فكفّار قريش منعوا المسلمين أن يدخلوا مكّة المكرّمة ، وامتلأت قلوبهم من الغضب والحميّة حميّة الجاهلية العمياء ، إلاّ أنّ الله سبحانه تفضّل على رسوله وعلى المؤمنين بالسكينة والطمأنينة والوقار والحشمة ، وألزمهم أي لازمهم كلمة التقوى كلمة التوحيد ، ونفي ما سوى الله سبحانه ، وثبتوا على العهد والميثاق والأعمال الصالحة ، وتزيّنوا بروح الإيمان التي تأمرهم دوماً بالتقوى ، فهم أحقّ بها وهم من أهل التقوى ، وإنّما كانوا أحقّ بها من غيرهم لما عندهم من الاستعدادات التي أهّلتهم لكسب التقوى والالتزام بها ، وذلك بالأعمال الصالحة من إتيان الواجبات وترك المحرّمات ، وكان الله بكلّ شيء عليماً . فمن كفر سرعان ما يغضب لكلّ شيء ويعيش حالة العصبية والحميّة وتأخذه العزّة بالإثم ، ومن كان له قلب متعصّب كدعاة القومية فإنّهم من أبناء الجاهلية ويكونوا من الكافرين .


7

القلب الغيظ

             (  وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  )([294]) .

             أمر الله المؤمنين أن يجاهدوا في سبيله ويقاتلوا الكفّار والمشركين ، فإنّهم أيدي الله سبحانه ، وبأيديهم يقتلوا المشركين ، فإنّهم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في الدين ، فأمر الله المؤمنين أن يقاتلوا أئمة الكفر وكبرائهم وعمدتهم ، إنّهم لا أيمان لهم ، ولعلّهم ينتهون من طغيانهم وجورهم ، فإنّهم همّوا بإخراج الرسول من دياره ، وبدأوا القتال أوّل مرّة فقاتلوهم يعذّبهم الله بأيديهم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قوم مؤمنين ، وإذا ملئت قلوبهم غضباً وغيظاً على المؤمنين ، فإنّه بقتلهم يذهب غيظ قلوبهم ، وإذا تاب واحد منهم ، فإنّ الله يتوب على من يشاء ، والله عليم بالتائبين ، وحكيم بما يفعل .

             فالله سبحانه يشوّق المؤمنين بهذا الأمر على القتال والجهاد ، بأنّ المشركين يقتلون بأيديهم ، وأ نّه يُخزيهم في الدنيا ، والله ينصر عباده عليهم ، ويشفِ صدور المؤمنين بالنصر المؤزّر .


8

القلب المنافق

             (  فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ  )([295]) .

             إذا عاهد الإنسان ربّه فعليه أن لا يخلف عهده ووعده ، وإذا تفضّل الله على  عبد فضلا فلا يبخل به ، ولا يعرض عنه ويتولّى ، فإنّ ذلك من علائم النفاق في  القلوب ، فمن بخل عمّـا تفضّل الله عليه ، فإنّه يصاب بنفاق القلب ويدوم معه حتّى يوم القيامة ، يوم يلقى الله سبحانه ، فإنّه تخلّف عمّـا وعد الله به وكذب بذلك ، فخُلف الوعد والكذب من النفاق كما ورد في الخبر الشريف  : للمنافق ثلاث علامات وإن صلّى وصام  : إذا حدّث كذب ، وإذا أوعد أخلف ، وإذا ائتُمن خان ، وإذا كان مؤمناً ويرتكب هذه الذنوب فهو منافق في العمل ، ويقابل النفاق العملي النفاق في العقيدة .

             ثمّ ربما يعرض النفاق بعد الإيمان كما يعرض الكفر والارتداد ، كما في قوله تعالى  :

             (  أنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ  )([296]) .

             والآية الاُولى نزلت في ثعلبة عندما طلب من النبيّ أن يدعو الله له بالمال ، ووعد النبيّ أن يؤدّي حقّه ، ولمّـا صار له المال الكثير والأغنام حتّى خرج من المدينة لرعيها ، ولم يتوفّق لحضور صلاة الجماعة والجمعة ، وبعث النبيّ جابياً لأخذ الزكاة منه ، فبخل عن ذلك ، فنزلت الآية الشريفة([297]) .

             فالبخل علامة النفاق وكذلك خلف الوعد والكذب وتكذيب الآيات الإلهية ولو في الباطن .

             فالمنافق يقول بفيه ولسانه ما ليس في قلبه وصدره ، كما في قوله تعالى  :

             (  سَيَـقُولُ لَكَ المُخَلَّـفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَـلَـتْنَا أمْوَالُـنَا وَأهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَـنَا يَـقُولُونَ بِأ لْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُـلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَـكُمْ مِنَ اللهِ شَيْـئاً  )([298]) .

             الأعراب اسم جمع لا مفرد له ، وهم من يسكنون البوادي ، سواء كان من العرب أو من العجم ، فلا يطلق على الحضري ومن يسكن المدائن . فهؤلاء لم يحضروا ساحات الحرب والوغى ، ولمّـا رجع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) من القتال والجهاد أخذوا يعتذرون له بأنّ أموالنا وأهلنا حيث لم يكن لهم قيّماً وراعياً شغلتنا عن حضور الجهاد ، إلاّ أنّ اُولئك يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فهم يكذبون ، ما  لهم كيف يحكمون ، فمن يملك لهم من الله شيئاً إذا أراد بهم ضرّاً . وإنّما قالوا استغفر لنا ، فإنّهم يعلمون أنّ ترك الجهاد ذنب ، وحبّ الأولاد والمال لا يمنع من الجهاد ، إلاّ أ نّهم لم يصدقوا في مقالتهم هذه ، وإنّما قالوا ذلك ليستروا على فعلهم القبيح والشنيع . فهم من المنافقين ، ولا يقبل منهم الأعذار الواهية ، ولا ينفعهم الدعاء ، وإنّما الخير والضرّ والحياة والممات بيد الله سبحانه .

             قال جلّ جلاله  :

             (  وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ  )([299]) .

             إنّ الله أمر المؤمنين أن يجاهدوا في سبيل الله وإقامة دينه ، وخاطب المنافقين أن يقاتلوا في سبيل الله ، أو يدفعوا عن عرضهم ومالهم إن لم يجاهدوا في سبيل الله ، فيقولون كلاماً فارغاً لا يتجاوز ألسنتهم وأفواههم ، فيقولون ما ليس في قلوبهم ، وقد غفلوا أنّ الله عليمٌ بذات الصدور وما في قلوبهم ، فهؤلاء يومئذ للكفر أقرب من الإيمان .

