|
 |
 |
حقيقة القلوب
في القرآن الكريم
السيد عادل العلوي
بسم الله الرحمن
الرحيم
حقيقة القلوب في
القرآن الكريم([1])
مقدّمة
الحمد لله
مقلّب القلوب والأبصار ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد النبيّ
المختار ، وآله الطيّبين الأبرار ، واللعن الدائم على أعدائهم الكفّار
ومنكري فضائلهم الأشرار .
من الواضح
والمعلوم أنّ الحديث عن القلب إنّما هو حديث ذو شجون ، فإنّ القلب أصل
الإنسان ومنشأ حياته ، وأساس كرامته وعظمته وشرافته .
أجل ;
إنّ القلب ذلك العضو الصنوبري الشكل الذي يضخّ منه الدم بعد تصفيته ليعطي الإنسان
حياةً وقوّة ، وعيشاً جديداً ، وإذا توقّف عن العمل فإنّه يعني أنّ
المرء قد جاء أجله وعليه أن يودّع الحياة الدنيوية ، لينتقل إلى عالم
آخر ، فما دام القلب ينبض ويتحرّك فإنّه حيّ ، وإنّ الحياة الدنيوية لا
زالت تواكب أشواطها وتطوي مسيرتها حتّى الموت الذي يعدّ رحلة ونقلة من عالم إلى
آخر ، ومن محيط ضيّق إلى دار أوسع .
نعم ;
هذا القلب الصغير الذي أودعه الله سبحانه من اليوم الأوّل في القفص الصدري من
الجانب الأيسر ، قد شبّه بالخير والشرّ والصلاح والفساد ،
فيقال : لفلان قلب صالح خيّر ونظيف ، ولفلان قلب طالح شرور قاسي
كالحجارة ، كما ينسب إليه إدراك الحقائق والمعارف والعلوم والفنون .
وهذا يعني أنّ هناك قلب آخر معنوي وراء هذا القلب المادّي .
والقرآن
الكريم كتاب الله الحكيم فيه بيان وتبيان لكلّ شيء ، فرقان وهدى ، وإنّه
كتاب حياة وسعادة ، قد اهتمّ بالقلب غاية الاهتمام ، وإنّك لتجد في
آياته الكريمة ما يفتح لك آفاقاً جديدة في الحياة ، بأ نّك كيف تعيش
وكيف تموت ؟ وما هي العوامل التي تسعدك في الحياة ، وتضمن لك
النجاح والفوز في الدارين ؟ وذلك من خلال إصلاح القلب .
إنّ
الإنسان ليسعد ، وإنّ البشرية لتصل إلى ذروة كمالها وقمّة سعادتها لو طبّقنا
القرآن الكريم في واقع الحياة ، إلاّ أنّ القوم اتّخذوا هذا القرآن
مهجوراً ، فأصابهم الذلّ والانحطاط والخذلان ، ولا نعود إلى عزّتنا
ومجدنا وأصالتنا إلاّ إذا رجعنا إلى القرآن الكريم وترجمانه ( العترة
الطاهرة ) في واقعنا وجميع حقول حياتنا ، فيكون القرآن ( حكومة
الله ) هو الحاكم والسائد في كلّ أبعاد الحياة وجوانبها على
الصعيدين : الفردي والاجتماعي .
فهلمّ
لنعرض قلوبنا وأعمالنا وحياتنا على القرآن الكريم ( الصامت
والناطق ) ، فإنّه الميزان وإنّه الفرقان لا ريب فيه هدىً
للمتّقين ، واضح في ذاته ، وبيان في نفسه ، وتبيان لكلّ شيء .
وهلمّ يا
إخوان الصفا وخلاّن الوفا لنرجع إلى إسلامنا العزيز وكتابه المجيد ، فإنّه
المهيمن على كلّ الكتب السماوية والأرضية ، وإنّه العلم الحاكم على كلّ العلوم
والفنون ، فإنّه نزل من العليّ العليم ، القدير الحكيم ، العزيز
الكريم .
وعلى كلّ
مسلم ومسلمة أن يفهم الدين ، ويفقه القرآن المبين ، ويدرك السنّة
الشريفة كما هي ، فإنّهما مصدر المعارف الإلهية والإنسانية ، وأساس
التشريع الإسلامي الحنيف .
ومن المؤسف
أنّ أعظم داء المسلمين وأكبر مصيبتهم ، أ نّهم بعدما كانوا أعزّة
العالم ، وأنّ حضارتهم الإسلامية غزت الدنيا وانتشرت العلوم الإسلامية
وفنونها في ربوع الأرض ، أصابهم الانحطاط وكسرت شوكتهم وبان الذلّ
عليهم ، وما ذلك إلاّ نتيجة جهلهم بدينهم وقرآنهم .
( وَلَـقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُدَّ كِر )([2]) .
وفي الحديث
الشريف : « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم
بالقرآن فإنّه شافع مشفع ، وماحل مصدق ، ومن جعله أمامه قاده إلى
الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير
سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ،
وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم ، وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه
عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى
غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف
الصفة »([3]) .
وعن الإمام
الحسن بن علي (عليهما
السلام) ،
قال : قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ
اُمّتك ستفتتن ، فسئل ما المخرج من ذلك ؟ فقال : كتاب
الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم
حميد ، من ابتغى العلم في غيره أضلّه الله .
وقال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام)
في وصف القرآن : جعله الله ريّاً لعطش العلماء ، وربيعاً لقلوب
الفقهاء ، ومحاج تطرق الصلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونوراً ليس
معه ظلمة .
اعلموا أنّ
هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ ، والهادي الذي لا يضلّ ، والمحدّث
الذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو
نقصان : زيادة في هدى ، ونقصان من عمى .
إنّه
سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين وسببه
الأمين ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وما للقلب جلاء
غيره .
فالقرآن
آمر زاجر وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه ، آخذ عليهم ميثاقه ،
وارتهن عليهم أنفسهم .
أفضل الذكر
القرآن به تشرح الصدور ، وتستنير السرائر .
وقال (عليه
السلام) :
إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه أخفى من الحقّ ، ولا أظهر
من الباطل ، فالكتاب وأهله في الناس وليسا فيهم ، ومعهم وليسا
معهم ، لأنّ الضلالة لا توافق الهدى ، وإن اجتمعا فاجتمع القوم على
الفرقة ، وافترقوا على الجماعة ، كأ نّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب
إمامهم ، فلم يبقَ عندهم منه إلاّ اسمه ، ولا يعرفون إلاّ خطّه وزبره([4]) .
وقد ورد في
الحديث الشريف : سيكثر في آخر الزمان قرّاء القرآن ، إلاّ
أ نّه رُبّ تال للقرآن والقرآن يلعنه ، لأ نّه لا يعمل بآياته التي
يقرأها ويتلوها ، فالعمدة هو العمل بالقرآن الكريم كما أوصى بذلك أمير
المؤمنين آخر وصيّته قائلا :
« الله الله في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به
غيركم »([5]) .
وإنّ هذا
القرآن غضّ جديد لا يُبلى ، وإنّه كتاب حياة لكلّ الأزمان والأجيال ،
ولكلّ الأمصار والأعصار ، فهو أصدق القول ، وأبلغ الموعظة ، وأحسن
القصص ، وخير الهدى ، والدواء النافع ، وشفاء الصدور ،
ومصابيح النور ، لا تخلقه كثرة الردّ وولوج السمع .
عن الإمام
الصادق (عليه
السلام)
لمّـا سئل : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ
غضاضة ؟ قال : لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون
زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان
جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة .
قال الإمام
الرضا (عليه
السلام)
في وصفه : هو حبل الله المتين وعروته الوثقى ، وطريقته
المثلى ، المؤدّي إلى الجنّة ، والمنجي من النار ، لا يخلق على
الأزمنة ، ولا يغثّ على الألسنة ، لأ نّه لم
يجعل لزمان دون زمان ، بل جعل دليل البرهان والحجّة على كلّ إنسان ،
لأ نّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد([6]) .
فأهل
القرآن أهل الله وخاصّته ، وهم عرفاء أهل الجنّة يوم القيامة ، وأشراف
اُمّة محمّد (صلى
الله عليه وآله) المحفوفون برحمة الله ، الملبوسون بنور الله عزّ
وجلّ .
فعليكم
بكتاب الله ، فإنّه الحبل المتين والنور المبين ، من قال به صدق ،
ومن عمل به سبق .
