قال الإمام
الرضا (عليه
السلام) :
يعني أعمى عن الحقائق المجرّدة([100]) .
ويحجب عن
مشاهدة الحقّ :
( كَـلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُـلُو بِهِمْ
مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَـلاَّ إنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَـئِذ
لَمَحْجُوبُونَ )([101]) .
قال الإمام
الكاظم (عليه
السلام) :
أوحى الله إلى داود : يا داود حذّر ، فأنذر أصحابك عن حبّ
الشهوات ، فإنّ المعلّقة قلوبهم شهوات الدنيا ، قلوبهم محجوبة
عنّي .
ويقول رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في
قلبه ، فإن نزع واستغفر صقل قلبه منه ، وإن ازداد زادت ، فذلك
الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه : ( كَـلاَّ
بَلْ رَانَ عَلَى قُـلُو بِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ،
وقال : حرام على كلّ قلب عزّى بالشهوات أن يجول في ملكوت السماوات([102]) .
ويقول أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« ومن لجّ وتمادى فهو الراكس ( الناكث الذي قلب عهده ونكثه ) الذي
ران الله على قلبه ، وصارت دائرة السوء على رأسه » .
وعلينا أن
ندعو ربنا ليل نهار أن يصلح قلوبنا ، فقد كان رسول الله (صلى الله
عليه وآله)
يكثر أن يقول : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك([103]) .
ويقول
الإمام الكاظم (عليه
السلام) :
إنّ الله جلّ وعزّ حكى عن قوم صالحين أ نّهم قالوا : ( رَبَّـنَا
لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ) حين علموا أنّ القلوب
تزيغ وتعود إلى عماها ورداها([104]) .
ومن أراد
أن يجول ويمرح في ملكوت السماوات عليه أن يتخلّى عن الشهوات ، ومن أراد أن
يدرك رفيع المقامات وعلوّ الدرجات ، فقد قال أمير المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
طهّروا أنفسكم من دنس الشهوات تدركوا رفيع الدرجات([105]) .
وقد خصّ
الله سبحانه اُمّة خاتم النبيّين محمّد (صلى الله عليه وآله) بخصائص
منها : الإيثار وفيه من الأنوار ما يبهر الناظر إليها في عالم الشهود
والملكوت كما جاء ذلك في الخبر الشريف :
قال موسى (عليه
السلام) :
يا ربّ أرني درجات محمّد واُمّته ؟ قال : يا موسى ،
إنّك لن تطيق ذلك ، ولكن اُريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضّلته بها عليك
وعلى جميع خلقي ... فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه
من أنوارها وقربها من الله عزّ وجلّ ، قال : يا ربّ ، بماذا
بلّغته إلى هذه الكرامة ؟ قال : بخلق اختصصته به من بينهم
وهو الإيثار ، يا موسى ، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمر
إلاّ استحييت من محاسبته وبوّأته من جنّتي حيث يشاء([106]) .
إذن أمثال
موسى (عليه
السلام)
كعلمائنا الأعلام ، الذين هم ورثة الأنبياء ، وأفضل أو كمثل أنبياء بني
إسرائيل يرون هذه المقامات والمنازل العرفانية في هذه الدنيا ، ويكاد أن تتلف
نفوسهم من أنوارها وقربها من الله عزّ وجلّ . فهناك من يرى برامج القناة
الثانية لما سوى الله سبحانه إن كان يطيق المشاهدة
والحضور ! !
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
عليك بالآخرة تأتِكَ الدنيا صاغرة([107]) ...
والعاقل تكفيه الإشارة .
ويقول
الإمام زين العابدين : الدنيا سِنَةٌ ، والآخرة يقظة ، ونحن
ما بينهما أضغاث أحلام([108]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
كن في الدنيا ببدنك وفي الآخرة بقلبك وعملك([109]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : من أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه ، جعل
الله الغنى في قلبه ، وجمع له أمره ، ولم يخرج من الدنيا حتّى يستكمل
رزقه ، ومن أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه ، جعل الله الفقر بين
عينيه ، وشتّت عليه أمره ، ولم ينل من الدنيا إلاّ قسّم له([110]) .
قال أمير
المؤمنين (عليه
السلام) :
سلوا القلب عن المودّات فإنّها شواهد لا تقبل الرُّشا([111]) .
سئل عن
الصادق (عليه
السلام) :
الرجل يقول : إنّي أودّك فكيف أعلم أ نّه يودّني ؟
قال : امتحن قلبك فإن كنت تودّه فإنّه يودّك .
قال الإمام
الباقر (عليه
السلام) :
اعرف المودّة لك في قلب أخيك بما له في قلبك .
وقال
الإمام الهادي (عليه
السلام) :
لا تطلب الصفا ممّن كدرت عليه ، ولا النصح ممّن صرفت سوء ظنّك إليه ،
فإنّما قلب غيرك لك كقلبك له .
وقال عليّ (عليه
السلام) :
زكِّ قلبك بالأدب كما يزكّى النار بالحطب ولا تكن كحاطب الليل وغُثاء السيل .
قال الله
تعالى لعيسى : أدّب قلبك بالخشية([112]) .
قال أمير
المؤمنين لولده الإمام الحسن (عليه السلام) : إنّما
قلب الحدث كالأرض الخالية ما اُلقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو
قلبك ويشتغل لبّك .
زبدة
الكلام :
إنّ
الإنسان إنّما تشرّف على سائر مخلوقات الله بعقله وقلبه ، والعقل للعلم
والإدراك ، والقلب للرؤية والحبّ ، فالعقل كمال ، والقلب
جمال ، وإنّما ينمو العقل ويزهر بالتفكّر ، وإنّما يتهذّب القلب
بالتذكّر ، فلا بدّ للإنسان من فكر وذكر ، والطريق إليهما إنّما هو
بالعلم والانكشاف ، إلاّ أنّ طريق الفكر هو طلب العلم ومدارسته من الصبا إلى
أيام الشباب ، وطريق القلب إنّما هو بالمناجاة والأذكار والمواعظ وذلك من
المهد إلى اللحد ، فلا كسل في طلبه حتّى أيام الشيخوخة ، فإنّه ربما
يكسل عن تلقّي الدروس إلاّ أ نّه لا يكسل عن المناجاة ، والروايات التي
تشير إلى طلب العلم من المهد إلى اللحد إنّما هي ناظرة إلى هذا العلم
القلبي ، ولا يحقّ للإنسان أن يأخذ هذا العلم من أيٍّ كان ، بل إنّما يأخذه
من أهله ، من العلماء الصالحين المخلصين المتّقين ، أمّا الآية التي
تدلّ على أنّ الإنسان يستمع إلى القول فيتّبع أحسنه فإنّها ناظرة إلى العلم
العقلي ، فيحقّ للمرء أن يستمع الأقوال ليأخذ أحسنها ، فإنّ الحكمة
ضالّة المؤمن يأخذها أينما وجدها ، فكشف حقائق الأشياء إمّا أن يكون بالنظر
والاستدلال والعلم العقلي ، أو بالبصر والشهود والعلم القلبي ، والأوّل
مسلك الحكماء ، والثاني طريق العرفاء ، فالأوّل يتلقّى العلوم والمعارف
بالعقل والنظر والفكر ، والثاني بالقلب والشهود والذكر ، وربما جمع
الإنسان بين المسلكين ، فيكون حكيماً عارفاً ، فيجمع بين الفلسفة
والعرفان ، كما جاء ذلك في تعاليم الإسلام وثقافته .
وقد نقل عن
بعض الأنبياء أ نّه خاطب أصحابه قائلا : « لا
تقولوا : العلم في السماء من ينزل به ، ولا في تخوم الأرض من يصعد
به ، ولا من وراء البحار من يعبر به ، العلم مجعول في قلوبكم ،
تأدّبوا بين يديّ بآداب الروحانيين ، وتخلّقوا بأخلاق الصدّيقين ، اُظهر
العلم من قلوبكم »([113]) .
فالعلم
القلبي لا بدّ له من مراعاة الآداب الروحانيّة ، حتّى يستعدّ القلب للفيوضات
الإلهيّة ، وتكشف الحقائق الكونية والتجلّيات الربّانية ، ويشاهد ما في
ملكوت السماوات والأرض من الأنوار البهيّة ، والأشعّة القدسية ، والعلوم
الزكيّة .
الفصل الخامس
كيف يحول
الله بين المرء وقلبه ؟
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم :
( يَا
أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأ نَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ )([114]) .