             فكلّ من يقول بلسانه من الحقّ ما لا يعتقده بقلبه فهو منافق ، ثمّ يحاول أن يزيّن عمله تمسّكاً بأعذار واهية وكلمات فارغة وحجج ركيكة ، فليس له إلاّ الخزي والعذاب .

             قال النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)  : حبّ المال والشرف ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل([300]) .

             عن كليب الصيداوي ، قال  : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول  : ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة([301]) .

             عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال  : استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع([302]) .

             فمن يستمع الأغاني والموسيقى سرعان ما يبتلى بالنفاق ، ولا يحمد عقباه ، ولا  يختم له بالخير ، بل من أعرض عن ذكر الله فإنّ له معيشة ضنكاً ، واستماع اللهو والموسيقى والغناء ممّـا يميت القلب وينبت النفاق ، وبعد سنين يحصد الندم والضياع وعاقبة السوء .


9

القلب المقطوع

             (  لا يَزَالُ بُـنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلاَّ أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  )([303]) .

             المتّقي يبني بنيانه على التقوى والعمل الصالح وطلب مرضاة الله ، فيحيى حياة طيّبة (  فَلَـنُحْيِيَـنَّهُ حَيَاةً طَيِّـبَةً  )([304]) ، ولكنّ المنافق لا يزال بنيانه مبني على الاضطراب القلبي والريبة والشكّ في قلبه ، حتّى يتقطّع قلبه فيزول منه الشكّ بزوال قلبه ، والله عليم بما يفعله المؤمن والمنافق ، وحكيم في أفعاله ، بأن يرفع المتّقي ويضع المنافق .

             فما يفعله المنافق إنّما هو مع الشكّ والاضطراب وتشويش البال ، فلا يدوم عمله ، وإنّه يعيش بذلّة وخسّة ، فمن كان له قلب منافق فلا يعيش باطمئنان ، بل حياته كلّها قلق ، حتّى يصل به الأمر أن يكون قلبه قطعة قطعة ، فحينئذ يزول الشكّ  والريبة منه . ويستولي عليهم التيه والضلال والانحطاط وخسران الدنيا والآخرة .


10

القلب الغليظ

             (  فَبَِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ  )([305]) .

             رحمة الله شملت الأنبياء والأولياء ومن يحذو حذوهم ، وخاتم النبيّين محمّد  (صلى الله عليه وآله) ، برحمة من الله اُتحف بقلب رؤوف وليّن ، لأنّ القائد المصلح لو كان فظّاً وغليظ القلب فإنّ الرعيّة تفرّ منه وتنفضّ من حوله ، بل عليه أن يعفو عمّن أساء إليه ، إذ الإساءة إنّما كانت من جهله ، ثمّ يستغفر الله له ، بل ويشاركه في اُموره فيشاوره ، وكأ نّما يعطيه شخصيّة اجتماعية بأن يجلس مع القائد ليتشاور في الاُمور ، ولكن إذا عزم القائد على أمر وبتّ فيه وجزم بعدما شاورهم وأخذ الأصوب منهم ، فعليه أن يتوكّل على الله ويقدم على العمل ، وإنّ الله يحبّ المتوكّلين فيهديهم إلى ما  فيه الخير والصلاح .

            ثمّ كان الخطاب مع المسلمين بأنّ الله جعل نبيّه رحيم القلب وليّن الكلام ، وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر ، إلاّ أنّ الخطاب توجّه إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) لأ نّهم عند قتل أحبّائهم نسبوا ذلك إلى النبيّ فآذوه في الكلام ، فأعرض الله عنهم وخاطب نبيّه ، بأ نّه إذا كان حالهم يشبه ما يفعله الكافرون ، وتحسّرهم على قتلاهم ، فبرحمة منّا لنت لهم ، وإلاّ لانفضّوا من حولك .

             فمن كان فظّاً وخشن الكلام وكريه الخلق وغليظ القلب بلا رحمة ولا شفقة ، فإنّ الناس يبتعدون منه وينفضّوا من حوله ، ويبقى وحيداً في حياته الاجتماعية ، والمؤمن إنّما هو إلف مألوف ، هشّ بشّ ، بشره في وجهه وحزنه في قلبه ، فالناس يحبّونه وينصرونه ، وكان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) اُسوة حسنة وقدوة صالحة في مثل هذه الأخلاق الطيّبة  :

             (  وَإنَّكَ لَعَلى خُـلُق عَـظِيم  )([306]) .


11

القلب الغامر ( الغافل )

             (  وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَة مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ  )([307]) .

             الغمر لغة بمعنى  : إزالة الشيء ، والغمرة معظم الماء الساترة لمقرّها ، وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها([308]) .

             إنّ الله سبحانه رفقاً بعباده ومن اللطف الإلهي لا يكلّفهم إلاّ بما في وسعهم ، فهو الذي خلقهم وهو أعلم بهم ، وإنّما يكلّفهم لنفعهم ولتعريضهم الثواب ، فإنّ التكاليف الإلهية من الواجبات والمحرّمات إنّما هي لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، فإنّ لله سبحانه كتاباً ينطق بالحقّ وهو القرآن الكريم ، ولا يظلم أحداً إنّما الناس يظلمون أنفسهم ، بل قلوب الذين لا يؤمنون في غفلة وغمرة من هذا القرآن الكريم ، فإنّ القلب إذا غشيه الغفلة ، فإنّه ينكر الحقّ ويعاديه . وفي الحديث  : أمّا علامة الغافل فأربعة  : العمى والسهو واللهو والنسيان([309]) .

             إنّ الله سبحانه يشوّق الناس إلى كسب الفضائل والاتصاف بالأخلاق الحميدة والصفات المجيدة ، ولا يتصوّر أحد أنّ ذلك فوق طاقة الإنسان ، بل دفعاً لمثل هذا التوهّم قال الله سبحانه  : (  وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا  ) ، فإنّ نفس الإنسان بسعتها أن تتحمّل هذه التكاليف ، وإنّها مطابقة لطاقة الإنسان ، وكلّ واحد بإمكانه أن يكون سلمان زمانه ، واُويس عصره ، لأنّ التكاليف لهما ولنا واحدة ، وهي بحسب طاقة الإنسان ، إلاّ أ نّه كان ظلوماً جهولا ، فكفر بالله وتخلّى عن تكاليفه ، وغفل قلبه عن تحمّل الحقّ ، وكسب المعارف الإلهية ، وإنّ الله لا يضيّع عمل عامل من ذكر أو اُنثى ، فإنّه الشاكر ، ولديه كتاب ينطق بالحقّ ، وهذا لتشويق المؤمنين لكسب الفضائل والأعمال الصالحة ، وأمّا من لم يؤمن فقلبه في غمزة وجهل شديد وغفلة شديدة من هذا ، وله عمله القبيح والفاسد ، فإنّ الكفّار والمشركين ومن يحذو حذوهم لهم أعمال من دون أعمال الصالحين المؤمنين ، فبين العملين تقابل كتقابل الإيمان والكفر ، فإنّ الكفّار لهم أعمال قبيحة تشغلهم عن أن يفكّروا بالأعمال الصالحة والطيّبة وكسب الخيرات والفضائل .