هذا
والمقصود من هذه الرسالة أن نعرف ـ ولو إجمالا ـ حقيقة
القلوب من خلال القرآن الكريم ، وترجمانه أهل البيت (عليهم السلام) ،
فإنّهم القرآن الناطق ، ولسان الله الصادق .
ويقع
الكلام بعد المقدّمة في فصول وخاتمة.
وما توفيقنا
إلاّ بالله ، إنّه خير ناصر ومعين ، وإنّه المسدّد للخير والصواب .
الفصل الأوّل
القلب لغةً واصطلاحاً
لا يخفى
أ نّه إذا أردنا أن نعرف الشيء بحدوده وماهيّته وبرسمه ومعانيه ، لا بدّ
أن نعرف ذلك باعتبار اللغة والمعنى المصطلح ، ومن الواضح أنّ المتكفّل لبيان
المعنى اللغوي هو معاجم اللغة وقواميسها ، وقد ذكر فيها للقلب معان
عديدة ، منها :
1 ـ التحويل : ومنه قلب قلباً الشيء حوّله عن وجهه أو
حالته ، وجعل أعلاه أسفله .
2 ـ الصرف : ومنه قلّب القوم صرفهم ، وقلّب
المعلّم الصبيان إذا صرفهم إلى بيوتهم .
3 ـ الاختبار : ومنه قلب الأمر ظهراً لبطن ، إذا
اختبره وامتحنه .
4 ـ الوسط : ومنه قلب الجيش وسطه .
5 ـ اللبّ : ومنه قلب كلّ شيء لبّه .
6 ـ المحض : ومنه يقال : جئتك بهذا الأمر
قلباً أي محضاً .
8 ـ الخالص : ومنه يقال : رجل قلْب ،
أي خالص النسب .
واصطلاحاً :
في علم
الطبّ والتشريح : القلب عضو فعّال صنوبري الشكل ، مودع في الجانب
الأيسر من الصدر ، وهو أهمّ أعضاء الحركة الدموية والجهاز الدموي .
وهناك قلب
معنوي وراء هذا القلب المادّي الصنوبري ، وذلك القلب هو المخاطب في حقيقة
الإنسان ، وهو الأصيل الذي يترتّب عليه الثواب والعقاب شرعاً ، والمدح
والذمّ عقلا ، وهو الذي ورد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، وهو
موضوع رسالتنا ، وإنّه حرم الله وبيته الحرام في الإنسان المؤمن ، كما
أ نّه عشّ الشيطان يفرّخ فيه ويبيّض ، في الإنسان الكافر والفاسق .
والمادّيات
إنّما تحكي المعنويات ، وأنّ الظاهر عنوان الباطن ، والدنيا مزرعة
الآخرة ، وأنّ النزعة المادّية والجسدية ورائها النزعة المثالية
والروحية ، والروحانيّات تنزل من السماء ، وإنّ الجسد ليفنى وتبقى
الروح ، لتعود إلى البدن تارةً اُخرى ، ليتنعّما في الجنّة خالدين فيها
أبداً .
فالقلب
المادّي الجسمي الناري ، يحكي ذلك القلب المعنوي النوري المجرّد في
جوهريّته ، والمتعلّق بهذا القلب في فعله وتأثيره ، فبينهما علاقة وعلقة
وثيقة .
ولولا
الحجب الظلمانية من المعاصي والآثام على ذلك القلب الأصيل ، ولولا ظلمته وانتكاسه
بالذنوب والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولولا هيام الشياطين حوله ،
لكان حرم الله وبيته ، وإنّ السماوات والأرض لا تسع الله ، ولكن ذلك
القلب يسعه ، فهو عرش الرحمن ، وإنّه بين إصبعي الرحمن يقلّبه كيف ما
يشاء ، وهو قلب المؤمن العارف بالله سبحانه وتعالى ، وبقلبه هذا يرى
الله سبحانه كما ورد في الأحاديث الشريفة .
ومثل هذا
القلب الطاهر بعد صيقلته وتهذيبه يكون مرآةً للحقائق الكونية ، وتنعكس فيه
أسرار الكون وما فيه ، وتنطبع فيه ما وراء الطبيعة من المجرّدات ، وتظهر
فيه أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، حتّى ينطوي فيه العالم الأكبر ،
ويكون منبع الحِكَم ، ومعادن العلوم الإلهية ، ومخازن المعارف
الربّانية ، وتتفجّر منه ينابيع الحكمة ، وتجري على لسانه من ذلك القلب
الطاهر والنيّر بعد أن يخلص لله أربعين صباحاً ، فيستأنس بالله عزّ وجلّ ،
ويكون هو الحاكم فيه .
فقلب يستحقّ
المدح والثناء ، وإنّه يثاب المرء على إصلاحه وتقواه ، ويكون سبباً
لإصلاح جميع الجوارح ، إذ أ نّه سلطان البدن ، والناس على دين
ملوكهم ، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح والجوانح ، وإذا فسد القلب فسدت
الجوارح ، كما تفسد الرعيّة بفساد الراعي ، وهناك قلب يستحقّ الذمّ عقلا
والعقاب شرعاً ، وهو القلب الفاسد .
فعمران
البلاد والمجتمعات الإنسانية إنّما هو بحكومة القلوب الصالحة والسليمة ،
وخرابها إنّما هو بحكومة القلوب العليلة والسقيمة .
فمن القلوب
ما تستحقّ العذاب واللعن والذمّ ، ومنها ما تستحقّ المدح والثواب والأجر .
قال الإمام
زين العابدين (عليه
السلام) :
عجبت لمن يحتمي من ضرر الأكل ، كيف لا يحتمي من ضرر
الذنوب .
أقول :
سيّدي ومولاي ، العجب كلّ العجب في عصرنا الراهن ، فما أعجب الإنسان في
عصر الذرّة والفضاء وهذا التقدم التكنولوجي الهائل ، قد اهتمّ بقلبه الصنوبري
غاية الاهتمام ، فما أكثر المستشفيات في العالم التي اُعدّت لمعالجة
القلب ؟ وما أعظم العمليات الجراحية على القلب ؟ وما أكثر
موت الفجأة بالسكتة القلبية ؟ وما أضخم التطوّر العلمي في الأجهزة
الألكترونية لمعالجة القلب ؟ وما أكثر الأطباء الأخصائيين لمعالجة
القلب ؟ وما أكثر الأموال الطائلة التي تصرف من أجل القلب ؟
كلّ هذا ليبقى القلب لأيام معدودة ليس إلاّ ، والكلّ يعلم أنّ عاقبته
الفناء ، وإنّه أخيراً من حظّ التراب وديدان القبر ، ومع هذا فما أن
أحسّوا بوجع في قلوبهم ، سرعان ما ذهبوا إلى الأطباء وبذلوا ما بذلوا ،
والمؤمنون منهم يتوجّهون إلى الدعاء ، والاُسر والعوائل تبالغ بالاهتمام
وبالبكاء والنحيب ، ورعاية حال المريض المبتلى بالجلطة أو السكتة القلبية
التي هي ترسّبات في شرايين القلب ، فكلّ هذا الاهتمام لقلب صنوبري
ميّت ، ولكن ومع كلّ الأسف قد غفلوا عن القلب المعنوي الباقي ، الساكن
في الجنّة أو النار ، وهذا من العَجب العجاب .
عن أبي عبد
الله الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال : اعلم يا فلان
إنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم ، ألا
ترى أنّ جميع جوارح الجسد شُرط للقلب وتراجمة له مؤدّية عنه : الاُذنان
والعينان والأنف والفم واليدان والرجلان والفرج ، فإنّ القلب إذا همّ بالنظر
فتح الرجل عينه ، وإذا همّ بالاستماع حرّك اُذنيه وفتح مسامعه فسمع ،
وإذا همّ القلب بالشمّ استنشق بأنفه فأدّى تلك الرائحة إلى القلب ، وإذا همّ
بالنطق تكلّم باللسان ، وإذا همّ بالحركة سعت الرجلان ، وإذا همّ
بالشهوة تحرّك الذكر ، فهذه كلّها مؤدّية عن القلب بالتحريك ، وكذلك
ينبغي للإمام أن يطاع للأمر به([7]) .
قال أمير
المؤمنين في نهج البلاغة : لقد علّق بنياط هذا الإنسان بضعة ، وهي
أعجب ما فيه ، وذلك القلب وله موادّ من الحكمة ، وأضداد من
خلافها ، فإن سنح له الرجا أذلّه الطمع ، وإن أسعده الرضا نسي
التحفّظ ، وإن ناله الخوف شغله الحذر ، وإن اتّسع له الأمن
( استلبته الغرَّة ، وإن جُدّدت له النعمة أخذته العزّة ) وإن أصابته
مصيبة فضحه الجزع ، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى ، وإن عضّته الفاقة شغله
البلاء ، وإن جهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أفرط به الشبع كظّته
البطنة ، فكلّ تقصير به مضرّ ، وكلّ إفراط له مفسد([8]) .
