقليان ، ويقدّم
الأظهر على الظاهر ، والصريح على الأظهر ، فكذلك لو كان بين النقل
والعقل تعارض ، وكما أنّ كلّ نقل ليس بحجّة ، بل لا بدّ من تعيين الثقة
من غيره ، فكذلك العقل فإنّما يؤخذ منه المبرهن ، فيقدّم العقلي الذي
قام عليه البرهان . والطرق العلمية عبارة عن الحسّ والبرهان والعلم
الحضوري ، ومعلوم الإنسان عبارة عن الماهية أو المفهوم ، فهما من سنخ
واحد أو الموجود ، فالشجرة موجودة وتارة تعرف ماهية الشجرة ، وكذلك
العلم تارة تصل به إلى ماهية الشجرة فيسمّى بالعلم الحصولي . واُخرى نصل إلى
وجودها فيسمّى بالعلم الحضوري ، وتارة بالحسّ نصل إلى درك الشيء فيسمّى
بالعلم الحسّي ، واُخرى يرتسم في الخيال فيسمّى بالعلم الخيالي . وإذا
كان من المعاني كالمحبّة فيسمّى بالعلم الوهمي ، وإن كان مجرّداً كلياً فيكون
علماً عقلياً ، وإذا جعلنا الشيء شهوداً ، فيكون
العلم
الحضوري .
وإذا كان كلّ ذلك يقيناً فإنّ الدين
يؤيّده ، وهو حجّة الله ، وكما أنّ الخبر الضعيف لا يبيّن الشرع ولا
يكون حجّة ، فكذلك في العلم ، فإنّ غير المبرهن لا يكون
حجّة ، فلا تعارض بين الدين والعقل ، وكما يتصرّف في الدليل
اللفظي ، فكذلك ربما يتصرّف في الدليل العقلي .
البرهان العقلي قليلٌ موارده ، فليس العلم
يفتح كلّ المغاليق والمشاكل ، فلا يقال : لا
حاجة لنا إلى الدين مع وجود العلم ، كما أنّ الدين يؤمّن لنا الحاجات
المعنوية والأبدية ، وليس المقصود الماديات وحسب حتّى يقال باكتفاء
العلم ، فلنا روح أبدية لا تموت ، فنحتاج إلى الدين حينئذ ، والموت
للبدن لا للروح . والذي يتكفّل سعادة الروح هو الدين الإلهي .
والناس على قسمين ، تارة كالجالس في
الغرفة لا يدري هناك قوافل تسير ، واُخرى يسمع صوت الجرس، فالأوّل لا
يدري شيئاً ولا يسأل، فهو غافل، والآخر يسأل عن القافلة إلى أين تسير وأين
مقصدها ؟ فيسأل الإنسان في نفسه عن نفسه ، إلى أين
أذهب ؟ ثمّ يسأل من أين أنا حتّى أذهب إلى وطني ؟ فالدين
يقول :
( إنَّا
للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ )([32]) .
فوطننا هو الله وليس الأرض وحسب . فنرجع
إلى الله لأ نّه تشرّف الإنسان بالإضافة إلى ربّه :
( وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي )([33]) .
فالجسد قفص ، وبالموت يطير الطير القدسي
وهو الروح ، ومثل هؤلاء
لا تضيق
الدنيا بهم ، ومن كان أهليّاً ، فإنّه يفتح له القفص فيخرج ، ثمّ
يرجع كالطير يطير ثمّ يرجع مرّة اُخرى متى ما أراد ، وإنّما الحيوان الوحشي
الذي يجعل في القفص ويقفل عليه الباب ، كما في حديقة الحيوانات . وأمّا
مثل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ومن يحذو حذوه وينهج
منهاجه الذي لا يظلم نملة ، ولو اُعطي الأقاليم السبعة ، فإنّه إلهي
الوطن ، وليس من عالم الأرض والمادّة ، وعندما يضرب بالسيف
يقول : فزت وربّ الكعبة . فليس الدين يتكفّل طبّ الناس
ومعاشهم ، حيث يقال مع تقدّم العلم لا حاجة لنا إلى الدين ، بل الدين
إنّما هو لتربية الروح وتجليتها وارتباطها بالأبدية ، وبالله سبحانه .
ثمّ العلم الحضوري يدرك به الباطنيات الحسيّة
كالجوع والعطش ، واُخرى تتمثّل لها الأشياء تمثّلا مناميّاً في المنام
واليقظة ، واُخرى يرى حقائق الأشياء شهوديّاً ، والدين هو الذي يتكفّل
هذه المراحل وغيرها .
فلا بدّ من الدين في حياة الإنسان ، وفي
الدين يسعد المرء .
( إنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ )([34]) .
( وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً )([35]) .
( فَمَنْ
يُرِدِ اللهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ )([36]) .
( أفَمَنْ
شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُور مِنْ رَبِّهِ )([37]) .
فائدة 7
أشعار أبي نؤاس في
فضل آل محمّد (عليهم السلام)
جاء في
كتاب الدمعة الساكبة للعالم الربّاني الشيخ محمّد باقر الدهشتي في أحوال الإمام
الثامن مولانا أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في الفصل
الرابع في ذكر مدّاحيه :
وفي العيون
بسنده عن محمّد بن يحيى الفارسي ، قال : نظر أبو نؤاس إلى أبي الحسن
الرضا (عليه
السلام)
ذات يوم ، وقد خرج من عند المأمون ، على بغلة ، فدنا منه أبو نؤاس
فسلّم عليه وقال : يا بن رسول الله ، قد قلت فيك أبياتاً فاُحبّ
أن تسمعها منّي ، قال : هاتِ ، فأنشأ يقول :
مطهّرون
نقيّات ثيابهمُ *** تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من
لم يكن علويّاً حين تنسبه *** فما له من قديم الدهر مفتخرُ
فالله
لمّـا بدا خلقاً فأتقنه *** صفّاكم واصطفاكم أ يّها البشرُ
فأنتم
الملأ الأعلى وعندكمُ *** علم الكتاب وما جاءت به السورُ
فقال الرضا
(عليه
السلام) :
قد جئتنا بأبيات ما سبقك إليها أحد ، ثمّ قال : غلام ، هل
معك من نفقتنا شيء ؟ فقال : ثلاثمائة دينار ،
فقال : أعطها إيّاه ، ثمّ قال (عليه السلام) :
لعلّه استقلّها ، يا غلام ، سق إليه البغلة .
