فالنفس لها مقام لا يقف في كسب العلوم والمعارف ، فهي مجرّدة عن الماهية ، كما أ نّها مجرّدة في مقام التعقّل عن المادّة وأحكامها ، فللنفس الإنسانية الناطقة تجرّداً تاماً عقلياً ، بل فوق التجرّد العقلاني ، فيقال  : النفس جوهر بسيط ، ووجود بحت وظلّ الوجود الصمدي للحقّ تعالى ، وإنّها مجرّدة عن الماهية ، فإنّها تحكي عن الحدّ وقصور الشيء والضعف والنقص ، والنفس ذات الكمال اللايقفي ، فلا حدّ منطقي لها ، فهي وجود لا بجوهر ولا عرض فوق المقولة المنطقية ، وتجرّدها عن الماهية لا ينافي إمكانها في ذاتها .

             وقد ورد في الأحاديث الشريفة على سعة هذه النفس الناطقة التي تتّصف باللايقفي في كسبها للعلوم .

             ففي الفقيه ، بسند الصدوق ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته لولده محمّد بن الحنفية  : واعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن ، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن  : اقرأ وارقَ .

             وفي الكافي ، بسند الكليني ، عن الإمام الكاظم (عليه السلام) ، يقول  : يا حفص ، من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علّم في قبره ، ليرفع الله به من درجته ، فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن ، يقال له  : اقرأ وارقَ ، فيقرأ ثمّ يرقى .

             فوعاء العلم الإنساني لا حدّ له ، فكلّما يفاض عليه فإنّه يتّسع ويترقّى ، وإنّ آيات القرآن درجاته ، وتلك الدرجات كلمات الله ، وكلمات الله لا نفاد لها  :

             (  قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَـنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً  )([134]) .

             وقال الطريحي في مجمع البحرين في كلمة ( جمع )  : وروي عنه (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال  : ما  من حرف من حروف القرآن إلاّ وله سبعون ألف معنى .

             وكلّ آية من آيات القرآن خزائن من خزائن الله .

             فعن الزهري ، كما في الكافي في فضل القرآن  : عن الإمام السجّاد (عليه السلام)  : آيات القرآن خزائن ، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها .

             ودرجات القرآن هي الحكمة ، بل الحكيم  :

             (  يس * وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ  )([135]) .

             والحكمة هي الجنّة ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام)  : « يا عليّ ، أنا مدينة الحكمة ، وهي الجنّة ، وأنت يا علي بابها » .

             وهذا ممّـا يدلّ على تجرّد النفس ، وإنّها في مقام تقلّب القلب وتطوّره يفاض عليها تجلّيات إلهية ، وأنّ القلب عرش الله الأعظم يسع الحقّ .

             وفي الحديث النبوي الشريف  : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي » .

             فارتقاء الإنسان إلى ما لا نهاية له ، وإلى ربّك المنتهى .

             وبهذا يكون الإنسان الكامل خليفة الله يستجمع صفات المستخلف عنه ، وكان في حكمه ، وكان وعاء وظرف الحقائق وخزائن أسماء الله التي هي أعيان الحقائق النورية في الوجود ، فيكون صاحب الولاية التكوينية ، بيده مفاتيح الغيب ، تلك الحقائق النورية ، يتّصف بإذن الله ومشيّته بما يقتضيه الوجود الصمدي .

             يقول صدر المتألهين في مفاتيحه  : ( النفس الإنسانية من شأنها أن تبلغ إلى درجة يكون جميع الموجودات أجزاء ذاتها ، وتكون قوّتها سارية في الجميع ، ويكون وجودها غاية الكون والخليقة ) .

             فتكون المعاجز والكرامات الصادرة من الإنسان إنّما هي تصرّف جوهر النفس الكاملة الإنسانية بإذن الله تعالى .


فائدة  96

عليّ  منّي  وأنا  منه

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)  : « عليّ منّي وأنا منه » ، رواه الفريقان .

             ينطوي هذا الحديث الشريف على معان ، لا نعرف منها إلاّ الشيء اليسير ، وهي كالتالي  :

             1 ـ يحمل أمير المؤمنين كلّ صفات النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ النبوّة ، ويدلّ على ذلك سيرتهما الطاهرة ، فمنذ ولادتهما كانا من الموحّدين المؤمنين ، وحتّى ارتحالهما إلى الله سبحانه .

             2 ـ يدلّ الخبر على وحدتهما ، مع تحقّق الاثنينية بينهما ، كما يدلّ على ذلك آية المباهلة ، فعلي نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، كما في بدء خلقتهما ، فهما من نور واحد ، طابت وطهرت بعضها من بعض ، وهي الحقيقة المحمّدية والعلوية .

             3 ـ يدلّ على أنّ الأمير الوصي بمنزلة النبي ، كما صرّح بذلك النبي من اليوم الأوّل من بعثته في حديث الدار ، وقال  : « لا يؤدّي عنّي إلاّ علي » ، كما يدلّ عليه حديث الغدير وحديث المنزلة وغيرهما .

             4 ـ علي (عليه السلام) من النبيّ بمعنى أ نّه انطوى على جميع كمالات النبي إلاّ النبوّة ، كما يدلّ عليه حديث المنزلة ، ويقول علي (عليه السلام)  : « أنا من أحمد كالضوء من الضوء »([136]) .