روى أنس بن
مالك ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
ناجى داود ربّه فقال : إلهي ، لكلّ ملك خزانة ، فأين
خزانتك ؟ قال جلّ جلاله : لي خزانة أعظم من العرش وأوسع من
الكرسي وأطيب من الجنّة وأزين من الملكوت : أرضها المعرفة ،
وسماؤها الإيمان ، وشمسها الشوق ، وقمرها المحبّة ، ونجومها
الخواطر ، وسحابها العقل ، ومطرها الرحمة ، وأثمارها الطاعة ،
وثمرها الحكمة ، ولها أربعة أبواب : العلم والحلم والصبر
والرضا ، ألا وهي القلب([9]) .
ممّـا جاء
في أدعية سحر شهر رمضان المبارك : اللهمّ املأ قلبي حبّاً لك وخشيةً
منك وتصديقاً لك وإيماناً بك وفرقاً منك وشوقاً إليك يا ذا الجلال والإكرام([10]) .
« وبالجملة الذي يجب على العبد بذل غاية الطاقة فيه هو عبادة
القلب بالمعرفة والذكر والشكر وغيرها من عباداته ، وأمّا العبادة البدنية
فالمرغوب شرعاً فيها الاقتصاد لا الجهد الشديد ، وأمّا تلطيف القلب بالمعرفة
وما يتبعها من كرائم صفاتها فالمرغوب فيه الإدمان بقدر الوسع والطاقة ، حتّى
يصير حاله كما قال الصادق (عليه السلام) في حقّ
العارف : « لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه » ،
وإذا انكشف عن قلبه أغشية الأوهام ، وارتفعت عنه الحجب الظلمانية ،
وتجلّى فيه أنوار جمال الصفات ، وسبحات جلال الذات ، وبرق له لامع كثير
البرق ، لا يمكنه الغفلة والسهو ، وينقلب أحوال قلبه بتجلّيات خصوص
الصفات الجمالية والجلالية ، والله جلّ جلاله يتولّى رياضة قلبه بالخوف
والرجاء من هذا الطريق حتّى يورده مقعد الصدق في جواره ، ويسكنه في الفردوس
الأعلى جنّة النور مع النبيّين والشهداء والصدّيقين ، وحسن اُولئك
رفيقاً »([11]) .
فاقبل
على القلب يستكمل فضائله *** فأنت بالقلب لا بالجسم إنسانُ
يا
خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** وتطلب الربح فيما فيه خسرانُ
وحبّذا أن
نذكر الصفة التشريحية للقلب في القرآن الكريم كما جاء ذلك في كتاب ( الطبّ في
القرآن والسنّة )([12]) :
« أوّلا ـ أوّل ما يخلق من أجزاء الإنسان :
للعلماء في
ذلك ثلاثة آراء :
الرأي
الأوّل : قال فريق من العلماء : إنّ أوّل ما يخلق من أجزاء
الإنسان هو الرأس ، واستدلّوا في ذلك على أ نّه هو أوّل شيء يخرج من
الإنسان إلى حيّز الوجود حال الوضع .
الرأي
الثاني : وقيل : إنّه الكبد ، واستدلّوا في ذلك على
أ نّه هو الذي يقوم بعملية هضم الطعام ، وتحويل عصارته إلى كرات الدم
بيضاء وحمراء ، ثمّ يمدّ القلب بها ، فوظيفته سابقة على وظيفة
القلب .
الرأي
الثالث : إنّه القلب ، واستدلّوا على ذلك على أ نّه عماد
الجسم وقالبه وينبوع حياته بما أودع الله تعالى فيه من سرّ الحياة والحركة ،
وإنّه سلطان الجسم والملك المسلّط على مملكته ، وباقي الأعضاء خادمة
له . وهذا الرأي هو الراجح ، لأنّ الحقّ تعالى حين عاب على من جحدوا
النعمة وأنكروا وجوده قال :
( أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا
تَعْمَى الأ بْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ )([13]) .
فجاء القلب
في المرتبة الاُولى لما له من أهمّية حيث إنّه مقرّ العقل والتعقّل ، ومقرّ
البصيرة التي هي أرقى من البصر ...
ثمّ يقول
المؤلّف : وقد جاءت الصفة التشريحيّة للقلب في القرآن الكريم ستّة
أجزاء مقسّمة على ستّ مراتب دقيقة متتالية :
1 ـ المرتبة الاُولى : القلب بوجه عامّ كدائرة كبرى
بداخل الصدر ، وظيفته العامّة : هو ينبوع الحياة ومضخّة الدم التي
لا تكلّ عن العمل ، عدد ضرباته من 60 إلى 80 ضخّة في الدقيقة الواحدة ،
وينبض يومياً ما يزيد على مائة ألف مرّة يضخّ خلالها ( 8000 ليتر من الدم
توزّع على جميع أعضاء الجسم بالتساوي في آن واحد ، وحوالي 56 مليون جالون على
مدى حياة إنسان وسطاً ) ، وقد ورد في الحديث القدسي في قوله تعالى:
( لم تسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن ) ، إنّ
القلب يقوم بكتابة الاسم الأعظم ( الله ) أثناء عملية ضخّ الدم
هذه ، ومن داخل القلب دائرة أصغر منه تسمّى الفؤاد .
2 ـ المرتبة الثانية : الفؤاد ، ووظيفته إدراك
الاُمور الظاهرية ، أي الفهم العادي . وقد تحدّث الحقّ تعالى عنه في
تعدّد الحواسّ المسؤولة عن حركة الإنسان ، فقال :
( إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ
اُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا )([14]) .
3 ـ المرتبة الثالثة : اللباب ، وهو دائرة أصغر
بداخل الفؤاد ، وظيفته فهم الاُمور الخفيّة الدقيقة ، أي الفهم فوق
العادة ، وقد خصّ الحقّ تعالى أصحاب الألباب بميزة التدبّر ، وسرعة
الإدراك في الاستدلال على عظمة الخلاّق دون غيرهم فقال عزّ ثناؤه :
( إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُولِي الألْبَابِ )([15]) .
أي أنّ هذه
الأجرام العظام وما فيها من صنعة دقيقة تدلّ على عظمة الصانع وقدرته ،
واختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما ، الأوّل بالظلمة والثاني بالضياء ،
لعلامات دالّة على وحدانية الله لا يعرفها إلاّ أصحاب العقول الرشيدة ، كما
خصّهم الحقّ جلّ شأنه بميزة التذكّر ، فقال سبحانه :
( إنَّمَا يَتَذَكَّرُ اُوْلُوا
الألْبَابِ )([16]) .
كما
استحقّوا أن يكونوا أهل التمييز بين الأشياء صالحها وطالحها .
4 ـ المرتبة الرابعة : العقل ، وهو دائرة أصغر
بداخل اللباب وظيفته الترجيح والفصل والتعقّل ، الترجيح بين ما يجب وما لا
يجب ، والفصل بين القضايا ، والتعقّل في وضع الاُمور في نصابها ،
وهو ميزان الجسم وموضع التكليف إذ لا تكليف إلاّ على العقلاء ، وقد أشار
الحقّ تعالى إلى ذلك بقوله :
( أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )([17]) .
فبيّن
سبحانه أنّ موطن العقل في القلب ومدى أهمّيته للإنسان .
أمّا الصفة
التشريحية الطبّية للعقل فالسادة علماء الطب يعتبرونه في الرأس ، ولا خلاف
بين الطبّ والنصّ القرآني ، إذ أنّ الرأس به المخّ ، وهو يمثّل المجموعة
الفكرية للإنسان ، التي تتعامل مع العقل بداخل القلب في طريق الإشارات
العصبية ، حيث يوجد في الدماغ ( 13 مليار خليّة عصبية )
و ( 100 مليار خلية دبقية ) ، استنادية تشكّل سدّاً مانعاً
لحراسة الخلايا العصبية من التأثّر بأيّ مادة . فكأنّ المجموعة الفكرية هي
العقل ، إذا بغير الفكر لا عقل .
5 ـ المرتبة الخامسة : الوجدان ، وهو دائرة أصغر
بداخل العقل ، ووظيفته الحزن والعاطفة ، وقد نبّهنا الحقّ تعالى إلى خطر
الإفراط في الحزن أو العاطفة فقال :
( لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا
تَـفْرَحُوا بِمَا آ تَاكُمْ )([18]) .