فائدة 8
تعريف علم الأدب
قد اشتهر
في عرف المتأخّرين من العلماء أنّ علم الأدب عبارة عن النكت والنوادر من الشعر
والتواريخ ، وذكر الشيء بالشيء بالاستطراد ، وبالمناسبة مع مراعاة مقتضى
الحال . وإلى ذلك يشير أبو عبيد قائلا : من أراد أن يكون عالماً
فليلزم فنّاً واحداً ، ومن أراد أن يكون أديباً فليتّسع في العلوم .
وبالجملة :
من أراد العلم لنفسه فالقليل منه يكفيه ، ومن أراده لغيره فحوائج الناس
كثيرة .
وأعلم
الناس من جمع علوم الناس إلى علمه .
فالأديب
حقّاً ليس من يُحسن الكلام وينمّقه ويراعي فيه الفصاحة والبلاغة وحسب ، بل من
يعرف نفسه وحدوده ، وله لكلّ مقام مقال ، ولكلّ مقال مقام ، وإن
كان علم الأدب بالمعنى الخاصّ ما يضمّ الشعر والنثر والذوق الأدبي ...
فائدة 9
ملل القلوب
قال مولانا
أمير المؤمنين (عليه
السلام) :
إنّ هذه
القلوب تملّ كما تملّ الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكم .
فلا بدّ
للعلماء من دعابة لا إسراف فيها ، ومزاح لا إفراط فيه ، وقد أحسن من
قال :
أفد
طبعك المكدود بالجدّ راحةً *** يجم وعلّله بشيء من المزحِ
ولكن
إذا أعطيته ذاك فليكن *** بمقدار ما يعطى الطعام من الملحِ([38])
وزيادة
الملح في الطعام ممّـا يفسده ، وتنفر منه الطباع ، وكثرة المزاح يذهب
بماء الوجه ، ويقلّل من شخصيّة الإنسان ، فعلينا بطرائف الحِكَم ولطائف
الكلِم .
فائدة 10
الدعاء على هارون
الرشيد
حكي إنّ
الرشيد جلس يوماً لإزاحة المظالم ـ ويحسبون أ نّهم يحسنون
صنعاً ـ فتقدّمت إليه امرأة ودفعت إليه رقعة فإذا فيها :
أتمّ الله أمرك ، وفرّحك بما آتاك ، وزادك
رفعة ، فلقد عدلت فقسطت .
فقال
الرشيد لمن حضره حين وقف على الرقعة : أتدرون ما أرادت هذه
المرأة ؟
فقالوا :
وما الذي أرادت ؟
فقال :
أمّا قولها : أتمّ الله أمرك ، فإنّها عنت قول
الشاعر :
إذا
تمّ أمر دنى نقصه *** توقّع زوالا إذا قيل تمّ
وأمّا
قولها : وفرّحك بما آتاك ، فأخذته من قول الله تعالى :
( حَتَّى
إذَا فَرِحُوا بِمَا اُوتُوا أخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإذَا هُمْ
مُبْلِسُونَ )([39]) .
وأمّا قولها :
وزادك رفعة ، فإنّه من قول الشاعر :
ما
طار طيرٌ وارتفع *** إلاّ كما طار وقع
وأمّا
قولها : لقد عدلت فقسطت ، فأخذته من قول الله تعالى : ( وَأمَّا
القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً )([40]) .
فتعجّب
الحاضرون لوقوع خاطر الرشيد من ذلك ، ثمّ دعى بها وسألها عن حالها ...([41]) .
أجل :
فإنّ الظالم يعرف نفسه أكثر من غيره ، وما أروع تلك المرأة البليغة التي قالت
ظاهراً وأرادت باطناً ، ووقفت أمام الظالم تشكو ظلمه وجوره ، وتدعو
عليه ، وهكذا عاقبة الظالمين ، خزيٌ في الدنيا وعذابٌ في الآخرة
مهين ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون .
فائدة 11
تنزيه
الأنبياء
جاء في تاج العروس من الكتب اللغوية المشهورة([42]) :
...
ويقال الضلال لكلّ عدول عن الحقّ ، عمداً كان أو سهواً ، يسيراً كان أو
كثيراً ، فإنّ الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جدّاً .
ولهذا قال (صلى الله عليه وآله) :
استقيموا ولن تحصوا .
ولذا صحّ أن يستعمل لفظه فيمن يكون منه خطأ
ما ، ولذلك نسب إلى الأنبياء وإلى الكفّار ، وإن كان بين الضلالين بون
بعيد .
ألا ترى أ نّه قال في النبيّ (صلى الله
عليه وآله) :
( وَوَجَدَكَ
ضَالاًّ فَهَدَى )([43]) ، أي
غير مهتد لما سيق إليك من النبوّة .
وقال تعالى في يعقوب (عليه السلام) :
( إنَّكَ
لَفِي ضَلالِكَ القَدِيمِ )([44]) .
