| |
 |
 |
تربية الاُسرة
على ضوء القرآن والعترة
السيد
عادل العلوي
الحمد لله
ربّ العالمين ، والصلاة على أشرف خلق الله محمّد وآله الطاهرين .
أمّا
بعد .
فإنّه يسرّ
الحسينية النجفية المباركة في مدينة قم المقدّسة ، أن تضع
بين يدي القرّاء الأعزّاء هذا الكتاب القيّم والسفر المفيد الموسوم
بـ ( تربية الاُسرة على ضوء القرآن والعترة ) وهو عبارة عن محاضرات
إسلامية ألقاها سماحة الاُستاذ الفقيه العلاّمة السيّد عادل العلوي ( دامت
إفاضاته ) على جمع غفير بل حاشد من المؤمنين طيلة ليالي شهر رمضان المبارك
( سنة 1420 هـ ) حيث تناول فيها أهمّ المواضيع التي تخصّ الاُسرة
المسلمة ، حيث أشبعها بدراسة خبيرة وأدلّة منيرة من القرآن الكريم والسنّة
المطهّرة .
يعالج هذا
الكتاب الكثير من المشاكل التي تواجه الاُسرة ، فيطرح الحلول الوقائية
والعلاجية وينظّر لتأسيس اُسرة مسلمة
ترفرف فوقها أجنحة السعادة والمحبّة
والمودّة والكمال . وبما أنّ الاُسرة مؤلّفة من أعضاء فلا بدّ لكي تكون اُسرة
سعيدة متحابّة ، لا بدّ أن يقوم كلّ عضو من أعضائها بدوره العامّ
والخاصّ ، ويتفانى في أداء ما عليه من واجبات وحقوق ، فالزوجة عليها
واجبات كما ولها واجبات على الزوج والأبناء ، والزوج له واجبات وحقّ على
الزوجة والأبناء ، والأبناء بدورهم لهم حقّ على الوالدين ، فلا بدّ لهذا
المجتمع المصغّر أن يعي تماماً ما له وما عليه ، لكي يؤدّي ما عليه ،
ويطالب إن أحبّ بما لَهُ ، وإلاّ فلن يكون هذا المجتمع الصغير إلاّ جحيماً لا
يطاق وناراً لا تتحمّل .
المحاضر
الكاتب وبما اُوتيَ من سعة اضطلاع وعمق ، أتقن العرضَ ، وأجاد في
التوظيف ، وأحسن في الاستنتاج ، لذلك جاء كتابه الرائع موسوعة اجتماعية
اُسريّة تستحقّ الاهتمام وتستأهل القراءة من أجل التطبيق ليسير الجميع على جادّة
السعادة الزوجيّة والاُسريّة . والقارئ الواعي يدرك تماماً أنّ كلّ فصل من
فصول هذا الكتاب يمكن أن يكون كتاباً مستقلا ، لأنّ المؤلّف حفظه الله تعالى
أراد أن يطرح مشروعاً عامّاً مجملا ، ولو أراد التفصيل لكانت الفائدة أعمّ
والثمرة أينع ، لكنّه ارتأى رعايةً لقارئ هذه الأيام أن يجمل ، مرجئاً
التفصيل إلى فرصة تسنح ، وظرف يسمح ، أو إلى آخرين ينهضون بهذا العبء ،
ويقومون بهذه الوظيفة القيام الأتمّ .
إنّ
المتابع لما يطرح من نتاجات فكريّة واجتماعيّة في هذه
الآونة يجد أنّ الإسلام يطرح
ـ دون الفقه والاُصول ـ بأقلام شابّة فتيّة غضّة التجربة
ليّنة المراس ; وذلك لأنّ الفقه والاُصول شغل الألباب وشدّ العقول فما عادت
تأبه بشيء سوى ما يصبّ في مجال التخصّص الحوزوي المتكوّر بهاتين المادّتين
الرئيسيّتين ، ولو أعطت هذه الأقلام العملاقة شيئاً من
مدادها للدراسات الاجتماعية لأغنت مكتبتنا الإسلامية بالمجتمع المفيد .
وما الكاتب
إلاّ من هذه الأقلام الخبيرة الكفوءة اُسلوباً ومضموناً في طرح الإسلام بطريقة وبمعرفة
تشدّان إليه وتحبّبانه إلى الناس . فهو من المجتهدين الأعلام الذين يمارسون
عملية الاستنباط الفقهي بجدارة وكفاءة لا تنكر .
أجل ،
لقد أولى الإسلام موضوع الاُسرة اهتماماً ملحوظاً بما سنّه من
قوانين وإرشادات كفيلة بتكوين الاُسرة النموذجية التي تكون المهدَ الأوّل للفرد
حيث يترعرع في ظلالها الهانئة ، وينعم في أحضانها الدافئة وينهل من نمير
تربيتها الخُلُقَ الكريم ، فإذا به فرداً صالحاً يساهم بوجوده وسلوكه في بناء
مجتمع صالح واع يسوده العدل والحرّية ، يتسابق فيه الناس للخيرات ،
يقدّر الواحد منهم المصلحة العامّة ، ويحرص عليها ويصونها ويقدّمها على
مصالحه الشخصيّة .
ما أحوجنا
في هذا العصر الذي أفرز الكثير من المشاكل إلى مثل هذه الدراسات ، لأنّ العصر
كلّما ازداد تعقيداً ومشاكلَ فإنّه يؤثّر
على ساكنيه ، والمشاكل المعقّدة
تحتاج إلى خبرة وحَذق ، وإلاّ فخبرة القرن الماضي غير
نافعة في معالجة مشاكل هذا القرن ، لأنّ الخبرة تلك أبسطُ من تعقيد مشاكل هذا
القرن ، فهي قد تكون عاجزة تماماً عن فعل شيء تجاه هذه المشاكل التي يغصّ بها
يومنا هذا ، ولا حلّ لها إلاّ الإسلام المطروح بفهم واع ولغة قريبة للأفهام .
لذلك فإنّ
إدارة الحسينية النجفيّة تتقدّم بالشكر الجزيل إلى سماحة الحجّة الاُستاذ الفقيه
السيّد عادل العلوي حفظه الله تعالى على ما تفضّل به من محاضرة وكتابة يريد بها
وجه الله والإصلاح في اُمّة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبيه
أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ، وتتمنّى أن يكون هذا العمل
موفّقاً في خدمة المؤمنين إنّه هو السميع المجيب .
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
هيئة
الاُمناء
الإهداء :
إلى
اُسرتي الأعزّاء .
شريكة
الحياة زوجتي المخلصة الوفيّة .
قرّة
عيني وثمرات فؤادي أولادي الكرام .
اُقدّم
إليكم هذا الكتاب مع جزيل شكري لمساهمتكم وإيّاي في تطبيقه في حياتنا
العائليّة فسُعدنا جميعاً ، ولله الحمد أوّلا وآخراً ، وصلّى
الله على محمّد وآله الطاهرين .
المخلص
عادل
العلوي
قال تعالى
في محكم كتابه الكريم :
( وَمِنْ
آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً
لِتَسْكُـنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً
وَرَحْمَةً
إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم
يَتَفَكَّرُونَ )
( الروم :
21 )
الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
« قول الرجل للمرأة : إنّي اُحبّكِ ،
لا يذهب من قلبها أبداً » .
( الوافي
12 : 772 )
المقدّمة
الحمد لله
ربّ العالمين ، بارئ الخلائق أجمعين ، والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين ، سيّد العالمين ، محمّد الأمين وعلى آله الطيّبين
الطاهرين .
عندما تفتح
المذياع أو التلفاز لتسمع الأخبار اليومية المحلية والعالمية ، وتشاهد
الأحداث التي تقع في العالم ، تنبهر عندما تقرع سمعك أخبار الحروب والصراعات
الفكرية والسياسية والعسكرية ـ بالأسلحة المدمّرة
والفتّاكة ـ والإقليمية والقبائلية في كلّ أقطار العالم ، فهنا
نزاعات محلية ، وهناك صراعات حزبية ، وهنا في البرلمان
« الديمقراطي » تشاهد النوّاب يتضاربون فيما بينهم بالكلمات بل باللكمات
والصفعات ، وهناك القبائل المتناحرة والعوائل المتفسّخة والاُسر
المشتّتة ، وتسمع عن الضحايا وقتل الأبرياء وسفك الدماء ونهب الثروات وغير
ذلك ، ممّـا يجعلك تغلق الراديو والتلفزيون ، فإنّك لا تتحمّل سماع
المزيد ، إلاّ أ نّك تجد نفسك مرّةً اُخرى محاطاً بمشاكل الحياة
الاقتصادية والسياسية والثقافية ، ممّـا يزيد في الطين بلّة ، كمشاكل
الاُسرة ، فلا تفاهم بين الأزواج ، ولا احترام متبادل بين
أعضاء العائلة ، النقد الهدّام يسري في عروق هيكل الاُسرة ، لا محبّة
ولا مودّة ولا تفاهم ولا احترام ، حتّى كاد أن تكون الدار حلبة الصراع
الدموي ، وكلٌّ يجرّ النار إلى قرصه ، ويرى أ نّه محقّاً فيما يراه
ويرغب فيه ويميل إليه ، وإذا بأمواج الخلاف والشجار تضرب بسفينة الاُسرة
يميناً وشمالا ، فيفقد الربّان سيطرته على ركّاب السفينة فيحار ماذا يفعل
والموت يزحف إليه لحظة بعد لحظة .