إنّ الله سبحانه العالم بكلّ شيء من أحوال
مخلوقاته ومصنوعاته ، يخاطب المؤمنين ويدعوهم إلى الحياة السعيدة ، فإنّ
دعوة الإسلام دين الله القويم ، هي دعوة للعيش السليم والحياة المستقيمة
المتبلورة بالمعنويات ، والمتكوّنة من المادّيات ، في كلّ الأصعدة من
الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية وغير ذلك من
الأبعاد والحقول المختلفة ، فإذا سأل أحد عن أهداف الإسلام ورسالته السمحاء
الخالدة ، فإنّ الجواب في أقصر جملة : إنّه ( دين
الحياة ) على جميع الأصعدة .
والحياة ذات مراحل قد أشار إليها القرآن
الكريم :
1
ـ فتارةً بمعنى الحياة النباتية ، بمعنى جسم نامي فيه القوى الثلاثة من
النموّ والرشد وتوليد المثل ، كما يشير إلى هذه الحياة قوله
تعالى :
( اعْلَمُوا
أنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا )([115]) .
2
ـ وتارةً بمعنى الحياة الحيوانية ، التي تعرّف بالجسم النامي الحسّاس
المتحرّك بالإرادة ، وأشار القرآن إليها في قوله تعالى :
( إنَّ
الَّذِي أحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى )([116]) .
3
ـ وثالثةً بمعنى الحياة الإنسانية ، كما جاء تعريف الإنسان في علم المنطق
بأ نّه حيوان ناطق ، فهي تعني الحياة الناطقية التي ترمز إلى القوّة
الدرّاكة والعاقلة ، فهي حياة فكريه وعقلية كما في قوله تعالى :
( أوَ
مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ )([117]) .
وهذه المراحل من الحياة إنّما هي في
الدنيا .
4
ـ ورابعةً حياة اخروية ، بانتقال الروح والعقل والنفس الناطقة إلى عالم
الآخرة ، ومن ثمّ المعاد الجسماني والروحاني في حياة اُخروية جديدة
خالدة ، كما في قوله تعالى :
( يَا
لَيْـتَـنِي قَدَّمْتُ لِحَـيَاتِي )([118]) .
5
ـ وهذه المراحل الحيوية والحياتية إنّما هي مظاهر لحياة الله سبحانه ( الحياة
الإلهية ) بمعنى العالم والقادر ، بلا حدّ ولا نهاية ،
وبالسرمدية ، فهي الحياة المطلقة ومطلق الحياة ، كما في قوله
تعالى : ( الحَيِّ الَّذِي لا
يَمُوتُ )([119]) .
فالناس في أيام الجاهلية الجهلاء والعمياء
كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية ، إلاّ أ نّهم ابتعدوا عن
الحياة الإنسانية والمعنوية والعقلية ، فجاء الإسلام
العظيم
وكتاب الله القويم ليدعوهم إلى الحياة السعيدة ، فمن يجعل الدين في إطارات
ضيّقة ، ومجرّد طقوس من دون دولة وحكم وقضايا فكرية واجتماعية ، فإنّه
بعيد عن روح الدين وحقيقته ، لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة والنشاط
والحياة في كلّ الجوانب ، وينهض بالناس في فكرهم وسلوكهم والإحساس
بالمسؤولية ، ويبعث نحو التكامل والرقيّ والتمدّن والحضارة .
فليست الحياة في الآية الشريفة تعني الجهاد أو
الإيمان أو القرآن أو الجنّة وحسب ، كما عند بعض المفسّرين ، بل هذا
تحديد لمفهوم الآية الوسيع ، فإنّها تشمل كلّ هذه وغيرها من عوامل السعادة
والتقدّم ، وكلّ قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة .
ثمّ يقول سبحانه وتعالى :
( وَاعْلَمُوا
أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأ نَّهُ إلَيْهِ
تُحْشَرُونَ )([120]) .
ليس المقصود من القلب هنا هو الشكل الصنوبري من
العضلة التي في القفص الصدري ، بل بمعنى الروح والعقل كما مرّ سابقاً ،
أمّا إنّه كيف يحول الله بين المرء وقلبه فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة :
أوّلا : إنّه إشارة لشدّة قرب الله
من عباده ، فإنّه سبحانه داخل في الشيء لا كدخول شيء في
شيء ، بل هو قريب من العبد ، وكأ نّه داخل في روحه وجسده ويرى الله
بقلبه ، وبلمسه بروحه ، كما يقول سبحانه :
( وَنَحْنُ
أ قْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ )([121]) .
ثانياً :
ربما إشارة إلى أنّ تقلّب القلوب والأفكار هي بيد الله سبحانه ، فهو
مقلّب
القلوب والأبصار ، كما جاء في الأدعية والأذكار : « يا مقلّب
القلوب والأبصار » .
ثالثاً :
إنّ المقصود هو أ نّه إذا لم يكن اللطف الإلهي برحمانيّته العامّة ،
فإنّ الإنسان غير قادر على معرفة الحقّ وأهله وحقّانيّته ، كما يعرف بطلان
الباطل .
رابعاً :
وقيل : إنّ المقصود هو أ نّه ما دام للناس فرصة ، فلا بدّ أن
يغتنموها قبل فوات الأوان بالطاعة والعمل الصالح ، لأنّ الله سبحانه قد يحول
بين المرء وقلبه بالموت ، والموت يأتي بغتة ، والقبر صندوق العمل .
« ويمكن بنظرة شاملة جمع كلّ التفاسير في تفسير واحد ،
هو أنّ الله عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهيمن على كلّ المخلوقات ، فإنّ الموت
والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة ، كلّها بيديه
وتحت قدرته ، فلا يمكن للإنسان كتمان أمر ما عنه ، أو أن يعمل أمراً
بدون توفيقه ، وليس من اللائق للإنسان كتمان أمر ما عنه ، أو أن يعمل
أمراً بدون توفيقه ، وليس من اللائق التوجّه لغيره وسؤال من سواه .
لأ نّه مالك كلّ شيء والمحيط بجميع وجود الإنسان ، وارتباط هذه الجمل مع
سابقتها من وجهة أ نّه لو دعا النبيّ (صلى الله عليه وآله
وسلم)
الناس إلى الحياة ، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل
والهداية ومالك كلّ شيء .
وللتأكيد
على هذا الموضوع فإنّ الآية تقول ما معناه : إنّكم لستم اليوم في حدود
قدرته فحسب ، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر ، فهنا وهناك كلّ الناس
بين يديه )([122]) .
الفصل السادس
النيّة من أهمّ
الأعمال القلبية
إنّ للقلب
أعمالٌ كما للجوارح أعمال وأفعال ، ومن أعمال القلب الإيمان والإقرار
والمعرفة والرضا والتسليم والتوكّل والمحبّة والشفقة والتقوى ، وغير
ذلك ...
ومن أهمّ
أعمال القلب النيّة ، وهي : القصد إلى الفعل ، وإنّها واسطة
بين العلم والعمل ، فإنّه إذا ما لم يعلم الشيء لم يكن قصده ، وما لم
يقصد لم يصدر عنه ، والسالك العارف لمّـا كان غرضه الوصول إلى مقصد معيّن
كامل على الإطلاق ، وهو الكمال المطلق ومطلق الكمال ، أي الله سبحانه
وتعالى ، فلا بدّ من اشتمال العمل على قصد التقرّب به إليه عزّ وجلّ .
فيمتثل أمر الله تعالى فيما ندب إليه عباده ووعدهم الأجر عليه ، وإنّما
يأجرهم على حسب عقولهم وأقدارهم ومنازلهم ونيّاتهم .
وإنّما
المقصود من العبادات هو الطاعة لا مجرّد التعبّد وإتيان الطقوس الدينية ،
والناس يتفاوتون في عباداتهم ، فمنهم من يعبد الله طمعاً بجنّته ، ومنهم
من يعبده خوفاً من ناره ، ومنهم من يعبده شكراً وحبّاً له .
فمن عرف
الله بجماله وجلاله ولطف فعاله ، ومن ثمّ أحبّه وعشقه واشتاق إليه ، وأخلص
عبادته له ، لكونه أهلا للعبادة ولمحبّته له ، فقد أحبّه الله وأخلصه
واجتباه ، وقرّبه إلى نفسه وأدناه ، قرباً معنوياً ، ودُنوّاً
روحانياً ، كمن قال في حقّ مَن هذه صفته :
( وَإنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ
مَآب )([123]) .
ومن لم
يعرف من الله سوى كونه إلهاً صانعاً للعالم قادراً عالماً ، وأنّ له جنّة
ينعم بها المطيعين ، وناراً يعذّب بها العاصين ، فعبده ليفوز
بجنّته ، أو يكون له النجاة من ناره ، أدخله الله تعالى بعبادته وطاعته
الجنّة وأنجاه من النار ، فإنّما لكلّ امرئ ما نوى .
والناس في
نيّاتهم في العبادات على أقسام : أدناهم من يكون عمله إجابةً لباعث
الخوف ، فإنّه يتّقي النار ، ومنهم من يعمل إجابةً لباعث الرجاء ،
فإنّه يرغب في الجنّة ، ومنهم من يعبد الله حبّاً وشوقاً لا خوفاً ولا
طمعاً .