             فمن لم يفعل الخيرات فإنّ ذلك دليل على أنّ قلبه في غمرة وجهل وغفلة ، ومن كان له قلب غامز فإنّه يرتكب الفضائح والأعمال الشرّيرة ، ولا يبالي بعواقبها من الذلّة والخزي في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشدّ وأعظم لو كانوا يعلمون .


12

القلب الكافر

             (  وَإذَا ذُ  كِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإذَا ذُ  كِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ  )([310]) .

             لكلّ شيء علامة من علائم الإيمان والكفر ، إنّ القلب الذي ليس فيه نور الإيمان وقد اسودّ وأظلم بالكفر ، فإنّه ينفر من النور ويشمئزّ من ذكر الله نور الأنوار ، ولكن إذا ذكر ما سوى الله من الآلهة والطغاة والكفّار ومن يشبههم ، فإذا هم يستبشرون ويفرحون ، وإنّما يشمئزّون من ذكر الله ومن كلمة التوحيد ( لا إله إلاّ الله ) لأ نّهم لا يؤمنون بالآخرة ، وإنّما لا يؤمنون لأ نّهم ارتكبوا القبائح والفجور والمنكرات والفواحش ما ظهر وما بطن ، وهذا يعني أن تكون عاقبتهم العذاب الأليم والخزي والعار في الآخرة ، وكيف يحلو لهم ذلك ، بل أنكروا يوم القيامة ، وأ نّهم إذا ماتوا فينتهي كلّ شيء ، فليس لهم إلاّ حياتهم هذه ، ولهذا يرتكبون المنكرات والظلم والجور ليصلوا إلى ملاذهم ، ويشبعوا رغباتهم وشهواتهم ، فمن استرّ وفرح واستبشر بذكر الله ، فذلك من إيمانه وقلبه المؤمن ، وأمّا إذا اشمئزّت نفسه ، وانقبض في باطنه ، وظهر ذلك على ملامح وجهه ، فإنّ ذلك من علامة القلب الكافر ، وهناك من يألف مجالس البطّالين ، وما لم يكن فيه ذكر الله وذكر أنبيائه وأوليائه ، فهذا دليل ضعف إيمانهم ، وربما يؤدّي الأمر إلى هلاكهم وكفرهم .

             وقد ورد في رواياتنا أنّ الكفر على وجوه خمسة  :

             1 ـ كفر الجحود . 2 ـ الجحود على قسمين . 3 ـ كفر بترك الأحكام الإلهية . 4  ـ كفر البراءة . 5 ـ كفر النعمة .

             1 ـ فالجحود تارةً إنكار الربوبية والإلوهية فيجحد بالله سبحانه وينكر المعاد والجنّة والنار ، فهم من الزنادقة والدهريين القائلين  : (  وَمَا يُهْلِكُـنَا إلاَّ الدَّهْرُ  )([311]) ، فمن عند أنفسهم يخترعون مسلكاً وطريقاً (  وَإنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ  )([312]) ، فلا برهان لهم ، ولا تنفعهم النذر (  إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ  )([313]) .

             2 ـ والجحود اُخرى بمعنى كفر المعرفة ، فإنّهم يعرفون الحقّ لوضوحه ، إلاّ أ نّهم ينكرونه (  وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أ نْفُسُهُمْ  )([314]) لظلمهم وطغيانهم (  وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ  )([315]) .

             فقبل ظهور الإسلام ، كان اليهود يخبرون الناس بنبيّ آخر الزمان ، إلاّ أ نّه لمّـا جاءهم ما عرفوا ، أنكروا ذلك وكفروا به ، فمثل هؤلاء بعيدون عن الرحمة الإلهية ، فلعنة الله على الكافرين .

             3 ـ ومن الناس من يكفر بنعم الله ، فإنّه سبحانه يمتحن عباده بفضله ، كما في
قوله تعالى  :

             (  هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَـبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ  )([316]) .

             فإنّ من يشكر نعم الله قولا وعملا ، فإنّ الله هو الشاكر فيزيده ، ومن كفر فإنّ الله غنيّ كريم ، فهو لا يزال في الدنيا يكرم عليه برحمانيّته ، إلاّ أ نّه يعذّبه يوم القيامة كما في قوله تعالى  :

             (  لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ  )([317]) .

             فعلينا أن نذكر الله في نعمائه وآلائه ونتحدّث بنعمته  :

             (  وَأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ  )([318]) .

             (  فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونْ  )([319]) .

             4 ـ وأمّا الكفر بمعنى ترك الأحكام الإلهية ، كما في قوله تعالى  :

             (  وَإذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وَأ نْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أ نْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإنْ يَأتُوكُمْ اُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض  )([320]) .

             فمن الناس من يعمل ببعض الأحكام الشرعية لأ نّها تتلاءم مع مصالحه
ولا  يعمل ببعضها ويكفر بها عملا ، لأ نّها تتضارب مع مصالحه الشخصية ، ومثل هذا لا يقبل إيمانه  :

             (  فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ  )([321]) .

             5 ـ كفر البراءة ، كما في قصّة إبراهيم الخليل في قوله تعالى  :

             (  كَـفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَـيْـنَـنَا وَبَـيْـنَـكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ أ بَداً حَتَّى تُـؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ  )([322]) .

             فإنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) يتبرّأ من نمرود وقومه ، واشتعلت نار الحرب بينهما ، ولن يترك إبراهيم ذلك حتّى يؤمنوا بالله وحده ، ويكفروا بنمرود والطواغيت .

             ومن كفر البراءة تبرّي إبليس اللعين يوم القيامة ممّن اتّبعه ، كما في قوله تعالى  :

             (  إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ  )([323]) .

             كما يتبرّأ الكفّار بعضهم من بعض يوم القيامة  :

             (  إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أوْثَاناً مَوَدَّةَ بَـيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض  )([324]) .

             فالكفّار إنّما عبدوا الأوثان من دون الله سبحانه لمراعاة الصداقة والمودّة الدنيوية حفظاً لمصالحهم في الدنيا ، إلاّ أ نّه يوم القيامة يوم تبلى السرائر ويكون بصرك اليوم حديد ونافذ ويرى الحقائق فإنّهم يتبرّأون بعضهم من بعض  :

             (  الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِـبَعْض عَدُوٌّ إلاَّ المُـتَّقِينَ  )([325]) .