فمن كان
ضعيف الإيمان أو لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، فسرعان ما ينتحر ليخلّص نفسه
ـ وحسب معتقداته الواهية ـ من مشاكل الحياة والاضطرابات
التي تكسر ظهره وتحطّم حياته . فالعالم الخارجي مضطرب ، والحياة
الداخلية مضطربة ، ويركض الإنسان وراء لقمة العيش ليأكلها وأهله بعافية
وهناء ، إلاّ أ نّه يغصّ بها ليتجرّع كأس المرارة والمنون ، ويموت
بحسرة وغصّة ، ويبقى بانتظار يوم سعيد وساعة حلوة ، ولكن من دون
جدوى ، وأ نّى له بذلك .
لماذا كلّ
هذه المشاكل والحياة التعيسة والضنك ؟ أجاب الله عزّ وجلّ عن ذلك في
كتابه الحكيم :
( وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكاً )([1]) .
بل :
( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِي
الآخِرَةِ أعْمَى وَأضَلُّ سَبِيلا )([2]) .
فلم يرَ
الحقائق ولم يؤمن بها ، ومن لم يرَ آيات الآفاق والأنفس حتّى يتبيّن له الحقّ
وهو الله سبحانه ، فإنّ له معيشةً ضنكاً ، وله في الآخرة عذاب
أليم ، فخسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .
فمن يريد الحياة السعيدة في الدنيا
والآخرة ، لا سبيل له إلاّ أن يرجع إلى الله وكتبه ورسله وأوليائه والعلماء
الصالحين الذين هم ورثة الأنبياء .
فإنّ الله سبحانه أعرف بحال الإنسان ،
وأعرف بما يصلحه ويفسده ، ومن ثمّ يأمره وينهاه ليكون من أهل الجنّة ،
ولو كان مطيعاً فإنّه يكون سعيداً ، وإلاّ فإنّه من أهل الشقاوة
والنار .
( وَأمَّا
الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا )([3]) .
( فَأمَّا
الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ )([4]) .
فالسعادة الأبدية لمن آمن بالله واليوم
الآخر ، وبما جاء به الأنبياء والأولياء والعلماء الصلحاء .
فالمجتمع السعيد والاُسرة السعيدة والشخص
السعيد من يرجع في كلّ مجالات الحياة إلى الله ورسوله وكتابه وأوليائه في مقام
العلم والعمل ، أي النظرية والتطبيق .
وفي يومنا هذا يرجع إلى القرآن الكريم والسنّة
الشريفة المتمثّلة بالعترة الطاهرة (عليهم السلام) .
فإنّ الحقّ هو الإسلام :
( وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )([5]) .
فيؤمن بالإسلام وبرسوله الأمين سيّد الأنبياء
والمرسلين محمّد (صلى الله عليه وآله) ، ويرجع إليه
وإلى من خلّف من بعده إلى يوم القيامة .
وقد صرّح بذلك في مواطن كثيرة ، وخلّف
لاُمّته الثقلين العظيمين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترته
الطاهرة .
كما ورد في حديث الثقلين المتّفق عليه عند
الفريقين :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
« إنّي تاركٌ فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما
إن تمسّكمتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ
الحوض »([6]) .
فالقرآن والسنّة مصدرا التشريع الإسلامي ،
والعترة الطاهرة هم الذين حفظوا لنا السنّة الشريفة من الانحراف والانعدام والضلال
والضياع .
فمن أراد السعادة فإنّه لا يقف عليها إلاّ في
الكتاب الكريم القرآن العظيم والسنّة الشريفة ( قول المعصوم وفعله
وتقريره ) ، المتمثّلة بالعترة المعصومة والطاهرة (عليهم
السلام) .
وعندما نتأمّل في الروايات والأخبار الشريفة
التي صحّ صدورها عن أهل البيت (عليهم السلام) نجد أنّ
بينها وبين القرآن الكريم حبلا وثيقاً مستحكماً من نور يشدّ بعضها ببعض ،
وإنّ كلّ ما في القرآن هو عندهم (عليهم السلام) ، فهم
ترجمانه ، كما أنّ كلّ ما عندهم هو في القرآن ، فهو برهانهم ، وهذا
من معاني عدم الافتراق بينهما من اليوم الأوّل وإلى يوم القيامة ، يوم
ورودهما على الحوض .
ولذلك جعل الأئمة الأطهار (عليهم
السلام)
ـ كما في الأخبار العلاجية ـ القرآن ميزاناً لفكرهم وحديثهم
ورواياتهم ، فما وافق القرآن فخذوه ، وما خالف فاضربوه عرض الجدار فإنّه
من زخرف القول ، وإنّه لم يخرج منهم .
ثمّ جاءت الرسالة الإسلامية لإحياء
الناس :
( يَا
أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ )([7]) .
ومودّة أهل البيت (عليهم السلام) هي الحياة
الواقعية ، والمودّة تعني المحبّة مع الطاعة ، فمن أطاع من دون
حبّ ، فلا مودّة ، ومن أحبّ من دون طاعة ، فلا مودّة .
فلا بدّ في المودّة من جناحي الحبّ والميل
القلبي والباطني نحو آل محمّد وتولّيهم ومن ثمّ البراءة من أعدائهم أوّلا ،
وجناح الإطاعة لأوامرهم ونواهيهم ثانياً ، فيؤخذ الدين اُصوله وفروعه منهم (عليهم
السلام) ،
في أحكامه ومنهاجه وأخلاقه منهم (عليهم السلام) ، لا من
غيرهم ، فمعهم معهم في كلّ شيء ، لا مع عدوّهم . فمودّتهم مصدر
الحياة ، ومن ثمّ صارت المودّة أجر الرسالة المحمّدية الأصيلة :
( قُلْ
لا أسْأ لُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى )([8]) .
فمودّتهم شرط قبول الأعمال الصالحة ولا
عكس ، وهذا يعني بوضوح أنّ المودّة هي الأصل ، وأنّ المودّة حبّ
وطاعة .
فلا بدّ أن نرجع إلى القرآن الكريم والعترة
الطاهرة في معرفة الحياة ، وإنّه كيف نعيش وكيف نموت ؟ وماذا يجب
علينا ؟ وعن أيّ شيء نبتعد ونتجنّب وماذا نفعل ؟
ومن هذا المعتقد الصحيح والحقّ سيكون الحديث
حول ( التربية الإسلامية للاُسرة المسلمة ) من خلال القرآن الكريم
والعترة الطاهرة .
ثمّ سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان
عبثاً ، ولم يخلق الكون لهواً ولعباً :
( وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَـيْنَهُمَا لاعِبِينَ )([9]) .
فإذا كان في المخّ الإنساني عشرة آلاف مليون
خطّ عصبي منتشرة في كلّ أجزاء البدن ، ويموت في الجسم في الساعة الواحدة
ستّون مليون خليّة ، ثمّ تتجدّد الخلايا ، وحجم الخلية واحد من الألف من
المليمتر ، وفي داخلها بالمجهر الألكتروني مصانع ومخازن لتوليد الطاقة ،
ومخّاً آلياً لتنظيم النشاطات التي تجري داخل الخليّة ، فهل ترى في هذا الخلق
من فطور ؟ !
أجل : لم يخلق الله الإنسان
عبثاً ، إنّما أراد للإنسان الكمال والعدل بلا خسران :
( وَأقِيمُوا
الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ )([10]) .
فعلى كلّ واحد أن يراعي الوزن في كلّ
شيء ، حتّى في المدح والإطراء أو الذمّ وتقييم الشخصيات ، ومنها تقييم
المرأة والرجل فيعطي كلّ واحد حقّه . فإنّه كما في الأرض ميزان لبيان الحقّ
في المعاملات والبيوع ، كذلك في السماء كما في سورة الرحمن .
والرسول الأعظم وأمير المؤمنين علي (عليه
السلام)
والأئمة الأطهار من ولده (عليهم السلام)هم ميزان
الأعمال ، فعندنا ميزان تشريعي وميزان تكويني .
والإسلام العظيم بقوانينه وأحكامه ومبادئه
السامية يريد العدالة في كلّ شيء ، يعني يريد الميزان ، وإقامة الوزن
بالقسط من دون إفراط ولا تفريط ، ولا تخسروا الميزان .
قال أمير المؤمنين عليّ (عليه
السلام)
لولده الحسن : « يا بنيّ ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين
غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم ،
كما أ نّك لا تحبّ أن تُظلم » .
وهذا من أبرز مصاديق العدالة الاجتماعية ،
والأخلاق الجمعي ، فلا استعمار ولا استحمار ولا استثمار .
وفي مخالفة الميزان تبدو السوءات ، وتظهر
الخطايا والآثام ، كما في قوله تعالى في قصّة آدم في تركه
الأولى :
( فَلَمَّا
ذَاقَا الشَّجَرَةَ ) ـ التي
نهى الله عنها فخالفا ـ ( بَدَتْ
لَهُمَا سَوْآ تُهُمَا )([11]) .