وقال أولاده : ( إنَّ
أبَانَا لَفِي ضَلال مُبِين )([45]) ،
إشارة إلى شفقته بيوسف وشوقه إليه .
وقال عن
موسى (عليه
السلام) :
( قَالَ
فَعَلْـتُهَا إذاً وَأ نَا مِنَ الضَّالِّينَ )([46]) ،
تبييناً أنّ ذلك منه سهو .
وقال :
والضلال من وجه آخر ضربان : ضلال في العلوم النظرية ... وضلال في
العلوم العمليّة ...
أقول :
ما ذكره إنّما يتمّ على مبنى القوم واختلافهم في عصمة الأنبياء ، فمنهم من
يذهب إلى أ نّه إنّما هو معصوم في الدعوة فقط أو في تبليغها ، ومنهم من
يرى عصمتهم بعد النبوّة لا قبلها ، وغير ذلك من المباني المردودة عقلا
ونقلا ، وما نعتقده ، هو العصمة الذاتية الكلية من أوّل حياتهم إلى
آخرها في كلّ شيء ، وما نسب إليهم في ظاهر القرآن الكريم إنّما هو من
المجازات القرآنية ولها تأويلات تدلّ عليها القرائن اللفظية والعقلية ، كما
ورد في الأخبار ، فإنّ ساحة الأنبياء (عليهم السلام) مطهّرة
ومنزّهة عن كلّ شين وذنب وخطأ وسهو وغفلة ، إذا أردت تفصيل ذلك فارجع إلى ما
يقوله علم الهدى السيّد المرتضى (قدس سره) في كتابه القيّم
( تنزيه الأنبياء ) ، وكذلك كتبنا الكلامية كشرح التجريد وباب
الحادي عشر .
وكتبت في
العقائد ( عقائد المؤمنين ) ، و ( دروس اليقين في
معرفة اُصول الدين ) ، وهو المجلّد الأوّل من الموسوعة ،
وغيرهما ، فراجع .
فائدة 12
الإسلام يعلو ولا
يعلى عليه
بينما
الكون ظلام دامس ، فلا يبصر فيه الإنسان إلاّ خيوط الجهل المقيت التي تتعثّر
فيها العقول ، وبينما الشرك يحاول أن يثبت أقدامه إلى الأبد في جزيرة العرب
بعبادة الأصنام .
بينما
الناس كالوحوش الضارية يقتل بعضها بعضاً ، والسلب والنهب قائم على قدم
وساق .
بينما تلك
البيئة المتوحّشة ترتكب فيها أكبر الجرائم التي يندى لها جبين التأريخ والإنسانية .
بينما
الأرض كانت تفتح فمها لتلتقم الأطفال الأبرياء الذين يدسّهم آباؤهم أحياء في
التراب ، بينما كان المثقّف العربي يقول وهو يدسّ ابنته في التراب وهي تلتقم
الحجر ثدياً .
إنّي
وإن سيق إليّ المهر *** ألف وعبدان وذو عشر
أحبّ أصهاري إليّ
القبر
ويأتي
الآخر وهو يعدّ أكثر ثقافة وأرقّ قلباً من الأوّل ، فيقول :
اُحبّ
بنتي ووددت أ نّي *** دفنت بنتي في قاع لحدي
وما
بي أن تهون عليّ ولكن *** مخافة أن تنال الذلّ بعدي
أجل ،
بينما كان كلّ هذا وكأ نّه السحاب المظلم المتراكم على تلك الجزيرة التي فقدت
كلّ معاني الإنسانية ، وإذا الشمس تشرق من آفاقها لترسم خيوطها
الذهبيّة ، ولتنشر على تلك الأرض ذوائبها المتلألئة لتقول للناس :
هلمّوا هلمّوا ، فهذا الطريق القويم والصراط المستقيم ، فهذا الأمين
محمّد (صلى
الله عليه وآله) المبعوث الإلهي خاتم النبيّين يحمل لواءً يوحّد بين
صفوفكم ، ويؤلّف بين قلوبكم ، وينوّر بالعلم بصائركم ، ويحرّر من
الأغلال ضمائركم ، فشقّ صوته الأغرّ كلّ الأسماع ، وراح يخترق
الآفاق ، ويدكّ عروش الطغاة والجبابرة الضالّين بكلمته الغرّاء
الخالدة : قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا .
فانتشر
الإسلام وتعزّز وتشيّد صرحه الشامخ يوم تمسّك به رجاله الأشاوس وتكاتفوا على العمل
بأحكامه وتطبيق قوانينه وأداء فرائضه بالصدق والإخلاص ، فامتدّ الإسلام من
جزيرة العرب إلى أعماق الأندلس ، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه .
وبجبر
التأريخ ـ على حدّ قولهم ـ لا بدّ من رايات الإسلام أن
ترفرف خفّاقةً عاليةً على ربوع الأرض ، ويحكم القرآن الكريم في كلّ
العالم ، هذا ما وعدنا الله به ، أليس الصبح بقريب ...
فائدة 13
لمن أكل كثيراً
جاء في
بحار الأنوار([47]) :
ذكر بعض
العلماء أنّ من أكل كثيراً أو خاف على نفسه التخمة مسح يده على بطنه قائلا ثلاث
مرّات :
( الليلة ليلة عيدي ، ورَضي الله عن سيّدي أبي عبد الله
القرشي ) ، فإنّه لا يضرّه الأكل .
وهو عجيب
مجرّب .
وورد أيضاً
لمن خاف من أكلة أن يقول :
( خصمك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أن
تضرّني ) .
