ثمّ الخوف من علائم الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) ، كما أخبرنا بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال لأمير المؤمنين (عليه السلام)  : يا عليّ ، طوبى لمن أحبّك وصدّق بك ، وويلٌ لمن أبغضك وكذّبك ، محبّوك معرّفون في السماء السابعة والأرض السابعة السفلى وما بين ذلك ، هم أهل الدين والسمت الحسن والتواضع لله عزّ وجلّ ، خاشعة أبصارهم وجلة قلوبهم لذكر الله ، وقد عرفوا حقّ ولايتك ، يدينون لله بما أمرهم به اُولو الأمر منهم ، متواصلون غير متقاطعين ، غير متباغضين ، إنّ الملائكة لتصلّي عليهم وتؤمّن على دعائهم ، وتستغفر للمذنب منهم ، وتشهد حضرته ، وتستوحش لفقده إلى يوم القيامة([197]) .

             قال الإمام الكاظم (عليه السلام)  : لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ، ويجد حقيقتها بقلبه .

             ومعنى  : من عقل عن الله ، أي حصل له معرفة ذاته وصفاته المقدّسة من علمه وحكمته ولطفه ورحمته ، أو أعطاه الله عقلا كاملا ، أو علم الاُمور بعلم ينتهي إلى الله بأن أخذه عن أنبيائه وحججه (عليهم السلام) ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة ، أو بلغ عقله إلى درجة يفيض الله علومه عليه بغير تعليم بشر أو تفكّر فيما أجرى الله على لسان الأنبياء والأوصياء ، وفيما أراه من آياته في الآفاق والأنفس وتقلّب أحوال الدنيا وأمثالها . والثاني أظهر لقول الكاظم (عليه السلام) لهشام  : يا هشام ، ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله([198]) .

             والخوف هو تألّم القلب واحتراقه بسب توقّع مكروه في الاستقبال مشكوك الوقوع .

             وهو على نوعين  : مذموم بجميع أقسامه ، وهو الذي لم يكن من الله ، ولا من صفاته المقتضية للهيبة والرعب ، ولا من معاصي العبد وجناياته ، وممدوح وهو الذي يكون من الله ومن عظمته ومن خطأ العبد وذنوبه([199]) ...

             وله أقسام  :

             الأوّل  : أن يكون من الله سبحانه ومن عظمته وكبريائه وهذا هو المسمّى بالخشية والرهبة في عرف أرباب القلوب .

             الثاني  : من جناية العبد باقترافه المعاصي .

             الثالث  : أن يكون منهما جميعاً وكلّما ازدادت المعرفة بجلال الله وعظمته وتعاليه وبعيوب نفسه وجناياته ازداد خوفاً .

             قال سيّد الرسل  : أنا أخوفكم من الله .

             وقد قرع سمعك حكايات خوف زمرة المرسلين ومن بعدهم من فِرق الأولياء والعارفين وعروض الغشيات المتواترة في كلّ ليلة لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذا مقتضى كمال المعرفة الموجب لشدّة الخوف ، إذ كمال المعرفة يوجب احتراق القلب . فيفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والصفار والغشية والبكاء . وإلى الجوارح بكفّها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافياً لما فرط في جنب الله ومن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فليس على شيء من الخوف . ولذا قيل  : ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه . وقال بعض الحكماء  : من خاف شيئاً هرب منه ، ومن خاف الله هرب إليه وإلى الصفات بقمع الشهوات وتكدّر اللذات ، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة ، فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدّب الجوارح ، ويحصل في القلب الذبول والذلّة والخشوع والاستكانة وتفارقه ذمائم الصفات . ولا يكون له شغل إلاّ المجاهدة والمحاسبة والمراقبة والضنّة بالأنفاس واللحظات ، ومؤاخذة النفس في الخطرات والكلمات .

             وأقلّ درجات الخوف ممّـا يظهر أثره في الأعمال أن يكفّ عن المحظورات ويسمّى الكفّ منها ( ورعاً ) فإن زادت قوّته كفّ عن الشبهات ويسمّى ذلك ( تقوى ) إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، وقد يحمله على ترك ما لا  بأس به مخافة ما به البأس ، وهو الصدق في التقوى ، فإذا انضمّ إليه التجرّد للخدمة وصار ممّن لا يبني ما لا يسكنه ، ولا يجمع ما لا يأكله ، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أ نّه يفارقها ، ولا يصرف إلى غير الله نفساً عن أنفاسه ، فهو ( الصدق ) ويسمّى صاحبه ( صديقاً ) فيدخل في الصدق التقوى وفي التقوى الورع وفي الورع العفّة لأ نّها عبارة عن الامتناع من مقتضى الشهوات ، فإذن يؤثّر الخوف في الجوارح بالكفّ والإقدام([200]) .

             الخوف منزل من منازل الدين ، ومقام من مقامات الموقفين ، وهو أفضل الفضائل النفسانية ، إذ فضيلة الشيء بقد إعانته على السعادة ، ولا سعادة كسعادة لقاء الله والقرب منه ، ولا وصول إليها إلاّ بتحصيل محبّته والاُنس به ، ولا يحصل ذلك إلاّ بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلاّ بدوام الفكر ، ولا يحصل الاُنس إلاّ بالمحبّة ودوام الذكر ، ولا تتيسّر المواظبة على الفكر والذكر إلاّ بانقلاع حبّ الدنيا من القلب ، ولا  ينقلع ذلك إلاّ بقمع لذّاتها وشهواتها ، وأقوى ما تنقمع به الشهوة هو نار الخوف ، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات ، ففضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات ، ويكفّ من المعاصي ، ويحثّ على الطاعات ، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف .

             قال الله تعالى  :

             (  إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ  )([201]) .

             وهذا يدلّ على أنّ الخوف من الإيمان ، كما أنّ الإنسان كلّما ازداد علماً نافعاً ازداد خوفاً  :

             (  إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ  )([202]) .

             ومن يخاف الله رضي الله عنه  :

             (  رَضِيَ اللهُ عَـنْهُمْ وَرَضُوا عَـنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ  )([203]) .

             وأمرنا الله بالخوف منه  :

             (  وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ  )([204]) .

             ومدح الخائفين بالتذكّر في قوله  :

             (  سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى  )([205]) .

             ووعدهم الجنّة والجنّتين  :

             (  وَأمَّا مَنْ خَافَ مَـقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّـفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإنَّ الجَـنَّةَ هِيَ المَأوَى  )([206]) .

             (  وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّـتَانِ  )([207]) .

             وقال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)  : « رأس الحكمة مخافة الله » .

             وقال (صلى الله عليه وآله)  : « من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء » .

             وقال (صلى الله عليه وآله) لابن مسعود  : « إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي » .

             وقال (صلى الله عليه وآله)  : « أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفاً » .

             قال الإمام الصادق (عليه السلام)  : « من عرف الله خاف الله ، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنيا » .

             وقال (عليه السلام)  : « إنّ حبّ الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب » .

             وقال (عليه السلام)  : « المؤمن بين مخافتين  : ذنب قد مضى ما يدري ما صنع الله فيه ، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك ، فهو لا يصبح إلاّ خائفاً ، ولا  يصلحه إلاّ الخوف » .


4

القلب المطمئن

             (  الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ  )([208]) .

             الاطمئنان بمعنى سكون النفس ، ثمّ الإيمان بالله لا يعني الاعتقاد بوجوده وحسب ، فإنّه من الناس  :

             (  وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أ نْفُسُهُمْ  )([209]) .

             فإنّ الإيمان بوجود الله يجتمع مع الإنكار والجحود ، وهذا يعني أنّ الإيمان ليس الإدراك فقط ، بل عقد القلب بما يعلمه ويدركه فينشرح صدره ، كما في قوله تعالى  :

             (  فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأ نَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ  )([210]) .