6 ـ المرتبة السادسة : الجنان من داخل الوجدان دائرة
أصغر تسمّى الجنان ، ووظيفة الجنان الذكر الصامت لله ربّ العالمين ،
لأنّ الذكر نوعان :
1 ـ منطوق باللسان .
2 ـ صامت بالجنان ...
ثمّ يقول
المؤلّف : بعد أن بيّنا أنواع الداء ، إليك أنواع الدواء ،
فيذكر أوّلا الدواء في القرآن وأ نّه نوعان :
1 ـ حسّي ، وهو ما يعالج البدن والأعضاء .
2 ـ معنوي ، وهو ما يعالج الروح والقلب والبدن .
أمّا الجانب
الحسّي الذي يعالج علل الجسم فيتمثّل في الأشياء التي جاء التنزيل بها
صراحة ، وهي :
1 ـ الماء بوجه عامّ . 2 ـ ماء السماء . 3 ـ ماء الأرض
بوجه عامّ . 4 ـ ماء الأرض في حالات خاصّة. 5 ـ البقول والخضروات. 6 ـ
الحبّ والنوى. 7 ـ الزيتون والرمّان . 8 ـ اللحوم . 9 ـ اللبن . 10
ـ ثمرات النخيل والأعناب . 11 ـ عسل النحل . 12 ـ زيت الزيتون . 13
ـ السمك . 14 ـ الخردل . 15 ـ القرع ، وهو اليقطين . 16 ـ الموز .
17 ـ لحم الطيور . 18 ـ الكافور . 19 ـ الزنجبيل . 20 ـ
المسك . 21 ـ التين والزيتون .
ثمّ يذكر
آيات هذه الأطعمة وما فيها من الآثار الطبّية والمعالجات الصحّية ، ثمّ يذكر
الشفاء المعنوي كالإيمان وصدق الاعتقاد واليقين في من بلّغ عن ربّه وهو الرسول
الأعظم (صلى
الله عليه وآله) ، والذكر والتوكّل والقرآن وأ نّه شفاء لما في
الصدور من كلّ داء إلاّ الموت ، والرحمة العامّة والخاصّة . فراجع إذا
أردت التفصيل .
الفصل الثاني
القلب في رحاب القرآن
الكريم
لو رجعنا
إلى القرآن الكريم في معرفة القلب ، فإنّا نجد قد شُبّه القلب باُمور ،
منها :
1 ـ شُبّه بالعقل الدرّاك لما فيه الخير والصلاح ، والذي
تنفعه الذكرى والموعظة كما في قوله تعالى :
( إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِ كْرَى لِمَنْ كَانَ
لَهُ قَلْبٌ )([19]) .
2 ـ وإنّه مركز الخوف والرعب ، كما في قوله
سبحانه :
( سَاُ لْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ )([20]) .
3 ـ وإنّه بمعنى الروح ، كما في قوله عزّ وجلّ :
( وَإذْ زَاغَتِ الأ بْصَارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ )([21]) .
4 ـ وإنّه منطلق العواطف والأحاسيس ، كما في قوله جلّ
جلاله :
( فَبَِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ )([22]) .
ثمّ إنّ في
الإنسان لقوّة تسيّره في الحياة ، وتواكبه منذ نعومة أظفاره وإلى يوم
رحلته ، وهذه القوّة التي تعطيه الحيوية والنشاط إنّما تنطلق من
مركزين :
1 ـ مركز الإدراكات .
2 ـ مركز العواطف .
وكلاهما
نسب في القرآن الكريم إلى القلب . فمركز الإدراكات والمدركات الحسّية
وغيرها ، إنّما هو الدماغ والمخّ ، وهو من خدّام الروح ، ومركز
العواطف هو القلب الصنوبري ، فإنّ الحزن والسرور يؤثّران عليه . والجامع
لمركزي القوّة في الواقع والحقيقة إنّما هو روح الإنسان ، إلاّ أنّ الآثار
الجسمية مختلفة ومتفاوتة ، فإنّ الإدراك الفهمي تظهر آثاره ابتداءً على
الدماغ ، كما أنّ المحبّة والعداوة والخوف والأمن والسرور والحزن ،
إنّما تظهر آثارها أوّلا على القلب .
ولا مانع
أن تنسب القضايا الفكرية والعاطفية إلى القلب بعدما كان سلطان البدن وأميره ،
وإنّه من أهمّ الجوارح والجوانح([23])
التي تؤثّر في بقاء الإنسان حيّاً في الحياة الاُولى .
ثمّ القرآن
كتاب الله الحكيم يذكر حالات مختلفة للقلب مثلا :
1 ـ يران كما يران الحديد :
( كَـلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُـلُو بِهِمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )([24]) من
المعاصي والآثام .
2 ـ وإنّه يقسو ويكون كالحجارة أو أشدّ :
( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً )([25]) .
3 ـ وإنّه يغلظ :
( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ
لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )([26]) .
4 ـ وإنّه يمرض بأمراض معنوية ، كعدم استقرار
الإيمان :
( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )([27]) .
فيتبع
خطوات الشيطان ، ويتّخذ إلهه هواه .
5 ـ وإنّه يختم على القلب ، فلا يفقه شيئاً ولا
يشعر :
( خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ )([28]) .
6 ـ وربما يكون ظرفاً للخوف والرعب :
( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ )([29]) .
7 ـ وربما يكون آثماً بمعصية الله ، كمن يكتم
الشهادة :
( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ )([30]) .
8 ـ ومن القلوب تجهل ولا تفهم ولا تفقه الحقّ :
( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِهَا )([31]) .
9
ـ والله سبحانه يختبر ويمتحن القلوب :
( إنْ
يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً )([32]) .
10
ـ ويكون القلب موضع رحمة الله ورأفته وسكينته :
( وَجَعَلْـنَا
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ ا تَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحْمَةً )([33]) .
كما هناك حالات كثيرة للقلب ـ كما
ستقف عليها ـ وتعلم أنّ القلب في القرآن الكريم ليس مجرّد لحمة صنوبرية
تصفّي الدم ، بل يأتي بمعان عديدة كالروح والصدر ، ويحمل معاني متضادّة
كالخير والشرّ .
والقرآن يفسّر بعضه بعضاً ، والتفسير هو
كشف القناع عن الظاهر والباطن ، وربط الآيات الشريفة في المحتوى العامّ في
كلّ القرآن في الظواهر والبواطن .
فلو رجعنا إلى القلوب الواردة في القرآن
ومقايستها بعضها مع بعض ، لرأينا هناك ألفاظ قريبة المعنى ، كالقلب
والنفس والصدر والفؤاد ، كما في قوله تعالى :
( وَاللهُ
يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ )([34]) .
( رَبُّكُمْ
أعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ )([35]) .
( أوَ
لَيْسَ اللهُ بِأعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ )([36]) .
فالقلب
والنفس والصدر كلٌّ قد صار متعلّقاً لعلم الله سبحانه ، فإمّا أن يكون
بمعنى
واحد ، وأ نّها ألفاظ مترادفة ، أو بمعنى ( قسم من
البواطن ) الذي يكون مركزاً للإدراكات العقلية ، والعواطف
الروحية ، والأحاسيس النفسية .
فالله يعلم
ما في القلوب ، والعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء :
( فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأ بْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )([37]) .
ثمّ سمّى
القلب قلباً لتقلّبه في الخواطر والحوادث ، كما أشار إليه المحقّق النراقي في
كتابه القيّم ( جامع السعادات )([38])
تحت عنوان ( النفس وأسماؤها وقواها الأربع ) فقال :
ما عرفت من
تجرّد النفس إنّما هو التجرّد في الذات دون الفعل ، لافتقارها فعلا إلى الجسم
والآلة ، فحدّها : أ نّها جوهر ملكوتي يستخدم البدن في
حاجاته ، وهو حقيقة الإنسان وذاته ، والأعضاء والقوى آلاته التي يتوقّف
فعله عليها ، وله أسماء مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات ، فيسمّى
( روحاً ) لتوقّف حياة البدن عليه و ( عقلا )
لإدراكه المعقولات ، و ( قلباً ) لتقلّبه في الخواطر ،
وقد تستعمل هذه الألفاظ في معان اُخرى تعرف بالقرائن ، وله قوى
أربعة :
1 ـ قوّة عقليّة ملكية .
2 ـ وقوّة غضبية سبعية .
3 ـ وقوّة شهوية بهيمية .