والذنوب والمعاصي هي التي تغيّر الحياة الحلوة
إلى حياة مرّة ، وتجعل الجنّة جهنّماً ، وتقلب السعادة إلى
الشقاوة ، كما في دعاء كميل ، ولكلّ ذنب نوعاً خاصّاً من الجزاء ،
فن يتعدّى الحدود ويخسر الميزان ، فإنّ له معيشةً ضنكاً مكفهرّة كبيت
العنكبوت ، وحياة تعيسة .
ولا بدّ من حكومة الميزان العدلي في حياة
الاُسرة ، والله سبحانه جعل بين الزوجين المودّة والرحمة ، كما في قوله
تعالى :
( وَمِنْ
آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً لِتَسْكُـنُوا إلَيْهَا
وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )([12]) .
والمودّة كما ذكرنا أعمّ من الحبّ ، فهي
حبّ مع الطاعة . والطاعة لا تعني الحبّ ، فلا يكفي الطاعة مجرّداً عن
الحبّ في الحياة الزوجيّة ، فقد جعل سبحانه وتعالى بينكم المودّة
والرحمة ، ولا تتحقّق المودّة إلاّ بالحبّ والطاعة ، كما أ نّه فرق
بين السكون والسكوت .
فالرجل يحبّ زوجته ويطيعها فيما أمر الله
به ، والمرأة تحبّ زوجها وتطيعه فيما أمر الله به ، دون أن يكون هناك
استبداد وتعنّت بينهما ، أو تعسّف أو ظلم يقع من أحد الطرفين على الطرف
الآخر ، وهذا معنى الرحمة .
فسبحانه ربط المودّة بالرحمة ، فإنّ
الرحمة هي الميزان الذي يحفظ كفّتي الحبّ والطاعة ، والحبّ الفارغ والخالي من
الطاعة يجعلك راكداً وجامداً في مكانك لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة في طريق من
تحبّ ، في حين أنّ الحبّ المعجون والمخلوط بالطاعة ، والطاعة التي تكون
صادرة من الحبّ يجعلك تنطلق وراء من تحبّه وتتفانى فيه .
ثمّ للإنسان زمامان : زمام العقل
وزمام الشهوة ، فهو بين جاذبتين وبين قوّتين : قوّة ملائكية وقوّة
حيوانية ، والعقل زمامه بيد الأنبياء ، والشهوة بيد الشيطان .
فالإنسان بين وساوس الشيطان الرجيم ،
يوسوس له الشرّ ويدعوه إلى المعصية ، ويزيّن له السوء حتّى يحسب أ نّه
يحسن صنعاً ، وبين إلهامات العقل بواسطة الملائكة يدعوه إلى الخير والصلاح
والتقوى والعلم النافع والعمل الصالح .
فالإنسان بين جاذبتين ، كما أنّ له
حجّتين : حجّة باطنية وهو العقل ، وحجّة ظاهرية وهم الأنبياء (عليهم
السلام) ،
وأحدهما يعضد الآخر ، لأ نّهما صدرا من الواحد الأحد ، فلا اختلاف
بينهما ، إلاّ أنّ دائرة الوحي ونطاق الأنبياء والشرع المقدّس أوسع من دائرة
العقل ، فربما العقل يدرك ما يقوله الشرع ، وربما لا يدرك فحينئذ يقرّ
بذلك أو يسكت من دون أن يخالفه .
فهناك
ارتباط وثيق بين الحجّتين كما بين الظاهر والباطن ، فإنّ الظاهر عنوان
الباطن . فالأنبياء (عليهم السلام) جاؤوا لإثارة دفائن
العقول ، وخلق الإنسان مخيّراً لا مسيّراً ، فهو مختار بين طريق العقل
وطريق الشهوة ، فإذا سار نحو الأنبياء وكان
في
نهجهم فإنّهم يثيرون عقله ويرفعونه ، ويأخذون بيده ليصعد قمم الكمال المنشود
في فطرته وجبلته ، وإذا سار نحو الشيطان ، فإنّه يشعل غرائزه
الحيوانية ، وينزله إلى أسفل درك من الجحيم .
والأنبياء
مسؤوليتهم إرواء العقل بنور العلم والفكر وتحريك الفطرة السليمة بالإيمان ،
وأمّا الشيطان فزيّن لهم أعمالهم .
ثمّ
الميزان إنّما ثقله بالإيمان والعمل الصالح ، فإنّه يرتفع ويرتفع صاحبه
معه :
( إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَّـيِّبُ )([13]) .
أي العمل
الصالح والخالص ، والعمل السيّئ يهبط ويهبط صاحبه معه لعدم الانفكاك
بين العلّة والمعلول :
( وَالوَزْنُ يَوْمَئِذ الحَقُّ )([14]) .
ثمّ الإسلام
العظيم يهتمّ ببناء الإنسان المعنوي الإلهي أكثر من اهتمامه ببنائه المادي
والناسوتي ، فإنّه وإن اهتمّ بغذائه لكيلا يصاب بسوء في التغذية ممّـا يؤدّي
به إلى أن يعاني من بعض الأمراض كفقر الدم وما شابه ذلك ، إلاّ أ نّه
أراد أن يتكامل الإنسان بروحه ليصل القمّة في الأخلاق الفاضلة والإنسانية ،
كما يتجلّى ذلك في العبادات والطقوس الدينية لبناء الإنسان
المعنوي ، ليتغلّب على الجانب المادي والحسّي .
وإنّما
يهتمّ الإسلام بالروح ، فإنّها من السماء ومن الله سبحانه :
( َنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )([15]) .
وأمّا
الجسد فمن الأرض والتراب ، وأوّله نطفة قذرة ، وأوسطه حامل
العذرة ، وآخره جيفة ميّتة ، وتبقى في الأرض لتعود يوم المعاد وتلحق
بالروح مرّةً اُخرى ، فالحاجات الجسدية أمر مشترك بين الإنسان وسائر
الحيوانات ، فلا يكون فارقاً ، بل يمتاز الإنسان عن
العجماوات بعقله وروحه وإيمانه ، فهي منطلق كلّ الفضائل والمكارم ، وهي
التي تعود إلى ربّها .
وكما أنّ
الجسد يمرض وبحاجة إلى العلاج والطبيب ، كذلك الروح ، وطبيبها الأنبياء
والأوصياء والعلماء الصالحين ، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله)
( طبيباً دوّاراً بطبّه ) ، وذلك لمعالجة الأرواح المريضة والأنفس
السقيمة وشفاء العقول الملوّثة وصولا إلى الله سبحانه تعالى ، فهو المصدر
وإليه المصير .
إلاّ أنّ
العجب العجاب من الناس كيف يهتمّون غاية الاهتمام بعلاج الأمراض الجسدية ،
ويبذلون الأموال الطائلة من أجل صحّة المزاج ، إلاّ أ نّهم غفلوا عن
أرواحهم وعن الأمراض الروحيّة والقلبيّة التي هي عبارة عن الرذائل وسوء الأخلاق
والسجايا الذميمة .
فهل هذا
يعني أنّ الجسد الذي يُبلى ويأكله التراب والديدان هو أفضل من الروح التي تبقى
وإنّها مجرّدة وخالدة ؟ ! !
هذا ويحتوي
الكتاب الذي بين يديك ـ بعد المقدّمة ـ على فصول
وخاتمة ، والله وليّ التوفيق والتسديد والصواب وإليه المآب .
الفصل الأوّل
التربية لغةً واصطلاحاً
من الواضح
أنّ المعاني والألفاظ بينهما علاقة وثيقة وارتباط عميق ، فإنّ الألفاظ
المستعملة في كلّ لغة إنّما هي جسر إلى المعاني ، وقد وضعت الألفاظ على
المعاني بوضع خاصّ في البداية ، ويسمّى هذا الوضع الأوّلي بالوضع
اللغوي ، فكلّ كلمة لا بدّ أن نعرف معناها اللغوي أوّلا ، والمتكفّل
لبيان المعاني هو معاجم اللغة ، ثمّ ربما ينقل اللفظ من معناه الأوّلي إلى
معنىً جديد يصطلحه البعض لنفسه ، فيسمّى بالمعنى المصطلح الثانوي ،
ويختلف باختلاف العلوم والفنون والصناعات والعرف .
وقبل
الورود في المباحث الخاصّة بموضوع التربية ، لا بدّ لنا أن نعرف معناها لغةً
واصطلاحاً ، عند علماء النفس والاجتماع والدين والفلسفة وغيرها .
فالتربية
أصلها اللغوي من كلمة ( ربّ ) ( رَبَبَ ) ، ولها معان
عديدة ، فتأتي تارةً بمعنى ( السياسة ) اللغوية ،
فيقال : ربّ القوم : ساسهم وكان فوقهم ، واُخرى بمعنى
( المِلك ) ، فيقال ربّ الشيء أي ملكه ، وتربَّبَ
الأرض : ادّعى أ نّه ربّها وصاحبها ، والربّ مصدر والجمع
أرباب وربوب : السيّد المالك ، والربّ من أسمائه تعالى فهو ربّ
العالمين ، والنسبة إليه : ربّي وربّاني ورُبُوبي ، والربّان
رئيس الملاّحين ، والربوبة والربوبية الاسم من الربّ ، المربوب العبد
والمملوك ، والربّاني : العالم الحبر العارف بالله تعالى .