وهذا من
آثار الولاية العظمى ، فإنّها نافذة الأثر في ما سوى الله سبحانه([48]) ،
وإنّ الولاية العلوية مظهرٌ للولاية الإلهية العظمى ، وهي الحقيقة المحمّدية
في ظهورها العلوي .
فائدة 14
درجات اليقين
جعل بعض
المحقّقين لليقين ثلاث درجات :
الاُولى ـ
علم اليقين : وهو العلم الذي يحصل بالدليل ، كمن علم بوجود النار
لرؤية الدخان .
الثانية ـ
عين اليقين : وهو إذا وصل إلى حدّ المشاهدة ، كمن رأى
النار .
الثالثة ـ
حقّ اليقين : وهو كمن دخل النار واتّصف بها([49]) .
واليقين من
النِعَم الإلهية العظمى قلّ ما يعطى لعبد ، وما أكثر الآيات الكريمة
والروايات الشريفة الدالّة على علوّ درجته وشموخ منزلته ورفعة مقامه .
فائدة 15
طرق التفاهم
ممّـا يذكر
للتفاهم مع الناس ودعوتهم إلى الخير ، إنّما يكون بطرق ثلاث :
التفاهم بالحكمة ، والموعظة ، والمجادلة الحسنة . كما قال الله
تعالى في كتابه الكريم : ( ادْعُ
إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )([50]) .
والحكمة :
معرفة الأشياء بحقائقها وواقعياتها ، ويقال لهذه المعرفة : حقّ
اليقين ، ولا يحصل بالتعليم ولا من أفواه الرجال ، بل موهبة من الله
تعالى .
والموعظة :
معرفة الأشياء بآثاره ، ويسمّى عين اليقين ، وعبائر الحديث في هذا
المجال يشير بالهداية ، وآلة تحصيل هذه المعرفة القلب .
الجدال
الحسن : معرفة الأشياء بطريق الأخبار ، لا مكاشفة الحقائق
وظهورها ، ولا بالآثار ، ويسمّى علم اليقين . وهو على
قسمين : أحسن ، وغيره . والأوّل : الطرفان عالمان
ومرادهما إثبات الحقّ وإبطال الباطل ، وإلاّ فالثاني ، ويسمّى
بالمماراة ، وإن لم تنفع المجادلة بالأحسن فالأولى والأفضل دعوتهم إلى
المباهلة .
فائدة 16
تلقّي القرآن الكريم
لا يخفى
أنّ اللذين ينظرون إلى المزرعة على أربعة أقسام : حمار ينظر إليها ليشبع
نفسه ويملي بطنه ، والطفل ينظر للمرح واللعب ، والزارع لحصادها وجني
ثمارها ، والحكيم اللبيب إنّما ينظر باعتبار عناصر الزرع والحكمة المودوعة
فيه .
والنظر إلى
القرآن الكريم كذلك : فبعض يرتزق بالقرآن ويملي بطنه ، وبعض يطرب
لصوت القرآن ، والثالث يقرأ القرآن للثواب ، والرابع إنّما ينظر إلى
القرآن ويستأنس بتلاوته ليكشف عناصره ، وما ينظّم الحياة ويسعد الإنسان
ويرشده إلى الخير والصلاح ، ويزيد في كماله ، إذ القرآن المجيد كلام
الله الحكيم فيه خير الدنيا والآخرة .
قال (عليه
السلام) :
إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظلّ يوم الحرور ،
والهدى يوم الضلالة ، فادرسوا القرآن ، فإنّه كلام الرحمن وحرز من
الشيطان ورجحان في الميزان([51]) .
فائدة 17
حواجز فساد الشباب
إنّ
المجتمع ليفسد بفساد شبابه ، وفساد الشابّ والشابّة إنّما يكون لعوامل فردية
واجتماعية ، ومنها : انحلال واضمحلال السدود والحواجز
الآتية :
1 ـ الزواج ، فإنّه عامل أساسي لحفظ الشباب من الانحراف
والفساد ، وسدّ رصين لصيانة المجتمع ، فلو انحلّ وانهدم هذا السدّ في
المجتمع ، لانحرف الشباب في سيول الفساد والفجور .
2 ـ عدم الاختلاط بين الرجال والنساء ، إذ هما كالقطن
والنار ، ما اقتربا إلاّ واشتعلت نار الشهوة ، وسرعان ما يحترق القطن
الأبيض ، فيسودّ وجهه ويصبح رماداً يعمي عيون المجتمع ، فعدم الاختلاط
سدّ منيع لحفظ الشابّ والشابّة من الفساد ، فلو انهدم بمعاول دعاة الحرية
المزيّفة ، وأقلام التمدّن والمساواة المنحرفة ، فإنّه يوجب انجراف
الشباب إلى وادي الفساد وانهدام صرح الأخلاق الحسنة .
3 ـ خوف الفضيحة ، فإنّ الشابّ والشابّة لما يحملان من أصالات
فردية واجتماعية ، يبتعدان عن الفساد مخافة الفضيحة لهما أو لاُسرتهما
وعشيرتهما ، فإذا زال هذا الخوف فقد أنشب الفساد أظفاره في وجودهما ،
ويحدث ما لا يحمد عقباه ، وما يتوقّاه الإنسان الشريف الذي يخاف
الفضيحة .
4 ـ خوف المرض ، فمن يحبّ سلامة نفسه وجسده فإنّه يبتعد عن
الفساد ، إذ يعلم أ نّه يصاب المرء بالأمراض الروحية والجسدية ،
فمن خاف المرض ما اقترف الذنب والفساد .