4 ـ وقوّة وهميّة شيطانية .
والاُولى :
شأنها إدراك حقائق الاُمور ، والتمييز بين الخيرات والشرور ، والأمر
بالأفعال الجميلة ، والنهي عن الصفات الذميمة .
والثانية :
موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء والتوثّب على الناس بأنواع
الأذى .
والثالثة :
لا يصدر عنها إلاّ أفعال البهائهم من عبودية الفرج والبطن ، والحرص على
الجماع والأكل .
والرابعة :
شأنها استنباط وجوه المكر والحِيَل ، والتوصّل الى الأغراض بالتلبيس
والخدع .
ثمّ
الإنسان جامع لجملة من القوى ـ كما مرّ ـ والغرائز
والأحاسيس والعواطف ، ولكلّ قوّة وغريزة لذّة واستمتاع ، ولذّتها في
نيلها وحصول مقصودها بمقتضى طبعها وسجيّتها التي خلقت له ، فإنّ هذه الغرائز
ما ركّبت في الإنسان هزلا وشططاً ، بل خلقت كلّ قوّة وغريزة لأمر من الاُمور
المودعة في سريرتها ، هو مقتضاها بالطبع .
وفي القلب
الإنساني غريزة تسمّى النور الإلهي لقوله تعالى :
( أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ
فَهُوَ عَلَى نُور مِنْ رَبِّهِ )([39]) .
وقد تسمّى
نور الإيمان واليقين والعلم الإلهي والمعرفة النورانية ، ولا معنى للاشتغال
بالأسماء والألفاظ وإن كانت تنبئ عن مسمّيات ومعاني ، إلاّ أ نّها من
الاصطلاحات المختلفة ، ولا مشاحّة في الاصطلاح ، وربما الضعيف في ثقافته ،
يظنّ أنّ الاختلاف واقع في المعاني ، لأ نّه يطلب دائماً المعاني من نفس
الألفاظ ، وهو عكس المطلوب .
فالقلب
مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيّلة ولا
محسوسة ، كإدراكه خلق العالم ، أو افتقاره إلى خالق مدبّر حكيم موصوف
بصفات إلهية ، مستجمع لجميع صفات الكمال من الجمال والجلال .
ولا مانع
أن تسمّى تلك الغريزة عقلا ، بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك
به طرق المجادلة والمناظرة ، فإنّه اشتهر اسم العقل بهذا المعنى أيضاً ،
ولهذا ذمّه من ذمّه ، وإلاّ فالصفة التي بها يفارق الإنسان البهائم
والعجماوات ، وبها يدرك المعارف السامية كمعرفة الله سبحانه ، فإنّها
أعزّ وأنفس الصفات ، فلا ينبغي أن يذمّ ويحارب كما عند الحشرية وأهل الظاهر
والأخباريين .
وهذه
الغريزة خلقت في الإنسان ليعلم بها حقائق الاُمور ، وواقع الأشياء
كلّها ، فمقتضى طبعها المعرفة والعلم وهي لذّتها ـ ومن هذا
المنطلق عندما يحلّ للإنسان مشكلة علميّة ، ويقف على حقيقتها ، فإنّه
يبتهج ويستر غاية السرور والبهجة حتّى يصرخ أين الملوك وأبناء الملوك ، لما
يشعر آنذاك بلذّة خارقة لا يجدها الملوك ـ كما أنّ
مقتضى طبع سائر الغرائز هو لذّتها ، فمعرفة الله ألذّ الأشياء وأ نّه لا
لذّة فوقها ، وإنّما يشعر بها من كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد([40]) .
ولا يخفى
أنّ معرفة القلب وحقيقته وآثاره وصفاته ولوازمه ممّـا خفى على كثير من
الناس ، وفي الأخبار والروايات الشريفة لم يبيّن المعصومون الأئمة الأطهار (عليهم
السلام)
ذلك إلاّ بإشارات وكنايات ، فينبغي أن يكتفى ما يذكر من صلاحه وفساده وآفاته
ودرجاته وحالاته وأخلاقياته ، ونسعى في تهذيب وتكميل وتنوير هذه الخلقة
العجيبة واللطيفة الربانية ، وتخليتها من الصفات الذميمة ، وتحليتها
بالأخلاق الحميدة ، وتجليتها حتّى تعرج بنا إلى مدارج الكمال ، وإفاضة
المعارف من الله جلّ جلاله .
ثمّ
المشهور بين الحكماء ومن يسلك مسلكهم ، أنّ المراد بالقلب هو النفس
الناطقة ، وهي جوهر روحاني متوسّط بين العالم الروحاني الصرف والعالم الجسماني ،
يفعل فيما دونه ، وينفعل عمّـا فوقه ، وإثبات الاُذن له
ـ يقال للقلب اُذنان كما سيأتي بيانه مفصّلا ـ إنّما هو على
الاستعارة والتشبيه .
يذكر
العلاّمة المجلسي في كتابه الشريف ( بحار الأنوار )([41])
عن بعض المحقّقين قوله : القلب شرف الإنسان وفضيلته التي بها فاق جملة
من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه التي في الدنيا جماله وكماله
وفخره ، وفي الآخرة عدّته وذخره ، وإنّما استعدّ للمعرفة بقلبه ،
لا بجارحة من جوارحه ، فالقلب هو العالم بالله ، وهو العامل لله ،
وهو الساعي إلى الله ، وهو المتقرّب إليه ، وإنّما الجوارح أتباع له
وخدم وآلات يستخدمها القلب ويستعملها استعمال الملك للعبيد ، واستخدام الراعي
للرعية ، والصانع للآلة .
والقلب هو
المقبول عند الله إذا سلم من غير الله سبحانه ، وهو المحجوب عن الله إذا صار
مستغرقاً بغير الله ، وهو المطالب والمخاطب وهو المثاب والمعاقب ، وهو
الذي يستسعد بالقرب من الله تعالى ، فيفلح إذا زكّاه ، وهو الذي يخيب
ويشقى إذا دنّسه ودسّاه .
وهو المطيع
لله بالحقيقة به ، وإنّما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره ،
وهو العاصي المتمرّد على الله ، وإنّما الساري على الأعضاء من الفواحش
آثاره ، وبإظلامه واستتاره تظهر محاسن الظاهر ومساويه ، إذ كلّ إناء
يترشّح بما فيه ، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف
نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربّه ، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل
نفسه ، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربّه ، ومن جهل بقلبه فهو بغيره
أجهل ، وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم ، وقد حيل بينهم وبين
أنفسهم ، فإنّ الله يحول بين المرء وقلبه ، وحيلولته بأن لا يوفّقه
لمشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته ، وكيفية تقلّبه بين إصبعين من أصابع
الرحمن ، وأ نّه كيف يهوى مرّة إلى أسفل السافلين ، وينخفض إلى
اُفق الشياطين ، وكيف يرتفع اُخرى إلى أعلى علّيين ، ويرتقي إلى عالم
الملائكة المقرّبين .
ومن لم
يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ، فهو
ممّن قال الله تعالى فيه :
( وَلا تَـكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ
فَأ نْسَاهُمْ أ نْفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ )([42]) .
فمعرفة
القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين ، وأساس طريق السالكين .
فإذا عرفت
ذلك فاعلم أنّ النفس والروح والقلب والعقل ألفاظ متقاربة المعاني ، فالقلب
يطلق لمعنيين أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من
الصدر ، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف ، وفي ذلك التجويف دم
أسود ، وهو منبع الروح ومعدنه ، وهذا القلب موجود للبهائم ، بل هو
موجود للميّت .
والمعنى
الثاني هو لطيفة ربّانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلّق ، وقد تحيّرت
عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته ، فإنّ تعلّقها به يضاهي تعلّق الأعراض
بالأجسام والأوصاف بالموصوفات ، أو تعلّق المستعمل للآلة بالآلة ، أو تعلّق
المتمكّن بالمكان ، وتحقيقه يقتضي إفشاء سرّ الروح ، ولم يتكلّم فيه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فليس لغيره أن
يتكلّم فيه .
ثمّ يذكر
العلاّمة معنى الروح وأ نّه على معنيين ، والنفس كذلك ، ثمّ العقل
وبعض معانيه ، ثمّ يقول :
وأكثر
العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها ، فتراهم يتكلّمون في
الخواطر ، ويقولون هذا خاطر العقل وهذا خاطر الروح ، وليس يدري الناظر
اختلاف معاني هذه الأسماء .