ويأتي
بمعنى ( الاصلاح ) فربَّ الأمر أصلحه ، وارتبّ الولد :
ربّاه حتّى أدرك ، فالربّ المصلح ، والمربّي ، والربيب جمع
ربائب : الحاضنة بنت الزوجة ، امرأة الرجل إذا كان لها ولد من
غيره .
وتأتي
بمعنى ( الزيادة ) ، فربّ النعمة : زادها ،
والربّي النعمة الإحسان والمربّب المنعم عليه ، وتأتي بمعنى
( الإقامة ) فربا بالمكان : أقام ، وبمعنى
( الدوام ) فيقال : أربّت السحابة : أي دام
مطرها .
وبمعنى
( الجمع ) فيقال : ربّا الشيء : جمعه وتربّب
القوم : اجتمعوا : والرَبَب الماء الكثير ،
والربّة : الدار الضخمة ، وهذا مربّ القوم أي محلّ مجتمعهم ،
والرّباب : الجماعة .
وبمعنى
( الطيب والإجادة ) ( الجودة ) فيقال : ربا
الدهن : طيّبه وأجاده ، والربب : الماء العذب ،
والرّباب واحدته ( ربابة ) السحاب الأبيض ، والرّبى :
الحجة . ومعان اُخرى .
وفي مفردات
الراغب :
ربّ :
الربّ في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حدّ التام ،
يقال : ربّه وربّاه وربّبه ، وقيل : لأن يربّني رجل من
قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن .
والربّ مصدر مستعار للفاعل ـ أي
بمعنى اسم الفاعل ـ ولا يقال الربّ مطلقاً ـ أي من دون
إضافة إلى شيء آخر كربّ الدار وربّ الإبل كما قال عبد المطّلب :
إنّا ربّ الإبل وللبيت ربّ يحميه ، فلا يقال الربّ مطلقاً ـ إلاّ
لله تعالى المتكفّل بمصلحة الموجودات نحو قوله : ( بَلْدَةٌ
طَيِّـبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ )([16]) ،
وعلى
هذا قوله تعالى : ( وَلا يَأمُرَكُمْ أنْ
تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أرْبَاباً )([17]) ، أي
آلهة وتزعمون أ نّهم الباري مسبّب الأسباب ، والمتولّي لمصالح
العباد ، وبالإضافة يقال له ولغيره نحو قوله : ( رَبِّ
العَالَمِينَ )([18]) ، ( رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ )([19]) ،
ويقال : ربّ الدار وربّ الفرس لصاحبهما ، وعلى ذلك قوله
تعالى : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
فَأنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ )([20]) ،
وقوله تعالى : ( ارْجِعْ إلَى
رَبِّكَ )([21]) ...
واختصّ الرّاب والرابّة بأحد الزوجين إذا تولّى
تربية الولد من زوج كان قبله والربيب والربيبة بذلك الولد، قال تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ
اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ)([22]).
والرّباب السحاب سمّي بذلك لأ نّه يربّ
النبات ... وأربت السحابة دامت ، وحقيقته أ نّها صارت ذات
تربية . وتُصوّر فيه معنى الإقامة([23]) ...
أمّا التربية اصطلاحاً :
قال
المعلّم الثاني الفارابي في كتابه ( تحصيل السعادة )([24])
في تفسير التربية والتعليم : إنّ التعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في
الاُمم والمدن ، والتأديب هو
طريق
إيجاد الفضائل الخلقية والصناعات العلمية في الاُمم ، والتعليم هو بقول
فقط ، والتأديب هو أن يعود الاُمم والمدنيون الأفعال الكائنة عن الملكات
العلمية ، بأن تنهض عزائمهم نحو فعلها ، وأن تصير تلك وأفعالها مستولية
على نفوسهم ، ويجعلوا كالعاشقين لها .
وعند بعض
التعليم هو متعلّق العقل النظري أي ما يعلم به ، والتربية متعلّق العقل
العملي أي ما يعمل به .
التربية
والتعليم :
قال الله
تعالى في كتابه الكريم :
( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّـيِّينَ
رَسُولا مِنْهُمْ يَـتْلُو عَلَـيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ )([25]) .
كلّ بلد
متحضّر ومتمدّن في عصرنا هذا ، لا بدّ وأن يكون له ـ من جملة
وزارات دولته لإدارة البلد ـ ( وزارة التربية
والتعليم ) ، وأنّ له ( كلية التربية ) في جامعاته ، وفي
مدارسها ( كتاب التربية ) و ( درس
التربية ) ، وسعادة الإنسان بعلمه وثقافته ، كما أنّ تقدّم البلد
وحضارته ، وازدهار المجتمع وتمدّنه ، إنّما هو بالتربية والتعليم ،
والإسلام العظيم قد ركّز على هذين الركنين الأساسيين في حياة الإنسان على الصعيدين
الفردي والاجتماعي ، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى فلسفة البعثة النبوية
الشريفة ، وأ نّها تتلخّص بالتربية والتعليم : ( َيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ ) ، والتزكية تعني التربية ،
وهما بمنزلة سواء كجناحي الطائر ، فإنّ الإنسان إذا أراد أن يحلّق في سماء
الفضائل وآفاق المعرفة ، وينال قمّة السعادة وشموخ الكمال إنّما يكون
بالتربية والتعليم ، ولا بدّ منهما سويّة ، وإنّما يقدّم في البيان
التربية على التعليم فهو من باب بيان أهمية التربية البالغة ، فلولاها لما
كان الإنسان ينتفع بعلمه كما هو المطلوب ، بل لكان العلم هو الحجاب
الأكبر ، ولازداد بعداً عن الحقّ والحقيقة ، وسقط في هاوية الذلّ
والرذيلة ، فلا علم بلا تربية ، ولا تربية بلا علم .
« وقد استقطبت قضيّة التربية اهتمام كافّة الشرائع والاتجاهات
الاجتماعيّة في تأريخ البشر حتّى تحوّلت إلى محور لكافّة المدارس الفكريّة
والإلهيّة الأرضيّة .
وفي
التاريخين ـ الحديث والمعاصر ـ تكاثفت الكتابات حول
التربية ، بفضل وعي دورها في بناء الاُسرة وفي التغيير الاجتماعي ، إذ
اعتبرت التربية أساساً لبناء الاُسرة ، وموضوعاً خصب للتغيير
الاجتماعي ، وإعادة صياغة الحياة وفق المذهب الفكري المعتمد والإطار العقائدي
المنتخب . هذا الموقع المركزي للتربية احتلّ مكانته اللائقة في البناء
الإسلامي ـ وفي تاريخ المسلمين وفي حاضرهم ـ أكثر بكثير من
الاتجاهات الفكريّة والمذهبيّة الاُخرى ، لأنّ الإسلام ـ فضلا عن
سابقته على المذاهب والعقائد المعاصرة ـ قد انطوى في أحكامه ومفاهيمه
وجَوّهِ الحضاري ـ بل في منظومته الحياتية الكونيّة ـ على
وعيّ فريد ومبكّر لمضمون المقولة التربويّة ، وانفرد بموقف مميّز لعناصرها
ودورها وموقعها في حركة الإنسان والمجتمع فضلا عن بناء الاُسرة ، لأنّ
الإسلام يُختزل ـ دونما بساطة أو سذاجة أو
تحميل ـ إلى بعد تربوي يستهدف إعادة صياغة الإنسان في موقعه الفردي
وعلائقه الاجتماعية والبشرية ، بما يجعله منسجماً مع استعداداته الفطرية التي
جُبل عليها ، وبما يكيّفه ويحرّكه في ضوابط النسق التوحيدي الإلهي ليكون
الخليفة الحقّ ... »([26]) .
التربية
التكوينية والتشريعية :
نقصد من
التربية التكوينية : ما يتعلّق بالعالم التكويني ، فإخراج ما به
القوّة إلى الاستعداد حالا فحالا إلى حدّ التامّ ، في الكون مطلقاً سواء في
عالم الجواهر أو الأعراض ، وسواء في الموجودات السماوية أو الأرضية ،
وسواء في عالم الإنسان أو غيره يسمّى كلّ هذا بالتربية التكوينيّة ، فكون
النطفة مضغة ، ثمّ علقة ، ثمّ عظاماً ، ثمّ يكسى العظام
لحماً ، ثمّ يولد الجنين ويطوي المراحل من عالم الطفولة ثمّ الصباوة ثمّ
المراهقة ثمّ الشباب ثمّ الكامل ثمّ الشيخ ثمّ الكهل ثمّ العجوز ، كلّ هذا من
التربية التكوينية ، والمربّي الأوّل للكون هو الله سبحانه وتعالى ، فهو
ربّ العالمين في النشآت التكوينيّة .