5 ـ خوف الحكومة ، فإنّ القوانين وإجرائها كثيراً ما تمنع
الناس من الفساد ، إذ الإنسان بطبيعته يحبّ الجور والظلم ، ونفسه
الأمّارة تحبّ الفساد والمعصية والخطيئة ، وإن كان بفطرته يحبّ العدل
والإحسان والدين ، فهو وحشيّ الطبع ومدنيّ الفطرة ، فالقانون يأخذ أمام
نزعات الإنسان الاستكبارية والفرعونية ، لكي يقف كلّ واحد عند حدّه ،
ومجري القانون هو الحكومة والدولة ، فمن خاف الحكومة ابتعد عن الفساد ،
والويل كلّ الويل لو كانت الحكومة هي اُمّ الفساد ، فإنّ ذلك المجتمع المسكين
لا يرى وجه الصلاح إلاّ بانقلاب الحكومة إلى حكومة صالحة ، تحارب الفساد في
المجتمع ، فتأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر .
6 ـ خوف الله وخشية جهنّم ، فهو أقوى السدود ، إذ ربما
سدّ خوف الحكومة لا يمنع الإنسان فيما بينه وبين نفسه وفي الخلوات عن ارتكاب
المعاصي واقتراف الذنوب والتلوّث بالفساد ، بخلاف خوف الله جلّ جلاله ،
فإنّه يمنع الإنسان من الفساد حتّى في الخلوات ، حيث سمع منادي الحقّ
يقول : اتّق الله في الخلوات ، فإنّ الحاكم هو الشاهد ، وأين
الفرار من حكومة الله ، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، فهو معكم أينما
كنتم .
فائدة 18
يا كعبة الله
أيا بيت
الله الحرام ، أيا كعبة العشّاق ، تهواك النفوس رغبةً في أداء فريضة
الحجّ ، وتولّي الوجوه المؤمنة شطرك كلّ يوم خمس مرّات ومرّات في إقامة عمود
دينها الصلاة ، وتهفو القلوب إلى منازل الوحي والرسالة ، ويهزّهم الحنين
إليها ، ويحتّم الشوق إلى ضريح الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وقبور
أئمة البقيع (عليهم
السلام)
ابتغاء مرضاة الله في زيارتهم .
يا كعبة
الله اشهدي : أزعم أ نّني طليق من القيود وعدوّ للجمود ،
أنصر البحث العلمي الحرّ ، واُؤمن بحرّية الرأي السليم المعتمد على المنطق
الرصين والفكر الصائب ، وأعتبرها الأساس لمن يريد معرفة الحقيقة واتباع
الحقّ ، فما كتبت في حياتي لا أبتغي بذلك رضا قوم أو أتّقي سخط آخرين ،
إنّما كتبت للحقّ وحده ، أبتغيه وحده .
والله يشهد
على ما أقول ، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه اُنيب .
فائدة 19
الرجل كلّ
الرجل : الرجل الكامل
عن مولانا
الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) ،
قال :
( إذا رأيتم الرجل قد حسن شيمته وهديه فرويداً ، لا
يغرّنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيّته
ومهانته وجبن قلبه ، فنصب الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يحيل الناس
بظاهر ، فإن تمكّن من حرام اقتحمه .
وإذا
وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً ، لا يغرّنكم ، فإنّ شهوات الخلق
مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على
شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّماً ! !
فإذا
وجدتموه يقف عند ذلك فرويداً ، لا يغرّنكم ، حتّى تنظروا ما يعقده
عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما
يفسده بجهله أكثر ممّـا يصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً
لا يغرّنكم ، حتّى تنظروا مع هواه يكون على عقله ؟ أو يكون مع
عقله على هواه ؟ وكيف محبّته للرئاسة الباطلة وزهده فيها ؟
فإنّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بتركه الدنيا للدنيا ، ويرى أنّ لذّة
الرئاسة الباطلة ، أفضل من لذّة الأموال والنعم المحلّلة .
ولكنّ
الرجل ، كلّ الرجل ، نعم الرجل ، هو الذي يجعل هواه تبعاً لأمر
الله ، وقواه مبذولة في رضاء الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ
الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى
دوام نعم دار لا تبيد ولا تنفذ ، وإنّ كثير يحلقه من
سرّائها مع تبع هواه يؤدّيه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال .
فذلك الرجل نعم الرجل ، فتمسّكوا بسنّته واقتدوا إلى ربّكم فيه ، فإنّه
لا تردّ له دعوة ولا تخيب له طلبة([52]) .
فيا
ترى ، بالله عليك ، مع هذا الحديث الشريف هل يجوز لك أن تتّبع كلّ
ناعق ، وتدخل في كلّ حزب ، أو تدور في فلكه ، أو تسمع لكلّ
ناطق ، أو تحضر كلّ مجلس ومحفل ؟ ! !
فائدة 20
عظمة الإنسان
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
( المؤمن أعظم حرمةً من الكعبة ) ، ومن الملك المقرّب . وهذا
يدلّ على عظمة الإنسان ومقامه الشامخ في عالم التكوين والتشريع ، ومن عظمته
أن كرّمه الله بقوله تعالى :
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ )([53]) .
فما هذه
الكرامة الإلهيّة ؟ وما هذه الفضيلة العظمى :
( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا )([54]) .
فما أعظمك
أ يّها الإنسان في خلق الله ؟ إلاّ أنّ عصرنا في جاهليته
الثانية ، لم يعرف قدرك ، كما كان من قبل في الجاهلية الاُولى ،
فحطّمك وأنزلك من عرشك إلى حضيض التفاهة والرذالة ، فكان كالأنعام بل أضلّ
سبيلا ، فلم يعرف المقصود من خلقه ، فقالوا : الغاية من
الخلقة الأكل والشرب واتباع الشهوات والملاذّ ، فنسوا الله فأنساهم
أنفسهم ، فلا يدري لماذا خلق ، وما هو المقصود من خلقته ، وما هي
فلسفة الحياة ؟ ومن عرف نفسه فقد عرف ربّه ، ومن عرف ربّه عرف
معاده ، ومن عرف معاده عرف حياته ، ومن عرف حياته فقد سعد في الدنيا
والآخرة ، فإنّه يعرف كيف يحيى ويعيش ، وكيف يموت ويعود إلى ربّه ،
وذلك هو الفوز العظيم .