قال أمير
المؤمنين وسيّد الموحّدين عليّ (عليه السلام) : ما
عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ، لكن وجدتك أهلا للعبادة
فعبدتك .
عن أبي
بصير ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن حدّ
العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤدّياً ؟ فقال : حسن
النيّة بالطاعة ( طاعة الله وطاعة الإمام (عليه السلام) ) .
عن أبي
هاشم قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) :
إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن
يعصوا الله أبداً ، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في
الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيّات خلّد هؤلاء
وهؤلاء ، ثمّ تلا قوله تعالى :
( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ )([124]) .
قال :
على نيّته .
كان
الاستشهاد بالآية الشريفة مبنيّ على أنّ المدار في الأعمال على النيّة التابعة
للحالة التي اتّصفت النفس بها من العقائد الصحيحة والفاسدة والأخلاق الحسنة
والسيّئة ، فإذا كانت النفس على الصحيحة والحسنة فإنّه بتلك الحالة والشاكلة
يعمل الخير في الدنيا لو خلّد فيها فيخلّد في الجنّة ، وإذا كانت على الباطلة
والسيّئة فإنّه يعصي الله فيستحقّ الخلود في النار .
يقول
العلاّمة المجلسي في كتابه القيّم بحار الأنوار : إنّ النيّة ليست
مجرّد قولك عند الصلاة أو الصوم أو التدريس : اُصلّي أو أصوم أو اُدرّس
قربةً إلى الله تعالى ملاحظاً معاني هذه الألفاظ بخاطرك ومتصوّراً لها
بقلبك ، هيهات إنّما هذا تحريك لسان وحديث نفس ، وإنّما النيّة المعتبرة
انبعاث النفس وميلها وتوجّهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها إمّا عاجلا وإمّا
آجلا .
وهذا
الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلا لها لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرّد النطق
بتلك الألفاظ ، وتصوّر تلك المعاني ، وما ذلك إلاّ كقول الشبعان أشتهي
طعاماً وأميل إليه قاصداً حصول الميل والاشتهاء ، وكقول الفارغ أعشق فلاناً
واُحبّه وأنقاد إليه واُطيعه ، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء
وميله إليه وإقباله عليه إلاّ بتحصيل الأسباب الموجبة لذلك الميل والانبعاث واجتناب
الاُمور المنافية لذلك المضادّة له ، فإنّ النفس إنّما تنبعث إلى الفعل
وتقصده وتميل إليه تحصيلا للغرض الملائم لها بحسب ما يغلب عليها من الصفات .
فإذا غلب
على قلب المدرّس مثلا حبّ الشهرة وإظهار الفضيلة وإقبال الطلبة إليه ، فلا
يتمكّن من التدريس بنيّة التقرّب إلى الله سبحانه بنشر العلم وإرشاد
الجاهلين ، بل لا يكون تدريسه إلاّ لتحصيل تلك المقاصد الواهية والأغراض
الفاسدة ، وإن قال بلسانه اُدرّسُ قربةً إلى الله ، وتصوّر ذلك بقلبه
وأثبته في ضميره وما دام لم يقلع تلك الصفات الذميمة من قلبه لا عبرة بنيّته أصلا .
وكذلك إذا
كان قلبك عند نيّة الصلاة منهمكاً في اُمور الدنيا والتهالك عليها والانبعاث في
طلبها ، فلا يتيسّر لك توجيهه بكلّيته وتحصيل الميل الصادق إليها والإقبال
الحقيقي عليها ، بل يكون دخولك فيها دخول متكلّف لها متبرّم بها ، ويكون
قولك : اُصلّي قربةً إلى الله ، كقول الشبعان أشتهي طعاماً ،
وقول الفارغ أعشق فلاناً .
والحاصل
أ نّه لا يحصل لك النيّة الكاملة المعتدّ بها في العبادات من دون ذلك الميل
والإقبال ، وقمع ما يضادّه من الصوارف والأشغال ، وهو لا يتيسّر إلاّ
إذا صرفت قلبك عن الاُمور الدنيوية ، وطهّرت قلبك عن الصفات الذميمة
الدنيّة ، وقطعت نظرك عن حظوظك العاجلة بالكلّية([125]) .
فالمراد
بالنيّة تأثّر القلب عند العمل وانقياده إلى الطاعة وإقباله على الآخرة وانصرافه
عن الدنيا ، وذلك يشتدّ بشغل الجوارح في الطاعات وكفّها عن المعاصي ،
فإنّ بين الجوارح والقلب علاقة شديدة يتأثّر كلّ منهما بالآخر ، كما إذا حصل
للأعضاء آفة سرى أثرها إلى القلب فاضطرب ، وإذا تألّم القلب بخوف مثلا سرى
أثره إلى الجوارح فارتعدت ، والقلب هو الأمير المتبوع والجوارح كالرعايا
والأتباع ، والمقصود من أعمالها حصول ثمرة للقلب .
فالنيّة
أصل العمل وعلّته وهي الباعثة على العمل ، فالنيّة روح العمل ، والعمل
بمثابة البدن لها .
ثمّ إنّ
تصحيح النيّة من أشقّ الأعمال وأحمزها ، فهي ليست مجرّد تصوّر الغرض والغاية
وإخطارها بالبال ، بل هي تابعة للحالة التي النفس متّصفة بها ، وكمال
الأعمال وقبولها وفضلها منوط بها ، ولا يتيسّر تصحيحها إلاّ بإخراج حبّ
الدنيا وفخرها وعزّها من القلب برياضات شاقّة شرعيّة وتفكّرات صحيحة منتجة
ومجاهدات كثيرة متواصلة ، فإنّ القلب سلطان البدن ، وكلّما استولى عليه
يتبعه سائر الجوارح ، بل هو الحصن الذي كلّ حبّ استولى عليه وتصرّف فيه
يستخدم سائر الجوارح والقوى ويحكم عليها ، ولا تستقرّ فيه محبّتان غالبتان
كما قال الله عزّ وجلّ : يا عيسى ، لا يصلح لسانان في فم
واحد ، ولا قلبان في صدر واحد ، وكذلك الأذهان . وقال
سبحانه :
( مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَـيْنِ فِي
جَوْفِهِ )([126]) .
فالدنيا
والآخرة ضرّتان ـ إذا لاحظنا الدنيا على نحو الاستقلال ، وإلاّ
فالدنيا مزرعة الآخرة لو لاحظناها كمقدّمة وثانياً وبالتبع ،
فتأمّل ـ لا يجتمع حبّهما في قلب ، فمن استولى على قلبه حبّ المال
لا يذهب فكره وخياله وقواه وجوارحه إلاّ إليه ولا يعمل عملا إلاّ ومقصوده الحقيقي
فيه تحصيله ، وإن ادّعى غيره كان كاذباً ، ولذا يطلب الأعمال التي وعد
فيها كثرة المال ولا يتوجّه إلى الطاعات التي وعد فيها قرب ذي الجلال ، وكذا
من استولى عليه حبّ الجاه ليس مقصوده في أعماله إلاّ ما يوجب
حصوله ، وكذا سائر الأغراض الباطلة الدنيوية ، فلا يخلص العمل لله
سبحانه وللآخرة إلاّ بإخراج حبّ هذه الاُمور من القلب ، وتصفيته عمّـا يوجب
البعد عن الحقّ .
فللناس في
نيّاتهم مراتب شتّى ، بل غير متناهية بحسب حالاتهم ، فمنها ما يوجب
فساد العمل وبطلانه كالرياء والعجب ، ومنها ما يوجب صحّته ومنها ما يوجب
كماله ، ومراتب كماله أيضاً كثيرة([127]) .
فالنيّة
تختلف بحسب الأشخاص والأحوال وبمقدار معرفتهم ، ولكلّ منهم نيّة تابعة
لشاكلته وطريقته وحالته : ( كُلٌّ
يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ )([128]) ، أي
على نيّته ، فلكلّ شخص في كلّ حالة نيّة تتبع تلك الحالة فلها منازل
ودرجات .
منها :
نيّة من تفكّر وتنبّه في شديد عذاب الله وأليم عقابه ، فيأتي بالواجبات ويترك
المحرّمات خوفاً من عذابه .
ومنها :
نيّة من غلب عليه الشوق إلى ما أعدّ الله للمحسنين في الجنّة من نعيمها وحورها
وقصورها ، فيعبد الله طمعاً في جنّته ، وقد وقع اختلاف بين العلماء
الأعلام من العامّة والخاصّة في صحّتهما وصحّة العبادة ، والعلاّمة المجلسي
يرى صحّتهما على الأظهر خلافاً للزمخشري من العامّة وللسيّد ابن طاووس والشهيد الثاني
والعلاّمة الحلّي حيث يدّعي اتفاق العدلية على أنّ من فعل فعلا يطلب الثواب أو خوف
العقاب ، فإنّه لا يستحقّ بذلك ثواباً . والاُولى تسمّى عبادة
العبيد ، والثانية عبادة التجّار والاُجراء .