             فالكفر له مراتب وأقسام ، كما جاء تفصيل ذلك في الروايات .


13

القلب المنكر

             (  إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ  )([326]) .

             أوّل دعوة الله سبحانه وتعالى ، ودعوة العقل السليم ، ودعوة الأنبياء والأوصياء والصالحين ، هي دعوة التوحيد ، فإنّ إلهكم إله واحد ، لا ثاني له ، ولا  شريك ولا ندّ ولا مثيل ولا ضدّ له ، كما أ نّه أحد لا تركيب فيه ، إلاّ أنّ هناك من ينكر هذه الحقيقة فلا يؤمن بالمبدأ كما لا يؤمن بالآخرة وبيوم المعاد ، لأنّ له قلب منكر ومستكبر ، وذلك من كثرة الذنوب والمعاصي واتّباع الشهوات ، فأنكروا كلام الحقّ ، واستكبروا على الخلق ، واستهزأوا بآيات الله ، ولم تنفعهم الحجج والبراهين القطعية الدالّة على وحدانية الله ، وأن يؤمنوا بيوم القيامة يوم الحساب ، ويؤمنوا بكتب الله وملائكته ، ومن آمن بالمعاد فإنّه يؤمن بالمبدأ ، ومن له قلب منكر للحقّ ، فإنّه يحاول أن يتكبّر على الناس بتركه الحقّ ، ومن كان لجوجاً ومعانداً ، فإنّه لا  يؤمن بالآخرة ، ومن لم يؤمن بيوم القيامة ، فإنّه لا يتورّع من أيّ ذنب كان ، ومن لم يتورّع من الذنوب ، فإنّ له قلب منكر للحقّ ، ومن أنكر الحقّ استكبر وعلا في الأرض ، فكان من الكافرين ، فله خزي في الدنيا وفي الآخرة له عذاب عظيم .


14

القلب اللاّهي

             (  لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُـكُمْ أفَـتَأ تُونَ السِّحْرَ وَأ نْتُمْ تُبْصِرُونَ  )([327]) .

             اللّعب ما يفعله الإنسان بنظم إلاّ أ نّه من دون هدف ، بل إنّما هو خيال ووهم ، كما يفعل الأطفال ذلك في ألعابهم ، واللهو بمعنى الاشتغال بعمل باطل غافلا عن الحقّ والأمر المهمّ ، ومنه تسمّى آلات الطرب آلات اللهو ، فإنّها تلهي الإنسان وتشغله عمّـا يجب عليه ، وعمّـا هو الحقّ ، والذين كفروا لاهية قلوبهم عند نزول الذكر الإلهي ، فلم يتّعضوا ويفيقوا من سباتهم ولهوهم فلا ينفعهم الذكر والوحي أبداً .

             فمن غفل وأعرض عن ذكر الله ، واستهزأ بآيات الله وأحكامه ، فإنّ له قلب لاه ، فيشتغل باُمور تافهة تضرّه ولا تنفعه ، ويحسب أ نّه يحسن صنعاً ، ولكن عمله كالعهن المنفوش هباءً منثوراً ، لا يحصد منه إلاّ الندم يوم لا ينفعه الندم .


15

القلب الأغبر

             (  كَـلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُـلُو بِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  )([328]) .

             هناك من الناس إذا يتلى عليه آيات الله يقول هذا من أساطير الأوّلين ، وإنّ هذا من الرجعية ، وأنّ عصرنا عصر التكنولوجيا والصناعة وصعود الأقمار والحضارة والتمدّن ، ولا يدري أنّ ما يلفظه إنّما هو نتيجة قلبه الأغبر ، الذي علاه غبار ما كان يكسبه من الذنوب والمعاصي .

             والأساطير جمع الاُسطورة أي المكتوب سطراً بسطر ، ومقصود الكفّار من قولهم أساطير الأوّلين ، أنّ هذه الآيات القرآنية إنّما هي مكاتيب وأباطيل القدماء ، وهذا يعني الرجوع إلى الوراء ، وهو يتنافى مع التقدّم والازدهار ، فلا بدّ من الثورة على كلّ ماض ، ولا بدّ من تجديد ، وقد غفلوا أنّ الماضي الحقّ يبقى حقّاً في كلّ العصور والأزمان ، فآيات الله التي تحذّرهم من المعاصي والمفاسد الأخلاقية والاجتماعية ، وتخوّفهم من يوم القيامة وعذاب جهنّم يعدّونها أساطير الأوّلين ، وإنّها رجعية ، بل ران على قلوبهم بما كانوا يكسبون ، فأنكروا الحقّ وحاربوه .

             والرين صدأ يعلو الشيء الجليل ، فران على قلوبهم ، أي علا الصدأ على جلاء قلوبهم ، فعمي عليهم معرفة الخير من الشرّ ، والحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ . فالذنوب غبار وصدأ ورين على القلوب ، فلا يكون القلب مرآةً لانعكاس الحقائق فيه ، فيعجز القلب عن درك الحقائق كما هي ، فالقلب أوّلا يكون جليّاً طاهراً مرآةً للحقّ ، إلاّ أنّ الذنوب والمعاصي غبار يعلوه ، حتّى يسودّ فينكر الحقّ ويعمى عنه ، فإنّ القلب إذا أذنب ذنباً صار فيه نكتة سوداء ، فكلّما أذنب ولم يتب ، تكبر هذه النكتة ، حتّى تأخذ القلب كلّه ، فينقلب القلب ويكون كالوعاء المنكوس ، فلا يفاض عليه الرحمة الإلهيّة ، ولا يمتلئ من العلم والمعارف الحقّة ، وحديث الحقّ ينفع لرفع الرين عن القلب .


16

القلب الغافل ( المطبوع )

             (  اُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأبْصَارِهِمْ وَاُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ  )([329]) .

             من يختار الدنيا على الآخرة ، وينسى ربّه ، ويلهو عن الحقّ ، ويعمى قلبه ، لاختياره الذنوب وارتكابه الآثام والقبائح ، فإنّ الله يطبع على قلبه فلا يعقل ، وعلى سمعه فلا يسمع الحقّ ، وعلى بصره فلا يرى الحقّ ، وهو من الغافلين .

             وعلى كلّ مؤمن بالله ، ولا سيّما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومن كان وريثه كالعلماء الصلحاء ، أن لا يطيع من كان له قلب غافل عن ذكر الله ، ويتبع هواه ويتّخذه إلهاً ، وكان أمره فُرطاً وتجاوزاً عن الحقّ .

             (  وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَا تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً  )([330]) .

             فمن غفل عن الآخرة ، فإنّ بصره أعمى عن رؤيتها ، واُذنه أصمّ عن سماع أمرها ، وقلبه مختوم ومقفّل ومطبوع عليه ، فلا يعقل ما وراء الطبيعة من الحقائق والواقعيات ، إنّما همّه بطنه كالحيوان ، همّها علفها ، بل أضلّ سبيلا ، ومن كان همّه بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه .

             والله إنّما ختم على قلبه وطبع على سمعه وبصره ، لأ نّه باختياره أحبّ الدنيا وعشقها ، وترك الآخرة ونعيمها ، وحبّ الدينار اُسّ كلّ خطيئة ، كما أنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، ومثل هذا يغفل عن الحقيقة ويجهل الواقع ، فيتيه في وادي الضلال والكفر ، فلا يفكّر إلاّ بالمادّيات والملاذّ والشهوات ، وينسى المعنويات وعبادة الله سبحانه . ومن كان بسوء اختياره كذلك فإنّ الله يُلقي الغفلة على قلبه ، فلا يتذكّر بذكر الله عزّ وجلّ ، ولا يحقّ للمؤمن أن يتبعه ويطيعه في أوامره (  وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَا تَّبَعَ هَوَاهُ  ) فإنّ اُميّة بن خلف كان يقول لنبيّ الإسلام محمّد  (صلى الله عليه وآله) أن يبعد الفقراء من حوله حتّى يقرّب إليه الأغنياء والأشراف وصناديد قريش ، فكان قلبه غافلا عن الحقّ ، فأمر الله رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، أن لا يطيع من أغفل قلبه عن ذكر الله واتّبع هواه وأفرط وأسرف في حياته ، ومن غفل عن ذكر الله فإنّه لا محالة يتبع هوى نفسه ورغباته وميوله ، فكيف مثل هذا الضالّ المضلّ يُتّبع ويُطاع  ؟  !

             (  كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُـتَكَـبِّر جَبَّار  )([331]) .

             (  كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ  )([332]) .

             (  كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ  )([333]) .

             (  كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ  )([334]) .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : الطابع معلّق بقائمة العرش ، فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله ، بعث الله الطابع فيطبع الله على قلبه ، فلا يعقل بعد ذلك شيئاً([335]) .

             وقال  : إيّاكم واستشعار الطمع فإنّه يشوب القلب شدّة الحرص ، ويختم على القلوب بطابع حبّ الدنيا([336]) .

             وفي واقعة الطفّ الأليمة ، يوم العاشر من محرّم الحرام سنة ( 61 ) هجرية في كربلاء ، لمّـا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) وأحاطوا به من كلّ جانب حتّى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج (عليه السلام) حتّى أتى الناس فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتّى قال لهم  : ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي ، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، وكلّكم عاص لأمري غير مستمع قولي ، فقد ملئت بطونكم من الحرام وطبع على قلوبكم )([337]) .

             وهذا يعني بوضوح أنّ من ملأ بطنه من لقمة الحرام ، فإنّه يطبع على قلبه ، فلا  يستمع إلى كلام الحقّ ، وإلى من أراد هدايته وإرشاده إلى صوابه ، فلا يعقل بعد ذلك شيئاً ، نتيجة اجترائه على الله عزّ وجلّ ، وعمله بالمعاصي وانتهاك الحُرم الإلهية ، فيكون طمّاعاً حريصاً بحبّ الدنيا ، فيتكبّر ويتجبّر ويتعدّى على حدود الله ، ويعتدي على الآخرين فيكفر بالله وبنعمه ، ولا يعلم ، وهذه جملة من صفات القلب الغافل كما تشير إليها الآيات والروايات الشريفة .


17

القلب المختوم

             (  أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أ فَلا تَذَكَّرُونَ  )([338]) .

             (  خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  )([339]) .

             في الآية الاُولى نسب ختم القلوب والسمع إلى الكفّار أنفسهم ، ولكن في الآية الثانية نسب إلى الله سبحانه ، وهذا يعني أنّ الحجاب تارةً بيد الإنسان وذلك من خلال أفعاله ، واُخرى حجاب إلهي نتيجة أعماله ، والكفر كالإيمان كلّي مشكّك قابل للشدّة والضعف ، ولهما مراتب ومراحل وآثار مختلفة ومتفاوتة .

             فمن يتّخذ إلهه هواه وهو يعلم بأنّ له إله خالق السماوات والأرض ، فإنّ الله أضلّه على علم وختم على سمعه ، فلا يسمع كلام الحقّ ، وعلى قلبه فلا يعقل الحقّ ، وجعل على بصره غشاوة فلا يرى الحقّ ، فمن يهديه حينئذ من بعد الله ، أفلا  تذكّرون  ؟ إلاّ أنّ الذكرى إنّما تنفع المؤمنين ، أمّا من كان له قلب مختوم عن درك المعارف والحقائق كيف يتذكّر ويتفكّر ويتعقّل  ؟ بل لمثل هؤلاء خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم .

             ثمّ لا تنافي بين الضلالة عن الطريق والعلم به ، فإنّه ربما يعلم أيّ طريق هو الصراط المستقيم ، وأيّ سبيل هو سبيل الله سبحانه ، إلاّ أ نّه بسوء اختياره ، ومن أثر الذنوب والمعاصي ختم قلبه وغشي بصره وصمّ سمعه ، فيختار طريق الحرام والضلال عسى أن يشبع غرائزه ويصل إلى شهواته وملاذّه .

             ومن حجب قلبه فإنّه يكفر بربّه ويتّخذ من دون الله أوثاناً ويتبع ويطيع هواه ، فيا ترى أما تعجب من هذا الذي اتّخذ إلهه هواه  ؟  ! ويختم على قلبه بأن يطبع على الكفر كما قال عزّ وجلّ  :

             (  بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلا  )([340]) .


18

القلب القاسي

             (  فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ  )([341]) .

             من الكبائر والصفات الذميمة نقض العهد والميثاق ، فمن يفعل ذلك بسوء اختياره ، فإنّ الله يلعنه ويبعده عن رحمته ، ويجعل له قلباً قاسياً كالحجارة أو أشدّ ، فيحرّف الكلم عن مواضعه ، ويرتكب البشائع والقبائح ، وذلك نتيجة كفره ، فلا  يخضع أمام الحقّ ، ولا يخشع قلبه .

             وربما سبحانه يعاتب المؤمنين الذين تظهر القساوة عليهم ، فإنّ المؤمن ربما  يقسو قلبه ويجمد عينه ويفقد الخشوع والخضوع ، وإذا طال به الأمر ، فإنّه يخرج  عن العبودية ، فلا يتأثّر بذكر الله ويرتكب المحرّمات والمناهي كما في قوله تعالى  :

             (  أ لَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُـلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُـلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ  )([342]) .