ومن خيرة
الأدلّة على المعاد ما نراه من تكوين الجنين في بطن اُمّه ، فإنّ في خلقته
علائم وأمارات تدلّ على أ نّه لم يخلق للرحم ، فإنّه ذو عينين ولسان
واُذنين وقلب ويدين وبطن ورجلين ، فمثل هذه الأعضاء والجوارح لا تنفعه في مثل
ذلك المكان المظلم الضيّق ، بل لا بدّ من مكان وسيع رحب وهي الدنيا ،
فيخرج إليها باكياً ، وينشأ فيها ، فنرى فيه دلائل اُخرى تدلّ على
أ نّه لم يخلق لهذا العالم الكبير أيضاً ، بل خلق لما هو أكبر ،
فإنّا نشاهد من هذا الإنسان طموحات جبّارة لا تتلائم مع هذه الدنيا الصغيره ،
فإنّه يريد علم ما سوى الله ، وقدرة ما سوى الله ، يريد أن يسيطر على
العالم ويكشف أسرار الوجود وحقائق الكون والحياة ، فيطمع في معرفة حقائق
بعيدة المدى ، فيبغي لذّة من دون ألم ، ووصال بلا فراق ،
لأ نّه يرى كلّ اللذائذ في هذه الدنيا مشوبة بالآلام ، بل هي دفع
للآلام ، فإنّ الجوع يدفعه الأكل ، فإذا كان بيده الخبز يرى أ نّه
ألذّ الأشياء عنده ، إلاّ أ نّه ما أن شبع ، فإنّه يحسّ بالمرارة
والألم ، فالإنسان يركض وراء لذّة بلا ألم ، وعلم بلا جهل ، وقدرة
بلا ضعف ، ومثل هذه الاُمور لا يجدها في هذه الدنيا ، ولا يحصل عليها
إلاّ في عالم آخر ، في جنّات عدن عرضها السماوات والأرض ، فيها ما تشتهي
الأنفس وتلذّ الأعين ، اُعدّت للمتّقين ، فإنّ في تلك الجنان والنعيم الأبدي ،
ما يريده الإنسان ، وبمجرّد تعلّق إرادته فإنّه يحصل المراد ، ففيها ما
لا رأت أعين ولا سمعت اُذن ، وهذا دليل عقلي يطابق الفطرة على إثبات
المعاد .
ومثل هذا
الأمر يكشف لنا عن عظمة الإنسان وشموخه ، وما هو الهدف والسرّ من
خلقته ، فإنّه يريد اللذّة الأبدية بلا ألم ، ولا يكون له ذلك إلاّ في
مقام الفناء والوصول والوصال ، مقام ( عبدي أطعني أجعلك
مثلي ) ، مقام ( يَا أيَّـتُهَا النَّـفْسُ
المُطْمَـئِـنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي
فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَـنَّـتِي )([55]) ، أي
جنّة ( هو ) ، جنّة الأسماء والصفات ، لا جنّة الحور
والولدان ، فمن وصل إلى هذا المقام في هذه الدنيا ، فإنّه لا يبالي بكلّ
شيء سوى الله وما فيه اسمه ، فإنّه لا يطمئنّ قلبه إلاّ بذكر الله جلّ
جلاله .
وسبحانه
وتعالى عرض الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها ، ولكن حملها
الإنسان ، إلاّ أ نّه كان ظلوماً جهولا ، فلم يؤدّ حقّها ،
فلم يعمل بتكليفه ، فإنّه كثير الظلم والجهالة ، فإنّه جهل سبب خلقته
وظلم نفسه ، فأخذ يدور حولها كحمار الطاحونة ، فانخدع بالمال
والآمال ، وبالجاه والمقام والشهوات ، حتّى يصل راسل مفكّر الغرب إلى
درجة من الانحطاط لا يرى مانعاً من تبادل الزوجات وإعارتهنّ للآخرين ، فقد
جهل حقيقة الإنسان والإنسانية ، لقد ظلم الإنسان وجعله أضلّ من
الحيوان ، ففقد الإنسان أصالته وجوهره ، وفي الحديث القدسي عن الله
سبحانه أ نّه قال : ( خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من
أجلي ) ، فخلق الإنسان إنّما لله ، ليحمل صفاته العليا وأسماءه
الحسنى ، ليصل إلى لذّة بلا ألم ، وعلم بلا جهل ،
وقدرة بلا ضعف ، وحياة بلا ممات .
ثمّ الدنيا
إنّما هي تكرار المكرّرات ، وفلم سينمائي معاد ، إلاّ أنّ أبطال الفلم
يختلفون ، والتأريخ يعيد نفسه ، فكلّ شيء يتكرّر في الحياة الدنيويّة
إلاّ أمراً واحداً غير قابل للتكرار ، وهو السير في الله سبحانه ولذّة
المسير ، فلا يمكن أن يوصف ويدرك إلاّ من وصل وعرف ذلك ، ولا سكون فيه
ولا توقّف ، فإنّ الله سبحانه في ذاته وأسمائه وصفاته غير متناه ، فكذلك
السير والحركة في الله سبحانه غير متناهية ، وهذا مقام لقاء الله سبحانه
والفناء في الله بالله عزّ وجلّ ، ولا يكون هذا إلاّ بالعبوديّة ،
فإنّها جوهرة حقيقتها الربوبيّة :
( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ
لِـيَعْبُدُونِ )([56]) .