             فالمؤمن يطمئنّ قلبه بذكر الله سبحانه ، ويخلص من الاضطراب والقلق ، وأمّا الخوف من الله فهو يعني الخوف من أعمالنا القبيحة ومن الذنوب التي يرتكبها الإنسان ، فإنّ الخوف منشؤه حدوث شرّ في المستقبل . فإذا ذُكّر المؤمن بآيات الله وجل قلبه وخاف من مصيره ، وحينما يذكّر بنعم الله ورحمته فإنّه يمطئنّ قلبه وينيب إلى ربّه ، فمن يتوجّه إلى ثواب الله وسعة رحمته فإنّه يسكن قلبه ، ويأمل رحمة ربّه ، ويركن إلى سعة فضله ، فيمطئنّ قلبه وتسكن نفسه ، فمن أحسّ وتذكّر ذنوبه فإنّه يضطرب وييأس إلاّ أ نّه حينما ينظر إلى رحمة الله وغفرانه ، فإنّه يسكن ويرتاح . فذكر الله يسكّن آلام القلوب ، ومن مات قلبه بالذنوب والمعاصي فحياته بذكر الله وجلاء قلبه بذكر الله ، فذكر الله نور ونار ، ومن اشتاق إلى رحمة ربّه ، فإنّه يدفع عن نفسه اليأس والاضطراب ويزداد إيماناً ويقيناً ، كما في قوله تعالى في قصّة إبراهيم الخليل (عليه السلام) لمّـا اُخبر بالخلّة فطلب منه سبحانه أن يحيي له الموتى ، فقال  :

             (  أوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي  )([211]) .

             وقال سبحانه  :

             (  هُوَ الَّذِي أ نْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِـيَزْدَادُوا إ يمَاناً مَعَ إ يمَانِهِمْ  )([212]) .

             ومن علائم الإيمان وزيادته الصبر ، كما في قوله  :

             (  وَلَمَّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً وَتَسْلِيماً  )([213]) .

             ومن علائمه معاداة أعداء الله حتّى لو كان أقرب الناس إليه ، كما في قوله  :

             (  لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أ بْنَاءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ اُوْلَئِكَ كَـتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ  )([214]) .

             وهو روح الإيمان ، وقوله  : (  بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي  ) يدلّ على أنّ الإيمان واليقين قابلان للشدّة والضعف ، قال الطبرسي  : بلى أنا مؤمن ، ولكن سألت ذاك لأزداد يقيناً إلى يقيني ، وقيل  : لاُعاين ذلك ويسكن قلبي إلى علم العيان بعد علم الاستدلال ، وقيل  : ليطمئنّ قلبي بأ نّك قد أجبت مسألتي واتّخذتني خليلا كما وعدتني .

             وقوله  : (  هُوَ الَّذِي أ نْزَلَ السَّكِينَةَ  ) هي أن يفعل الله بهم اللطف الذي يحصّل لهم عنده من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم ، وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة الدالّة عليه ، فهذه النعمة التامّة خاصّة بالمؤمنين ، وأمّا غيرهم فتضطرّ نفوسهم لأوّل عارض من شبهة ترد عليهم ولا يجدون لردّ اليقين وروح الطمأنينة في قلوبهم ، وقيل  : هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم ويثبتوا في القتال وتحمّل المشاكل والمصاعب من أجل ترويج الدين وإعلاء كلمة الإسلام والمسلمين .

             الكافي ، بسنده عن أبي خديجة ، قال  : دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي  : إنّ الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كلّ وقت يحسن فيه ويتّقي وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً وتربحوا نفيساً ثميناً ، رحم الله امرىءً همّ بخير فعمله ، أو همّ بشرّ فارتدع عنه ، ثمّ قال  : نحن نؤيّد الروح بالطاعة لله والعمل به([215]) .

             في نهج البلاغة ، عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : « إنّ الإيمان يبدو لمظة في القلب ، كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة ) . اللمظة  : البياض .

             كما أنّ الإيمان ربما يكون مستودعاً كما في قوله تعالى  :

             (  وَهُوَ الَّذِي أنشَأكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ  )([216]) .

             راجع البحار الجزء 66 ، باب 34 أنّ الإيمان مستقرّ ومستودع وإمكان زوال الإيمان وذلك بالذنوب والمعاصي والآثام .

             (  ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أسَاؤُوا السُّوءَى أنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ  )([217]) .

             قال أبو عبد الله (عليه السلام)  : « ومنهم من يعير الإيمان عارية ، فإذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان » .


5

القلب الخاشع

             (  أ لَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُـلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ  )([218]) .

             ( يأن ) فعل مضارع مجزوم بلم ، أصله ( أنى ) بمعنى قرب وحضر وحان وقته ، وخشوع القلب تأثيره عند مشاهدة عظمة الله وكبريائه ، فكلّ ما يذكر الإنسان بربّه فإنّه يتجلّى لديه عظمة خالقه وبارئه ومدبّر أمره ، فيخشع قلبه ، فالمؤمن عندما يُذكّر بآيات الله وما نزل من الحقّ ، فإنّه سرعان ما يخشع قلبه ، وتخضع جوارحه ، ويتذلّل أمام الله عزّ وجلّ .

             والخشوع الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد في الجوارح([219]) .

             وضدّ الخشوع التكبّر وحبّ الذات  :

             (  الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي  )([220]) .

             فالذين قست قلوبهم لا يخشعون ولا يتذلّلون أمام آيات الله وما نزل من الحقّ ، فيستكبرون عن عبادة الله ويتكبّرون على الخلق .

             (  إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ  )(4) .

             قال الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام  : يا هشام ، إنّ الزرع ينبت في السهل ولا  ينبت في الصفا ( الحجر الصلب ) ، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ، ولا  تعمر في قلب المتكبّر الجبّار ، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل ، وجعل التكبّر من آلة الجهل ، ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السقف برأسه شجّه  ؟ ومن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه  ؟ فكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله ، ومن تواضع لله رفعه([221]) .

             وفي حديث عن رسول الله  : علامة الخاشع أربعة  : مراقبة الله في السرّ والعلانية ، وركوب الجميل ، والتفكّر ليوم القيامة ، والمناجاة لله([222]) .

             وثمرة العلم ونتيجته الصادقة هو الخشوع والخضوع لله سبحانه .

             عن مولانا الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام)  : مكتوب في الإنجيل  : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون وما تعملون بما علمتم ، فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفراً ، ولم يزدد من الله إلاّ بُعداً .

             واعلم أ نّه ليس العلم عبارة عن استحضار المسائل وتقرير الدلائل والبحوث ، بل هو ما زاد في خوف العبد من الله سبحانه ، ونشط في عمل الآخرة وزهد في الدنيا .

             قال العالم (عليه السلام)  : أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلاّ به ، وأوجب العلم بك ما أنت مسؤول عن العمل به ، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك وأظهر لك فساده ، وأحمد العلم عاقبةً ما زاد في عملك العاجل ، فلا تشتغلنّ بعلم ما لا يضرّك جهله ، ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه .

             ثمّ انظر الآيات الواردة بمدح العلم تجدها واصفات العلماء بما ذكرناه . قال الله
تعالى  :

             (  إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ  )([223]) .

             فوصفهم بالخشية ، وقال تعالى  :

             (  أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آ نَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ  )([224]) .

             فوصفهم بإحياء الليل بالقيام ومواصلة الركوع والسجود والخوف .

             وقال الصادق (عليه السلام)  : الخشية ميراث العلم ، والعلم شعاع المعرفة ، وقلب الإيمان ، ومن حرم الخشية لا يكون عالماً وإن شقّ الشعر بمتشابهات العلم .

             قال معاذ  : تعلّموا العلم ، فإنّ تعلّم العلم لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومداومته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وآدابه خمسة  : تقديم تطهير النفس عن رذائل الأخلاق ، وتقليل العلائق ، والانقياد إلى إشارة المعلّم ، وأن يكون قصده تخلية باطنه في الحال ، وتحصيل السعادة إلى الاستقبال .

             قال عيسى (عليه السلام)  : أشقى الناس من هو معروف عند الناس بعلمه مجهول بعمله .

             قال النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)  : مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه . وعلمٌ لا ينفع ككنز لا ينفق منه . وعالم لا يعمل بعلمه فالعلم والعالم في النار([225]) .


6

القلب المتّقي

             (  ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ  )([226]) .

             ( ذلك ) خبر لمبتدأ محذوف يعني ( الأمر كذلك ) أي القضيّة حقاً كذلك يكون بأ نّه من يعظّم ويقدّس شعائر الله فإنّ ذلك من علامة تقوى قلبه ، و  ( الشعائر ) جمع  شعيرة بمعنى العلامة ، فـ  ( شعائر الله ) العلائم التي وضعها الله لتذكّر الإنسّان بربّه  :

             (  إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ  )([227]) .