             فمن ينقض ميثاق الله بأن لا يعبد إلاّ الله ، فإنّه يهون عليه تحريف كلام الله ، ومن لم يخشع لذكر الله سبحانه ، فإنّه من قسوة قلبه ، فيفسق عن أمر ربّه ، ويتجرّأ على ارتكاب المعاصي ، فيخرج عن ربقة الإيمان ، فله الخزي في الدنيا ، وله في الآخرة عذاب أليم .

             (  فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ اُوْلَئِكَ فِي ضَلال مُبِين  )([343]) .

             يقول الإمام الباقر (عليه السلام)  : إنّ لله عقوبات في القلوب والأبدان  : ضنك في المعيشة ، ووهن في العبادة ، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب .

             يقول الإمام الصادق (عليه السلام)  : قلب الكافر أقسى من الحجر .

             وفي نهج البلاغة ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)  : فالقلوب قاسية عن حظّها ، لاهية عن رشدها ، سالكة في غير مضمارها ، كأن المعني سواها ، كأنّ الرشد في إحراز دنياها([344]) .

             ومن وصاياه لابنه الحسن (عليه السلام)  : إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما اُلقي فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبّك .

             فالتربية السليمة والصحيحة لها دور فعّال وجبّار في سلامة القلب ، ولا بدّ أن  تكون قبل بلوغ الحلم ، وفيما كان حدثاً وشابّاً ومراهقاً ، فإنّ قلب الحدث كالأرض الخالية قابلة لكلّ زرع ، فمن يزرع الجميل يحصد جميلا ، وأمّا ما خبث فلا  يخـرج منه إلاّ نكداً ، ومن يزرع القبيح يستحيل أن يكون حصاده جميلا وحسناً .

             وهناك عوامل توجب قساوة القلوب من أبرزها وأهمّها نقض الميثاق ، كما في قوله تعالى  :

             (  فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً  )([345]) .

             فهذا الجعل الإلهي إنّما هو نتيجة عمل الإنسان ، فإنّه باختياره نقض الميثاق فلعنه الله وأبعده عن رحمته ، وجعل قلبه قاسياً ، وكلّ ملعون وبعيد عن رحمة الله يكون قلبه قاسياً ، فإذا ورد في الخبر الشريف  : ملعون ملعون ملعون من صلّى صلاة الصبح ولم تكن نجمة في السماء ـ  أي يصلّي قريب طلوع الشمس  ـ فإنّه يكون مثل هذا المصلّي بعيداً عن رحمة الله ، فإنّه في عاقبة الأمر يقسو قلبه ، هذا لمن لم يكن مستخفّاً بالصلاة ، ولا يصلّيها في أوّل أوقاتها ، فكيف من كفر بنعم الله في ترك صلاته  ؟  !  !

             قال الله تعالى  :

             (  أ لَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُـلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُـلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ  )([346]) .

             فمن اُوتي إليه الكتاب الكريم من الله سبحانه لهدايته وسعادته ، إلاّ أ نّه تركه وراء ظهره وطال عليه الأمد ، فإنّه يقسو قلبه ، ويفسق عن أمر ربّه لا محالة ، إلاّ من شملته العناية الإلهية ، لما يحمل من صفة حميدة أو مكرمة أخلاقية ، فإنّه يتوب ويصلح أمره .

             يقول أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب ، وما  قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب .

             فهناك ارتباط وعلاقة وثيقة وتلازم بين جفّ الدموع وقسوة القلب ، وبين قسوة القلب وكثرة الذنوب من دون توبة .

             فإنّ التوبة النصوحة تمحي الذنوب ، والحسنات يذهبن السيّئات ، وكما ورد في أدعية مسجد الكوفة  : « اللهمّ أنت أنت وأنا أنا ، أنت العوّاد بالمغفرة وأنا العوّاد بالذنوب ، وأنت المتفضّل بالحلم وأنّا العوّاد بالجهل »([347]) .

             قال الإمام الكاظم (عليه السلام)  : فيما ناجى الله تعالى به موسى (عليه السلام)  : يا موسى ، لا  تطوّل في الدنيا أملك ، فيقسو قلبك ، والقاسي القلب منّي بعيد([348]) .

             فطول الأمل والتسويف يقسي القلب ، ومن قسى قلبه ابتعد عن رحمة ربّه ، فإنّ رحمة ربّك لقريبة من المحسنين .

             ويقول المسيح عيسى بن مريم  : إنّ الدابّة إذا لم تركب ولم تمتهن وتستعمل ، لتصعب ويتغيّر خلقها ، وكذلك القلوب إذا لم ترقّق بذكر الموت ، ويتبعها دؤوب العبادة تقسو وتغلظ([349]) .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسو القلب ، إنّ أبعد الناس من الله القلب القاسي([350]) .

             وقال (صلى الله عليه وآله)  : ثلاث يقسين القلب  : استماع اللهو ، وطلب الصيد ، وإتيان باب السلطان .

             وقال (صلى الله عليه وآله)  : لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلبوكم .

             وقال (صلى الله عليه وآله)  : ترك العبادة يقسي القلب ، ترك الذكر يميت النفس .

             قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : من يأمل أن يعيش غداً فإنّه يأمل أن يعيش أبداً ، ومن يأمل أن يعيش أبداً يقسو قلبه ويرغب في دنياه .

             وقال (عليه السلام)  : كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلب .

             وقال (عليه السلام)  : النظر إلى البخيل يقسي القلب .

             قال الإمام الصادق (عليه السلام)  : أنهاكم أن تطرحوا التراب على ذوي الأرحام ـ عند دفنهم  ـ  ، فإنّ ذلك يورث القسوة ، ومن قسا قلبه بَعُد من ربّه عزّ وجلّ([351]) .

             فالمؤمن رحيم قلبه ، قد شغله همّ الآخرة عن هموم الدنيا ، فزهد فيها ، وليس له همّ إلاّ همّ واحد ، وهو همّ الآخرة ورضى الله مولاه سبحانه .

             قال النبيّ الأكرم  : الدنيا لكم ، والعقبى لكم ، والمولى لكم .

             قال صاحب بحر المعارف الشيخ عبد الصمد الهمداني  : فإن قلت إنّا نأخذ بقول الله تعالى  : (  قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ  )([352]) ، فأتنعّم بما أباحه الله من المأكل والملابس اللذيذة والمراكب الفاخرة والدور العامرة ، وأقوم بالواجبات وإخراج الحقوق ، ولا يمنعني ذلك من الاستباق إلى الجنّة مع السابقين ، فجوابك  : هيهات هيهات ، إنّ هذا المال حمق وغرور ، لأنّ المتوغّل في فضول الدنيا لا ينفكّ عن الحرض المهلك الواقع في الشبهات ، ومن تورّط في الشبهات هلكة لا محالة ، ولو سلم من الحرص والزلّة بالسلامة والفظاظة وقسوة القلب والتكبّر ، كيف وهو تعالى يقول  : (  إنَّ الإنسَانَ لَـيَـطْغَى * أنْ رَآ هُ اسْتَغْـنَى  )([353]) ، وقال (صلى الله عليه وآله)  : إيّاكم وفضول المطعم ، فإنّه يسمّ القلب بالقسوة ، وكما أنّ الخائض في الماء يجد بللا لا محالة ، كذلك صاحب الدنيا يجد في قلبه ريناً وقسوة لا  محالة ، ويخرج من قلبه حلاوة العبادة والدعاء([354]) .