وحيث ورد
في الكتاب والسنّة لفظ القلب ، فالمراد به المعنى الذي يفقه من
الإنسان ، ويعرف حقيقة الأشياء ، وقد يكنّى عنه بالقلب الذي في
الصدر ، لأنّ بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصّة ، فإنّها وإن
كانت متعلّقة بسائر البدن ومستعملة له ، ولكنّها تتعلّق به بواسطة
القلب ، فتعلّقها الأوّل بالقلب فكأ نّه محلّها ومملكتها وعالمها
ومطيّتها ، ولذا شبّه القلب بالعرش والصدر بالكرسي .
ـ وللبحث صلة ، فراجع ـ
فصلاح
القلب يؤثّر على الجسد . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحّت سلم بها سائر الجسد ، فإذا سقمت سقم لها
سائر الجسد وفسد ، وهي القلب([43]) .
وعن أبي
جعفر (عليه
السلام) ،
قال : القلوب ثلاثة : قلب منكوس لا يعثر على شيء من الخير
وهو قلب الكافر ، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشرّ فيه يعتلجان ، فما كان
منه أقوى غلب عليه ، وقلب مفتوح فيه مصباح يزهر فلا يطفأ نوره إلى يوم
القيامة ، وهو قلب المؤمن([44]) .
هذا وقد
وردت كلمة ( القلب ) ومشتقّاتها في القرآن الكريم في ( 168 )
موضعاً ، وهذه جملة من الآيات الشريفة :
1 ـ ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ
اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَان أتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ
آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُـتَكَـبِّر
جَبَّار )([45]) .
2 ـ ( إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِ كْرَى
لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أوْ أ لْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )([46]) .
3 ـ ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَمَأوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ )([47]) .
4 ـ ( تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ
الكَافِرِينَ )([48]) .
5 ـ ( وَلَقَدْ ذَرَأ نَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا
وَلَهُمْ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا
اُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ اُوْلَئِكَ هُمُ
الغَافِلُونَ )([49]) .
6 ـ ( إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى
المَلائِكَةِ أ نِّي مَعَكُمْ فَثَبِّـتُوا الَّذِينَ آمَنُوا
سَاُ لْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان )([50]) .
7 ـ ( لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى
النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ
العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ
عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )([51]) .
8 ـ ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ
رُسُلا إلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُمْ بِالبَيِّـنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ
المُعْتَدِينَ )([52]) .
9 ـ ( كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ
المُجْرِمِينَ )([53]) .
10 ـ ( أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأ بْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ )([54]) .
11 ـ ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ
المُجْرِمِينَ )([55]) .
12 ـ ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى
قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )([56]) .
13
ـ ( وَإذَا
ذُ كِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإذَا ذُ كِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ )([57]) .
14
ـ ( أ فَلا
يَتَدَبَّـرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوب أقْفَالُهَا )([58]) .
15
ـ ( هُوَ
الَّذِي أ نْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِـيَزْدَادُوا
إ يمَاناً مَعَ إ يمَانِهِمْ وَللهِ جُـنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً )([59]) .
16
ـ ( ثُمَّ
قَـفَّـيْـنَا عَلَى آ ثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّـيْـنَا بِعِيسَى
ا بْنِ مَرْيَمَ وَآ تَـيْـنَاهُ الإنجِيلَ وَ جَعَلْـنَا فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ ا تَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ا بْتَدَعُوهَا مَا كَـتَـبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ا بْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَـتِهَا فَآ تَـيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ )([60]) .
17
ـ ( قُلُوبٌ
يَوْمَـئِذ وَاجِفَةٌ )([61]) .
18
ـ ( فَبَِما
رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ
لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ
المُتَوَكِّلِينَ )([62]) .
19 ـ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
القُلُوبُ )([63]) .
20 ـ ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ )([64]) .
21 ـ ( أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأ بْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )([65]) .
22 ـ ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإقَامِ الصَّلاةِ وَإ يتَاءِ الزَّكَاةِ
يَخَافُونَ يَوْماً تَـتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأ بْصَارُ )([66]) .
23 ـ ( إذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ
وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأ بْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الحَنَاجِرَ وَتَظُـنُّونَ بِاللهِ الظُّـنُونَ )([67]) .
24 ـ ( وَأنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إذِ
القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلا
شَفِيع يُطَاعُ )([68]) .
25 ـ ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً
لِجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِمَا
بَـيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )([69]) .
26 ـ ( عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
المُنذِرِينَ )([70]) .
27
ـ ( أمْ
يَـقُولُونَ ا فْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإنْ يَشَأ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى
قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )([71]) .
28
ـ ( وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ
عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدُّ الخِصَامِ )([72]) .
29
ـ ( وَإنْ
كُنتُمْ عَلَى سَفَر وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإنْ أمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )([73]) .
30
ـ ( يَا
أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأ نَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ )([74]) .
31
ـ ( مَنْ
كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ
اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )([75]) .
32
ـ ( وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ
الدُّ نْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا
وَا تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً )([76]) .
33 ـ ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ
كَأحَد مِنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ
فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفاً )([77]) .
34 ـ ( أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ
هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ
أ فَلا تَذَكَّرُونَ )([78]) .
35 ـ ( مَا أصَابَ مِنْ مُصِيبَة إلاَّ
بِإذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء
عَلِيمٌ )([79]) .
36 ـ ( وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ
أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأتِينَكَ
سَعْياً وَاعْلَمْ أنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )([80]) .
37 ـ ( وَأصْبَحَ فُؤَادُ اُمِّ مُوسَى
فَارِغاً إنْ كَادَتْ لَـتُـبْدِي بِهِ لَوْلا أنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا
لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ )([81]) .
38 ـ ( مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ
قَلْبَـيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاَّ ئِي تُظَاهِرُونَ
مِنْهُنَّ اُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءَكُمْ أ بْنَاءَكُمْ
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأ فْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَـقُولُ الحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ )([82]) .
الفصل الثالث
المرشد القلبي
نعيش اليوم
الخامس عشر من شهر رمضان المبارك ذكرى ميلاد سبط رسول الله الإمام الزكي الحسن
المجتبى (عليه
السلام) ،
فمن وحي المناسبة :
عن الإمام
الحسن (عليه
السلام) ،
عن أبي الحسن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ، عن جدّ الحسن
رسول الله (صلى
الله عليه وآله) ، قال : إنّ أحسن الحسن الخُلق
الحسن .
إنّ الله
سبحانه قد حثّ الإنسان على أن يتخلّق بالأخلاق الحسنة ، فقد أقسم بالشمس
وضحاها وبالقمر إذا تلاها ، وبالسماء والأرض وبالنفس إذا سوّاها ، بأنّ
الله عزّ وجلّ ألهمها فجورها وتقواها ، وهذا هو الرأس المال الأخلاقي الأوّل
الذي أعطاه الله للإنسان حتّى يسعده في الدارين ويتمّ الحجّة عليه ( فَلِلَّهِ
الحُجَّةُ البَالِغَةُ )([83]) ،
فتلطّف عليه بأن علّمه وألهمه ما فيه فجور النفس وما فيه تقواها ، كما جعل
له الرسول الباطني وهو العقل ، وأيّده بالرسول الظاهري وهم الأنبياء والرسل (عليهم
السلام)
ومن يحذو حذوهم ويحفظ شريعتهم من الأئمة الأطهار وورثتهم العلماء الصالحين
الأخيار .
وقد مدح
الله أنبياءه بأخلاقهم الحسنة ، فإنّها مظاهر لصفات الله العليا وأسمائه
الحسنى ، وقد فاق خاتم النبيين جميع الخلائق ، حتّى مدحه الله بخلقه
الحسن :
( وَإنَّكَ لَعَلى خُـلُق عَـظِيم )([84]) .
وإنّما
أخلاقه هي تجسيم لأخلاق القرآن الكريم الذي يدعو الناس إلى العدل والإحسان وترك
الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
سئلت عائشة
عن خلق النبيّ فقالت : كان خلقه القرآن .
فالقرآن هو
كتاب الله الكريم أنزله لسعادة الإنسان وهدايته إلى سواء السبيل فهو حجّة الله على
الخلق فيه تبيان كلّ شيء ، وما من صغيرة أو كيرة وما من رطب أو يابس إلاّ في
كتاب مبين .