             (  وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ  )([228]) .

             فالجبل المنسوب إلى الله ، والجمل المنسوب إلى الله يكون من شعائر الله ، وكلّ شيء ينسب إليه سبحانه فهو علامة تشير إلى عظمته وصفائه وأسمائه الحسنى ، فتعظيم وتقديس واحترام وتقدير شعائر الله سبحانه ، وشعائر أنبيائه وأوليائه الكرام (عليهم السلام) ، ذلك كلّه من تقوى القلوب ، ثمّ إضافة التقوى إلى القلوب يعني أنّ حقيقة التقوى والاجتناب والاحتراز عن محارم الله عزّ وجلّ وغضبه إنّما هو أمر معنوي يقوم بالقلب والنفس والروح المدبّرة للبدن ، فليست التقوى قائمة بالأعمال الجوارحية لأ نّها تشترك بين الطاعة والعصيان ، فإنّ لمس البدن في النكاح المحلّل والمحرّم واحد ، وقتل النفس في الجناية والقصاص واحد ، والصلاة قربةً ورياءً واحدة ، وإنّما كان أحدهما حلالا طيّباً صالحاً دون الآخر ، إنّما هو باعتبار أمر معنوي وباطني ، وهو تقوى القلب أو عصيانه .

             فإذا وضع الله علامة فعلينا أن نطيعه ونقيم علائمه ونعظّم شعائره ، فإنّ ذلك من حقيقة العبودية ، ومن أتى بالواجبات الإلهية وترك المحرّمات وتورّع عن المآثم وتحرّز عن غضب الله ، فإنّ ذلك من تقوى القلوب .

             عن الإمام الرضا (عليه السلام) ، قال  : الإيمان فوق الإسلام درجة ، والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة ، ولم يقسم بين العباد شيء أقلّ من اليقين .

             يدلّ على أنّ التقوى أفضل من الإيمان وأعلى درجة ، والتقوى من الوقاية وهي لغةً  : بمعنى فرط الصيانة ، واصطلاحاً  : صيانة النفس عمّـا يضرّها في الآخرة ، وقصرها على ما ينفعها فيها ، ولها مراتب ثلاثة  :

             الاُولى  : وقاية النفس عن العذاب المخلّد بتصحيح العقائد الإيمانية .

             والثانية  : التجنّب عن كلّ ما يؤثم من فعل أو ترك ، وهو المعروف عند أهل الشرع .

             والثالثة  : التوقّي عن كلّ ما يشغل القلب عن الحقّ ، وهذه درجة الخواصّ بل خاصّ الخاصّ .

             والمراد هنا أحد المعنيين الأخيرين وكونه فوق الإيمان بالمعنى الثالث ظاهر على أكثر معاني الإيمان ، وإن اُريد المعنى الثاني فالمراد بالإيمان إمّا محض العقائد الحقّة أو مع فعل الفرائض وترك الكبائر بأن يعتبر ترك الصغائر أيضاً في المعنى الثاني . وقيل  : باعتبار أنّ الملكة معتبرة فيها لا فيه ، ولا يخفى ما فيه([229]) .

             قال بعض المحقّقين  : اعلم أنّ العلم والعبادة([230]) جوهران لأجلهما كان كلّما ترى وتسمع من تصنيف المصنّفين وتعليم المعلّمين ووعظ الواعظين ، بل لأجلهما اُنزلت الكتب واُرسلت الرسل ، بل لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما فيهما من الخلق ، وناهيك لشرف العلم قول الله عزّ وجلّ  :

             (  اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَـنَزَّلُ الأمْرُ بَـيْـنَهُنَّ لِـتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً  )([231]) .

             فمن علم بقدرة الله وبعلمه المحيط سيتّقي الله في كلّ الأحوال . ولشرف العبادة قوله سبحانه  :

             (  وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ  )([232]) .

             فحقّ للعبد أن لا يشتغل إلاّ بهما ، ولا يتعب إلاّ لهما ، وأشرف الجوهرين العلم ، كما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)  : « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم » .

             والمراد بالعلم هو الدين ، أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، قال الله عزّ وجلّ  :

             (  آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا اُنزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ  )([233]) .

             وقال تعالى  :

             (  يَا أ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً  )([234]) .

             ومرجع الإيمان إلى العلم وذلك لأنّ الإيمان هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصوّر ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم ، والكفر ما يقابله وهو بمعنى الستر والغطاء ، ومرجعه إلى الجهل ، وقد خصّ الإيمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة ولو إجمالا ، فالعلم بها لا بدّ منه وإليه الإشارة بقوله (صلى الله عليه وآله)  : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة » ، ولكن لكلّ إنسان بحسب طاقته ووسعه  :

             (  لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا  )([235]) .

             فإنّ للعلم والإيمان درجات مترتّبة في القوّة والضعف والزيادة والنقصان بعضها فوق بعض ، كما دلّت عليه الأخبار الكثيرة .

             وذلك لأنّ الإيمان إنّما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب ، وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الله جلّ جلاله  :

             (  اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ  )([236]) .

             (  أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا  )([237]) .

            وليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه .

             وهذا النور قابل للقوّة والضعف والاشتداد والنقص ، كسائر الأنوار  :

             (  وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً  )([238]) .

             (  وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً  )([239]) .

             كلّما ارتفع حجاب عن القلب ازداد نوراً ، فيقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره ، فينشرح صدره ، ويطّلع على حقائق الأشياء ، وتتجلّى له العيوب ، ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء (عليهم السلام) في جميع ما أخبروا عنه إجمالا وتفصيلا على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكلّ مأمور ، والاجتناب عن كلّ محظور ، فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة  :

             (  نُورُهُمْ يَسْعَى بَـيْنَ أيْدِيهِمْ وَبِأ يْمَانِهِمْ  )([240]) .

             (  نُورٌ عَلَى نُور  )([241]) .

             وكلّ عبادة تقع على وجهها المطلوب فإنّها تورث في القلب صفاءً يجعله مستعدّاً لحصول نور فيه وانشراح ومعرفة ويقين ، ثمّ ذلك النور والمعرفة واليقين تحمله على عبادة اُخرى ، وإخلاص آخر فيها يوجب نوراً آخر وانشراحاً أتمّ ومعرفة اُخرى ويقيناً أقوى ، وهكذا إلى ما شاء الله جلّ جلاله ، وعلى كلّ من ذلك شواهد من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة([242]) .

             قال الإمام الكاظم في حديث لهشام  : قال عيسى بن مريم ... يا عبيد السوء ، اتّخذوا مساجد ربّكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم ، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ، ولا تجعلوا قلوبكم مأوىً للشهوات ، إن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حبّاً للدنيا ، وإنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا([243]) .


7

القلب العاقل

             (  أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأ بْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ  )([244]) .

             إنّ الله سبحانه يحثّ الإنسان أن يسير في الأرض ليرى الآثار المعطّلة والقصور المشيّدة التي هلك سكّانها واُبيد أهلها ، فيتفكّروا في عوامل انحطاطهم وأسباب انكسارهم ، فيعتبروا بآثارهم ، ويكون لهم عقول يتدبّرون بها ما حلّ بهم ، وآذان يسمعون بها أخبارهم ، فإنّ ذلك ممّـا يجذب الإنسان إلى الإيمان بالله ويمنعه عن الشرك والكفر والكفران ، فيسمعون نصائح الناصحين ووعظ الواعظين ، وأكثر الناصحين شفقةً ووعظاً وإرشاداً هو القرآن الكريم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين ، وإنّه يهدي للتّي هي أقوم ، يهدي إلى صراط مستقيم ، والرسول الأكرم وعترته الأطهار .

             وإنّما لم يذكر البصر في هذه الآية الشريفة لأ نّها تقسّم الناس إلى قسمين  : فمنهم من يشخّص بنفسه الخير من الشرّ ، والصالح من الطالح ، والجيّد من الرديء ، والغثّ من السمين ، والحسن من السيّء ، والحقّ من الباطل ، ومنهم من يتبع الآخرين ويستمع لهم ، فالذي يتعقّل الاُمور ويدركها له قلب عاقل يهدي الناس  إلى الخيرات والإحسان ، وعلى الناس أن يستمعوا له ، ويطيعوه ليهتدوا ويسعدوا في الدارين .