             في وصيّة النبيّ لعليّ (عليهما السلام) ، قال  : يا عليّ ، ثلاثة يقسين القلب  : استماع اللهو ، وطلب الصيد ، وإتيان باب السلطان([355]) .


19

القلب المنحرف ( الزائغ )

             (  وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُـؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أ نِّي رَسُولُ اللهِ إلَـيْكُمْ فَـلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ اللهُ قُـلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ  )([356]) .

             تدلّنا الآية الشريفة إلى أنّ اليهود لما عندهم من العناد واللجاجة قد آذوا نبيّهم موسى كليم الله حتّى آل الأمر بهم إلى انحراف قلوبهم وزيغها ، وهذا شأن كلّ  من يؤذي النبيّ ، وبهذا أراد الله أن ينهى المؤمنين أن لا يؤذوا نبيّهم الأكرم محمّد  (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد ذلك في قوله تعالى  :

             (  إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّ نْيَا وَالآخِرَةِ  )([357]) .

             وكما في قوله تعالى  :

             (  يَا أ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا  )([358]) .

             فنهى الله المؤمنين أن لا يؤذوا النبيّ لا بقولهم ولا بعملهم ، فإنّه يؤدّي ذلك إلى انحراف قلوبهم وزيغها عن الاستقامة والصراط المستقيم ، ومن ثمّ يميلوا من الحقّ إلى الباطل ، ولمّـا زاغ القلب فإنّ مثل هذا القلب يحرم من الرحمة الإلهية ، ولا يصيب الهداية الربّانية فأزاغ الله قلوبهم نتيجة أعمالهم من الإيذاء والفسق والفجور ، فجزاء فسقهم أزاغ الله قلوبهم ، ولعنهم في الدنيا والآخرة ، وحرمهم من شمول رحمته ولطفه وهدايته ، فإنّما أضلّهم الله بفعلهم وانحرافهم  :

             (  يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِينَ  )([359]) .

             فإنّ الله لا يضلّ أحداً ابتداءً ، فإنّ ذلك قبيح والله منزّه عن القبائح ، إنّما ضلال الله لمن ارتكب الفسوق والذنوب بسوء اختياره ، فزاغ عن طريق الحقّ وخرج ومال إلى طريق الباطل ، فأضلّه الله وأخزاه في الدنيا ، وله في الآخرة عذاب عظيم .

             وهناك علائم اُخرى لمن زاغ قلبه كما في قوله تعالى  :

             (  فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ  )([360]) .

             فإنّ كتاب الله الكريم لحكمة ربّانية فيه الآيات المحكمة والآيات المتشابهة ، فالمؤمن إنّما يسأل أهل الذكر في ما لا يعلم ، ويرجع إلى الراسخين في العلم ، ويأخذ بالمحكمات ، ويرجع إليها الآيات المتشابهات ، ويعتقد أنّ الكلّ من عند الله ، أمّا من له قلب زائغ ومنحرف ، فإنّه يبتغي الفتنة وإشعال نار الحرب والشقاق بين المؤمنين ، فيتبع ما تشابه من الآيات الكريمة ويؤوّلها من أجل مصالحه الشخصية وابتغاء الفتنة ، وإنّما يفعل ذلك لأ نّه لم يطمئنّ قلبه ، ولم يرسخ في العلم ، ولم يثبت على العمل الصالح .

             وأمّا من آمن واطمأنّ قلبه ، وكان من الراسخين في العلم النافع والعمل الصالح ، وهداه الله ، فإنّه يدعو ربّه  :

             (  رَبَّـنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَـنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ  )([361]) .

             فمن يتبع المتشابه في العمل بأن لا يرجعه إلى المحكم ، فإنّ الله قد ذمّ ذلك ، وأمّا من أرجع المتشابه إلى المحكم ، فإنّه يكون من المحكم ، ولا يعلم تأويله إلاّ الراسخون في العلم ، فيدعون الله بأن لا تزاغ قلوبهم ، فإنّهم علموا أنّ القلب إثر الغفلة ربما ينحرف عن الصواب والحقّ ، وإنّما يملك الضرّ والنفع هو الله سبحانه وتعالى ، وإليه تصير الاُمور ، فيخافون أ نّه بعد رسوخهم في العلم ربما تنحرف قلوبهم وتزيغ عن الحقّ .

             فمن عوامل انحراف القلب وزيغه إيذاء النبيّ كيف ما كان وبأيّ نحو قولا وعملا في حياته وبعد مماته ، فيه وفي أهل بيته كما قال النبيّ الأكرم في حقّ فاطمة الزهراء سيّدة النساء (عليها السلام)  : « فاطمة بضعةٌ منّي من آذاها فقد آذاني » ، ( رواه الفريقان ) . ثمّ من انحرف في الظاهر فقد انحرف في الباطن ، ومن زاغ قلبه ، فإنّه يعيش القلق والاضطراب ، فيحرّف الكلم عن مواضعها ، ويؤوّل الآيات المتشابهات كيف ما شاء . وأمّا من رسخ في العلم والإيمان فإنّهم يدعون ربّهم  :

             (  رَبَّـنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَـنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ  )(2) .


20

القلب المتشتّت

             (  لا يُـقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَة أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر بَأسُهُمْ بَـيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُـلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأ نَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ  )([362]) .

             لقد كان بني النضير من اليهود يسكنون قلاعاً وحصوناً في أطراف المدينة المنوّرة ، ومع المنافقين حينما كانوا يواجهون المسلمين في الحروب والمعارك كان الله يلقي في قلوبهم الرعب ، فيخافون من المسلمين ولا يقاتلونهم جميعاً ، إلاّ في قرىً محصّنة ، أو كانوا يقاتلونهم من وراء الجدران خوفاً ، وإنّما كان لهم الشجاعة والبأس فيما بينهم ، وربما يحسبهم من يشاهدهم أ نّهم متّحدون ، إلاّ أنّ ظاهرهم كذلك ، إلاّ أنّ قلوبهم متشتّتة لأ نّهم قوم لا يعقلون ، فإنّ العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ، فكان عليهم أن يؤمنوا بخاتم النبيّين كما كان عليهم أن يتّحدوا ، فإنّ من قلّ عقله لا يتّحد مع أخيه ، والاُمّة التي تفقد عقلها الاجتماعي فإنّها تصاب بالفشل والانحطاط والتمزّق والتشتّت والاختلاف والاضمحلال ، ومن كان له قلب متشتّت ، فإنّ ذلك من علائم النفاق والخوف والرعب .