ومنها :
عبادة الشاكرين ، نيّة من يعبد الله تعالى شكراً له فإنّ من يرى النعم التي
لا تحصى يحكم عقله بأنّ شكر المنعم واجب فيعبده لذلك ، كما هو طريقة
المتكلّمين ، وقد قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) :
« إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوماً عبدوا
الله رهبةً فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة
الأحرار »([129]) .
فإنّ الحرّ
تأمره حرّيته أن يشكر المنعم .
قال عليّ
بن الحسين (عليه
السلام) :
إنّي أكره أن أعبد الله لأغراض لي ولثوابه ، فأكون كالعبد الطمع المطيع إن
طمع عمل وإلاّ لم يعمل ، وأكره أن أعبده لخوف عباده فأكون كالعبد السوء إن لم
يخف لم يعمل ، قيل : فلِمَ تعبده ؟ قال :
لما هو أهله بأياديه عليّ وإنعامه([130]) .
ومنها :
عبادة المحسنين ، بنيّة من يعبده حياءً فإنّه يحكم عقله بحسن الحسنات وقبح
السيّئات ، ويتذكّر أنّ الربّ جليل مطّلع عليه في جميع أحواله ، فيعبده
ويترك معاصيه لذلك ، وإليه يشير النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
الإحسان أن تعبد الله كأ نّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك .
ومنها :
عبادة المقرّبين ، أن يعبد الله بنيّة التقرّب إليه تشبيهاً للقرب المعنوي
بالقرب المكاني ، وهذا هو الذي ذكره أكثر الفقهاء ، وربما المراد منه
إمّا القرب بحسب الدرجة والكمال ، فإنّ العبد لإمكانه في غاية النقص عار عن
جميع الكمالات ، والربّ سبحانه متّصف بجميع الصفات الكمالية ، فبينهما
غاية البعد ، فكلّما رفع عن نفسه شيئاً من النقائص واتّصف بشيء من الكمالات
حصل له قرب ما بذلك الجناب جلّ جلاله . أو القرب بحسب التذكّر والمصاحبة
المعنوية ، فإنّ من كان دائماً في ذكر أحد ومشغولا بخدماته ،
فكأ نّه معه .
ومنها :
عبادة الصدّيقين ، أن تكون بنيّة أنّ الله أهلا للعبادة كما قالها أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) ،
ولا تسمع هذه الدعوى من غير أولياء الله ، وإنّما يقبل ممّن يعلم منه
أ نّه لو لم يكن لله جنّة ولا نار ، بل لو كان على فرض المحال يدخل
العاصي الجنّة والمطيع النار ، لاختار العبادة لكونه أهلا له ، كما
أ نّهم في الدنيا اختاروا النار لذلك ، فجعلها الله عليهم برداً
وسلاماً ، كما كان ذلك لإبراهيم (عليه السلام) خليل الله
نبيّه .
ومنها :
عبادة المحبّين الكرام ، بأن يعبد الله حبّاً له ، ودرجة المحبّة أعلى
درجات المقرّبين ، والمحبّ يختار رضا محبوبه ، ولا ينظر إلى ثواب ،
ولا يحذر من عقاب ، وحبّه تعالى إذا استولى على القلب يطهّره عن حبّ ما
سواه ، ولا يختار في شيء من الاُمور إلاّ رضا مولاه ومحبوبه ، كما قال
الإمام الصادق (عليه
السلام) :
« ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ ، فتلك عبادة الكرام ، وهو
الأمن ، لقوله عزّ وجلّ : ( وَهُمْ
مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ )([131]) ،
ولقوله عزّ وجلّ : ( قُلْ إنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ )([132]) .
فمن أحبّ
الله أحبّه ومن أحبّه الله عزّ وجلّ كان من الآمنين([133]) .
وقال (عليه
السلام) :
إنّ العباد ] ة [
ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم
عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاُجراء ، وقوم عبدوا الله
عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة .
فالقسم الأوّل : عبدوا الله خوفاً من النار
والعذاب فهم كالعبيد يطيعون أسيادهم خوفاً منهم ، وتحرّزاً من عقوبتهم ،
والقسم الثاني : فإنّهم كالأجير يعمل
للأجر
فيعطى له ، إلاّ أنّ أفضل العبادة أن تكون حبّاً لله أي محبّاً له ،
والمحبّ يطلب رضا المحبوب ، أو يعبده ليصل إلى درجة المحبّين ويفوز بمحبّة
ربّ العالمين ، والأوّل أظهر ، ( فتلك عبادة الأحرار ) أي
الذين تحرّروا من رقّ الشهوات ، وخلعوا من رقابهم طوق طاعة النفس الأمّارة
بالسوء الطالبة للذات والشهوات ، فهم لا يقصدون في عبادتهم
شيئاً سوى رضا عالم الأسرار ، وتحصيل قرب الكريم الغفّار ، ولا ينظرون
إلى الجنّة والنار ، وكونها أفضل العبادة لا يخفى على اُولي الأبصار ،
وفي صيغة التفضيل دلالة على أنّ كلاّ من الوجهين السابقين أيضاً عبادة
صحيحة ، ولها فضل في الجملة ، فهو حجّة على من قال ببطلان عبادة من قصد
التحرّز عن العقاب أو الفوز بالثواب([134]) .
وقال (عليه السلام) :
صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس
المحذورات بتخليص النيّة لله في الاُمور كلّها . قال الله عزّ
وجلّ :
( يَوْمَ
لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أتَى اللهَ بِقَلْب
سَلِيم )([135]) .
وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
« نيّة المؤمن خيرٌ من عمله » .
وقال (عليه السلام) :
إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئ ما نوى » .
ولا بدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة
وسكون ، لأ نّه إذا لم يكن هذا المعنى يكون غافلا ، والغافلون قد
وصفهم الله تعالى فقال :
( إنْ
هُمْ إلاَّ كَالأ نْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبِيلا )([136]) .
وقال :
( اُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ )([137]) .
ثمّ النيّة
تبدو من القلب على قدر صفاء المعرفة ، ويختلف على حسب اختلاف الأوقات في معنى
قوّته وضعفه ، وصاحب النيّة الخالصة نفسه وهواه مقهورتان تحت سلطان تعظيم
الله والحياء منه ، وهو من طبعه وشهوته ومنيته ، نفسه منه في تعب والناس
منه في راحة([138]) .
قال الإمام
محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) : لا يكون
العبد عابداً لله حقّ عبادته حتّى ينقطع عن الخلق كلّه إليه ، فحينئذ
يقول : هذا خالص لي ، فيتقبّله بكرمه .
وعلينا أن
نسأل الله ذلك كما ورد في المناجاة الشعبانية : « وهب لي كمال
الانقطاع إليك » .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : يا أ يّها الناس إنّما هو الله والشيطان
والحقّ والباطل والهدى والضلال والرشد والغيّ والعاجلة والعاقبة والحسنات
والسيّئات ، فما كان من حسنات فللّه ، ومن كان من سيّئات فللشيطان([139]) .
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول
الله عزّ وجلّ : ( لِـيَـبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ
أحْسَنُ عَمَلا )([140]) ،
قال : ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصوبكم عملا ، وإنّما الإصابة
خشية الله والنيّة الصادقة الحسنة ، ثمّ قال : الإبقاء على العمل
حتّى يخلص أشدّ من العمل والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله
عزّ وجلّ ، والنيّة
أفضل
من العمل ، ألا وإنّ النيّة هي العمل ، ثمّ تلا قوله عزّ
وجلّ : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ )([141]) ،
يعني على نيّته )([142]) .
فالعمدة في قبول العمل بعد رعاية أجزاء العبادة
وشرائطها المختصّة ، وهي : النيّة الخالصة الصادقة والاجتناب عن
المعاصي ، كما قال الله تعالى :
( فَمَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلا يُشْرِكُ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحَداً )([143]) .
وقال سبحانه :
( إنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ )([144]) .
قال الشيخ
البهائي (قدس
سره) :
المراد بالنيّة الصادقة انبعاث القلب نحو الطاعة غير ملحوظ فيه
شيء سوى وجه الله سبحانه ، لا كمن يعتق عبده مثلا ملاحظاً مع القربة الخلاص
من مؤونته أو سوء خلقه ، أو يتصدّق بحضور الناس لغرض الثواب والثناء
معاً ، بحيث لو كان منفرداً لم يبعثه مجرّد الثواب على الصدقة ، وإن كان
يعلم من نفسه أ نّه لولا الرغبة في الثواب لم يبعثه مجرّد الرياء على الإعطاء .