             فالناس في الحقيقة بين الاستقلال في التعقّل وتمييز الخير من الشرّ ، وبين الاتّباع لمن يجوز اتّباعه ، وهذا شأن القلب والاُذن .

             ومن لم يستمع ولم يطع فإنّ قلبه أعمى عن رؤية الحقّ ومشاهدة جماله ، فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وهذه مبالغة في تصوير العمى ، فمن لم يتعقّل ولم يسمع الحقّ فهو أعمى القلب ، فإنّ من عُمي بصره ربما يتدارك ما فاته من نعم البصر بالعصا وبهداية الآخرين ، ولكن الذي عمى قلبه ، فإنّه لا ينفعه النصح والنذر ومعونة الهادين ومواعظهم .

             ونسبة العقل للقلب تجوّزاً ، كمجازية القلب إلى الصدر . فمن يسير في الأرض ويرى العواقب فإنّه يتفكّر ويتعقّل الاُمور كما يستمع لنصيحة الناصحين ، فيتّقي الله  ويعظم شعائره ، ويقيم حدوده وأحكامه ، ويخاف يوم المعاد ، فيطهّر قلبه من  الأرجاس والأوساخ والصفات الذميمة ، ويخلو قلبه من الهوى ويتوكّل على الله  :

             (  إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِ كْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ  )([245]) .

             عن الإمام الكاظم (عليه السلام)  : المراد من القلب في هذه الآية الشريفة هو
العقل([246]) .

             وقال (عليه السلام) لهشام  : يا هشام ، من أراد الغنى بلا مال ، وراحة القلب من الحسد ، والسلامة في الدين ، فليتضرّع إلى الله في مسألته بأن يكمل عقله ، فمن عقل  قنع بما يكفيه ، ومن قنع بما يكفيه استغنى ، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً .

             وللعقل والعاقل علامات وخصائص جاء معظمها في الروايات الشريفة عن الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) جمعتها من كتاب بحار الأنوار([247]) ووضعتها في هذا الشكل المدوّر .

             ومن أراد التفصيل والبيان فعليه بمراجعة البحار وكتب الحديث كالكافي والوافي ، ومن كتب أبناء العامّة كالصحاح الستّة وكنز العمّـال .


الشكل الدائري للعقل والعقلاء


8

القلب الرؤوف

             (  ثُمَّ قَـفَّـيْـنَا عَلَى آ ثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّـيْـنَا بِعِيسَى ا بْنِ مَرْيَمَ وَآ تَـيْـنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْـنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ ا تَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحْمَةً  )([248]) .

             التقفية بمعنى الإرسال واحداً تلو الآخر ، ومنه يسمّى أواخر الشعر بالقافية ، وضمير ( على آثارهم ) يرجع إلى نوح وإبراهيم ، وقيل بترادف الرأفة والرحمة في المعنى ، وقيل  : الرحمة تستعمل في مقام جلب المنفعة والخير ، والرأفة في مقام دفع الشرّ والضرر . والظاهر إنّما جعلت الرحمة والرأفة في قلوب اُمّة عيسى آنذاك للذين اتّبعوه ونصروه ، فترحموا فيما بينهم ، وعاشوا برحمة وشفقة ، كما مدح الله اُمّة محمّد بهذا في قوله تعالى  :

             (  رُحَمَاءُ بَـيْنَهُمْ  )([249]) .

             فكلّ الأنبياء لهم طريقة ودعوة واحدة ، وهي وحدانية الله جلّ جلاله ، وأن يعبد الإنسان ربّه ، فيكون له قلب رؤوف يتبع به رسل الله وكتبه فيكون من المهتدين والسعداء .

             وفي حديث عن رسول الله في علامة المؤمن  : فإنّه يرؤف ويفهم ويستحيي([250]) .

             وعنه (عليه السلام)  : القلوب أربعة  : قلب فيه نفاق وإيمان ، وقلب منكوس ، وقلب
مطبوع ، وقلب أزهر أنور ، قلت  : ما الأزهر  ؟ قال  : فيه كهيئة السراج ، فأمّا المطبوع فقلب المنافق ، وأمّا الأزهر فقلب المؤمن ، إن أعطاه الله عزّ وجلّ شكر ، وإن ابتلاه صبر ، وأمّا المنكوس فقلب المشرك ، ثمّ قرأ هذه الآية  :

             (  أ فَمَنْ يَمْشِي مُكِـبّاً عَلَى وَجْهِهِ أهْدَى أمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم  )([251]) .

             وأمّا القلب الذي فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف ، فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك ، وإن أدرك على إيمانه نجا )([252]) .


9

القلب السليم

             (  وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُـبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم  )([253]) .

             كثير من العلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الفانية إنّما تدور حول المال والبنون ، فعند كثير من الناس إنّما مساعداتهم تناط بالمال والبنين ، والله نفى ذلك في يوم القيامة على أنّ ذلك لو نفع فإنّه في الحياة الدنيا ، وأمّا الحياة العقبى ويوم القيامة فإنّه لا ينفع مال ولا بنون لدفع المضرّات وجلب المنافع ، فإنّهما من زينة الحياة الدنيا ، فإنّ يوم القيامة يوم تبلى السرائر ، وتنكشف الحقائق ، ويكون بصرك يومئذ حديداً ونافذاً ، فترى إنّما ينفع الإنسان لنجاته وعلوّ درجاته ، وتزحزحه عن النار ودخوله الجنّة ، هو القلب السليم الذي يلقى الله وليس فيه سواه ـ  كما ورد في الخبر الشريف  ـ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا مساعدة بالمال والبنين  :

             (  بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ  )([254]) .

             والسلم والسلامة التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة([255]) ، فلا ينفع يوم القيامة على نحو الحصر والقصر إلاّ القلب السليم ، فالسعيد يوم القيامة من كان له قلب سليم ، والدنيا مزرعة الآخرة ومتجر أولياء الله ، ففي هذه الدنيا نالوا هذا القلب المؤمن الطاهر السليم الغنيّ بغنى الله سبحانه . والذي يعمل الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى  :

             (  المَالُ وَالبَـنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ  )([256]) .

             فالقلب السليم الذي يأتي الله يوم القيامة الذي لم يُشرك بالله وقد زهد في الدنيا وعمل صالحاً وهجر حبّ الدنيا ، فإنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة . فلا ينفع المال والبنون والأنساب يوم القيامة ، إلاّ من أتى الله بقلب سليم ، وهو خير تحفة وهدية إلهية يمنحها الله لخاصّة أوليائه وعباده المقرّبين .

             وفي حديث عن رسول الله في علامة المخلص ، فهي أربعة  : يسلم قلبه ( من الشرك والرياء وحبّ الدنيا وأهلها وزخرفها وزبرجها ) ، ويسلم جوارحه ( من المعاصي والذنوب وما يكون فيه آفتها ) وبذل خيره وكفّ شرّه([257]) .

             ثمّ العلماء ورثة الأنبياء فيرثونهم في قلوبهم السليمة  :

             (  وَإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لاَ بْرَاهِيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم  )([258]) .

             عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أ نّه سُئل  : ما القلب السليم  ؟ فقال  : دين بلا شكٍّ وهوىً ، وعمل بلا سمعة ورياء([259]) .

             قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى  : (  إلاَّ مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم  )  : القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه ، وكلّ قلب فيه شكّ أو شرك فهو ساقط([260]) .

             وقال (عليه السلام)  : صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الاُمور كلّها ، قال الله تعالى  : (  يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم  ) .

             قال الإمام الباقر (عليه السلام)  : لا علم كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب .

             فإنّ المقصود من العلوم النافعة ما يكون فيه نجاة الإنسان وسلامته في الدارين ، فلا علم كطلب السلامة والبحث عنها سلامة الدين والدنيا ، ولكن لا  سلامة كسلامة القلب فهو المقصود . فإنّ من سلم قلبه فلا يصدر منه إلاّ ما فيه السلام والسلامة والسلم ويكون مظهراً لاسم الله السلام .

             قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : لا يصدر عن القلب السليم إلاّ المعنى السليم . وهذا يدلّ على الحصر ، فإنّ القلوب إذا طهرت فإنّها تكون دار العلوم والحكمة .

             فإنّه قد ورد في الخبر الشريف  : القلوب إذا لم تخرقها الشهوات أو يدنّسها الطمع أو يقسّيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة([261]) .