وأمّا
التربية التشريعية : فنقصد منها الأحكام الشرعية التي أنزلها الله
سبحانه في صُحفه السماوية على أنبيائه (عليهم السلام) لهداية الناس
وتربيتهم تربية إنسانية ملكوتية ملائكيّة ، فإنّ الإنسان بإمكانه أن يصل من
خلال التربية التشريعية إلى قاب قوسين أو أدنى من الكمال والسعادة الأبديه ،
فيسعد في حياته وبعد مماته لو تربّى بتربية تشريعية
دينيّة ، لأنّ الدين جاء ليسعد الناس ويهديهم الصراط المستقيم ،
فيعلّمهم كيف يعيشون وكيف يموتون ؟ وما هي أسباب وعوامل السعادة
الدنيويّة والاُخرويّة ؟
من هو
المربّي ؟
المربّي
الأوّل في العالم التكويني ، وفي الطبيعة وما وراءها هو الله سبحانه ،
فهو ربّ العالمين ، وقد وردت كلمة الربّ ومشتقّاتها في القرآن الكريم في
( 980 ) مورداً .
جمع القرآن
الكريم علم الأوّلين والآخرين ، فهو الجامع لما في الكتب السماوية وفي
الأديان الإلهيّة ، فهو الكتاب المهيمن على الكتب السماوية والأرضيّة ،
فإنّه الجامع لكلّ العلوم والمعارف وما عند الأوّلين والآخرين .
ثمّ جمع ما
في القرآن في سورة الحمد ، وتصدّرت السورة بقوله تعالى : ( الحَمْدُ
للهِ رَبِّ العَالَمِينَ )([27]) ،
فوصف الله نفسه بالربوبيّة ، فهو المربّي الأوّل لكلّ العوالم العلوية
والسفليّة ، المجرّدات والماديّات ، ورعاية لقانون العلّية الحاكم على
الكون الرحب الوسيع جعل الله سبحانه ( فَالمُدَبِّرَاتِ
أمْراً )([28]) ،
فكانت العلل والمعاليل ويسودها قانون التربية ، كلّ ذلك برحمته الرحمانيّة
والرحيميّة .
ثمّ تجلّت
التربية الإلهيّة بحمل العلم الإلهي في الأنبياء (عليهم السلام) فإنّهم
مظاهر التربية الإلهية فقد بعثهم الله لتربية الناس وهدايتهم وإقامة العدل
والقسط ، فكان النبيّ مظهراً لمقام الربوبيّة ،
والعبودية جوهرة كنهها الربوبيّة ، فكان النبيّ محمّد (صلى الله
عليه وآله)
خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين ، عبد الله ورسوله .
ثمّ بعد
الأنبياء كان الأوصياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في خطّهم ونهجهم
وهديهم ، فكانوا مظاهر التربية الإلهية والنبويّة ، واُلقي على عاتقهم
مسؤولية تربية المجتمع وصيانة الإنسان وتهذيبه .
ثمّ بعدهم
العلماء ، فهم ورثة الأنبياء والأوصياء في علومهم وأخلاقهم ومسؤولياتهم
ومقاماتهم العامّة ، فإنّهم بحكم الوراثة حملوا على عواتقهم مسؤولية تربية
الإنسان ، فبعد أن هذّبوا أنفسهم وزكّوها ، وأفلحوا وأصلحوا
بواطنهم ، وبدأوا بأنفسهم في مقام التهذيب والتربية والتعليم حتّى بلغوا
المقام السامي في العلم النافع والعمل الصالح ، بعد أن أكملوا أنفسهم خرجوا
إلى الناس ودعوهم إلى ما يحييهم ، فتكفّلوا تربيتهم تربية صحيحة
وسليمة .
وبحكم
العلماء الصالحين : الآباء والاُمّهات ، فإنّهم من المربّين في
نطاق الاُسرة ، كما أنّ المعلّم منهم في نطاق المدرسة ومجال التعليم ،
وكذلك الأصناف والطبقات الاُخرى لا بدّ أن يكون فيهم مربّياً ومعلّماً ، وهذا
من سنّة الله ولن تجد لسنّة الله تحويلا ولا تبديلا .
فهؤلاء
كلّهم مظاهر ربّ العالمين في مقام التربية ، فما به الاشتراك بينهم عنوان
التربية الإنسانية ، ويمتازون في سعة دائرتها وضيقها ، وباعتبار اتجاه
التربية وعوالمها ومعالمها .
وفي علم
المنطق إنّ المسائل النظريّة لا بدّ أن تنتهي إلى البديهيات ، وهي
الذاتيات ، وإنّ الذاتي لا يعلّل ، ولولا ذلك للزم الدور والتسلسل
الباطلان كما هو ثابت في محلّه ، فالعلوم النظرية تنتهي إلى مقدّمات بديهيّة
ذاتية . كذلك التربية والمربّين ، فإنّها تنتهي إلى التربية الذاتية وهي
التربية الإلهيّة التي تنبع من الذات الربوبية جلّ جلاله ، والأبوان
المربّيان يرجعان إلى العلماء في تربية أنفسهما ، والعلماء إلى الأنبياء والأئمة
المعصومين (عليهم
السلام)
الذين يحملون التربية الذاتية ، فإنّهم يرجعون إلى الله ربّ العالمين ،
وهو المربّي الأوّل ، فتتجلّى تربيته التكوينية والتشريعية في خلقه ،
وفي الأنبياء والعلماء والآباء والاُمّهات . فالتربية العرضية الكسبية حينئذ
تنتهي إلى التربية الذاتية الثابتة ، فتدبّر .
أقسام
التربية :
يمكن أن
نقسّم التربية باعتبار المتكفّل والمربّي وباعتبار الموارد والمجالات إلى تقسيمات
عديدة ، فإذا كان المربّي رجل الدين وميدان التربية أحكام الدين في اُصوله
وفروعه وأخلاقه ، فإنّ ما يحصل من ذلك تسمّى بالتربية الدينية والتربية
الشرعيّة .
وإذا كان
المتكفّل هو العالم ، وموردها العلم فإنّها تسمّى بالتربية العلمية ،
وإذا كان المقصود تربية البدن بألعاب رياضية ، تسمّى التربية الرياضية ،
والتربية البدنية . وكذلك في عالم الفنّ ، تسمّى بالتربية
الفنّية ، وفي مجال الأخلاق تسمّى بالتربية الأخلاقية . وهكذا في كلّ
العلوم والفنون والمجالات العلمية والعملية ، فيعلم عنوان التربية من خلال
الإضافة .
متعلّقات
التربية :
باعتبار ما
يكون قابلا للتربية وهو ما فيه الحياة ، وهي الحياة النباتية والحيوانية
والإنسانية ، فالتربية عند الفلاّح أو الزارع أن يبذل جهده من أجل تربية
زرعه ، من اليوم الأوّل عندما يحرث الأرض وينقّيها ، ثمّ يزرع الحبوب
ويباريها ، بالفلاحة والسقاية والمعالجة ، وحتّى يوم الحصاد وقطف
الثمار ، فما فعله في عالم النباتات تسمّى بالتربية النباتية .
وسائس
الخيول ومربّيهم ، وكذلك الحيوانات الاُخرى يسمّى عملهم بالتربية
الحيوانية . ومعلّم الأولاد وما يفعله الآباء والاُمّهات في مجال التربية
يسمّى بالتربية الإنسانية وبتربية الإنسان . وإذا نسب إلى الله سبحانه يسمّى
بالتربية الإلهيّة ، كما قال النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) :
أدّبني ربّي فأحسن تأديبي .
الاُسرة لغةً واصطلاحاً
لقد نهجت
في مؤلفاتي في شتّى العلوم والفنون منهج القدماء بالنسبة إلى تعريف الموضوعات التي
قصدت بحثها والحديث حولها ، فأطرق أوّلا في معرفتها أبواب اللغة ، وذلك
من خلال المعاني اللغوية ، ثمّ المصطلحة ، لما يوجد من الارتباط الوثيق
بين المعاني اللغوية والمعاني المصطلحة في كلّ علم وفنّ .
فإنّ
المصطلح منقول غالباً بالنقل المألوف من المعنى اللغوي ، إمّا من المعنى
العامّ أو المعنى الخاصّ .
وموضوع
البحث هو الاُسرة :
والاُسرة
لغةً : من الأسر ، وهو الشدّ بالقيد ، من
قولهم : أسرت القتب ، وسُمّي الأسير بذلك ، ثمّ قيل لكلّ
مأخوذ ومقيّد وإن لم يكن مشدوداً ذلك . ويتجوّز به فيقال : أنا
أسير نعمتك ، واُسرة الرجل من يتقوّى به([29]) .
ويعتقد
البعض أنّ نظام الاُسرة إنّما هو نتاج الغريزة الجنسية ومقتضيات الطبيعة
الإنسانية ، وأ نّه لا يختلف عن نظائره في الفصائل الحيوانية
الاُخرى ، فهي وفق ما تمليه الغرائز الفطرية ، وتوحي به الميول
الطبيعية ، وشأنه شأن أشباهه في عالم الحيوان .
كما ويعتقد
البعض الآخر أنّ الاُسرة يؤسّسها الأفراد من قادة المجتمع ومشرّعيه ، فهو بيد
الإنسان المصلح ، وله أن يزيد وينقص في منشآته ، فيغيّر بما تشاء
أهواؤه .
كما ينظر
البعض إلى نظام الاُسرة بنظرة مستقلّة عمّـا عداه من النظم الاجتماعية
الاُخرى .