فمن كان عبداً
وأحبّه الله فإنّه يصل إلى مقام تكون يده يد الله ، وعينه عين الله ،
ولسانه لسان الله ، كما ورد في الخبر عند الفريقين ـ السنّة
والشيعة ـ عن الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) عن الله
سبحانه في قوله : ( يتقرّب العبد إليّ بالنوافل حتّى
اُحبّه ، فإذا أحببته أكون سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر
به ، ويده التي يبطش بها ) ، فيحصل الإنسان إلى قاب قوسين أو
أدنى ، ويحصل له السعة الوجودية ، ويصل إلى مقام الفناء في الإرادة
الإلهيّة ، ويظهر رسم الأسد الذي على الستار إلى الوجود الخارجي ،
ليفترس الظالم ، كما فعله الإمام الرضا (عليه السلام) في مجلس
المأمون .
وإنّما يصل
إلى الإنسان إلى كمال وغاية خلقته وحياته ، بعد التخلية والتحلية
والتجلية ، وهي المراحل الثلاثة لتهذيب النفس وصيقلة القلب ، وجعله
كالمرآة تنطبع فيه الحقائق الكونية وأشعّة ما وراء الطبيعة ، من الإلهامات
الإلهيّة ، والمعارف الربّانية ، والفيوضات القدسيّة .
فيصل إلى
كمال الانقطاع إلى الله عزّ وجلّ ، ويتنوّر قلب بصره بضياء نظرها إلى الله
سبحانه ، حتّى تخرق أبصار القلوب حُجب النور ، فتصل إلى معدن
العظمة ، وتصير الروح معلّقة بعزّ قدس الله عزّ وجلّ ، وهذا ما يدركه
أهله ، ولا يمكن وصفه .
فما أعظم
الإنسان ، وقد تمدّح الله بخلقه في قوله تعالى : ( فَـتَبَارَكَ
اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ )([57]) ،
ولكن يهوي ويهبط إلى أسفل السافلين ، ويكون قلبه كالحجارة أو أشدّ
قسوة ، وكالأنعام بل أضلّ سبيلا ، فيبتلى بالأمراض النفسية وبالمآثم
والذنوب والمعاصي ، وحبّ الدنيا والمقام والرئاسة والحسد والصفات
الرذيلة ، فلا يرى إلاّ الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها ، ويفقد أصالته
الإنسانية ، وروحه التي هي من النفحة اللاهوتية ، والنفخة
الملكوتية ، ويكون كدودة القز يخنق نفسه بنفسه ، ويبتلى بالجهل
المركّب ، فيذنب ويحسب أ نّه يحسن صنعاً ، وأ نّه مقرّبٌ من
ربّه .
فلا بدّ من
ترك الذنوب والشبهات وهذا أدنى مراحل الكمال ، فما لا نعلمه لا نقله ،
وما لا نعرفه لا نرتكبه ، ونصون الجوارح والجوانح عمّـا سوى الله
سبحانه ، وبالعلم النافع والعمل الصالح يصل الإنسان إلى درجة لا تلهيه تجارة
ولا بيع عن ذكر الله ، فيطمئنّ قلبه ويرجع إلى ربّه ، فيدخل في عباده
وجنّته ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ولا يلقّاها إلاّ ذو حظّ
عظيم ، وختامه مسك ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
فائدة 21
قتلوا بنت الهدى
الله أكبر
قتلوا بنت الهدى ، ذبحوا نور الدجى .
تبّت
أيديكم يا أرذال العرب وأنذال العراق آل تكريت .
أيا صدّام
القذر ! ! كم من جناية جنيت ؟ ! وكم
من دم سفكت ؟ قتلت الرجال الأفذاذ والأبطال العباقرة ، وهتكت حرمة
الإسلام ، وكبّلت شباب العراق الجريح في قعر السجون وظلم المطامير ووحشة
الزنزانات ، وكم عائلة شرّدتها ونفيتها من أوطانها حقداً على المؤمنين
والمؤمنات ، وإرضاءً لنزعاتك الدموية ، وإطاعةً لأسيادك الاستعمار
الشرقي والغربي .
أيا مجنون
العرب بثرثرتك القومية العربية التي بثّ سمومها الاستكبار العالمي لنهب البلاد
الإسلامية والسيطرة عليها ، ونشر أكاذيبهم وألاعيبهم بين المسلمين ،
وتمزيق وحدتهم وزرع النفاق فيهم ، وإشعال لهيب الحروب بينهم بعدما كانوا يداً
واحدة على من سواهم من أعداء الدين من المشركين والكافرين والملحدين ، فكانوا
كتلة نارية ضدّ الأجانب وأذنابهم وأعوانهم ، وكانوا سادة الناس والاُمم
بعلومهم وثقافتهم وحضارتهم ومدنيّتهم ، كانوا دعاة القرآن وحملته
وحماته ، وكانوا رساليين فدائيين يضحّون بالنفس والنفيس من أجل مبادئهم
السامية ، ودينهم الحنيف ، كانوا معتصمين بحبل الله جميعاً ، فبالوزوزة
القومية كم من بلاد الإسلام هدّمت قلاعها وعماراتها ، وكم من النساء الأطفال
قتلتهم قنابل القومية العربية ، وصواريخها الروسية والبريطانية والأمريكية
والفرنسية .