             وقال (عليه السلام)  : لا يسلم لك قلبك حتّى تحبّ للمؤمنين ما تحبّ لنفسك .

             وقال (عليه السلام)  : أسلم القلوب ما طهر من الشبهات .

             وفي غرر الحِكَم عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : إذا أراد الله بعبد خيراً رزقه الله قلباً سليماً وخلقاً قويماً([262]) .

             وقال (عليه السلام)  : إنّ هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها .

             أفضل القلوب قلب حُسّي بالفهم .

             وقال (عليه السلام)  : اعلموا أنّ الله سبحانه لم يمدح من القلوب إلاّ أوعاها للحكمة ، ومن الناس إلاّ أسرعهم إلى الحقّ إجابةً .

             فالقلب الممدوح في كتاب الله القلب السليم الذي يكون وعاءً للحكمة لم تبليه وتخرقه الشهوات المحرّمة ، ولم يدنّسه الطمع أو يبطره ويقسيه النعم ، وقد طهر من الشرك والكفر والشبهات ، وامتلأ وحُسي بالفهم والعلم والدين والعمل الصالح ، فكان حرم الله وعرشه وهو من أفضل التحف للمؤمن يوم القيامة ، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم .

             ( جعلنا الله وإيّاكم ممّن يسعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته )([263]) .


10

القلب المنيب

             (  وَاُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُـتَّـقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْب مُـنِيب * ادْخُـلُوهَا بِسَلام ذَلِكَ يَوْمُ الخُـلُودِ  )([264]) .

             إنّ الله سبحانه في هذه الآية الشريفة يبيّن معنى قوله  : (  لِكُلِّ أوَّاب  ) ، فهو الذي يخشى الله في عذابه ونار جهنّم مع أ نّه لم يرها فهي غائبة عنه ، فيأتي الله بقلب منيب يرجع إليه في كلّ اُموره وطول حياته ، حتّى أصبح الرجوع إلى الله عنده ملكة راسخة ، تتجلّى آثارها عند الموت ، فيدخل الجنّة بسلام آمن ، ليخلّد فيها متنعّماً بلا  لغوب ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وما لم يخطر على قلب البشر .

             فمن أذنب فليرجع سريعاً إلى ربّه ، ويتوب ممّـا فعل ولا يعود ، فإنّ الله هو التوّاب الرحيم يقبل التوبة من عبده المنيب الخائف ، ومن تاب الله عليه فإنّه يدخل الجنّة بسلام خالداً فيها أبد الآبدين ، وهذه بشرى تفرح قلوب المؤمنين والمتّقين ، وتهوّن عليهم مصائب الدنيا وهوانها ، وتسهّل عليهم مشاكلها وصعابها .

             قال الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله)  : إنّ لله آنية في الأرض فأحبّها إلى الله ما صفا منها ورقّ وصلب ، وهي القلوب ، فأمّا ما رقّ منها  : فالرقّة على الإخوان ، وأمّا ما  صلب منها  : فقول الرجل في الحقّ لا يخاف في الله لومة لائم ، وأمّا ما صفا ما  صفت من الذنوب([265]) .

             والصفاء ابتداءً بأن لا يذنب أولى وأبلغ من الصفاء بعد الذنوب ، وذلك بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه ، وإن كان عزّ وجلّ يغفر الذنوب جميعاً إلاّ ما اُشرك به ، فإنّه ستّار العيوب غفّار الذنوب ، والغفّار صيغة مبالغة تعني أنّ العبد مهما أذنب فإنّه لو رجع وتاب واستغفر فإنّ الله هو الغفّار الرحيم ، وإنّه كريم الصفح ، بمعنى أ نّه يغفر الذنوب ، بل يمحي كلّ الآثار ويكون الإنسان كيوم ولدته اُمّه ، له قلب طاهر سليم ، وصفحة بيضاء ، فعليه أن يستأنف العمل وأن يمليها بالصالحات .

             ولا يخفى ـ  كما مرّ  ـ أنّ القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ وأشدّ من القصد إليه بالبدن ، وحركات القلوب أبلغ من حركات الأعمال ، فإنّه سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب لا إلى الصور والأموال ، فعلينا أن لا نغفل عن ذكره ، فإنّه من غفل قيّض الله له شيطاناً يغيّره ويضلّه ويغويه ، ومن نسي الله نسي نفسه ، فيشتغل بغير الذي من أجله خُلق ، أي بغير العبادة وبغير الله فيصاب بالخفض والهوان والتوقّف عن المسير إلى الله سبحانه ، وإنّما يفتح القلب لبركات الله لو رضي عن الله ، وإنّما يرفع في أعلى علّيين لو ذكر الله  :

             (  فِي بُيُوت أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ  )([266]) .

             وكما في علم النحو إعراب وبناء ، والإعراب رفع وفتح وخفض ووقف ، فكذلك القلوب كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال  : إعراب القلوب على أربعة أنواع  : رفع وفتح وخفض ووقف ، فرفع القلب في ذكر الله ، وفتح القلب في الرضا عن الله ، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله ، ووقف القلب في الغفلة عن الله([267]) .

             فهلمّ أ يّها الأصدقاء ، يا إخوان الصفا إلى العلم النافع والعمل الصالح ، ولنعرف الهدف في حياتنا ومماتنا ، ونعرف المبدأ والمعاد ، فإنّ كلّ إنسان لا يخلو من أهداف في حياته الفردية والاجتماعية ، وأنّ الله يشير إلى ذلك في قوله تعالى  :

             (  وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا  )([268]) .

             فلكلّ واحد ـ  المسلم والكافر ، الرجل والمرأة ، الصغير والكبير ، الحرّ والعبد  ـ وجهة وأهداف ، وهو المسؤول عنها فهو مولّيها . ثمّ حياته لها مبدأ ومنتهى ، والمبدأ الأوّل هو الله سبحانه والمعاد إليه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فهو الأوّل وهو الآخر ، وقد جعل للإنسان صراطاً مستقيماً يوصل الإنسان لو سار فيه إلى المليك المقتدر ، وإلى جنّة النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ونصب له في هذا الصراط الأضوية الوهّاجة والشموع المضيئة وهم الأنبياء والأوصياء وورثتهم العلماء الصلحاء ، كما علّمه أن يكون له الهمّة العالية وأودع فيه ذلك ، فلا يكتفي بالأدنى ولا  تغرّه الدنيا الدنيّة ، فإنّها دار ممرّ وليس دار مستقرّ ، عليه أن يتزوّد منها بخير الزاد ، وخير الزاد التقوى ، فعلمه من خلال أدعية أنبياءه ورسله أن يطلب من الله أسنى المطالب وأعلاها سواء كانت دنيوية أو اُخرويّة مادّية أو معنوية  : فهذا إبراهيم الخليل يطلب من ربّه أن يكون للمتّقين إماماً  :

             (  رَبَّـنَا هَبْ لَـنَا مِنْ أزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً  )([269]) .

             وفي طلب الدنيا يطلب سليمان من ربّه قائلا  :

             (  رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لاِحَد مِنْ بَعْدِي  )([270]) .

             وهاتان الآيتان تعلّمنا أ نّه كيف نكون أصحاب همّة عالية ، ولا نرضى بالدون والشيء الرديء ، ففي المطالب الدنيوية نطلب من الله المُلك ، وفي المعنوية نطلب منه أن نكون إماماً للمتّقين ، بمعنى أنّ المتّقين بجانب والداعي بجانب ، له ما لكلّ المتّقين ، وهذا غاية المعنويات من الأعمال الصالحة ، كما أنّ طلب الملك غاية المادّيات من الدنيا ، ولكن هناك شيئاً عظيماً مهما بلغ الإنسان فيه ، فإنّه لم يأتِ منه إلاّ القليل ، وهو العلم  :

             (  وَمَا اُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلا  )([271]) .

             والله سبحانه يأمر نبيّه الأكرم أن يدعوه بقوله  :

             (  رَبِّ زِدْنِي عِلْماً  )([272]) .

             وهذا يعني أنّ العلم لا نهاية له ، فإنّ العلم هو الله سبحانه ، وأنّ الله واجب الوجود مستجمع الصفات الكمالية بلا حدّ ولا نهاية ، وأنّ العلم من الصفات الذاتية ، فهي عين الذات كما هو الحقّ ، خلافاً لمن يقول بزيادته على الذات ، فإنّه يلزمه تعدّد القدماء ، كما هو ثابت في محلّه .