والحال أنّ
نظام الاُسرة في اُمّة ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات هذه الاُمّة وتقاليدها
وثقافتها وتأريخها وعرفها وعقلها الجمعي وما تسير عليه من نظم في شؤون السياسة
والاقتصاد والتربية والقضاء ، وما يكتنفها من ظروف في شتّى فروع
الحياة ، فهو كأيّ جهاز في جسم حيّ ، فنظام الاُسرة ليس من صنع
الأفراد .
ونطاق
الاُسرة في قديم الزمان كان يعني الانتماء إلى عشيرة يرمز لها بتوتم ، وهو
عبارة عن نوع من الحيوان أو النبات تتّخذه العشيرة رمزاً لها ولقباً لجميع
أفرادها .
ويلاحظ أنّ
معظم التواتم تتألف من أنواع من الحيوان والنبات ، وأنّ الحيواني منها أكثر
من النباتي ، ويندر أن يكون التوتم من الجماد أو من مظاهر الطبيعة ، فمن
بين التواتم الخمسمائة التي كشفها هويت عند العشائر الجنوبية الشرقية من سكان
استراليا الأصليين يرجع أربعمائة وستون منها إلى أنواع حيوانية ونباتية ،
وأربعون فقط إلى أنواع اُخرى كالسحاب والمطر والبرد والريح .
وعند
اليونان والرومان الاُسرة تعني ما ينتظم فيها جميع الأقارب من ناحية الذكور وهم
العصبة ، وتنتظم كذلك الأرقاء والموالي والأدعياء وهم الأفراد الذين يتبنّاهم
رئيس الاُسرة ، أو يدّعي قرابتهم له فيصبحون أعضاء في اُسرته ويمنحون
اسمها ، ويسمح لهم بالاشتراك في شؤونها الدنيوية وطقوسها الدينية . فهي
قائمة على الادّعاء لا على صلات الدم . وكان الوالد في الاُسرة اليونانية
القديمة يعرض من يولد له من أولاد على مجمع عصبته فإذا قبلهم المجمع التحق نسبهم
بأبيهم ، وعدّوا من عشيرته ، وإذا رفضهم انقطعت صلتهم بأبيهم وبعشيرته .
وكذلك كانت
الاُسرة عند العرب في الجاهلية ، حتّى أنّ ثروة الاُسرة كانت ملكاً مشاعاً
لجميع أفرادها ، أي كانت ملكاً لشخصها المعنوي لا الفردي ، والشريعة
المقدّسة الإسلامية قد غيّرت من نظامهم هذا في تحديد نطاق الاُسرة ، وألغت
آثاره في ما يتعلّق بالقصاص ، فقرّرت أنّ النفس بالنفس ، وأنّ التبعة في
القتل العمدي لا يحتملها إلاّ القاتل وحده ، وفي بعض الموارد احتفظت ببعض
قواعد هذا النظام الاُسروي عند العرب في ما يتعلّق بالدية في الجناية
الخطأية ، فإنّها على عاقلة الرجل ، أي أهله وبني عمامه ، فالقرابة
كانت عند العرب قائمة على الادّعاء لا على صلات الدم ، والشريعة الإسلامية
قضت على نظام الادعاء والتبنّي بقوله تعالى :
( وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءَكُمْ
أ بْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأ فْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَـقُولُ
الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ )([30]) .
وحرّمت أن
يدعى فرد إلى غير أبيه :
( ادْعُوهُمْ لآ بَائِهِمْ هُوَ أقْسَطُ
عِنْدَ اللهِ فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ )([31]) .
وقرّرت أنّ
( الولد للفراش ) .
ثمّ راح
نطاق الاُسرة يضيق يوماً بعد يوم حتّى عصرنا هذا ، فهو يعني الزوج والزوجة
والأولاد ، وتسمّى بالاُسرة الزوجية .
وأمّا
وظائف الاُسرة فهي تابعة لنطاقها سعة وضيقاً ، فكانت في القديم شاملة لمعظم
شؤون الحياة الاجتماعية ، إلاّ أ نّها تناقصت وتضاءلت شيئاً
فشيئاً ، إلى أن بقي في عهدتها تربية الاُسرة وتعليمها .
ثمّ إنّ
محور القرابة في الاُسرة وتطوّره ونظامه قد اختلفت فيه المجتمعات الإنسانية ،
فمنهم من يرى ذلك بالاُمّ ويسمّى بالنظام الاُمّي ، فمحور القرابة هي الاُمّ
وحدها ، فالولد يلتحق باُمّه ويعتبرون اُسرة الوالد أجانب عنه ، وهذا
النظام كان سائداً في العشائر الاسترالية القديمة ، ومنهم من يرى ذلك بالأب
ويسمّى بالنظام الأبوي ، فيعتمد على محورية الأب وحده ، فالولد يلتحق به
وباُسرة أبيه ، فالولد يتبع توتم أبيه وعشيرة الأب . ومنهم من يرى أنّ
محور القرابة عبارة عن الأبوين معاً مع أرجحية ناحية الأب من ناحية الاُمّ ،
ومنهم من يرى االمحور الأبوي من ترجيح جانب الاُمّ ، ومنهم من يراهما معاً من
دون ترجيح بينهما كما في الأنظمة الأوربية كما قيل ،
والحقّ أ نّها تميل في رجحان جانب الأب ، ومنهم من يرى أنّ محور القرابة
في الاُسرة قائمة على شيء آخر غير انحدار الفرد من أب معيّن أو من اُمّ معيّنة
كاتباعهم للتوتم عند تحرّك الجنين ، فتارةً يلحق بالأب واُخرى بالاُمّ ،
أو باعتبار الحمل وتكوّن الجنين كما كان في قديم الزمان . وظهر أنّ أساس
المحور لم يكن الدم ، وإلاّ فهو سواء بين الأب والاُمّ ، وإنّما هو تابع
للنظم الاجتماعية ، ويقرّه العقل الجمعي من قواعد خاصّة .
( ومسألة الاُسرة في خطورتها تحتلّ الرقم الأوّل في قائمة
المسائل الاجتماعية المهمّة لأ نّها نواة المجتمع وخليّته الاُولى بعد
الفرد ، وإنّ المجتمع يتكوّن من مجموع الاُسر ، والدائرتان لا تنفصل
إحداهما عن الاُخرى ، فالحديث عنها ليس ترفاً وإنّما حاجة اجتماعية ملحّة
تفرضها طبيعة المشاكل العائلية التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم نتيجة ابتعادها عن
الأخذ بالتشريع الإسلامي وأنظمته أخذاً كاملا يظلّل الاُسرة في كلّ أجهزتها
وأطرافها ... والحديث عنها من وجهة نظر إسلامية ليس غريباً ، وإنّما
واقع الإسلام في ملائمته لطبيعة الحياة وواقع الإسلام في إعداده كلّ ما تتطلّبه
شؤون الحياة من تنظيم ومشاكلها من حلّ بالقدر الذي يتناسب وطبيعتها هو الذي يدفع
إلى معالجة القضية على ضوء تشريعاته العادلة ... وبخاصّة حينما يهاجم تشريعنا
المقدّس فيغيّر باسم توحيد القانون تمشّياً مع إيديولوجيات الاستعمار الكافر تحت
عنوان ( قانون الأحوال الشخصية ) فيملي علينا واجب الدفاع المقدّس عن
حقوق الإنسان إبداء رأي الإسلام في أمثال هذا القانون .
وسيلمس
القارئ العزيز صواب النظرة الإسلامية في معرفة واقع الاُسرة كوحدة اجتماعية ،
وعدالة وحكمة التشريع الإسلامي في تنظيم شؤون الاُسرة من خلال بحوث الكتاب )([32]) .
أجل :
إنّ نظام الاُسرة في الإسلام أكمل وأصلح الأنظمة على الإطلاق ، ومن الجريمة
والخطأ الفادح الذي لا يغفر لمن أراد في البلاد الإسلامية والمجتمع الإسلامي أن
يجعل القوانين الموضوعة في الأحوال الشخصية بديلا عن الشريعة الإسلامية . فمن
يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .
والإسلام
العظيم لم يغفل عن أبسط الاُمور وأهونها ، فإنّه كيف يغفل عن الاُسرة الزوجية
التي تعدّ من أهمّ المؤسسات الاجتماعية في حياة الإنسان ، لما فيها
من الدوافع النفسية والطبيعية في تكوينها ، وما فيها من خطورة الوظائف
والغايات التي تناط بها وتتوقّف عليها في الحياة الفردية والاجتماعية .
فإنّ الاُسرة تعدّ هي الحجر الأساس والخليّة
الاُولى في تكوين المجتمع ، فلو سلمت وصلحت لسلم المجتمع وصلح ، فبقاء
المجتمع وصيانته وتماسكه إنّما هو ببقاء الاُسرة وصيانتها
وتماسكها ، فسعادة المجتمع وتقدّمه وازدهاره وحضارته إنّما هو رهين سلامة
الاُسرة وسعادتها . وإنّ أكثر مشاكلنا المعاصرة إنّما هي نتائج
الأوضاع المتدهورة في الاُسره . فجذور أكثر المشاكل والأزمات في حياة الفرد
والجماعة إنّما ترجع إلى الاُسرة .