تبّت يداك
يا معتوه العراق ، يا جرثومة الشقاق ، تبّت يدا أبي عدي الكافر ،
فما أشقاه ، فزاد عن فرعون ونمرود وهتلر في إجرامه ، حتّى تلوّثت يداه
الأثيمة بالدم الطاهر المطهّر شهيدنا الصدر واُخته العلوية بنت الهدى ، التي
كادت أن تكون اُسطورة في علمها وثقافتها وجهادها وجهودها ، وأخيراً
شهادتها .
فسلام
عليها يوم ولدت ، ويوم استشهدت ، ويوم تبعث حيّة طاهرة مطهّرة ،
لتنتقم من الظالمين .
وسيعلم
الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون([58]) .
فائدة 22
المطاعن والمخالب
ثلاثةٌ
حمّلوا ظهورهمُ *** وزر البرايا ألا ساء ما يزرون
أرّخ
أسماءهم معذّبهم *** ( إنَّا مِنَ الُمجْرِمِينَ
مُـنتَقِمُونَ )([59])
الثلاثة
الذين ورد لعنهم في زيارة عاشوراء يساوي عدد أسمائهم بحروف الأبجد :
1202 .
وحروف
الآية الشريفة تساوي : 1202 أيضاً ، فافهم .
كما أنّ
( الفرقة الناجية ) حروفها تساوي : ( 285 ) ،
و ( الشيعة ) أيضاً تساوي حروفها ( 285 ) .
ولا يخفى
أنّ قلب فرعون وهامان وقارون معاً اجتمع فيه الشرّ كلّه .
فائدة 23
أقوال في السعيد
والسعادة([60])
سئل بيون
الفيلسوف ذات يوم عن أشقى الناس ، فقال : هو الذي يعلّق غاية طمعه
بأن يعيش سعيداً ، ويقضي عمره في المعيشة اللذيذة الهنيئة ، لما أنّ ذلك
مستحيل .
وكان
يقول : إعطاء الإنسان من ماله أحسن من تمنّيه زيادته بمال غيره ،
لأ نّه يمكن للمرء أن ينظمّ في سلك السعداء بأقلّ مال ، ومتى علّق
أمانيه بمال غيره انتظم في سلك الأشقياء .
قال أبيقور
الفيلسوف : السعادة التي يتكلّم عليها الفلاسفة هي السعادة الضروريّة
يعني حالة راحة يصلها الإنسان بقدرة إلهيّة . إنّها ليست عبارة عن مجرّد
لذّات الحواسّ ، بل هي راحة القلب وعافية البدن ، فكان يرى أنّ الخير
الكامل هو اجتماع هذين الشيئين في آن واحد . كان يقول : الفضيلة
هي أقوى الطرق إلى معيشة الإنسان سعيداً ، لأ نّه لا شيء أحلى من كون
الإنسان يعيش على مقتضى الحكمة والصلاح ولا يعمل ما يلام عليه ، ولا يحسّ في
نفسه بإصابة الذنب ، ولا يؤذي أحداً ، ويصنع الجميل مهما أمكن ،
فبالجملة لا يهمل من واجبات الحياة شيئاً . فمن هذا ينتج أن لا سعيد إلاّ
أرباب الصلاح ، وأنّ الفضيلة لا تفارق الحياة الهنيئة .
وفي نهج
البلاغة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) : نسأل
الله منازل الشهداء ومعايشة السعداء وموافقة الأنبياء .
قال الأديب
النيشابوري في كتابه الفوائد الحجّتية : لا يخفى لاُولي الألباب أنّ
السعادة الدنيوية والاُخرويّة بنيت على العلوم الدينية والمعارف الحقّة .
قال ابن
هشام في كتابه ( مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ) : أمّا بعد
حمد الله على أفضاله والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله ، فإنّ أولى
ما تقترحه القرائح وأعلى ما تنجح إلى تحصيله الجوانح ما يتيسّر به فهم الكتاب الله
المنزل ، ويتّضح به معنى حديث نبيّه المرسل ، فإنّهما الوسيلة إلى
السعادة الأبديّة والذريعة إلى تحصيل المصالح الدينية والدنيوية .
وقال
السيّد محمّد جواد التبريزي في مقدّمته على كتاب ( قالوا في
الإسلام ) : إنّ السعادة في العاجل والآجل إنّما هي بالسير على
محور نظم الحياة التي سنّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخذاً من
خالق الحياة الذي يعلم السرّ وأخفى ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات
ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، والدليل على ذلك هو أنّ
السعادة ليست إلاّ معرفة ما هو الصالح للفرد وللجماعة ، واستعماله بعد
معرفته ، ومعرفة ما هو الصالح للمجموعة البشرية فرداً وجماعة ...
وفي كليات أبي
البقاء الحنفي([61]) :
السعد كعلم من السعادة ، وهي معاونة الاُمور الإلهية للإنسان على نيل
الخير ، ويضادّ الشقاوة ، وبفتح العين من السعد بمعنى اليمن ،
ويجوز ضمّ السين وكسر العين من السعد بمعنى الإسعاد ، ومنه المسعود ،
والشيء يأتي مرّة بلفظ المفعول ومرّة بلفظ الفاعل ، والمعنى واحد نحو عبد
مكاتِب ومكاتَب ومكان عامر ومعمور ومنزل أهل ومأهول ...
وفي مكارم
الأخلاق([62]) :
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : من سعادة المرء حسن مجلسه
وسعة فنائه ونظافة متوضّاه .
وعنه (عليه
السلام) :
من قرأ ( قل يا أ يّها الكافرون ) أو ( قل هو الله أحد )
في فريضة من الفرائض ، غفر الله له ولوالديه وما ولد ، وإن كان شقيّاً
محي من ديوان الأشقياء واُثبت في ديوان السعداء ، وأحياه الله سعيداً وأماته
شهيداً وبعثه شهيداً .