وإنّما ترك
النبيّ الأكرم في اُمّته الثقلين : كتاب الله وعترته ، وإنّهما لن
يفترقا حتّى يردا الحوض ، فكلّ ما في القرآن الكريم من العلوم والمعارف والهداية
والأخلاق الحسنة ، إنّما هو في عترة رسول الله فهم الذين جسّدوا
القرآن ، وترجموه للناس في سلوكهم وأخلاقهم وحسن معاشرتهم ، فمن تمسّك
بهما لن يضلّ عن الصراط المستقيم أبداً .
فالله
سبحانه في خلقه الأوّل ألهم الإنسان فجور نفسه وتقواها ، وقد أفلح من زكّاها ،
وقد خاب من دسّاها ، فتكرّم عليه بحكيم ومرشد قلبي ، كما حثّه على أن
يرجع في اُموره إلى المرشد والحكيم الظاهري ، فقد ورد في الخبر
الشريف : « هلك من لم يكن له حكيم يرشده » ، فعلينا أن
نرجع إلى معلّم الأخلاق والحكيم الصالح ، ليطلعنا على عيوب أنفسنا ، وما
فيه صلاحنا وهلاكنا وشقاوتنا وسعادتنا ، وإن فقدناه ، فإنّ لنا بلطف من
الله وعنايته وهدايته وهو المعلّم والمرشد الأوّل : المرشد
القلبي .
في الخبر
الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) ،
قال : ما من قلب إلاّ وله اُذنان على أحدهما ملك مرشد وعلى الآخر شيطان
مفتِّن ، هذا يأمره وهذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره
عنها ، وهو قول الله عزّ وجلّ :
( عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْل إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )([85]) ([86]) .
وعنه (عليه
السلام) ،
قال : إنّ للقلب اُذنين ، فإذا همّ العبد بذنب قال له روح
الإيمان : لا تفعل ، وقال له الشيطان ، افعل ، وإذا كان
على بطنها نزع منه روح الإيمان .
قوله (عليه
السلام) :
( على بطنها ) ، راجع إلى المرأة المزنيّ بها في الزنا ، ذكره
على سبيل المثال كما ورد في الخبر الشريف : لا يزني المؤمن وهو
مؤمن ، فإنّه حين الزنا ينزع منه روح الإيمان ، وإذا تاب توبةً
نصوحة ، فإنّها ترجع إليه ، فإنّ المؤمن مفتون يذنب ويتوب .
ثمّ للنفس
طريق إلى الخير وطريق إلى الشرّ ، وللخير مشقّة حاضرة زائلة ، ولذّة
غائبة دائمة ، وللشرّ لذّة حاضرة فانية ومشقّة غائبة باقية ، والنفس
بطبيعتها تطلب اللذّة وتهرب عن المشقّة ، فالإنسان حينئذ دائماً متردّد بين
الخير والشرّ ، وروح الإيمان يدعوه إلى الخير وينهاه عن الشرّ ، والشيطان
يغويه فإنّه عدوّه .
ويحتمل أن
يكون المراد من روح الإيمان هو الملك ، وسمّي بروح الإيمان له مؤيّد له وسبب
لبقائه ، فكأ نّه روحه وبه حياته .
أو يراد به
العقل فإنّه أيضاً كذلك .
أو يراد به
الروح الإنساني من حيث اتّصافه بالإيمان .
أو يراد
بها قوّة الإيمان وكماله ونوره ، فإنّ كمال الإيمان باليقين بالله واليوم
الآخر ، لا يجتمع مع ارتكاب الكبائر والذنوب .
أو يراد
بها نفس الإيمان وتكون الإضافة للبيان ، فإنّ الإيمان الحقيقي ينافي ارتكاب
موبقات المعاصي .
وعن أبي
عبد الله (عليه
السلام) ،
قال : ما من مؤمن إلاّ ولقلبه اُذنان في جوفه : اُذن ينفث
فيها الوسواس الخنّاس ، واُذن ينفث فيها الملك ، فيؤيّد الله المؤمن
بالمك ، وذلك قوله :
( وَأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ )([87]) .
الفصل الرابع
العلم القلبي
لقد ورد في
الحديث الشريف : « ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم
نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء » ، فهذا من العلم الإلهي الذي يفيضه
على أوليائه من الأنبياء والأوصياء والمؤمنين الكمّل ، وإنّ من موارد علم
الأئمة الأطهار من عترة الرسول المختار ، هو هذا العلم القلبي .
كان الصادق
(عليه
السلام)
يقول : علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإنّ
عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة (عليها السلام) وعندنا
الجامعة فيها جميع ما تحتاج الناس إليه ، فسئل عن تفسير هذا الكلام
فقال : أمّا الغابر ; فالعلم بما يكون ، وأمّا
المزبور ; فالعلم بما كان ، وأمّا النكت في القلوب فهو الإلهام ،
وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة (عليهم السلام) ، نسمع كلامهم
ولا نرى أشخاصهم . إلى آخر الحديث الشريف([88]) .
عن أبي
بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول : إنّا نزاد في الليل والنهار ولولا أنّا نزاد لنفد ما
عندنا ، فقال أبو بصير : جعلت فداك ، من يأتيكم ؟
قال : إنّ منّا لمن يعاين معاينة ، ومنّا من ينقر في قلبه كيت
وكيت ، ومنّا من يسمع باُذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطست ... إلى آخر
الخبر([89]) .
وعنه (عليه
السلام) :
إنّ منّا لمن يوقر في قلبه ومنّا من يسمع باُذنه ، ومنّا من ينكت ،
وأفضل ممّن يسمع .
وعن أبي
جعفر (عليه
السلام) ،
قال : كان عليّ (عليه السلام) يعمل بكتاب الله
وسنّة نبيّه ، فإذا ورد عليه الشيء الحادث الذي ليس في الكتاب ولا في السنّة
ألهمه الله الحقّ فيه إلهاماً ، وذلك والله من المعضلات .
وعن عيسى
بن حمزة الثقفي ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) :
إنّا نسألك أحياناً فتسرع في الجواب ، وأحياناً تطرق ثمّ تجيبنا ،
قال : نعم إنّه ينكت في آذاننا وقلوبنا ، فإذا نكت نطقنا ،
وإذا اُمسك عنّا أمسكنا([90]) .
وعن الحارث
بن المغيرة النضري ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) :
ما علم عالمكم ؟ جملة يقذف في قلبه أو ينكت في اُذنه ؟
قال : فقال : وحي كوحي اُمّ موسى .
عن عليّ
السائي ، قال : سألت الصادق (عليه السلام) عن مبلغ
علمهم ، فقال : مبلغ علمنا ثلاثة وجوه : ماض وغابر
وحادث ، فأمّا الماضي فمفسّر ، وأمّا الغابر فمزبور ، وأمّا الحادث
فقذف في القلوب ونقرع في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبيّ بعد نبيّنا .
وبقوله (عليه
السلام) :
« لا نبيّ بعد نبيّنا » كأ نّما لدفع التوهّم الذي يخطر على الذهن
أنّ هذا من النبوّة .
وعن
زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) :
لما فسّر النكت بأ نّه إلهام في القلوب والنقر في الأسماع
إنّما هو من الملك : كيف يعلم أ نّه كان الملك ولا يخاف أن يكون
من الشيطان إذا كان لا يرى الشخص ؟ قال : إنّه يلقى عليه
السكينة فيعلم أ نّه من الملك ، ولو كان من الشيطان اعتراه فزع ،
وإن كان الشيطان ـ يا زرارة ـ لا يتعرّض
لصاحب هذا الأمر([91]) .
عن أبي
بصير ، قال : سمعته يقول : إنّ عندنا الصحف
الاُولى : صحف إبراهيم وموسى ، فقال له ضريس : أليست
هي الألواح ؟ فقال : بلى ، قال ضريس : إنّ
هذا لهو العلم ، فقال : ليس هذا العلم إنّما هذه الاُثرة ،
إنّ العلم ما يحدث بالليل والنهار يوم بيوم وساعة بساعة([92]) .
أجل هذا من
العلم الفيّاض من الباري تعالى على عباده لرشدهم وسعادتهم وتكاملهم ، وإنّ
الله يفيضه على أوليائه الأمثل فالأمثل في كلّ زمان ومكان ، وسيّد الأولياء
وإمام المتّقين في عصرنا هذا إنّما هو صاحب الزمان (عليه السلام) القائم
المهدي من آل محمّد (عليهم السلام) فإنّه حجّة الله على خلقه ،
ولولاه لساخت الأرض بأهلها ، والله يفيض عليه العلم نقراً ونكتاً وإلهاماً
يوم بيوم وساعة بساعة ، ثمّ يترشّح من إلهاماته على الكمّلين من المؤمنين من
الأوتاد والأبدال والصالحين ، ثمّ الأمثل فالأمثل من المعارف الحقّة والعلوم
الإلهيّة ، فليس العلم بكثرة التعلّم ، إنّما العلم نورٌ يقذفه الله في
قلب من يشاء أن يهديه إلى الحقّ والحقيقة والرشد والصواب ، فالعلم وكذلك نور
الله ، إنّما هو في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، طابت
وطهّرت ، فتدلّت قاب قوسين أو أدنى .