             5 ـ يدلّ على نسبهما كلّ واحد من الآخر ، وأ نّه من أهله .

             6 ـ إشارة إلى نورهما الواحد ورجوعهما بالأصالة إلى نور واحد ، اشتقّ منه نور النبوّة ونور الإمامة ، كما قال النبيّ (صلى الله عليه وآله)  : « أنا وعليّ من نور واحد »([137]) ، كما يدلّ عليه حديث الشجرة وغيره .

             7 ـ إشارة إلى وحدة المسؤولية الملقاة عليهما ، ووحدة الهدف والعمل والشعائر ، قال النبيّ  : « أنا اُقاتل على تنزيل القرآن ، وعلي يقاتل على تأويله »([138]) .

             8 ـ إشارة إلى وحدة أبدانهما كوحدة روحهما ونورهما ، كما قال النبيّ  : « لحمه من لحمي ، ودمه من دمي »([139]) .

             9 ـ لا مثيل للوصي كما لا مثيل للنبيّ ، فهذا سيّد الأنبياء وذاك سيّد الأوصياء ، فلا يقاس بهما أحد كما قال النبىّ  : « نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد »([140]) .

             10 ـ اصطفائهما من منبع واحد ، وهما معصومان لا ينطقان عن الهوى ، فسنّتهما وسيرتهما واحدة ، يجب الإيمان بهما ، ولا يجوز إنكارهما ، والرادّ على أحدهما رادّ على الآخر ، وكلّ هذا يدلّ على مساواتهما في المقامات والمنازل إلاّ النبوّة ، لا على اتحادهما ، وممّـا يدلّ على مساواتهما تصريح النبيّ في مواضع ، كقوله  : « كفّي وكفّ عليّ في العدل سواء »([141]) ، وقوله  : « أنا وعليّ حجّة الله على عباده »([142]) ، وقوله  : « يا عليّ ، لا يحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك »([143]) . كما يدلّ على ذلك آية التطهير ، ومساواتهما في الصدق في قوله  :

             (  يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّـقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ  )([144]) .

             والمساواة في الخيرية على الخلق ، لقوله تعالى  :

             (  إنَّ الَّذِينَ آمَـنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اُوْلَئِكَ هُمْ خَـيْرُ البَرِيَّةِ  )([145]) .

             وقال النبيّ  : « عليّ خير البريّة »([146]) .

             والمساواة في الإيمان لقوله (صلى الله عليه وآله)  : « والإيمان مخالط لحمك ودمك ، كما خالط لحمي ودمي »([147]) .

             والمساواة في الحبّ ، لقوله (صلى الله عليه وآله)  : « من أحبّ علياً فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أبغض علياً فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله »([148]) .

             ومساواتهما في البركة والإعجاز ، وفي الكفاءة والكمالات والمؤاخاة  : « أنت أخي في الدنيا والآخرة »([149]) .

             والمساواة في الأمان لأهل الأرض ، لقوله تعالى  :

             (  وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ  )([150]) .

             ولقوله (صلى الله عليه وآله)  : « النجوم أمانٌ لأهل السماء ، وأهل البيت أمانٌ لاُمّتي »([151]) .

             وقد ذكر بعض علماء أبناء العامة أنّ أهل البيت (عليهم السلام) وسيّدهم الإمام علي  (عليه السلام) ساووا النبي في خمسة أشياء  : في الصلاة عليه ـ  كما في تشهّد الصلاة  ـ  ، وفي الطهارة ـ  كما في آية التطهير  ـ  ، وفي السلام ـ  كما في الصلاة  ـ  ، وفي حرمة الصدقة عليهم ، وفي المحبّة ، والمساواة في وجوب المعرفة ، فكما يجب اجتهاداً معرفة النبوّة لأ نّها من اُصول الدين ، فكذلك الإمامة ، كما بينهما المساواة في وجوب الاعتصام بهم فهم حبل الله ، ولحديث الثقلين ، كما بينهما المساواة في درجات الجنّة .

             ولمثل هذه المساواة الظاهرية والباطنية ، الروحية والجسدية ، كان أمير المؤمنين من رسول الله ، وكان الرسول من علي (عليهما السلام) ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : « عليٌّ منّي وأنا من عليّ » .


فائدة  97

يا  عليّ  أنت  بمنزلة  الكعبة

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : « يا عليّ أنت بمنزلة الكعبة » . وقال  : « مثل عليّ فيكم كمثل الكعبة المشرّفة ، النظر إليها عبادة ، والحجّ إليها فريضة » .

             لكلّ تشبيه أركان أربعة  : المشبّه والمشبّه به وأداة التشبيه ووجه الشبه ، وهنا النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) يشبّه أمير المؤمنين بالكعبة ، فما وجه الشبه  ؟ يحتمل اُمور  :

             1 ـ الكعبة مباركة وفيها الخير الكثير  :

             (  إنَّ أوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ  )([152]) .

             والبركة هي الخير المستقرّ والمستمرّ ، ففيها الخيرات والأرزاق المعنوية والمادية ، وكذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه البركة التامة في علمه وكمالاته وسيره وسيرته .

             2 ـ الكعبة سبب الهداية  :

             (  وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ  )([153]) .