ولا كمن له وِردٌ في الصلاة وعادة في الصدقات ، واتّفق أن حضر في وقتها
جماعة ، فصار الفعل أخفّ عليه و ( الإنسَانُ
عَلَى نَـفْسِهِ بَصِيرَةٌ )([145]) ،
وحصل له نشاط ما بسبب مشاهدتهم وإن كان يعلم من نفسه أ نّهم لو لم يحضروا
أيضاً لم يكن يترك العمل أو
يفتر
عنه قطعاً .
فأمثال هذه
الاُمور ممّـا يخلّ بصدق النيّة . وبالجملة فكلّ عمل قصدت به القربة وانضاف
إليه حظّ من حظوظ الدنيا بحيث تركّب الباعث عليه من ديني ونفسي ، فنيّتك فيه
غير صادقة ، سواء كان الباعث الديني أقوى من الباعث النفسي أو أضعف أو
مساوياً([146]) .
انتهى كلامه .
فعلينا أن
نجاهد بكلّ ما في وسعنا وطاقتنا من تصحيح النيّة ، فإنّها أصعب من تصحيح
العمل بمراتب شتّى ، فإنّه ليس المراد بالنيّة ـ كما
علم ـ ما يتكلّم به الإنسان عند الفعل أو يتصوّره ويخطر بباله ،
بل هو الباعث الأصلي والغرض الواقعي الداعي للإنسان على الفعل وهو تابع للحالة
التي عليها الإنسان ، والطريقة التي يسلكها ، فمن غلب عليه حبّ الدنيا
وشهواتها لا يمكنه قصد القربة وإخلاص النيّة عن دواعيها ، فإنّ نفسه متوجّهة
إلى الدنيا وهمّته مقصورة عليها ، فما لم يقلع عن قلبه عروق حبّ الدنيا
وجذورها ، ولم يستقرّ فيه طلب الآخرة وحبّ الله سبحانه لم يمكنه إخلاص النيّة
واقعاً عن تلك الأغراض الدنيّة والرذيلة ، وذلك متوقّف على مجاهدات عظيمة
ورياضات طويلة وتفكّرات صحيحة واعتزال عن شرار الخلق ، ولهذا ورد أنّ
« نيّة المؤمن خير من عمله » والنيّة أفضل من العمل والسعي في تصحيحها
أهمّ وأعظم :
( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَـنَا )([147]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
الدنيا كلّها جهل إلاّ مواضع العلم ، والعلم كلّه حجّة إلاّ ما عمل به ،
والعمل كلّه رياء إلاّ ما كان مخلصاً ، والإخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما
يختم له([148]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ،
وإنّما ينظر إلى قلوبكم([149]) .
وقال (صلى الله
عليه وآله) :
إنّ أولى الناس أن يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فاُتي به فعرّفه نِعَمه
فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال :
قاتلت فيك حتّى استشهدت . قال : كذبت وكلّنك قاتلت
ليقال : جريء ، فقد قيل ذلك ، ثمّ اُمر به فسُحب على وجهه
حتّى اُلقي في النار ، ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فاُتي به فعرّفه
نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال :
تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ،
ولكنّك تعلّمت ليقال : عالم ، وقرأت ليقال : قارئ
القرآن فقد قيل ، ثمّ اُمر به فسحب على وجهه حتّى اُلقي في النار .
وقال (صلى الله
عليه وآله) :
إنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى أمر دنيا يصيبها أو
امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
وقال :
نيّة المؤمن خيرٌ من عمله ، وفي لفظ آخر : أبلغ من عمله .
وقال :
إنّما يبعث الناس على نيّاتهم . وقال (صلى الله عليه وآله) مخبراً عن
جبرئيل عن الله عزّ وجلّ أ نّه قال : الإخلاص
سرّ من أسراري ، استودعته قلب من أحببت من عبادي .
وهذا يعني
أنّ لله ودائع خاصّة في قلوب الخواصّ من عباده وهم الذين أحبّهم الله تعالى ،
وإنّما سبحانه يحبّ المتّقين والمتطهّرين والتائبين والمحسنين كما في آياته
الكريمة ، فتدبّر .
وقال (عليه
السلام) :
من أخلص لله أربعين يوماً ، فجّر الله ينابيع الحكمة من قلبه على
لسانه .
وعن الإمام
الصادق (عليه
السلام) ،
قال : ما أنعم الله عزّ وجلّ على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع
الله عزّ وجلّ غيره([150]) .
هذا وإنّ
القرآن الكريم كتاب الله الحكيم يهدي للتي هي أقوم ، قد مدح قلوباً وذمّ
قلوباً اُخرى ، ولا بدّ أن تكون لنا إطلالة ـ ولو
مختصرة ـ على الطائفتين ، ثمّ عرض قلوبنا عليها ، حتّى نكون
على بصيرة من أمرنا ، ونسعى ليكون قلبنا بلطف من الله سبحانه من القلوب
الممدوحة والصالحة ، والله الموفّق والمستعان .
الفصل السابع
القلوب الممدوحة في القرآن
الكريم
1
القلب الطاهر([151])
قال الله
تعالى :
( وَإذَا سَأ لْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً
فَاسْأ لُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ )([152]) .
( يَا أ يُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِأفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْم آخَرِينَ لَمْ يَأتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ
مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ اُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ
اللهِ شَيْئاً اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )([153]) .
قوله
تعالى : ( يَا أ يُّهَا الرَّسُولُ لا
يَحْزُنْكَ ) تسلية الله للنبيّ وتطييب لنفسه ممّـا
لقي من هؤلاء المذكورين في الآية الشريفة ، وهم المنافقون الذين يسارعون في
الكفر ، أي يمشون فيه المشية السريعة ويسيرون فيه السير الحثيث ، تظهر
من أفعالهم وأقوالهم موجبات الكفر واحدةً بعد اُخرى ، فهم كافرون مسارعون في
كفرهم ، ثمّ قوله : ( الَّذِينَ
قَالُوا آمَنَّا بِأفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) إنّما هو
ترجمة ( الَّذِينَ
يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ ) وهم
المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ، وإذا خلوا إلى شياطينهم
قالوا إنّا معكم إنّا كنّا من المؤمنين مستهزؤون ، فهؤلاء لم يرد الله أن
يطهّر قلوبهم ، بل هي باقية على قذارتها ونجاستها وظلمتها وشركها وسوادها
الذي حصل من الذنوب والمعاصي ، ثمّ كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذّبوا
بآيات الله ، ونتيجة أعمالهم وكفرهم ونفاقهم أنّ لهم في الدنيا خزي وعار
ومذلّة ، كما لهم في الآخرة عذاب أليم وخزي عظيم .
فقلب المنافق
نجس ورجس لا يطهّره الله سبحانه ، إلاّ أن يتوب ويصلح أمره ،
وأ نّى له التوبة ؟ ! فمن لم يوافق باطنه ظاهره في
الخير والصلاح ، ومن خالف سريرته علانيته يظهر الإيمان ويبطن الكفر فهو
المنافق الفاسق ، نجس القلب ، يخرج من عبودية الله ، ويسارع في
الكفر والضلال ، ويصيبه وعيد ربّه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
فالقلب منه
طاهر وهو قلب المؤمن ، ومنه غير طاهر وهو قلب المنافق والكافر .
ثمّ هناك
عوامل تطهّر القلوب بل تزيد في طهارتها ونظارتها ونشاطها ، كما في قوله
تعالى :
( وَإذَا سَأ لْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأ لُوهُنَّ
مِنْ وَرَاءِ حِجَاب ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ
لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ )([154]) .
عندما
يتكلّم المرء مع امرأة أجنبية ، فإنّ الذي في قلبه مرض يطمع بالذنب
والشهوة ، وسرعان ما ينحرف القلب عن الصواب والتقوى ، وإنّ الشيطان
ليكون ثالث من يخلو بامرأة أجنبية ، ومثل الشهوة في الذنوب كمثل
البنزين ، فما أن يحسّ النار من بعيد إلاّ ويلتهب ويحترق ، فلا يقرب
ذلك ، كما ورد في النواهي : ( وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنَا )([155]) ومن الذنوب
بحكم البترول فإن اشتعل عود الكبريت والتصق به عندئذ يشتعل ويحترق ، فالحديث
مع الامرأة الأجنبية بريب وشهوة من الذنوب التي على الشخص أن لا يقترب إليها
أبداً ، بل إذا كان له حاجة مع النساء ويسألهن متاعاً ، أن يتحدّث معهن
من وراء حجاب ، كما أدّب الله أصحاب النبيّ أ نّهم إذا سألوا نساء
النبيّ فليكن ذلك من وراء حجاب ، فهو أطهر لقلوبهم وقلوبهن ، فالكلام مع
المرأة الأجنبية إنّما هو جرس خطر للطرفين ، ويدخل الشيطان بينهما ليفسد
عليهما قلبهما ويورّطهما بالذنوب والمعاصي ، ومن ثمّ يلوّث قلوبهما بالآثام
بعد الوساوس والإيحاءات الشيطانية .