ثمّ المؤمن
الكامل تحدّثه الملائكة ـ كما ورد في أخبارنا ـ فيُلهم
ويُوحى إليه كوحي اُمّ موسى ، إلاّ أ نّه في السير والسلوك والعرفان وفي
طريقه إلى الله سبحانه وتعالى قد قعد الشيطان بالمرصاد ليغويه :
( لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
المُسْتَقِيمَ )([93]) .
( وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ * إلاَّ
عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ )([94]) .
( وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى
أوْلِيَائِهِمْ )([95]) .
والخلاصة
أنّ الوحي تارةً يكون رحمانياً ومن الله سبحانه وتعالى ، فهو الإلهام
الربّاني يفيضه الله بواسطة مَلَك على المؤمن ، وعلامته أ نّه يقترن مع
السكينة والاطمئنان القلبي ، وربما يكون شيطانياً ، ومن شياطين الجنّ
والإنس ، وعلامته أ نّه يقترن معه الفزع والخوف كما قال الإمام (عليه
السلام)
ـ ولو كان من الشيطان اعتراه فزع ـ فالوحي مع السكينة ومع
الأمارات القطعية أ نّه من إلهام الملائكة ، كما ورد في الدعاء الشريف
« وألهمني إلهام الملائكة المقرّبين » ، فهذا ينكت في القلب الذي
يكون حرم الله وعرشه ، وإذا كان الإيحاء من الشيطان فإنّه يعتريه الفزع
والاضطراب ، لأنّ الشيطان هو مضطرب ، ويعد الناس الفقر ، ويأمر
بالفحشاء والمنكر ، ومن كان مضطرباً لا يصدر منه الاطمئنان للتضادّ ،
فالمؤمن يحذره ولا يركن إليه ، فليس كلّ كشف في طريق السير والسلوك يكون من
الله ، بل عندنا كشف إلهي رباني ، وكشف شيطاني ، وأصحاب البدع
والمذاهب الفاسدة ، كان لهم الكشف ، وربما الإخبار ببعض
المغيّبات ، بعد أن يسرقها الشياطين حين نزولها من السماء ، فيوحون بها
إلى أوليائهم ، ليضلّونهم الصراط المستقيم ، ويضلّلون بهم الناس ،
فهؤلاء أعوان الشياطين ومن حزبه ، ضلّوا وأضلّوا ، وكانوا أرباب المذاهب
الباطلة والفرق المنحرفة والأحزاب الشيطانية ، كمحمّد بن عبد الوهاب إمام
الوهابية في السنّة ، وعلي محمّد باب إمام البابية في الشيعة ، وكلاهما
من عملاء الاستعمار البريطاني في التأريخ المعاصر .
ولمثل هذا
يقال : هلك من لم يكن له حكيم يرشده ، فالسالك إلى الله ربما
يُبتلى بمثل هذه الإيحاءات والكشفيات الشيطانية ، فيحتاج إلى معلّم
حكيم ، ومربٍّ عليم ، يرشده إلى ما هو الحقّ وإلى ما هو الباطل ،
إلى ما هو الخطأ وإلى ما هو الصواب ، وإلى ما هو من الكشف الرحماني والإلهام
الربّاني ، وإلى ما هو من الكشف الشيطاني والوساوس الإبليسيّة .
ولمثل هذا
نحتاج إلى العلماء الربانيين الإلهيين ، ولا يكتفى بالكشفيات ، ولا يفرح
بها السالك ، فما أكثرها في بداية السير والسلوك وإنّها من الوحي الشيطاني
ليضلّه عن الصراط المستقيم ، فتدبّر .
وإذا أردنا
أن نترجم عالم الكشف والشهود بشيء محسوس فيمكن أن نضرب لذلك بمثال جهاز التلفاز في
عصرنا الحاضر ، فإنّه يأخذ عدّة قنوات ، فمن يأخذ القناة الاُولى مثلا
فإنّه يغفل عن القناة الثانية ، ولكن لا يعني أ نّه ليس هناك برامج
للقناة الثانية ، بل هنالك برامج متنوّعة ، يكفي أن يغيّر الإنسان بنفسه
القناة الاُولى إلى الثانية ليشاهد برامجها ، فالحياة الدنيا إنّما هي برامج
القناة الاُولى ، والآخرة إنّما هي قناة ثانية ، وهي موجودة الآن كما
نعتقد بخلق الجنّة والنار فعلا ، فالذي يرى ظاهر الحياة الدنيا ، فإنّه
يغفل عن الآخرة .
ولكن هناك
من أراهم الله ملكوت السماوات والأرض :
( وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ )([96]) .
( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآ فَاقِ
وَفِي أ نْفُسِهِمْ حَتَّى يَـتَـبَـيَّنَ لَهُمْ أ نَّهُ
الحَقُّ )([97]) .
ففي هذه
الدنيا مثل هؤلاء يرون برامج القناة الثانية ، فيرون الجنّة ونعيمها ،
ويرون النار وأصحابها ، ويسمعون شهيقها وزفيرها ، فلا ينامون ليلا خوفاً
ورهبةً ، فما يكون للناس غيباً يكون لهم شهوداً ، فإنّ الغيب المطلق هو
الله سبحانه ، وما سواه فهو غيب نسبي ، فبالنسبة إلى عامّة الناس الذين
يرون ظاهر الحياة الدنيا ، وغرّتهم زخارفها وزبرجها ، وأعجبتهم مظاهرها
وبرامجها في القناة الاُولى ، إنّما يكون غيباً ، وأمّا الذين اتّقوا
ربّهم ، وزادهم الله حسناً وهدىً ، ورفعت الحجب بينهم وبين الله
( الحجب الظلمانية والنورانيّة ) وانفتحت لهم القناة الثانية ،
فإنّهم يرون الجنّة والنار في الدنيا ، وتنكشف لهم الحقائق ويرون الأشياء على
حقيقتها ... إلاّ أنّ عالم الشهود والمكاشفة والظهور له مراتب ، فمن
الأولياء من يُفتح له القناة الثانية دقائق ولحظات ، فيرى ما لا يراه
غيره ، ويسمع ما لا يسمع غيره ، وذلك في عالم الرؤيا من المنامات
الصالحة والرحمانية ، ومنهم من يزيد في فتح القناة ، ويطيل لما يحمل من
صفات خاصّة ، تدعوه إلى مشاهدة البرامج الممتازة ، فيصيب المكاشفة
الرحمانية ، ومنهم من يكون له القناة الثانية مفتوحة دوماً ، فهو في
عالم الشهود أبداً ، فلا يرى في الدير ديّاراً إلاّ هو سبحانه وتعالى ،
وجاء في وصف الأئمة الأطهار (عليهم السلام) :
« فبهم ملأت سماءك وأرضك حتّى ظهر أن لا إله إلاّ الله » ، فيكون
العالم كلّه محضر الله وجنّة قدسه وبحبوحة توحيده . وقال رسول الله (صلى الله
عليه وآله) :
لولا هيام الشياطين على قلوبكم لرأيتم ما أرى ...
ولكن من
عمي قلبه وصمّ اُذن قلبه ، فإنّه لا يرى الحقّ ولا يسمعه ، وإنّه ينكر
هذه المعالم ، بل ويعادي الصالحين ويماكسهم ويزاحمهم ، فإنّ الناس أعداء
ما جهلوه ، فلا يرى إلاّ ظاهر الحياة الدنيا ، وهو عن
الآخرة من الغافلين .
( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِي
الآخِرَةِ أعْمَى وَأضَلُّ سَبِيلا )([98]) .
( فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأ بْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )([99]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : « شرّ العمى عمى القلب » .
وقال :
« أعمى العمى عمى الضلالة بعد الهدى ، وشرّ العمى عمى
القلب » .
قال الإمام
الباقر (عليه
السلام)
في قوله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ
أعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أعْمَى ) ،
فمن لم يدلّه خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك بالشمس
والقمر ، والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمراً هو أعظم منه : ( فَهُوَ
فِي الآخِرَةِ أعْمَى ) فهو عمّـا لم يعاين
أعمى وأضلّ سبيلا .
|
 |
 |