             فإنّها تهدي المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية والاُخروية وائتلاف الاُمة وشهادة منافعهم ، كما يهدي الناس جميعاً ، وكذلك أمير المؤمنين يهدي الخلائق إلى سعادة الدارين ، وأ نّه الصراط المستقيم ، حامل علم رسول الله ، فيهدي للتي هي أقوم ، وإنّ ولايته شرط قبول الأعمال .

             3 ـ الكعبة أوّل وآخر بيت وضع للناس ولا غير ، وكذلك ولادة أمير المؤمنين في الكعبة بالنحو المذكور في التأريخ لم يسبقه به أحد ولم يلحق به أحد .

             4 ـ الكعبة قيام للناس  :

             (  جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ  )([154]) .

             والقيام اسم لما يقوم به الشيء كالأعمدة ، كما أنّ الأموال سبب قيام الناس  :

             (  وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً  )([155]) .

             كذلك أمير المؤمنين ، فإنّه سبب قيام الدين وقيام الناس ، فهو كالعمود للإسلام وللمسلمين ( لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فتى إلاّ علي )([156]) ، فلولاه لما عرف الإسلام قائمة ، ولما قام ، وغناه (عليه السلام) عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه دليل على أ نّه إمام الكلّ في الكلّ .

             5 ـ الكعبة مركز الأرض ، ومن تحتها دحيت الأرض واستقرّت ، وكذلك علي  (عليه السلام) فهو قطب عالم الإمكان ومركز دائرة الوجود ووجوده أمان ، وبولايته تقبل الأعمال ويتمّ بها دخول الجنّة .

             6 ـ النظر إلى الكعبة عبادة ، لأ نّها تذكّر الإنسان بالله ، فتعبّد الطريق للقرب
إليه ، وكذلك النظر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّه ممّـا يذكّر الله برؤيته .

             7 ـ الكعبة مقصودة المؤمنين فيحجّونها تقرّباً إلى الله ويزورونها ، فهي تزار ولا تزور ، وكذلك الإمار يزار ولا يزور كالكعبة ، والحجّ والقصد إليه واجب وفريضة .

             8 ـ الكعبة ملتقى الأنبياء من آدم أبي البشر إلى خاتم الأنبياء محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وكذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، فهو جامع صفات وكمالات الأنبياء ، فهو ملتقى علومهم وأخلاقهم ، فهو مقصود الأنبياء جميعاً ، كما ورد في الخبر الشريف  : « وما في الجنّة نبيّ إلاّ وهو يشتاق إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) »([157]) .

             9 ـ الكعبة بقيت شامخة رغم العواصف والسيول والحروب وعمليات الحرق والهدم ، فإنّ الله شرّفها وتكفّل بحفظها ، وكذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، مهما بالغ الأعداء في طمس معالمه وآثاره وفضائله ، ولكن ما زال ملأت فضائله الخافقين ، فكم معاوية أمر بسبّه على المنابر ، ولكن بقي خالداً عظيماً بخلود الكعبة وعظمتها ، وهذا قبره الطاهر مأوى ومهبط ومقصود عشّاق الله ، وقبّته تناطح السماء ، وبقيت مودّته في القلوب كالكعبة .

             10 ـ الكعبة أفئدة من الناس تهوي إليها ، وكذلك أمير المؤمنين فلا يحبّه إلاّ من كان مؤمناً طاهر الولادة ، فيعشقه ويهواه ، فأفئدة من الناس وليس كلّ الناس تهوي إليه .

             11 ـ الكعبة سبب لحطّ الذنوب والخطايا ، وكذلك ولاية أمير المؤمنين علي  (عليه السلام) يوجب الغفران  : « عليّ بن أبي طالب باب حطة ، من دخل منه كان مؤمناً ، ومن خرج منه كان كافراً » .

             12 ـ دحو الأرض كان من تحت الكعبة ، فانبسطت واستمرّت ، وكذلك عليّ أبو الأئمة الأطهارن فمنه انبسطت الولاية والوصاية والإمامة ، ومنه انتشر العلم والهداية والكمالات ، فهو نقطة باء البسملة .

             13 ـ إنّ الكعبة المشرّفة قد اختارها الله واصطفاها من بقاع الأرض ، وكذلك في أمير المؤمنين كما قال رسول الله مخاطباً فاطمة الزهراء (عليهما السلام)  : « إنّ الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم رجلين فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك »([158]) .

             14 ـ الكعبة قبلة المسلمين في صلاتهم وذبائحهم ، والاستدبار منها يوجب البطلان والميتة ، وكذلك الاستدبار عن أمير المؤمنين فإنّه يوجب حرمان السعادة ، وموت القلب ، وبطلان الأعمال ، واستقباله يوجب السعادة في الدنيا والآخرة .

             15 ـ الكعبة ترشد الناس إلى الجنّة ، وكذلك أمير المؤمنين هو المرشد العام للمسلمين ، ولو اجتمع الناس على حُبّه لما خلق الله النار .

             16 ـ الكعبة رمز حفظ الدين ، وكذلك أمير المؤمنين هو المحافظ على هيكل الرسالة الإسلامية من الانحراف والتبديل ، فهو الوصيّ والقيّم والوارث الشرعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فهو الذي وقف مناضلا ومدافعاً عن صيانة التشريع الإسلامي ومخالفاً سيرتهم المخالفة لسنّة رسول الله ، فهو باب الحكمة والعلم والجنّة ، كما جاء ذلك في كتب الفريقين .