قال الإمام
الكاظم (عليه
السلام)
لهشام : يا هشام ، مكتوب في الإنجيل : طوبى
للمتراحمين ، اُولئك هم المرحومون يوم القيامة ، طوبى للمصلحين بين
الناس ، اُولئك هم المقرّبون يوم القيامة ، طوبى للمطهّرة قلوبهم ،
اُولئك هم المتّقون يوم القيامة ، طوبى للمتواضعين في الدنيا ، اُولئك
يرتقون منابر الملك يوم القيامة([156]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
طهّروا قلوبكم من درن السيّئات تضاعف لكم الحسنات ، طهّروا أنفسكم من دنس
الشهوات تدركوا رفيع الدرجات .
وقال (عليه السلام) :
طهّروا قلوبكم من الحقد فإنّه داء .
وقال :
قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر الله ، فمن طهر قلبه نظر إليه .
وقال (عليه
السلام) :
لا يغني الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً ، كذلك لا تغني أجسادكم
التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم ، وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم
دنسة .
والعجب من
بعض الناس يفعل المنكرات وعندما تنهاه عن ذلك ، يجيبك بأن طهّر قلبك فهو
الأصل ، وهذا من الخلط والغلط ، فإنّ الإسلام يفكّر بطهارة الباطن
والظاهر سويّةً ، بطهارة العقيدة والعمل معاً ، بطهارة القلب
والجسد ، فإنّ الله سبحانه نظيف ويحبّ النظافة الجسدية ، فالنظافة من
الإيمان ، كما يحبّ النظافة الروحية :
( رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ
يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ )([157]) .
وبالنسبة
إلى الباطن والظاهر ، الناس على أربعة أصناف :
فمنهم من
أصلح باطنه وظاهره ، نيّته وعمله ، قلبه وجسده ، فهو المؤمن .
ومنهم من
أفسدهما ، وهو الكافر .
ومنهم من
أبطن الكفر وأظهر الإسلام ، فهو المنافق .
ومنهم من
كانت عقيدته صالحة وصحيحة ، إلاّ أ نّه أفسد العمل ، ويأتي
بالمعاصي ويرتكب الذنوب ، فهذا الفاسق .
والإسلام
كما يحارب الكفر والنفاق كذلك يحارب الفسق والفجور ، ولا يرضى
للإنسان إلاّ بطهارة الباطن والظاهر سويّة .
وبعبارة
اُخرى ، الناس على أصناف أربعة :
1 ـ من يفكّر ويعمل لطهارة ظاهره ، ويعتني بنعومة جلده ونظافة
ثيابه ولطافة جسده كالنساء ، فهمّه حسن الظاهر وحسب ، ونسي قلبه ،
بل لا يبالي بفساده ورجاسته بالذنوب والصفات الذميمة .
2 ـ وهناك من يفكّر ويعمل بحسب زعمه وتخيّله لطهارة باطنه
ونزاهته ، وأ نّه لا بدّ من إصلاح الباطن لا غير ، حتّى وإن كان
ظاهره قذراً وثيابه وسخاً ، كبعض المتصوّفة ، ومنهم الملامتيّة الذين
يفعلون المنكرات حتّى يلومهم الناس ، فهؤلاء ممّن ضلّوا الطريق وأضلّوا الناس
( ضالّ ومضلّ ) .
3 ـ وهناك من خسر الدنيا والآخرة ، لا يفكّر بإصلاح باطنه ولا
بظاهره ، يرتكب القبائح والذنوب ، كما تعلوه القذارة والأوساخ ،
وتعطّ منه الروائح النتنة والكريهة .
4 ـ وهناك العاقل حقّاً والمؤمن صدقاً ، يفكّر بطهارة الباطن
والظاهر معاً ، فكما أطاع الله بقلبه ، وشهد بوحدانيّته ، فإنّه
أطاعه بلسانه فأقرّ بشهادته ، كما أطاعه بجسده وأركانه ، فيزيل عن القلب
صفاته الذميمة كالشرك والنفاق وحبّ الدنيا والرياء وغير ذلك ، كما يزيل عن
بدنه الأوساخ والأرجاس بوضوءه لصلاته وطوافه ولكونه على الطهارة ، ومن صلحت
سريرته صلحت علانيته ، وهناك ترابط وعلاقة وطيدة بين الظاهر والباطن ،
وإنّ الظاهر عنوان الباطن ، كما أنّ الباطن منطلق الظاهر . وإنّ القلوب
الطاهرة مواضع نظر الله ورحمته الواسعة ، وبمثل هذا القلب الطاهر يدرك
الإنسان رفيع الدرجات ، ويرتقي سلّم المكرمات ، وتضاعف له
الحسنات ، ويكون في ظلّ عرش الله .
قال موسى
بن عمران (عليه
السلام) :
يا ربّ من أهلكَ الذين تظلّهم في ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلاّ ظلّك ؟
قال : فأوحى الله إليه : الطاهرة قلوبهم .
في
الدعاء : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، واجعلنا من الذين
أرسلت إليهم ستور عصمة الأولياء ، وخصصت قلوبهم بطهارة الصفاء ،
وزيّنتها بالفهم والحياء في منزل الأصفياء([158]) .
واعلم أنّ
معرفة القرآن لها شرائط ، من أهمّها : الطهارة من أيّ رجس ،
والنزاهة عن أيّ رجز . قال سبحانه :
( إنَّهُ لَـقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب
مَكْـنُون * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ )([159]) .
أي :
الذي ينال ما في الكتاب المكنون عن الأجبني المستور عن الغير هو الإنسان المطهّر
عمّـا ينجّسه ، وذلك الكتاب المكنون هو ظرف هذا القرآن الكريم ومحيط به
وباطنه ومعناه ومقدصه ولا تدركه الحواسّ .
ثمّ بيّن
سبحانه واجدي هذا الشرط في قوله :
( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )([160]) .
فلا يدرك القرآن حقّ الإدراك ( للحصر في
قوله لا يمسّه إلاّ المطهّرون ) إلاّ أهل بيت الوحي والعصمة (عليهم
السلام) ،
وهم الراسخون في العلم ، الذين يعلمون ظاهر
القرآن
وباطنه وتأويله ، كما في حديث الثقلين .
فالقرآن الكريم من الصحف المطهّرة ، كما
قال سبحانه :
( فِي
صُحُف مُكَرَّمَة * مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة )([161]) .
وإنّما يمسّ معارفه وحقائقه وأسراره المطهّرون
من الدنس والرجس ، ثمّ سبحانه رغّب الناس في تحصيل الطهارة في قوله تعالى :
( إنَّ
اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ )([162]) .
ثمّ بيّن طرق التطهير ، كالإنفاق في سبيل
الله ، لقوله :
( خُذْ
مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )([163]) .
وكرعاية الحجاب والعفاف ،
لقوله :
( وَإذَا
سَأ لْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأ لُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب
ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )([164]) .
وكالطهارة المائيّة والترابية ، لما يشترط
بها كالصلاة والطواف الواجب ، لقوله :
( وَإنْ
كُنتُمْ مَرْضَى أوْ عَلَى سَفَر أوْ جَاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً )([165]) .
( وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ )([166]) .
ثمّ أساس
الطهارة العبادة لله والتردّد إلى المساجد المبنيّة على التقوى ، لقوله
تعالى :
( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا
وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ )([167]) .
فمن كان أعبد
لله فهو أطهر وأزكى ، ونصيبه من الصحف المطهّرة أكثر وأوفر ، ومن استنكف
واستكبر عن عبادته فهو متدنّس برجس الطغيان ورجز العمه في سكرة الطبيعة ، فلا
نصيب له من تلك الصحف المطهّرة لفقدان شرط المعرفة ـ وهي
الطهارة ـ كما قال سبحانه :
( وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ
تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ
يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ
عَذَابٌ عَظِيمٌ )([168]) .
والمراد من
الطهارة في مثل هذه الآيات هي الطهارة المعنوية كما أنّ الإرادة فيها إرادة
تكوينية . ولا بدّ في معرفة القرآن أيضاً من اشتراط الرفعة عن حضيض الطبيعة
ومخالفة الهوى والكرامة عن كلّ دنيئة :
( إنَّهُ لَـقُرْآنٌ كَرِيمٌ )([169]) .
فالإنسان
الكريم هو الذي يتيسّر له معرفة القرآن الكريم ومدار الكرامة هو
التقوى :
( إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أتْقَاكُمْ )([170]) ([171]) .