( فالاُسرة
هي التي تمدّ المجتمع وتموّنه بالأفراد ، وسلامة هؤلاء الأفراد
ـ من ناحية نفسية وعقلية وجسمية وسلوكية ـ رهينة سلامة
الاُسرة وخلوّها من المرض والوراثة السيّئة والتلقّيات الرديئة ومن الانحراف
الخلقي والانشطار النفسي ومن أجواء الشقاق والبغضاء لأ نّها المحيط الأوّل
الذي ينشأ به الفرد ، ويتفاعل معه نفسياً وعاطفياً وفكرياً ، وبه تتبلور
شخصيّته وعنه يتلقّى قيم ومبادئ وتقاليد مجتمعه الكبير ، ومنه يتعرّف على
التشريعات ، والقوانين والضوابط الاجتماعية المختلفة التي تقوم في المجتمع
وهو أيضاً الذي يقرّر مدى ارتباطه بها ، وموقفه منها ، واحترامه لها
ـ غالباً ـ في مستقبل أيامه . لهذا كلّه اهتمّت
الشرائع الإلهية ـ وفي طليعتها الإسلام ـ والقوانين الوضعية
اهتماماً بالغاً بشؤون الاُسرة .
فشرّعت الأنظمة التي يبتني على أساسها الكيان
الاُسري ووضعت التشريعات المختلفة التي تحدّد وفقها حقوق وواجبات أفرادها تجاه
بعضهم ، ورصدت الحلول لما قد يعترض حياتها ويكتنفها من أزمات ومشاكل )([33]) .
فالاُسرة ركيزة المجتمع واللبنة الاُولى في
بناء الاُمّة وصرح يقام عليه
المجتمع
الإنساني الكبير ، ودعامة بناء الاُسرة هو زواج موفّق وناجح يربط بين زوجين
أوّلا برباط مكين يمنحهما التفاهم والوئام والاحترام المتبادل ، ويعصمهما من
الآثام والمنافرة وجرح المشاعر ، وثانياً تشتدّ الأواصر والعلاقة بينهما
بأزاهير تنشر أريج الطفولة في أرجاء المنزل فتملأ قلب الزوجين بشراً وحبّاً
وتفاؤلا بمستقبل زاهر وحياة زوجية سعيدة .
والإنسان مدني بالطبع ، فلا يستطيع أن
يعيش منفرداً إلاّ الشاذّ ، فلا بدّ له من اُسرة يسكن إليها ، ويفوح
منها عطر السعادة .
وجاء الإسلام ليشرّع ما يصون به البيت ويحمي به
البيئة وينظّم المجتمع والجماعة ، فأحاط الاُسرة بسياج منيع من قوّة
وتقوى ، وبثّ فيها روح التربية والتعليم ، وأحكم دعائمها بالعلم
والدين ، وقوّى بنيانها بالأخلاق والفضائل ، وشرّع لها من القوانين
والمثل العليا ما يعصمها من التفكّك والزلل ، فجعل لكلّ عضو من الاُسرة حقّ
يقابله واجب ينبغي أن يؤدّيه ، فجعل للزوجين حقوقاً وواجبات ، في خلالها
تسير سفينة الحياة في هذا المحيط المنزلي نحو ساحل النجاة ترسو سعيدة بعيدة عن
أعاصير الشقاق وأرياح النزاعات والاختلافات .
ولو طبّقنا الإسلام في حياتنا تطبيقاً كاملا
لسعدنا حقّ السعادة ، ولا بدّ أن نخرج المثل الإسلامية إلى حيّز الواقع
والتطبيق ، فنراعي التعاليم حقّ الرعاية ، ونحيلها إلى سلوك وعمل لإقامة
حياة سليمة وعيشة راضية ملؤها العاطفة الهانئة ، وتكوين بيئة متماسكة
متفاهمة ، وبناء مجتمع واع وحيٍّ أصيل .
والحقّ يقال : إنّ كثيراً من
المشاكل العائلية التي تنتهي إلى المحاكم إنّما هي نتيجة جهل الناس لأحكام الإسلام
وقوانينه الرصينة ، وما جاء بالنظام الاُسروي الناجح ، فلو عرفنا
الإسلام وما جاء في مصدر تشريعه ـ أي القرآن الكريم والسنّة
الشريفة ـ لسعدنا في حياتنا الفردية والاجتماعية ، ولكان لنا
البيت السعيد
والاُسرة
السعيدة . فلا بدّ أن نعرف التشريع الإسلامي العائلي . فإنّه مطابق
للفطرة السليمة وللعقل السليم ، فإنّ العقل الإسلامي لم يكن متحجّراً ولا
مقيّداً ولا سطحياً ولا جامداً . ومنشأ التشريع الإسلامي هو الوحي والسماء لا
القوانين الوضعية البشرية . كما أنّ التشريع الإسلامي قد نسخ الشرائع
السماوية والأرضيّة([34])
القديمة اُموراً ثمّ زاد عليها اُموراً اُخرى ، فهو الدين الكامل في كلّ عصر
ومصر .
فالإنسان إنّما يعيش السعادة والطمأنينة في ظلّ
الاُسرة التي يحكمها الإسلام ، وفي الاُسرة المسلمة يسكن القلب ويطمئن ،
وما أجملها تلك اللحظة التي يعود فيها الأب المسلم إلى بيته وسكنه حيث يلتقي بزوجه
وأولاده ، فينسى همومه وأحزانه ، ويغرق في أجواء صافية غنيّة بالعلاقات
الإنسانية ، ولا يتوفّر هذا إلاّ في الاُسرة الإسلامية التي صحّ إسلامها
لصحّة العقيدة والتطبيق الكامل ، وإلاّ فإنّ الاُسر باتت مهدّدة بمفاهيم
الغرب وقوانينه الوضعية الأرضية ، ووقعت البلايا السوداء في الاُسرة
الإسلامية من يوم انخداعهم بمظاهر الغرب الفاتنة ، ( وإنّ مئات الملايين
من المسلمين من نيجيريا إلى الباكستان إلى أندونيسيا إلى سائر أرجاء المعمورة
يرزحون تحت قوانين لا تمتّ إلى الإسلام بصلة لا من قريب ولا من بعيد ، إنّهم
لا يعرفون طعم الإسلام ولا سيرة نبيّه ولا قدسيّة قوانينه ، فقوانين الإسلام
عندهم لا تتخطّى أبواب المحاكم الشرعية من زواج أو طلاق ، هذا كلّ ما عندهم
عن الإسلام ، ولا يكون الخلاص إلاّ بنبذ المفاهيم والثقافات الغربية ،
والعودة إلى ينابيع الثقافة والمفاهيم الإسلامية ، وقد بات واضحاً عجز الفكر
البشري عن تقديم منهج يوفّر للإنسان سعادته وإنسانيّته ، ولم يبقَ أمام
الإنسان سوى المنهج الإلهي طريقاً للخلاص ، فما يتخبّط فيه من بؤس
وضياع ، إنّ الفكر الإلهي الذي أنزله الله من خلال الأنبياء والمتمثّل
بالشرائع السماوية التي اُريد لها أن تكون حاكمة على القوانين البشرية
الوضعية ، ثمّ كان الفكر الإلهي كاملا متكاملا برسالة أعظم الأنبياء
والمرسلين وخاتمهم محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)ليكون هو
المنهج الأبدي الذي يوفّر للإنسان الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة ، فيفوز
بسعادة الدارين :
( اليَوْمَ
أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإسْلامَ دِيناً )([35]) .
فلا حدود للفكر الإلهي طاقةً وزماناً ومكاناً
بخلاف العقل البشري المحدود والعاجز ، فالفكر الإلهي يعلّم الإنسان
أ نّه خلق في أحسن تقويم وأنّ حياته ليست محدودة بما يعيشه
على الأرض من أيام ، بل هي ممتدّة عبر الزمان والمكان ، ولقد كان له
لقاء مع ربّه في عالم الذرّ وآمن به ولبّى لتوحيده ، فكان في فطرته الاتجاه
إلى الله ومنذ الطفولة يتساءل عن ربّه ويبحث عن العلّة ، وإنّه لا بدّ لكلّ
سبب من مسبّب ولكلّ مصنوع من صانع ، وكلّ مولود يولد على الفطرة ، إلاّ
أنّ أبويه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه .
فجاء الإسلام ليصلح الاُسرة ، فإنّ
المجتمع الصالح يقوم على الاُسرة الصالحة ، فإنّه يتكوّن من مجموع
الاُسر ، فإنّ الاُسرة تَصُبُّ في المجتمع .
والإنسان إنّما يتحرّك بدافع من أحد
منهجين : المنهج البشري والمنهج الإلهي ، فثمّة قانون الأرض وهو
القوانين الوضعية البشرية ، وثمّة قانون السماء وهو قانون الله سبحانه ،
وهذا يعني أنّ الفكر البشري من صنع البشر والفكر الإلهي بوحي من السماء ، ولا
بدّ للناس من منهج يربّيه ويعلّمه كيف يعيش مع ربّه ونفسه ومع اُسرته ومجتمعه
والطبيعة التي هو فيها . والفكر البشري ليطغى حتّى ينكر الله سبحانه .