             فعليّ (عليه السلام) أمير المؤمنين إنّما هو بمنزلة الكعبة ، وإنّه كعبة آمال العاشقين والمخلصين الشاكرين .

             جعلنا الله وإيّاكم من شيعته المقرّبين ، آمين ربّ العالمين .


فائدة  98

حبّ  الوطن

             روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : « حبّ الوطن من الإيمان » .

             ربما يكون المقصود من الوطن الوطن الحقيقي وهو القبر ، فحبّه والاستعداد له من علائم الإيمان .

             ويقال  : ليس الوطن مجرّد تربة وتراب ، وشام وعراق ، وأرض ومدن وشوارع وأزقّة ودور وبيوت ، بل الوطن الذي يسكن فيه الإنسان ويطمئنّ به ، ويشعر بالارتياح الروحي ، وهو حضرة القدس الإلهي وعالَم ( ألستُ ) ومهبط ( ونفخت فيه من روحي ) ، فينزل الإنسان في قوس نزولي من ذلك العالم الملكوتي ، ليصعد الكلم الطيّب ويرجع إلى ربّه في قوس صعودي ، فوطنه الحقيقي ذلك المكان المقدّس ، معدن العظمة والجلال وسبحات الله المتعال ، فحبّ ذلك الوطن بلا ريب يكون من صميم الإيمان بالله سبحانه ، وبذكره تطمئنّ القلوب .


فائدة  99

العناصر

             قالت دائرة المعارف البريطانية  :

             إنّ الكون منطوياً على مائة عنصر وثلاث ( حسب آخر إحصائية عام 1960 ) ـ  وقد زادت هذه العناصر  ـ وكان يظنّ أنّ كلّ عنصر من هذه العناصر يستقلّ عن باقي العناصر ، واكتشف أنّ طبيعة الذرات المؤلفة لهذه الموادّ واحدة ، فهي كلّها تتألف من شحنات كهربائية موجبة ، تطوف حولها شحنات سالبة ، وما  يسمّى بالذرّة ، والتي يطلق عليها اسم الألكترونات والبروتونات . وكانت العناصر عند القدماء والتي تسمّى اصطقس هي عبارة عن ( الماء والتراب والهواء والنار ) ، وهي العناصر المعروفة .

             ومن الفكاهيات الفلسفية أ نّه عندما وضع أرسطو في قبره جاءه الملكان فسألاه  : مَن ربّك  ؟ فقال  : اصطقس فوق استقصّات الاُول . أي وجود فوق العناصر الاُولى .

             وللفكاهة تتمّة لا أذكرها تأدّباً .


فائدة  100

شرح  الصدر

             قال الله تعالى في كتابه الكريم  :

             (  فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ  )([159]) .

             لمّـا نزلت هذه الآية الشريفة سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن معنى شرح الصدر ، فأجاب  : « نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح صدره وينفسح .

             فقيل  : هل لذلك أمارة يعرف بها  ؟

             فقال (صلى الله عليه وآله)  : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله »([160]) .

             وقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أ نّه كان يدعو بهذا الدعاء في سجدته الأخيرة من صلاته  : « اللهمّ ارزقني التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت » .


فائدة  101

أهل  الإسلام

             قرأت في البخاري([161]) ، قال  :

             « حدّثنا قبيصة ، حدّثنا سفيان ، عن أبيه ، عن ابن أبي نعم ، أو أبي نعم ـ  شكّ قبيصة  ـ  ، عن أبي سعيد ، قال  : بُعث إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بذهيبة ، فقسّمها بين أربعة .

             وحدّثني إسحاق بن نصر ، حدّثنا عبد الرزّاق ، أخبرنا سفيان ، عن أبيه ، عن ابن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدري ، قال  : بعث عليّ وهو باليمن إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بذهيبة في تربتها ، فقسّمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثمّ أحد بني مجاشع ، وبين عيبنة بن بدر الفزاري ، وبين علقمة بن علاثة العامري ثمّ أحد بني كلاب ، وبين زيد الخيل الطائي ثمّ أحد بني نبهان .

             فتغيّضت قريش والأنصار ، فقالوا  : يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا .

             قال  : إنّما أتألفهم .

             فأقبل رجل غائر العينين ناتئ الجبين كثّ اللحية مشرف الوجنتين محلوق الرأس فقال  : يا محمّد ، اتّق الله  .

             فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله)  : فمن يطيع الله إذا عصيته فيأمَنّي على أهل الأرض ولا  تأمنوني  ؟

             فسأل رجل من القوم قتله ـ  أراه خالد بن الوليد  ـ فمنعه النبيّ (صلى الله عليه وآله) .

             فلمّـا ولّى قال النبيّ (صلى الله عليه وآله)  : إنّ من ضئضئ هذا قوماً يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد » .

             فيا ترى ، مع هذا الخبر وأخبار اُخرى كما في كتاب الفتن من البخاري  : ( سحقاً سحقاً لا تدري ماذا أحدثوا من بعدك ) ، كيف يقال بعدالة كلّ الصحابة ، والصحابي عندهم من صاحب النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولو ليوم ، بل لساعة .

             فما لكم كيف تحكمون  ؟ أم على قلوب أقفالها  ؟  !  !