ودنيء
النفس ومن كان مذنباً وعاصياً فإنّه لا يقف على أسرار القرآن ، فإنّ الذنب
مقابل للطهارة ومناف للكرامة ومباين للتقوى ومضادّ للرفعة ، ومخالف لأيّ وصف
كمالي . فالرجس لا مساس له بالطاهر ، واللؤم لا تحوم حوله
الكرامة ، والطغيان لا يصاحب التقوى ، والضعة لا تلائم المعرفة ،
وبالجملة : الناقص لا يمسّ كرامة الكامل ما دام ناقصاً .
هذا
والإسلام قد بالغ في مسألة الطهارة والتطهير ، فلا صلاة إلاّ بطهور ،
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً :
( وَهُوَ الَّذِي أرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً
بَـيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُوراً )([172]) .
وفي
الأحكام التشريعية مطهّرات كما في الفقه الإسلامي ، كما عندنا طهارة تكوينية
معنوية ، وأهل البيت (عليهم السلام) مطهّرون معصومون في
عالم التكوين والإرادة التكوينية :
( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً )([173]) .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
قال النبيّ (صلى
الله عليه وآله) : إنّا أوّل أهل بيت قد أذهب الله عنّا الفواحش
ما ظهر منها وما بطن .
وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قوله
تعالى : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أنْ
نَعْبُدَ الأصْنَامَ )([174]) :
فانتهت
الدعوة إليَّ وإلى عليّ .
وفي خبر ( أنا دعوة
إبراهيم ) : وإنّما عنى بذلك الطاهرين لقوله : نقلت من
أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، لم يمسسني سفاح الجاهلية . وأهل
الجاهلية كانوا يسافحون وأنسابهم غير صحيحة واُمورهم مشهورة عند أهل المعرفة([175]) .
عن أبي عبد الله (عليه السلام) ،
قال : أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً واضعاً يده على
كتف العبّاس ، فاستقبله أمير المؤمنين فعانقه رسول الله وقبّل عينيه ثمّ سلّم
العباس على عليّ فردّ عليه ردّاً خفيفاً ، فغضب العباس ،
فقال : يا رسول الله ، لا يدع عليّ زهوه
ـ الكبر ـ فقال رسول الله : يا عباس ، لا
تقل ذلك في عليّ ، فإنّي لقيت جبرئيل آنفاً فقال لي : لقيني
الملكان الموكّلان بعليّ الساعة فقالا : ما كتبنا عليه ذنباً منذ يوم
ولد إلى هذا اليوم([176]) .
قال أمير المؤمنين عليّ (عليه
السلام)
في وصف الأنبياء : تناسختهم ( تناسلتهم ) كرائم الأصلاب إلى
مطهّرات الأرحام .
وقال في وصف النبيّ : أطهر المطهّرين
شيمة ، وأجود المستمطرين ديمة .
فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر ، فإنّ فيه
اُسوة لمن تأسّى ، وعزاءً لمن تعزّى .
وقال : فرض الله الإيمان تطهّراً من
الشرك .
وقال : إنّ تقوى الله دواء داء
قلوبكم ... وطهور دنس أنفسكم .
إن كنتم لا محالة متطهّرين ، فتطهّروا من
دنس العيوب والذنوب .
2
القلب الأليف
قال الله
تعالى :
( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً
فَألَّفَ بَـيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنْتُمْ
عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )([177]) .
الإلف
لغةً :
اجتماع مع
التئام ، يقال : أ لّفت بينهم ، ومنه الاُلفة ،
ويقال للمألوف : إلف وآلف ، والمؤلّف ما جمع من أجزاء مختلفة
ورُكّب تركيباً قدّم فيه ما حقّه أن يقدّم واُخّر فيه ما حقّه أن يؤخّر .
والألف العدد المخصوص ، وسمّي بذلك لكون الأعداد فيه مؤتلفة ، فإنّ
الأعداد أربعة آحاد وعشرات ومئون واُلوف ، فإذا بلغتِ الألف فقد ائتلفت وما
بعده يكون مكرّراً([178]) .
والاُلفة
اصطلاحاً :
بمعنى
المودّة والمحبّة القلبية ، والمؤمن إلف مألوف ، لما يحمل من القلب
الأليف .
وشأن نزول
الآية الشريفة لما وقع من التفاخر بين رجلين من الأوس والخزرج ، حتّى أدّى
إلى حمل السلاح بين جماعة من القبيلتين ، فذكّر الله سبحانه بنعمته
عليهم ، وكيف أ لّف بين قلوبهم بعد العداوة والبغضاء والحروب التي
تطاولت مائة وعشرين سنة ، فأ لّف بينهم بنبيّه الأكرم وبالإسلام
العظيم ، فزالت تلك الأحقاد ورفع ما كان بينهم من التنازع والاختلاف ،
هذا من النفع العاجل الذي حصل لهم في الدنيا ، ولهم الثواب الجزيل في
الآجل .
( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فأ لّف بين
قلوبكم فأصبحتم بنعمة الله إخواناً متواصلين وأحباباً متحابّين بعد أن كنتم
متحاربين متعادين وصرتم بحيث يقصد كلّ واحد منكم مراد الآخرين([179]) ،
وهذا من البرهان العلمي ببيان العلل والأسباب .
وحينئذ
اعتصموا بحبل الله ( الكتاب والسنّة المتمثّلة بالعترة الطاهرة ) ،
فإنّ التمسّك بهما اعتصام بالله سبحانه ، فمآل الجميع واحد ، والآية
تأمر المجتمع الإسلامي بالاعتصام بالكتاب والسنّة ، كما تأمر الفرد
بذلك .
ثمّ المراد
بالنعمة هو التأليف ، والمراد بالاُخوّة التي توجده وتحقّقه هذه النعمة أيضاً
تآلف القلوب ، فالاُخوّة ها هنا حقيقة ادّعائية .
ويمكن أن
يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله : ( إنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ )([180]) من تشريع
الاُخوّة بينهم ، فإنّ بين المؤمنين اُخوّة مشرعة تتعلّق بها حقوق
هامّة .
قوله
تعالى : ( وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة
مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا ) شفا
الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به .
والمراد من
النار إن كان نار الآخرة ، فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أ نّهم كانوا
كافرين ، ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلاّ الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من
سواد العين إلى بياضها ، فأنقذهم الله منها بالإيمان .
وإن كان
المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتآلف
قلوبهم ، وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات ـ وهو من
الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة ـ فالمقصود أنّ المجتمع الذي بني
على تشتّت القلوب واختلاف المقاصد والأهواء ، ولا محالة لا يسير مثل هذا
المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة ، بل بأدلّة شتّى تختلف باختلاف
الميول الشخصية والتحكّمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشدّ الخلاف ،
والاختلاف يشرفهم إلى أردأ التنازع ، ويهدّدهم دائماً بالقتال والنزال ،
ويعدهم الفناء والزوال ، وهي النار التي لا تبقي ولا تذر
على حفرة الجهالة التي لا منجى ولا مخلص للساقط فيها .
فهؤلاء وهم
طائفة من المسلمين كانوا قد آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم ، وهم المخاطبون
الأقربون بهذه الآيات ، لم يكونوا يعيشون مدى حياتهم قبل الإسلام ، إلاّ
في حال تهدّدهم الحروب والمقاتلات آناً بعد آن ، فلا أمن ولا راحة ولا
فراغ ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العامّ الذي يعمّ المجتمع بجميع
جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك .
ثمّ لمّـا
اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله ، ولاحت لهم آيات السعادة وذاقوا شيئاً من
حلاوة النعم ، وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ
السعادة ، فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم .
ولذلك بنى
الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرّد التقدير والفرض ،
فليس العيان كالبيان ، ولا التجارب كالفرض والتقدير ، ولذلك بعينه أشار
في التحذير الآتي في قوله : ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا
ـ إلى آخره ـ إلى حال من قبلهم ، فإنّ مآل حالهم بمرأى
ومسمع من المؤمنين ، فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم ، فلا
يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم ، ثمّ نبّههم الله على خصوصية هذا البيان ،
فقال : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .
وهذه النصيحة جارية في المسلمين والمؤمنين إلى يوم القيامة .
فالقلب
بنعمة من الله ولطف ورحمة يألف ، فهو إلف مألوف ، ونتيجة الاُلفة
والاجتماع هو المحبّة والاُخوّة والصداقة والمصافاة والترابط والأمن العامّ .
ثمّ ما
يربط الإنسان بربّه وبالسماء هو حبل الله الممدود ، المتجلّي بكتابه الكريم
وبما جاء به الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) :
( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى
صِرَاط مُسْتَقِيم )([181]) .
( وَمَا آ تَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )([182]) .
وممّـا جاء
به الرسول حديث الثقلين الثابت متواتراً عند الفريقين ـ العامّة وأصحاب
مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ـ .