             فالإنسان إذا كان هدفه الله وله مثل هذه الهمم الراقية والبليغة ، لا يشبع من طلب العلم ، ولا يفتر من عبادة ربّه ، فينيب إليه بقلب منيب ، ويهتدي إليه بكتب الله ورسله ، ويدخل الطرق والسبل الإلهية التي تنتهي إلى الصراط المستقيم ويجاهد في الله جلّ جلاله  :

             (  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَـنَا  )([273]) .

             وإذا انقطع السبيل عن الصراط فإنّه يكون من سُبل الشيطان وسبل الطغاة ، كما رسم النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يوماً لأصحابه على الأرض خطاً مستقيماً ، وخطوطاً اُخرى عن اليمين وعن الشمال مقطوعة من الخطّ الأوّل ، فسأل عن ذلك فقال  : هذا طريق الله وصراطه المستقيم ، وهذه سبل الشيطان .

             فالإنسان إمّا أن يكون في خطّ الشيطان وله أهداف شيطانية وعاقبة أمره الذلّ والخسران في الدنيا والآخرة ، وإمّا أن يكون في خطّ الرحمن ذو أهداف إلهية ، وعاقبة أمره النصر والفوز بالجنان ، وهذا غير بعيد يوم تزلف الجنّة للمتّقين ، هذا ما  وعد الله كلّ أوّاب إليه وحافظ لعهوده الذي يخشى الله بالغيب وجاء بقلب منيب ، فيدخل الجنّة بسلام ، وذلك يوم الخلود .

             وجاء الإسلام العظيم ليجعل قلوب معتنقيه قلوباً منيبة راجعةً إلى بارئها ، وتعرف كيف تعيش وكيف تموت ، وتنظّم حياتها وفق الأحكام الشرعيّة الدينية ، وتصل إلى الحياة المعقولة في علائقها الأربعة  : مع الربّ ، ومع النفس ، ومع الناس ، ومع العالم الوجودي ، فتصل إلى كمالها وسعادتها في الدنيا والآخرة ، فتدبّر .


11

القلب المؤمن

             (  لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أ بْنَاءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ اُوْلَئِكَ كَـتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَـنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ اُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ  )([274]) .

             إنّ الله سبحانه في هذه الآية الشريفة ينفي الإيمان عن قلوب أقوام اتّصفوا بهذه الصفة ، أ نّهم يودّون من يحارب الله ، كآكلي الربا والكافرين والمشركين وأعداء الله ، حتّى لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم ، أي أقرب الناس إليهم ، بل حتّى ولو كان من عشيرته ، فإنّه لا يتعصّب لقبيلته وعشيرته ، ويقدّم فاسقهم على المؤمن ، بل عنده الملاك هو الإيمان بالله وتقوى القلوب  :

             (  إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ  )([275]) .

             فالذي اتّقى ربّه وعمل صالحاً فإنّ الله كتب في قلبه الإيمان ، وأيّده ونصره بروح منه ، ففي الدنيا لا يوادّ الذين كفروا وحادّوا الله ورسوله أبداً ، حتّى ولو كان أقرب الناس إليه ، ونتيجة إيمان قلبه أ نّه في الآخرة يدخل جنّات عدن وفراديس تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها ، لأنّ الله رضي عنهم كما هم رضوا عن الله ، ووصلوا إلى مقام الرضا والتسليم لأمره ، فاُولئك حزب الله حقّاً ، واُولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة . ومن كتب في قلبه الإيمان فإنّه لا يزول ذلك فيكون مستقرّ الإيمان ، ويؤيّد بتأيّدات إلهية في حياته العلمية والعملية ، الفردية والاجتماعية . فإنّه يكون مؤيّداً بجبرئيل والقرآن والحجّة والبرهان ، فتحدّثه الملائكة ، ويُلهم فعل الخيرات بروح منه ، بعد كمال قوّته الإنسانية والإيمانية .

             فالقلب المؤمن يعادي أعداء الله ويوالي أولياء الله ، ولا يتهاون في إقامة دين الله وحكومته ، ويبذل النفس والنفيس من أجل ذلك  :

             (  إنْ تَنصُرُوا اللهَ يَـنصُرْكُمْ وَيُـثَـبِّتْ أقْدَامَكُمْ  )([276]) .

             فالقلب المؤمن له علامات  : ومن أهمّها التولّي لله ولما فيه وعليه اسمه ، والتبرّي من أعدائه ، وما ليس عليه اسم الله عزّ وجلّ .

             كما هناك علائم وأمارات اُخرى كثيرة ، كما جاء ذلك في الأحاديث الشريفة والقرآن الكريم .


12

القلب المهتدي

             (  مَا أصَابَ مِنْ مُصِيبَة إلاَّ بِإذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ  )([277]) .

             المصيبة حالة نفسية تتولّد عند الإنسان عندما يتأثّر بحادثة وواقعة أليمة كفقد الولد والوالد وخراب الدار ونقص الثمرات .

             والإذن من الله بمعنى إعلام الرخصة الإلهية ، وعدم المانع من وقوع المصيبة ، ولازمه العلم بالمصيبة .

             والإذن هنا إذناً تكوينياً ، فكلّ شيء في عالم الكون يقع بإذن الله سبحانه وعلمه ، فالمصيبة الواقعة إنّما تكون بإذنه التكويني ، وإن لم يأذن بها شرعاً ، أي بالإذن الشرعي كظلم الظالم ، فإنّ الظلم قبيح وممنوع عقلا وشرعاً ولم يأذن الله به ، ولكن في عالم التكوين لو وقع الظلم على المظلوم فإنّه بإذن الله ، ومن هذا المنطلق بعض المصائب لا تتحمّل والصبر فيها لا يجوز ، بل يلزم ويجب على المرء أن يقاوم ويدفع تلك المصيبة كالظلم ، بل من قتل دون ماله وعرضه فهو شهيد ، فالمصائب التي تكون من يد الإنسان لا بدّ من مقاومتها ، وأمّا المصائب التي تكون من الله سبحانه كالموت والمرض والطاعة والمعصية ، فلا بدّ من الصبر عليها ، ويثاب على ذلك ، ويبشّر بجنّات تجري من تحتها الأنهار .

             فمن يؤمن بالله يهديه الله بقلبه إلى ما يلزمه من العمل أمام المصائب على اختلافها وأشكالها ، فإنّ الله يعلم بالمصائب التي ترد على الإنسان وتعلّقت مشيّته بذلك ، فلا تصل الحوادث والوقائع للإنسان إلاّ بعلم الله ومشيّته ، فلا تستقلّ العوامل الطبيعية في سير الحوادث ، بل تنتهي العلل والمعاليل كلّها إلى العلّة الاُولى علّة العلل وهو الله سبحانه واجب الوجود لذاته المستجمع لجميع الصفات الكمالية والجمالية والجلالية ، ومن يعتقد بوحدانية الله سبحانه ، يعتقد بأنّ المؤثّر الأوّل هو الله جلّ جلاله ، وليس في الدير ديّارٌ إلاّ هو .

             وإذا وقف الإنسان على هذه الحقيقة ولمسها بكلّ وجوده ، واعتقد بها بتمام قلبه ، ووجدها بعد أن علم بها ، فإنّه بلا ريب يطمئنّ قلبه ويرتاح باله ، ويعلم أنّ أزمّة الاُمور طرّاً بيده سبحانه وتعالى ، ولا يفعل الحكيم العالم القادر إلاّ بالحكمة وما فيه المصلحة ، فقلب المؤمن يهتدي إلى هذه الحقيقة ، عند المصيبة يتجلّى له حقيقة  :

             (  إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ  )([278]) .

             فيجريها على لسانه ليحكي ما في قلبه من الاعتقاد الصحيح .

             فالمؤمن قلبه المهتدي يهديه إلى ما يلزمه من العمل ، ففي مثل المصيبة التي تكون من ربّه يصبر ولا يجزع ، لأ نّه يعلم أنّ الله إنّما فعل ذلك لحكمة ومصلحة ، وأمّا مثل المصيبة التي تكون من يد الإنسان كالظلم ، فإنّه يقاومها ويحارب الظالم ولا  يرضى بالخنوع والذلّ ، بل منطقه ( هيهات منّا الذلّة ) ، و  ( لا اُعطيكم بيدي إعطاء العبيد ) ، وأمّا في مثل النعم الإلهية فيشكر الله سبحانه على ما أجاد وأنعم ، فقلبه المهتدي يكون هاديه إلى ما يجب عليه من العمل . فيقاوم الظلم ويقارعه ويصبر على المصائب ويشكر النعم ويقيم حدود الله ويتورّع عن المحارم .