فائدة  102

حكم  القاضي  بعلمه

             هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه  ؟

             تعدّ هذه المسألة من المسائل الفقهية التي وقعت مورداً للبحث وللأخذ والعطاء في كلمات الأصحاب عبر القرون المتمادية ، وصارت معركة الآراء الفقهيّة ، ويرجع عمدة اختلافهم إلى اُمور خاصّة ، وهي  :

             1 ـ الفرق بين الحاكم المعصوم وغيره ، والقول بالجواز المطلق في الأوّل ومنعه في الثاني .

             2 ـ الفرق بين حقوق الله وحقوق الناس ، والقول بالجواز في الأوّل دون الثاني ، أو بالعكس .

             3 ـ الفرق بين ما إذا كان القاضي مأموناً وغيره ، والجواز بالأوّل دون الثاني .

             ويظهر من الشيخ الطوسي أنّ له أقوال ثلاثة  : من الجواز مطلقاً ، ومن الجواز إذا كان مأموناً ، ومن التفصيل بين حدود الله فيجوز وغيرها فلا . وفي المسألة سبعة أقوال  :

             1 ـ الجواز المطلق للحاكم المطلق ، كما عليه الأكثر .

             2 ـ التفصيل بين حقوق الناس وحقوق الله ، وهو خيرة ابن إدريس الحلّي .

             3 ـ عكس الثاني ، وهو خيرة ابن الجنيد في الأحمدي .

             4 ـ التفصيل بين كون القاضي مأموناً وعدمه ، فيجوز في الأوّل دون الثاني ، كما عليه الشيخ في المبسوط .

             5 ـ التفصيل بين كون الإمام المعصوم (عليه السلام) وغيره ، والقول بالجواز في الأوّل مطلقاً وفي الثاني لو كان مأموناً ، كما عليه ابن حمزة الطوسي ، أو في حقوق الناس كما عليه العلاّمة في التبصرة .

             6 ـ المنع المطلق ، كما عن ابن جنيد في أحد القولين المنسوب إليه .

             7 ـ التفصيل بين الحدود وغيره ، فلا يقضي في الأوّل بعلمه ، وهو خيرة الشيخ في موضع من المبسوط .

             وأساس الاختلاف يرجع إلى اشتراط العلم واليقين ، ومدى سعتهما في القضاء من خلال الأدلّة الأربعة ، فتدبّر واعلم أنّ صاحب الجواهر كما يظهر منه يتمسّك بالإجماع في المقام على جواز قضاء الحاكم بعلمه مطلقاً ، فقال([162])  : وغيره ـ  أي غير الإمام  ـ من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس قطعاً ، وفي حقوق الله تعالى على قولين  : أصحّهما القضاء ، فراجع .


فائدة  103

أسباب  العلم

             إنّ الأسباب التي تنتهي إلى العلم ممّـا لا تُحصى ، إلاّ أنّ مبادئها كما قيل تنقسم إلى خمسة أقسام  :

             1 ـ المبادئ الغيبية الحاصلة لدى المعصومين ـ  كالأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام)  ـ  .

             2 ـ المبادئ الحسّية والعلم الحاصل من استعمال إحدى الحواسّ الخمسة الظاهرية ، كالسمع والبصر .

             3 ـ المبادئ القريبة من الحسّ ، كالقضايا التي حكم فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) .

             4 ـ المبادئ الحدسية المحضة ، كالتناقض في كلام المدّعي والمتكلّم .

             5 ـ المبادئ التي تكون غير متعارفة ونهى الشارع عنها ، كالسحر والكهانة ونحوها .


فائدة  104

أصناف  القضاة

             القاضي الوارد في كلمات الفقهاء ولسان الأخبار يطلق على أشخاص ، هم  :

             1 ـ النبيّ المصطفى والإمام المعصوم (عليهما السلام) .

             2 ـ القاضي المنصوب من قبلهما في زمن الحضور .

             3 ـ القاضي المنصوب من قبل الإمام المعصوم في زمن الغيبة بإذن عام ، كالفقهاء العظام .

             4 ـ قاضي التحكيم ، وهو ما يتراضى به المترافعان على قضائه .

             5 ـ القاضي المتجزّئ ، لو قيل بالتجزّي في الاجتهاد .

             6 ـ القاضي المقلّد المنصوب من قبل الفقيه الحاكم الشرعي ومن له الولاية في زمن الغيبة .


فائدة  105

كلمة  في  عيد  الغدير

             بسم الله الرحمن الرحيم .

             الحمد لله وبه نستعين ، والصلاة على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين ، سيّما مولانا المنتظر الحجّة الثاني عشر ، صاحب الزمان وقطب عالم الإمكان ، عجّل الله فرجه الشريف وسهّل مخرجه ، وجعلنا من خلّص شيعته وأنصاره ، آمّين يا ربّ العالمين .

             أمّا بعد  :

             فاُقدّم إلى العالم الإسلامي ، سيّما مراجعنا العظام والحاضرين الكرام ، وأخصّ بالذكر سماحة آية الله العظمى المرجع الديني السيّد الگلپايگاني دام ظلّه الوارف([163]) ، اُقدّم أزكى وأجمل التبريكات وأحلى وأفضل التحيّات ، سائلا المولى القدير في يوم عيد الغدير أن يديم على المسلمين المؤمنين ولاية أمير المؤمنين ، والحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولايته وبولاية أولاده المعصومين .