فالقرآن
الكريم والعترة الطاهرة المعصومة هما حبل الله الممدود من السماء إلى
الأرض : ( إلاَّ بِحَبْل مِنَ
اللهِ ) وهو القرآن ، ( وَحَبْل
مِنَ النَّاسِ )([183]) وهم
العترة الطاهرة .
( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ )([184]) .
وأكتفي
بروايتين من طرق العامّة :
وأخرج صاحب
كتاب المناقب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم ، قال :
كنّا عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذ جاء أعرابي
فقال : يا رسول الله ، تقول : ( وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ ) فما حبل الله الذي نعتصم
به ؟ فضرب النبيّ (صلى الله عليه وآله) يده في يد عليّ
وقال : تمسّكوا بهذا الرجل هو حبل الله المتين .
وروى
العلاّمة الشيخ سليمان البلخي القندوزي ، قال : أخرج الثعلبي في
تفسير قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) عن جعفر
بن محمّد رضي الله عنهما ، قال : نحن حبل الله الذي قال الله ( وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )([185]) .
فمن نعم
الله سبحانه على عباده المؤمنين هو الاعتصام والتمسّك بحبله المتين ، وعدم
التفرّق والتمزّق والتشتّت والتنازع والتناحر ، ويذكرهم الله عزّ وجلّ
بتأريخهم وكيف كانوا أعداء فبنعمته أ لّف بين قلوبهم ، فكأ نّه
يشير إلى سبب التمسّك بحبل الله والوحدة بين المؤمنين ، فالله وجود
محض ، والوجود خير محض ، فالله خير ويدعو إلى الخير ، والصلح
خير ، ولكنّ الشيطان وأعوانه وحزبه بالوساوس والحيل يلقي بينكم العداوة
والبغضاء ( كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .
قال
سبحانه :
( هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالمُؤْمِنِينَ * وَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ
جَمِيعاً مَا ألَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ ألَّفَ بَيْنَهُمْ
إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )([186]) .
قال أمير
المؤمنين (عليه
السلام) :
إزالة الرواسي أسهل من تأليف القلوب المتنافرة .
عن الإمام
الصادق (عليه
السلام) :
إنّ ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا ـ وإن لم يظهروا التودّد بألسنتهم ـ
كسرعة اختلاط قطر السماء على مياه الأنهار ، وإنّ بُعد ائتلاف قلوب الفجّار
إذا التقوا ـ وإن أظهروا التودّد بألسنتهم ـ كبعد البهائم
من التعاطف وإن طال اعتلافها على مِذوَد واحد([187]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : خياركم أحسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون([188]) .
فالخلق
الحسن يوجب الاُلفة والمحبّة بين الناس .
عنه (صلى الله
عليه وآله) :
خير المؤمنين من كان مألفةً للمؤمنين ، ولا خير في مَن لا يؤلف ولا يألف .
قال أمير المؤمنين
(عليه
السلام) :
طوبى لمن يألف الناس ويألفونه على طاعة الله .
عن رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : أقربكم منّي غداً في الموقف ... أحسنكم
خُلقاً وأقربكم من الناس . إنّ المؤمن ينبغي أن يكون آلفاً بالخلق الحسن([189]) .
لا تنقض
سنّة صالحة اجتمعت بها الاُلفة([190]) .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) : جائني جبرئيل فقال لي : يا
أحمد ، الإسلام عشرة أسهم ، وقد خاب من لا سهم له فيها :
أوّلها شهادة أن لا إله إلاّ الله وهي الكلمة ، والثانية الصلاة وهي
الطهر ، والثالثة الزكاة وهي الفطرة ، والرابعة الصوم وهي
الجُنّة ، والخامسة الحجّ وهي الشريعة ، والسادسة الجهاد وهو
العزّ ، والسابعة الأمر بالمعروف وهو الوفاء ، والثامنة النهي عن المنكر
وهو الحجّة ، والتاسعة الجماعة وهي الاُلفة ، والعاشرة الطاعة وهي
العصمة .
قال :
قال حبيبي جبرئيل : إنّ مثل هذا الدين كمثل شجرة ثابتة :
الإيمان أصلها ، والصلاة عروقها ، والزكاة ماؤها ، والصوم
سعفها ، وحسن الخلق ورقها ، والكفّ عن المحارم ثمرها ، فلا تكمل
شجرة إلاّ بالثمر ، كذلك الإيمان لا يكمل إلاّ بالكفّ عن المحارم([191]) .
والجماعة
بمعنى الاجتماع على الحقّ .
قال (عليه
السلام) :
بنا أ لّف بين القلوب بعد الفتنة([192]) .
3
القلب الخائف
قال الله
تعالى في كتابه الكريم :
( إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ
اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ
إيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّـلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )([193]) .
لكلّ شيء
علامة ، وعلامة قلب المؤمن الآلف الطاهر أ نّه يخاف الله سبحانه ،
فإنّ الوجل بمعنى الخوف ، ومن علائم خوفه أ نّه إذا سمع آيات الله
سبحانه ، أو رأى أو ذكّر بها فإنّه يزداد إيماناً ورسوخاً في عقيدته
الحقّة ، فيتوكّل على الله ، ويجاهد ويكادح في سبيله ،
ويقيم الصلاة في المجتمع ، ولا يبخل بماله ، بل ينفقه في سبيل
الله .
فمن أمارات
القلب المؤمن ـ كما يتلخّص من هذه الآية الشريفة ـ ما
يلي :
1 ـ الوجل ، وهو استشعار الخوف في الجوانح والقلب ، فإنّ
المؤمن إذا ذُكّر بالله وبيوم القيامة عند المعصية فإنّه يخاف ويترك ذلك .
2 ـ زيادة الإيمان عند تلاوة القرآن والآيات الإلهية
واستماعها ، وأنّ الإيمان يزداد كما يزداد النور ، فله مراتب طولية
وعرضية ، فهو كلّي مشكّك .
3 ـ التوكّل على الله في كلّ الاُمور .
4 ـ إقامة الصلاة .
5 ـ الإنفاق في سبيل الله سبحانه .
ومن الواضح
أنّ الأعمال الثلاثة الاُولى من أعمال القلب ، والأخيران من أعمال
الجوارح .
والذي يؤمن
بالله بقلبه ـ أي الاعتقاد القلبي ـ ويخاف الله
ـ أي يخاف من ذنوبه ومخالفته لربّه ـ ويزداد إيماناً بتلاوة
آياته ، ويتوكّل على ربّه ، ولا يخاف أحداً سواه ، ولا تأخذه في
الله لومة لائم ، ومن خاف الله خاف منه كلّ شيء ، ومن لم يخف الله خاف
من كلّ شيء .
ومن اجتمعت
فيه هذه المواصفات ، فإنّه بلا ريب يقيم الصلاة وينفق في سبيل الله ولا يخاف
الفقر . فالنور الأوّل في القلب هو الخوف ، ثمّ يزداد كمّاً
وكيفاً ، فينشرح صدره ويتّسع قلبه ، حتّى يصل إلى درجة اليقين ،
ومن وصل إلى هذه المرحلة من الكمال ، وعرف ربّه ذا الجلال ، فإنّه
بطبيعة الحال ، يتوكّل عليه في جميع الأحوال ، فإنّ أزمّة الاُمور طرّاً
بيده ، وعلى الله فليتوكّل المؤمنون .
كتب على
أستار الكعبة أيام الإمام زين العابدين (عليه السلام) :
لا
تدبّر لك أمراً *** فاُولي التدبير هلكى
وكّل
الأمر إلى من *** هو أولى منك أمرا
فإرادة
المؤمن تكون تابعة لإرادة الله عزّ وجلّ ، فيقيم أحكامه وشرائعه ودينه .
وعمود الدين الصلاة ، فمن أقامها أقام الدين ، كما يراعي شؤون المجتمع
ويتوجّه إلى القضايا الاجتماعية ، ويجبر نواقصها ، ويباري الفقراء بما
أعطاه الله من المال والجاه والعلم وغير ذلك .
ثمّ حاصل
الوجل والخوف عند ذكر الله سبحانه هو اطمئنان القلب :
( ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
القُلُوبُ )([194]) .
فالذين إذا
ذكّروا بآيات الله وجلت قلوبهم ، فإنّه يطمئن قلبه حينئذ ، أو
أ نّه في عين الوجل والخوف يحسّ بالاطمئنان والركون إلى الرحمة
الإلهية ، فيزداد إيماناً ، وحاصل الزيادة هو التقوى كما في قوله
تعالى :
( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً
وَآ تَاهُمْ تَقْواهُمْ )([195]) .
فمن طهّر
قلبه ، وزاد إيمانه ، واتّقى ربّه ، ونهى النفس عن الهوى ،
فإنّ الجنّة هي المأوى ، وقد فاز وسعد :
( الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ
فِيهَا )([196]) .