             ومن رزقه الله قلباً مهتدياً فإنّه ينشرح صدره للإسلام . قال الله تعالى  :

             (  فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأ نَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ  )([279]) .

             وفي تفسير مجمع البيان في ذيل الآية الشريفة  : قد وردت الرواية الصحيحة أ نّه لمّـا نزلت هذه الآية يعني ( فمن يرد الله أن يهديه ... ) سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن شرح الصدر ما هو  ؟ فقال  : نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح .

             ( ولا يخفى أنّ هذا النور هو نور العلم الإلهي ، فقد ورد في الحديث الشريف  : ليس العلم بكثرة التعلّم إنّما العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من أراد الله أن يهديه ) .

             قالوا  : فهل لذلك من أمارة يعرف بها  ؟ قال (صلى الله عليه وآله)  : نعم ، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت([280]) .

             وكان الإمام الكاظم (عليه السلام) يدعو في سجوده  : « اللهمّ ارزقني التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل حلول الفوت » .

             وفي المناجاة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)  : إلهي ، فاجعلنا من الذين توشّحت ( ترسّخت ) أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ... وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم في ضمائرهم ، وانتفت مخالجة الشكّ عن قلوبهم وسرائرهم ، وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم([281]) .


الفصل الثامن

القلوب المذمومة في القرآن الكريم

             بعدما عرفنا إجمالا القلوب الممدوحة في القرآن الكريم وهي القلوب التي آمنت بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر ، وعملت بالأحكام الإلهيّة من الأوامر والنواهي ، وتجنّبت الصفات الذميمة ، وامتلأت بحبّ وولاية الله وأوليائه ، والتبرّي من أعداء الله وأعداء أوليائه ، فتصبّغت بصبغة الله ، وكانت حرم الله ، فطهرت ، وسلمت ، وخشعت ، وأنابت ، وألفت ، وخافت ، واتّقت ، واطمأنّت ، وعقلت ، واهتدت ، فكانت عرش الرحمن ، وإنّ السماوات والأرض لا تسع الله ، ولكن وسعه قلب المؤمن ـ  كما ورد في الحديث القدسي  ـ  .

             بعدما عرفنا هذا ولو إجمالا ، فقد حان الموعد أن نقف على القلوب المذمومة في القرآن الكريم ، وذلك على سبيل الإشارة والخلاصة أيضاً ، لنصلح أنفسنا ، ونهذّب قلوبنا ، ونطهّرها ممّـا يوجب رجاستها ، ونحفظها من انحطاطها واضمحلالها .

             والقلوب المذمومة في القرآن أكثر من الممدوحة ، وهذا يعني أنّ قليل من عبادي الشكور ، وتجد أكثرهم غير شاكرين ، وإنّهم لا يفقهون ، فتدبّر .

             فالقلوب المذمومة كما يلي  :

1

القلب الآثم

             (  وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ  )([282]) .

             أداء الشهادة لإثبات حقّ إنّما هو واجب كفائي ، فإذا ترك الجميع فقد أثموا ، وإن قام من به الكفاية فإنّه يسقط الوجوب عن الباقي ، فمن وجب عليه أداء الشهادة لو امتنع عن ذلك وكتمها فإنّه آثم قلبه ، أي يدلّ ذلك على أنّ قلبه قلب أثيم ومذنب ، والله يعلم بكلّ ذلك ، وبما يفعله الإنسان .

             والآية وإن كان شأن نزولها في الدَّين ، على أنّ من علم بالدين عليه أن يشهد حتّى لا يضيع حقّ الدائن ، إلاّ أنّ المورد لا يخصّص ، بل كلّ من يكتم حقّاً مهما كان ، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ قلب الكاتم قلب آثم يمنع عن وصول الثواب والحقّ إلى أهله . وكلّ من كتم الحقّ سيبتعد عن الحقّ ، وأنّ الله هو الحقّ كما في قوله تعالى  :

             (  سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآ فَاقِ وَفِي أ نْفُسِهِمْ حَتَّى يَـتَـبَـيَّنَ لَهُمْ أ نَّهُ الحَقُّ  )([283]) .

             (  فَـتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ  )([284]) .

             (  ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ  )([285]) .

             فالقلب الآثم هو القلب الذي يرتكب الذنب والمعصية والإثم ، الملازم لاتّباع الهوى وطول الأجل ، المعبّر عنه بالرجس تارةً وبالرجز اُخرى ، الموجب لضيق القلب وختمه ، ورين الصدر وطبعه ، وزيغ الروح وقفله ، لأنّ الذنب حجاب بين الإنسان المبتلى به وبين الحقّ الذي من أظهر مصاديقه القرآن الذي بالحقّ أنزله الله وبالحقّ نزل . والناقص لا يمسّ كرامة الكامل مادام ناقصاً .


2

القلب المتكبّر

             (  الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَان أتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُـتَكَـبِّر جَبَّار  )([286]) .

             هذه الآية الشريفة تفسّر قبلها ومعنى المرتاب المريب في قوله  : (  كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ  )([287]) فإنّ الذي يبذّر في حياته ويسرف وهو شاكّ ومرتاب ، فإنّه يعرض عن الحقّ ويتبع هوى نفسه ، فلا يعتمد على ما فيه العلم والمنطق والحجّة والبرهان ، فيجادل في آيات الله بغير سلطان من العلم ، فمثل هذا قد طبع الله على قلبه ، فلا يستمع لكلام الحقّ ، ويتجبّر ويتكبّر على الآخرين ، فهذا من صفات كلّ قلب متكبّر جبّار .

             أمّا القلب المؤمن المتواضع للحقّ فإنّه يقبل ما فيه الدليل والبرهان ( نحن أبناء الدليل أينما مال نميل ) ، ومن لم يقبل الحجّة فقلبه قلب متكبّر ومن الطغاة الجبابرة ، فيطبع على قلبه ، فلا يؤثّر فيه نصيحة الواعظين ، وينكر الحقائق والواقعيات ، ويتخلّف عن كسب المعارف الإلهية ، ويجادل بغير علم .


3

القلب المجرم

             (  وَمَا يَأتِيهِمْ مِنْ رَسُول إلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ  )([288]) .

             إعلم أنّ طائفة من الناس من عادتهم ، أ نّه ما يأتيهم من رسول من الآيات والبراهين إلاّ كانوا به يستهزئون ، فلا يوقّرون الأنبياء والرسل ومن يحذو حذوهم من العلماء والصالحين .

             والسلوك بمعنى النفوذ ، ومنه سلك الخيط في الإبرة أي نفد ، فسلك الطريق أي نفذ فيه ، فالذين يستهزئون بالمقدّسات الإلهية ، إنّما هم من الضالّين المضلّين ، ومن المجرمين الذين نفذ في قلوبهم الضلال نتيجة عدم إيمانهم الذي ظهر في سلوكهم واستهزائهم .

             فوضع رسالة النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) وذكره وقرآنه كالأنبياء من السلف وقومهم ، فإنّهم منهم من كان يستهزئ بهم ، فالله سبحانه يسلك في قلوب المجرمين الذكر والقرآن ، إلاّ أ نّهم لا يؤمنون به لما عندهم من القلوب المجرمة ، فيرتكبون الجرائم كقتلهم الأنبياء والاستهزاء بما يأتيهم من رسول . أو أ نّه سبحانه يسلك في قلوبهم الشرك والاستهزاء للأعمال التي فعلوها من قبل من المعاصي والقبائح حتّى أصبحت قلوبهم قلوب المجرمين .

             فمن لم يؤمن بالله فإنّه يشرك به ، فيستهزئ بأنبياء الله ورسله ، وينفذ هذا المعنى في قلبه ، نتيجة لما ارتكبه من الجرائم والمآثم من قبل  :

             (  ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أسَاؤُوا السُّوءَى أنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ  )([289]) .

             ومن كان له قلب مجرم فإنّه لا يقبل الحقّ فيضلّ عن الصراط المستقيم ، وله الخزي في الدنيا ، وله في الآخرة عذاب عظيم .