             أ يّها العزيز مهلا ، ودع الأحزان طرّاً ، لا تلمني يا صديق واسقني كأس
الرحيق ، واستمع تغريد المنادي وإلى ربّك هادي .

             أ يّها الحفل الغفير ، قد أتاكم يوم الغدير ، إنّه يومٌ خطير ، فيه آياتٌ بيّنات ودلائل ظاهرات ، وحقائق باهرات وأنوار لامعات ، كيف لا يا إخوان الصفا وأخلاّء الوفا ، فإنّ في مثل هذا اليوم المبارك أثمرت شجرة النبوّة بالولاية العلوية ، وتنوّرت آفاق الهداية بأشعة الشمس الحيدرية ، وتمّت السنّة النبوية بالخلافة المرتضوية .

             لِمَ لا ، وفي مثل هذا اليوم العظيم أوحى الله تعالى إلى رسوله الكريم في قوله القويم  :

             (  يَا أ يُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ  )([164]) .

             فوضع على نفسه أثقال المسير ، فقام في رمضاء الهجير ، خاطباً منادياً مبلّغاً ، ثمّ سألهم  : هل بلّغت  ؟ فقالوا  : بلى . فأخذ بيد إمام الخلق أجمعين سيّد الأوصياء المعصومين أمير المؤمنين ويعسوب الدين ، أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وقال  : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . وما أن تمّ كلامه الشريف وخطابه المنيف إلاّ ونزلت الآية الكريمة  :

             (  اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً  )([165]) .

             فبشرىً لكم أ يّها المؤمنون ، وسعداً لكم أ يّها المسلمون .

             أسعد الله أيامكم ، وطابت أوقاتكم بهذا اليوم المجيد والعيد السعيد ، إنّه عيد الله الأكبر الذي سمّي في السماء بيوم العهد المعهود ، وفي الأرض بالميثاق المأخوذ والجمع المشهود ، فماذا أقول وماذا اُبيّن من فضل هذا اليوم المبارك  ؟ والعقول لا  تدرك كنهه ، وماذا أذكر من فضائل صاحبه أمير المؤمنين  ؟ فإنّ العقل لا يدرك وصفه ، وإنّ اللسان يكلّ عن مدحه ، فإنّ حبّه جُنّة ، وهو قسيم النار والجنّة ، وصيّ المصطفى حقّاً ، إمام الإنس والجنّة .

             علي (عليه السلام) جوهرة ربانية صنعها الله المبدع ، وصاغها محمّد الأمين ... علي (عليه السلام)صفحة ناصعة لم يقرأها أحد ، ولم يلد مثله ولم يولد ، ولم يكن له في الخلق سوى النبيّ كفواً أحد ، ما بقي الدهر والأبد ، إنّه الأمير والأسد .

             علي (عليه السلام)  : النبأ العظيم ، والصراط المستقيم ، والقرآن الحكيم ، وجنّات النعيم .

             علي (عليه السلام)  : أخو الرسول ، وزوج البتول ، وسيف الله المسلول ، وإنّه على الإيمان مجبول .

             علي (عليه السلام)  : عبد الله ، عين الله ، يد الله ، رحمة الله ، حجّة الله ، وليّ الله .

             علي (عليه السلام)  : أبو الأيتام ، ومطعم الطعام ، وفاشي السلام ، والقائم في الليل والناس نيام .

             علي (عليه السلام)  : الآيات السبحانية ، والسور الإلهية ، والكتب السماوية ، والقاسم بالسويّة ، والعادل في البريّة .

             علي (عليه السلام)  : فصل الخطاب ، عنده علم الكتاب ، وهو الميزان يوم الحساب ، أمير ذوي الألباب .

             علي (عليه السلام)  : أبو الأئمة الأطهار ، نور عيون الأنوار ، وسيّد الأحرار ، وقاتل الكفّار ، وقامع الفجّار .

             علي (عليه السلام)  : الكوكب الدرّي ، والنور الجلي ، اشتقّ من العليّ .

             علي (عليه السلام)  : أمير المؤمنين ، ويعسوب المتّقين ، وسيّد الموحّدين ، ووصيّ رسول ربّ العالمين .

             وختاماً  :

             حبّذا اُعطّر مجلسنا واُطيّب محفلنا بأبيات من الشعر لعمرو بن العاص في مدح أمير المؤمنين ، والفضل ما شهدت به الأعداءُ  :

بآل محمّد عرفَ الصوابُ *** وفي أبياتهم نزل الكتابُ

وهم حجج الإله في البرايا *** بهم وبجدّهم لا يسترابُ

ولا سيّما أبو حسن عليٍّ *** له في الحرب مرتبةٌ تهابُ

طعام سيوفه مهج الأعادي *** وفيض دم الرقاب لها ترابُ

وضربته كبيعته بخمٍّ *** معاقدها من القوم الرقابُ

عليّ الدرّ والذهب المصفّى *** وباقي الناس كلّهم ترابُ

هو البكّاء في المحراب ليلا *** هو الضحّاك إذا اشتدّ الضرابُ

             هذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

18 ذي الحجّة 1394

( كان عمر المؤلف 19 عاماً )


فائدة  106

يا  للحقّ  والحقيقة

             يا للحقّ والحقيقة  !  !