فكيف يحدّد علاقة الإنسان بالله ؟ والكلّ يعرف المؤامرات التي تحاك
لتفكيك الاُسرة وتدميرها ، فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي بنت حضارتها
على المادة ولها حضارة مادية متفوّقة حيث أرسلت سفنها إلى الفضاء الفسيح تجوب في
أرجائه المختلفة ، إلاّ أ نّها عاجزة عن بناء اُسرة واحدة يعيش أبناؤها
بسعادة واطمئنان في ظلّ حنان الأبوين ورأفتهما ، وما أن تبلغ البنت الثانية
عشرة أو الرابعة عشرة في الاُسر التي يسمّونها ( محافظة ) حتّى يفتح
الآباء الباب ويقولون لها : ( أنت حرّة الآن فاخرجي وافعلي ما
تريدين ، أنت الآن امرأة ناضجة والقانون يعطيك حرّية التصرّف بكلّ ما
يخصّك ) ، فماذا تكون النتيجة ؟ تخرج البنت وهي في عمر
الورود فتلقي بنفسها في خضمّ مجتمع نخره الفساد ، فذئاب الشهوات والغرائز
المنحرفة في انتظارها ، ولن يقدّموا لها رغيف خبز إلاّ بثمن من عفّتها
وكرامتها ، وبعد سنة أو سنتين من تشرّدها ، تصبح رقماً من ملايين الشباب
والشابات الذين وقعوا ضحايا الحشيشة والماريجوانا والهيرويين وسائر السموم القاتلة
التي تقدّمها دهاليز الدعارة ومافيات المخدرات . هذا حال الأبناء فما هي حالة
الآباء ؟ إنّهم في دور العجزة لا حول لهم ولا طول ، هذه هي أحوال
الاُسرة في أميركا وسائر البلدان التي جحدت بالله والدين والأخلاق ، وقد
ارتفعت أصوات علماء الاجتماع صارخة : الغوث الغوث ... ساعدونا في
ترميم الاُسرة وإعادة بنائها )([36]) .
الفصل الثاني
الزواج التكويني
من القوانين والسنن الطبيعية الحاكمة على الكون
بتمامه ، بل على ما سوى الله سبحانه هو قانون الزوجيّة ، ليكون دليلا
على فردانيّة الله سبحانه ووحدانيّته ، فإنّه عزّ وجلّ وحده لا شريك
له ، ولا ندّ ولا ضدّ ولا مثل ولا زوج له .
وكلّ من يدّعي لا بدّ أن يكون له بيّنة ،
فلا تقبل دعوىً من دونها كما في الشرائع السماوية والقوانين الوضعيّة ،
وتسمّى بالبيّنة الشرعيّة ، وهي عبارة عن شاهدين عدلين ، وبها تتمّ
الدعوى وتكون حقّة .
والله سبحانه له بيّنة تكوينية تشهد على
وحدانيّته وفردانيّته ، وهي قانون الزوجية ، فإنّه خلق من كلّ شيئين
زوجين ليكون آية من آياته على أ نّه واحد لا شريك له ، فإنّ
الزوجية يستلزمها التركيب ، ولازم التركيب الاحتياج والافتقار ، وهو
يتنافى مع الواجب الوجود لذاته ، بل الاحتياج من خواصّ الممكن ، والله
سبحانه هو الغنيّ الحميد ، فلا تركيب فيه ، ولا ندّ ولا ضدّ له ،
فهو الوجود البحت البسيط الواحد الذي لا ثاني له ، والأحد الذي لا تركيب
فيه ، وإلى قانون الزوجية يشير سبحانه الكريم في كتابه الحكيم :
( أوَ
لَمْ يَرَوْا إلَى الأرْضِ كَمْ أ نْبَـتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج
كَرِيم )([37]) .
( اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ وَأ نْبَـتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْج بَهِيج )([38]) .
( وَمِنْ
كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )([39]) .
( وَأ نَّهُ
خَلَقَ الزَّوْجَـيْنِ الذَّكَرَ وَالاُ نْثَى )([40])
( سُبْحَانَ
الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ )([41]) .
( وَاللهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً )([42]) .
( وَمِنْ
آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً لِتَسْكُـنُوا
إلَيْهَا )([43]) .
( وَاللهُ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ جَعَلَكُمْ
أزْوَاجاً )([44]) .
( وَمِنَ
الأ نْعَامِ أزْوَاجاً )([45]) .
( هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )([46]) .
( خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْس وَاحِدَة ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )([47]) .
( يَا أ يُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا )([48]) .
فمن الآيات
التي يستدلّ بها على وحدانية الله وأحديّته ، أي لا ثاني له ولا تركيب
فيه ، هو زوجيّة كلّ شيء ، فإنّه وإن خلق الإنسان من نفس واحدة ،
إلاّ أ نّه خلق منها زوجها ، فخلق آدم (عليه
السلام)
وخلق حوّاء من فاضل طينته ، وكانت زوجاً له .
\\\\\\ ومن مصاديق الأزواج العقل الكلّي والنفس
الكلّي ، وزوج الأرض السماء ، زوج الليل النهار ، ومن الأزواج
العلم والعمل ، والوجود والماهيّة ، وكلّ مذكّر ومؤنّث من النباتات
والحيونات والإنسان ، والروح المتكوّن من نطفة الرجل ، والبدن المتكوّن
من نطفة المرأة .
فقانون
الزوجيّة حاكم على كلّ شيء حتّى أعصاب المخّ الإنساني ، فإنّه متكوّن من
أعصاب زوجيّة ، ثمّ النكاح أي اللقاح التكويني هو الحاكم في قانون
الزوجية ، ويتولّد منه العوالم المعنوية والروحية والنفسية والمثالية
والحسّية ، ففي عالم الأجساد والطبيعة والعنصرية يتولّد منه المولّدات
الثلاثة ( المعادن والنباتات والحيوانات ومنها الإنسان ) ومن النكاح ما
يختصّ بالإنسان الكامل والكون الجامع ، ويكون الروح بمنزلة الزوج ،
والنفس بمنزلة الزوجة .
ثمّ
الإنسان الكامل سواء الرجل أو المرأة هو ثمرة شجرة الوجود ، فهو غاية
الحركتين الوجودية والإيجادية ، والمرأة بمنزلة المصنع الإلهي ، فهي
كالشجرة الطيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي اُكلها كلّ حين .
والإنسان
الكامل لو كان رجلا ، فهو مظهر العقل الكلّي ، وإن كان امرأة فهو مظهر
وصورة النفس الكلّية .
يقول
الراغب الإصفهاني في مفردات القرآن الكريم([49]) :
زوج :
يقال لكلّ واحد من القرينتين من الذكر والاُنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج ،
ولكلّ قرينتين فيها وفي غيرها زوج كالخفّ والنعل ، ولكلّ ما يقترن
بآخر مماثلا له أو مضادّ زوج ، قال تعالى : ( فَجَعَلَ
مِنْهُ الزَّوْجَـيْنِ الذَّكَرَ وَالاُنثَى )([50]) ،
وقال : ( وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ )([51]) .
وزوجة لغة رديئة ، وجمعها زوجات ، قال الشاعر : ( فبكا
بناتي شجوهن وزوجتي ) ، وجمع الزواج أزواج ، وقوله : ( هُمْ
وَأزْوَاجُهُمْ )([52]) ، ( احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأزْوَاجَهُمْ )([53]) أي
أقرانهم المقتدين في أفعالهم ، ( إلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أزْوَاجاً مِنْهُمْ )([54]) أشباهاً
وأقراناً ، وقوله : ( سُبْحَانَ
الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ )([55]) ، ( وَمِنْ
كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ )([56]) ،
فتنبيه أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهر وعرض ومادّة وصورة ، وأن لا شيء
يتعرّى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً ، وأ نّه لا بدّ له من صانع ،
تنبيهاً أ نّه تعالى هو الفرد ، وقوله : ( خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ )([57]) فتبيّن
أنّ كلّ ما في العالم زوج من حيث أنّ له ضدّاً أو مثلا ما ، أو تركيباً
ما ) بل لا ينفكّ بوجه من تركيب ، وإنّما ذكر هنا زوجين تنبيهاً أنّ
الشيء وإن لم يكن له ضدّ ولا مثل ، فإنّه لا ينفكّ من تركيب جوهر وعرض وذلك
زوجان ، وقوله : ( أزْوَاجاً مِنْ نَبَات
شَتَّى )([58]) أي
أنواعاً متشابهة ، وكذلك قوله : ( مِنْ
كُلِّ زَوْج كَرِيم )([59]) ، ( ثَمَانِيَةَ
أزْوَاج )([60]) أي
أصناف ، وقوله : ( وَكُـنتُمْ أزْوَاجاً
ثَلاثَةً )([61]) أي قرناء
ثلاثاً ، وهم الذين فسّرهم بما بعد ، وقوله : ( وَإذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ )([62]) فقد
قيل : معناه قرن كلّ شيعة بمن شايعهم في الجنّة والنار ،
نحو : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأزْوَاجَهُمْ )([63]) .
| |
 |
 |