4

القلب المعتدي

             (  ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُمْ بِالبَيِّـنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ  )([290]) .

             إنّ الله أرسل رسله وأنزل كتبه لهداية الناس ، وليقيموا بالقسط ، ولتكون لله الحجّة البالغة ، إلاّ أنّ الناس غالباً كانوا يكذّبون أنبياء الله وسفرائه ، ويطالبونهم بالمعجزات والبيّنات ، فكانت تظهر على أيديهم المعاجز ليثبت صدقهم ، إلاّ أنّ فريقاً  من الناس ما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل ، لأنّ لهم قلوب معتدية ومتجاوزة لحدود الله ، فما كانوا يطيعون الله ، وكان الاعتداء والتجاوز أصبح لهم طبيعة ثانوية فما كان يهون عليهم ما كذّبوه من قبل ، فطبع الله على قلوبهم فما كانوا من المؤمنين .

             فالأنبياء دعوا الناس إلى توحيد الله ونفي الطواغيت والجبابرة ، ولكنّ المستكبرين لا يحلو لهم ذلك ، ودعوة الأنبياء لا تتلاءم مع ملاذّهم واستكبارهم واستعبادهم الناس واستثمار جهودهم واستحمارهم ، فكانوا يحاربون الأنبياء ، ولا  يرضون بما عندهم من الحجّة والبراهين ، بل يطالبونهم المعاجز ، ومع هذا كانوا لا يؤمنون بما كذّبوه من قبل ، فقست قلوبهم من التجاوز والاعتداء على حقوق الله وحقوق الناس فطبع الله على قلوب المعتدين .

             فمن العوامل التي توجب أن يطبع الله على قلب ، فلا يهتدي إلى ما هو الحقّ ، هو الاعتداء والتجاوز على الحقوق ، ومن يرى المعجزة ولا يؤمن ، فإنّ ذلك علامة أنّ له قلب معتد ومتجاوز ، فلا يقبل الحقّ والمعارف الإلهية ، وينكرها ويخالفها ويشنّ الهجوم عليها وينسب أربابها إلى السحر أو غير ذلك .


5

القلب المقفّل

             (  أ فَلا يَتَدَبَّـرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوب أقْفَالُهَا  )([291]) .

             الاستفهام في هذه الآية الشريفة استفهام توبيخي ، وضمير الجمع في قوله ( يتدبّرون ) يرجع إلى اُولئك الذين ذكرهم الله سبحانه في الآيات السابقة ، وهم  :

             1 ـ المنافقون ومن كان قلبه مريضاً فيرجع إلى الكفر بعد الإيمان .

             2 ـ الذين غرقوا في غرورهم وكبريائهم واتّبعوا أهواءهم حتّى آل أمرهم إلى عدم فهمهم كلام الحقّ .

             3 ـ من كان ضالا .

             4 ـ من لم يستمع إلى الحقّ .

             5 ـ المشركون بالله .

             6 ـ من ختم الله على قلبه لما فعله من المآثم والذنوب كالشرك .

             7 ـ الذين لم يخرجوا إلى ساحة الجهاد .

             8 ـ تركوا الدين وأعرضوا عنه ، فأفسدوا في الأرض ، وارتكبوا الجرائم من القتل والنهب .

             9 ـ هتكوا أعراض الناس .

             10 ـ انحرفوا عن الصراط المستقيم .

             وتنكير القلوب في الآية الشريفة إشارة إليهم وإلى أمثالهم ، فالله سبحانه يدعوهم إلى أن يتدبّروا القرآن الكريم ويتأمّلوا في آياته حتّى يتبيّن لهم الحقّ ، ولكن أنّى لهم ذلك وقد قُفلت قلوبهم بأقفال شيطانية ، فكيف يدخل الحقّ إلى مثل هذه القلوب المقفلة حتّى يقضوا ما عليهم من الحقّ ، فقفلت قلوبهم عن المعرفة ، ثمّ الإيمان ، ثمّ العمل الصالح ، وهذه أركان الأقفال في القلوب المقفلة والمغفّلة .

             فمن كان منافقاً فقد قفل قلبه عن المعارف ، فاستكبر واستعلى وتبع هواه فضلّ وأضلّ ، وأشرك بالله ولم يتدبّر آياته ، ولا يبالي في هتك أعراض الناس ونهب أموالهم وسفك دمائهم .

             « ثمّ المستفاد من هذه الآية ـ  عدا حجّية ظواهر القرآن وإمكان استنباط المعارف منه ، وعدا التحريض والترغيب إلى التدبّر والتأمّل فيه  ـ هو أنّ المتدبّر فيه هو القلب المجرّد دون القالب وهو الحسّ المادّي ، وأنّ له باباً يفتح تارة ويقفل ويغلق اُخرى ، وأنّ للقلب قفلا خاصّاً به يقفل ، وأنّ الكفر والنفاق ونحو ذلك من الحجب الظلمانية أقفال للقلب ، مانعة له عن التدبّر في القرآن ، وأنّ الإيمان والخلوص ونحو ذلك من الأوصاف الوجودية الكمالية مفاتيح للقلب ، شارحة له ومصحّحة لأنّ التدبّر في القرآن ، لولا الذنب الحاجب المعدود قفلا للقلب ... فالمراد من كون الذنب مانعاً ، هو انّ المذنب لمّـا ولّى وجهه شطر الباطل ، واشتاق إليه ، واغترّ به ، لا يميل إلى التدبّر في القرآن الهادي له إلى الحقّ والابتهاج به والاتّقاء عن الباطل والغرور به ... وكما أنّ الذنب والرجس والرجز والدنس وما إلى ذلك من العناوين الدارجة في لسان الثقلين ، مانع عن التأمّل في نظام الكيان والتفكّر في الآيات التكوينية ، كذلك حاجب عن التدبّر في فحاوي الآيات التدوينية والاستنباط منها ... إنّ الذنب حجاب عن المشاهدة الفكرية لقوم والمشاهدة القلبية لقوم آخرين . إذ الفطرة التي فطر الله الناس عليها شاهدة للحقّ حاكية إيّاه ، والذنب غبار على هذه المرآة الصافية ، فهو ـ  أي الذنب  ـ حجاب مانع عن المعرفة الفطرية من جهة وعن المعرفة الفكرية من جهة اُخرى ، وعن المعرفة الشهودية الكاملة من جهة ثالثة ، فلذا يصحّ استناد الحَجْبِ إليه في مباحث شتّى »([292]) .

             فنزول البركات العينية والعلمية مشروط بالتقوى وإخلاص العمل لله ، وممنوع بالذنب والإعراض عن ذكر الله ونحو ذلك . وربما المستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ الحرمان عن الرزق العلمي مستند إلى قفل القلب وانغلاقه ، لا إلى غلق باب الرحمة الإلهية ، لأ نّه مفتوح دائماً وينزل منه الفيض العلمي كالعيني أبداً ، وإنّما التفاوت من ناحية القابل لا الفاعل ، فهو سبحانه دائم الفيض على البريّة ، وإن كان المذنب مقفول القلب محروماً منه ، فهو وإن خرج بما عنده من العلم وحسب أ نّه يحسن صنعاً ، ويقول إنّما اُوتيته على علم كقارون ، ولكنّه في حجاب وكنان لا يشعر به ، وهذا الكنان من القابل بسوء اختياره ، فكلّ ما يمنع الإنسان عن أصل التدبّر في القرآن ، ويجعله فارّاً منه منزجراً عنه أو يمنعه عن الفقه ، وإن تدبّر أو استمع القرآن وأنصت إليه ، فهو رجس ، وأنّ كلّ من ابتلي بمقدار منه فهو بذلك المقدار محجوب عن التدبّر والتفقّه ، وكلّ من برئ منه رأساً ، وتنزّه من جميع أنحائه وأقسامه الراجعة إلى العلم أو العمل ، فهو حريّ بأن يتدبّر في القرآن ويتفقّهه .


6

القلب المتعصّب

             (  إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَـفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأ نْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأ لْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّـقْوَى وَكَانُوا أحَقَّ بِهَا وَأهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً  )([293]) .

             الحمّى الحرارة المتولّدة من الجواهر المحميّة أي البواطن الحامية والحارّة كالنار ، وعبّر بها عن القوّة الغضبية ، فيقال  : حميت على فلان ، إذا غضب عليه ، فلمّـا تزداد القوّة الغضبية وتفور تسمّى بالحميّة .