             لا أدري بماذا أملي السطور ، وبأيّ وادي الفكر أدور ، لمس قلمي أناملي الداثرة ، فاستصرخته لينطق عمّـا يختلج في الصدور ، وإن كان الذهن قلقاً متشتّت الأفكار ، فراح اليراع بلسانه الصامت يهتف صارخاً  : يا للحقّ والحقيقة  ! فما هذه الحروب المدمّرة والقنابل الذرية ، والأسلحة الفتّاكة التي تدبّ على الأرض لتقضي على الحرث والنسل ، وتحرق الأخضر واليابس ، وتقتل النفوس البريئة ، وتهدم العمران ، وتجعلها قاعاً صفصفاً .

             فالنيران اُضرمت ، والديار خرّبت ، ولا يعلم لمن ولماذ هذا الدمار ، فإسرائيل تشنّ الغارات ، وجنوب لبنان ترضخ تحت وطأة اليهود الأراذل ، والعراق يعادي سوريا ، والصومال تريد مناطحة موسكو ، وليبيا تذمّ مصر ، وإيران تزوّد بالأسلحة الأمريكية ، وفي كلّ البقاع والأقطار فوضى وقلق واضطراب وحروب صغيرة وكبيرة ، وعداء بين الشعوب وحكوماتها ، وديكتاتوريات واضطهادات وتشريد وتغريب وقتل وسفك وتعذيب وزنزانات ... فما هذه الحياة  ؟  ! وما هذه الدنيا الدنيّة ، فإنّها سجن ، وأيّ غريزة في الإنسان تدفعه إلى هذه الحروب والنزاعات الفردية والاجتماعية ، العسكرية والثقافية ، السياسية والاقتصادية ...

             فأين الصلح ـ  والصلح خير  ـ وأين السلام ـ  والله السلام  ـ وأين السعادة والصفاء والمحبّة والإخاء والطيب والهناء  ؟

             متى يعمّ العالم روح الوداد ، ويفوح منه روائح السلامة والرفاه والطمأنينة والأمن  ؟

             متى تتزيّن المجتمعات الإنسانية بقلائد الصلح والرخاء  ؟

             إلى متى هذه المشاكل والمتاعب والقيل والقال  ؟ هلاّ فكّر الإنسان يوماً لحياته ومماته ، وما الغاية من وجوده وبقائه  ؟ ومن أين أتى وإلى أين يذهب  ؟ وماذا يراد منه  ؟ فهلاّ أمعن النظر ودقّق في الفكر ، ليحرّر نفسه من قيود الأنانية وحبّ الذات والشهوات والملذّات ، ويرتقي قلل الكمال ، ويحلّق في سماء الحياة الطيّبة والعيش الرغيد ، فحتّى مَ يفني عمره بالتسويف والآمال الكاذبة ، حتّى يشتعل رأسه شيباً ، ويفقد نشاطه وشبابه ، فهلاّ أفاق من سباته ، واستيقظ من غفوة غفلاته ، واستقام كما اُمر ، وعاش سعيداً ومات سعيداً . مستجيباً لنداء فطرته السليمة وضميره الحيّ وعقله الغالب يناديه  : يا للحقّ والحقيقة .

1393 هـ  ق


فائدة  107

العلماء  الحكماء  العرفاء

             روي عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  :

             العلم نهرٌ والحكمة بحر ، والعلماء حول النهر يطوفون ، والحكماء وسط البحر يغوصون ، والعارفون في سفن النجاة يسيرون .

             وهؤلاء الثلاثة يشتركون في أمر واحد ، وهو أ نّهم يبغون كشف الحقائق ، فما به الاشتراك بين العالم والحكيم والعارف أ نّه يبحث عن الحقيقة ، ليكشفها ويعرفها ، إلاّ أ نّهم يمتاز أحدهم عن الآخر ، أنّ العالم إنّما يكشف الحقائق من خلال بحثه في الجزئيّات ، والحكيم باعتبار الكلّيات من طريق العقل والبراهين العقليّة ، والعارف من خلال الكشف والشهود والإشراق ، والعلم نهر والحكمة بحر ، والعلماء لبحثهم عن الجزئيات حول النهر يطوفون ، والحكماء لما عندهم من المباحث الكلّية والعامّة ، والبحث عن الموجود بما هو موجود حسب الطاقة البشرية ، وسط البحر يغوصون ، وأمّا العارفون فهم في سفن النجاة يسيرون حتّى يصلوا إلى شاطئ السلام وساحل السعادة .


فائدة  108

الدين  الإسلامي الزاحف  المتحرّك

             لقد ذكرنا أنّ علماء الغرب يصفون الدين الإسلامي بأ نّه الزاحف المتحرّك ، ولقد صدقوا في مقولتهم هذه ، فإنّ الإسلام بنظامه الشامل ، وأ نّه دين ودولة ، دائماً يزحف ويتحرّك ، ويفتح القلوب ويجذب النفوس ، فهو نهضة جبّارة لا تعرف الجمود ولا الخمود ، نهضة عملاقة فيها عمق الجذور وصلابة الصخور ، ثورة عارمة فيها انطلاق النسور ، فهي ترتفع بشموخ وتحلّق بسموّ ، فيعلو الإسلام ولا يُعلى عليه .

             والإسلام مركّب من عنصرين أساسيين ، وهما  : القانون ومنفّذ القانون ، وكتاب قانونه هو القرآن الكريم كتاب الله القويم ، ومجري القانون ومنفّذه هو الرسول الأعظم وخلفائه الأبرار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) .

             الإسلام شجرة مباركة جذورها القرآن وأغصانها العترة الطاهرة ، تتفيّأ في ظلّها البشرية .

             الإسلام خاتم الأديان ومحرّر الإنسان ، وصانعه يسوقه إلى كماله المنشود وسعادته الأبدية .

             والإنسان في المعسكر الشيوعي ترس يدور في عجلة الحياة من غير هدف ولا غاية ، وقد حذفت كلمات الطمأنينة والإيمان والسعادة والحياة الإنسانية جملة من قاموس الإلحاد الأحمر ، وكادت أن تحذف من مدنية الغرب .

             ولكن في نطاق الإسلام فإنّ الإنسان جاء ليكون خليفة الله في أرضه ، تتجلّى فيه أسماء ربّه الحسنى وصفاته العليا ، فيدعو الإسلام معتنقيه إلى أنّ الحياة عقيدة صحيحة تطابق العقل والفطرة ، وجهاد وجهود في تحكيم العقيدة ورسوخها وحفظها وديموميّتها .

             فيعلّمهم الكتاب والحكمة ، ويهديهم الصراط المستقيم والنهج القويم ، ويزكّيهم ويربّيهم تربية صالحة تسودها الأخلاق الحميدة ، فيعلّمهم فضل الصبر على الشدائد والشجاعة في الحقّ والإخلاص للعقيدة والثبات على العهد ، والإيثار على النفس ، إلى غير هذا من الأخلاق والسجايا التي تجعل من الرجل اُمّة ، وتجعل من العشرين من المؤمنين يغلبون مائتين ، وتجعل المائة تغلب الألف ـ  كما كان في صدر الإسلام  ـ وتجعل منهم أقوى عساكر العالم إيماناً ، وأشدّهم في الحروب ثباتاً ، يرهبون عدوّ الله ، وليقفوا بهذه الأخلاق الباسلة في وجه الجموع الكثيرة من الطغاة والجبابرة وأذنابههم الأراذل التي ستتألّب عليهم ، ليقفوا بهذه الروح الإيمانية في وجه الدنيا التي ستجتمع كلمتها على حربهم وعدائهم ، والنصر حليف المؤمنين ، هذا ما وعده الله عباده الصالحين ، وإنّ الله لا يخلف الميعاد .


فائدة  109

الاُخوّة  الإسلامية

             الاُخوّة الإسلامية واجب شرعي ، وحقيقة إنسانية ، وواقع حضاري ، لا  يمكن لأيّ مسلم أن يتغافل عنها ولا يفكّر بها ، بل كلّ مسلم رسالي صاحب ضمير واعي يفكّر دائماً بهذا الأمر الخطير ، ويعصر قلبه تشتّت المسلمين وتفرّقهم وتكفير بعضهم بعضاً .

             والكلّ يعلم أنّ الإسلام العظيم أراد أن يجعل اُخوّته كالاُخوّة النسبيّة بل تزيد ، فربّ أخ لم تلده لك اُمّك .

             وقال الرسول الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله)  : « لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه » ، وأ نّه إذا عطس المسلم في الشرق وسمعه من في الغرب يستحبّ أن يسمّت أي يحمد الله على سلامة أخيه المؤمن الشرقي ، لأنّ العطسة علامة السلامة ، وإنّ المسلمين كأسنان المشط وكأعضاء جسد واحد ، إذا اشتكى منه عضو ، فإنّه يشتكي كلّ الجسد .

             فينبغي بل يلزم على كلّ مسلم أن يفكّر بإخوته المسلمين ، ومن أصبح ولم يهتمّ باُمور المسلمين فليس بمسلم ، ومن سمع من ينادي  : يا لَلَمسلمين ، فلم يجبه فليس بمسلم .

             ثمّ سبحانه وتعالى أوجب صيانة هذه الاُخوّة الإسلامية ، فقال تعالى  :

             (  إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَـيْنَ أخَوَيْكُمْ وَا تَّـقُوا اللهَ  )([166]) .

             فالمقصود هو الصلح والإصلاح ، وأنّ ذلك من تقوى الله سبحانه ، فأمرنا عزّ  وجلّ بالوحدة والانسجام ، ولا سبيل لنا إلى الخلاص والنجاة من الوساوس الشيطانية وحبائله وحزبه من الجِنّة والناس ، إلاّ بالاعتصام بحبل الله سبحانه واللجوء إلى الإسلام ، والركون إلى القرآن الكريم ، والتمسّك بالعروة الوثقى التي لا  انفصام لها ، تحت لواء الوحدة وراية الاتحاد الإسلامي ، والتكاتف والانضمام والتآخي ، وأن نكون قبضة واحدة تتجلّى فينا قدرة الله ، ضدّ أعداء الإسلام والكفر العالمي .

             وإنّما تتحقّق وحدتنا واُخوّتنا الإسلامية لو نهجنا منهجاً صحيحاً وسلكنا مسلكاً قويماً وصراطاً مستقيماً ، يبتني على نقاط كلّها تهدف هدفاً واحداً ربما يعدّ العلّة الغائية في خلق الإنسان ، ويبرز فيه فلسفة الحياة .

             فمن تلك النقاط الرئيسية والأهم ، كما يلي  :