21

القلب المريض

             إنّ الله أشار في آيات عديدة إلى القلب المريض ، ولكلّ معنى خاصّ ، وهو كما  يلي  :

             1 ـ (  فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ  )([363]) .

             هذه الآية تشير إلى سيرة المنافقين ، فإنّهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان بالله وبيوم القيامة ، ليخدعوا بذلك المسلمين ويمكروا بهم ، ولكن غفلوا أنّ المكر السيّء لا يحيق إلاّ بأهله ، وما يخدعون إلاّ أنفسهم ، وإنّما مثلهم كالأعمى في الظلام لا يميّز بين الخطأ والصواب والصحيح والسقيم والحقّ والباطل والصلاح والطلاح ، وإذا أراد أن يسرج ضوءاً فسرعان ما يأتيه الريح ، فيتيه في الظلمات مرّةً اُخرى .

             فهؤلاء في قلوبهم مرض وزادهم الله مرضاً فوق مرضهم في الدنيا ، كما لهم في الآخرة عذاب عظيم وأليم ، لأ نّهم كانوا يكذّبون الرسل في قلوبهم .

             فإنّهم وإن أظهروا الإسلام وتحصّنوا بكلمة الشهادتين ، وحقن دمهم ومالهم ، وجاز نكاحهم ، وورثوا المسلمين المؤمنين ، إلاّ أ نّهم حين موتهم يسلبهم الله النور ، فيقعوا في ظلمتين  : ظلمة قلوبهم وظلمة أعمالهم .

             ومن يتظاهر بالإيمان ولمّـا يؤمن قلبه فإنّ قلبه مريض ، وزاده الله مرضاً ، وله عذاب أليم .

             2 ـ (  وَإذْ يَـقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً  )([364]) .

             المقصود من الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء المؤمنين فهم غير المنافقين ، فهؤلاء أيضاً يبطنوا كفرهم ويظهروا الإسلام ، ولمّـا وعدهم الله ورسوله بالفتح والنصر وغلبة الإسلام على بلاد قيصر وكسرى ( الروم وإيران ) كان المنافقون وضعفاء الإيمان الذين في قلوبهم مرض ، يقولون ما وعدنا الله ورسوله ، إلاّ أن يغرّنا ويضحك علينا ويعبث بحياتنا .

             3 ـ (  فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفاً  )([365]) .

             إنّ الله مدح نساء النبيّ وبيّن علوّ مقامهن لتقواهن ، لا لانتسابهن بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ثمّ أمرهن أن لا يخضعن في الكلام بأن يتكلّمن بدلال وصوت ناعم ولطيف ، فإنّ ذلك يوجب أن يطمع من كان قلبه مريضاً فيميل إلى الشهوات ، ويبتلى بتخيّلات شيطانية ، فيقع في الذنوب والمعاصي ، فإنّ من كان قلبه مريضاً ليس فيه قوّة إيمان يردعه عن الآثام ، فإنّه سرعان ما ينحرف عن الصواب ، ويتيه في وادي الضلال . ثمّ أمر الله نساء النبيّ أن يتكلّمن بكلام معروف ، بأن يدلّ على المقصود فقط من دون دلال وظرافة .

             4 ـ (  لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَـنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلا  )([366]) .

             الانتهاء بمعنى الامتناع ، والمرجفون من الإرجاف بمعنى إشاعة الباطل وجعل الناس في قلق واضطراب ورجفة ، والإغراء بمعنى حثّ شخص على عمل .

             والله سبحانه يخاطب نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المنافقين والذين في قلوبهم مرض من ضعفاء المؤمنين ، أ نّهم لو لم يمتنعوا عن الإشاعة والفساد والفتنة في المدينة لنأمرك أن تخرجهم من المدينة وتحاربهم ، وهذا من الإنذار الإلهي لمن كان منافقاً ، ويشيع بين المسلمين ما يقلقهم ليعيشوا في اضطراب ومن دون أمن وأمان ، حتّى تصفو لهم الأجواء في تطبيق نواياهم وخططهم الخبيثة ، وتحطيم معنويات المسلمين ، وتهديم بنيانهم ، وتمزيق صفّهم ، وتفتيت عضدهم ، وتفريق شملهم ، وإلقاء العداوة بينهم والبغضاء والاختلاف والتحزّبات ، وفكّ وحدتهم واعتصامهم بحبل الله .

             5 ـ (  وَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ  )([367]) .

             من الناس من آمن بالله واليوم الآخر ، وبرء قلبه من الأمراض والأسقام وزاده الله يقيناً وتقوى وهدىً ، فعاش سعيداً ، ومات سعيداً ، ويبعث يوم القيامة سعيداً . ومن الناس من في قلبه مرض ورجس وقذارة ، فزادهم الله رجساً إلى رجسهم ونجاستهم ، وماتوا وهم كافرون ، فلهم في الدنيا خزيٌّ وفي الآخرة عذابٌ أليم .

             فمن شكّ في دينه واستحوذ عليه الشيطان ، وتنجّس قلبه بالنفاق والأمراض الخلقيّة والنفسية ، فإنّه في ضلال ورجس ، ولولا التوبة والعمل الصالح ، فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات ، لزادهم الله رجساً فوق رجس وضلالا فوق ضلال  :

             (  وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأ نَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ  )([368]) .

             ولمّـا كانت الآية الشريفة تقابل قوله تعالى  : ( الذين آمنوا ) فإنّها تدلّ على أنّ الذي في قلبه مرض من لم يكن صاحب عقيدة سليمة وصحيحة وقلبه فيه الشكّ والإنكار ونتيجة ذلك الكفر والعصيان . فمن كان قلبه مؤمناً فإنّ القرآن الكريم والآيات الإلهية إنّما يكون له شفاء ورحمة ، ومن كان قلبه مريضاً ومنافقاً وكافراً فإنّ القرآن لا يزيده إلاّ خساراً ، كما في قوله تعالى  :

             (  وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً  )([369]) .

             فعلى كلّ مؤمن أن يزيل الشكّ من قلبه ، ويطلب اليقين من ربّه ، لينتفع بآياته وقرآنه ، وإلاّ فإنّ الشكّ يتبعه الشكّ فيكون رجساً فوق رجس ، حتّى ينتهي به الأمر إلى الكفر (  وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ  )([370]) .

             6 ـ (  فَإذَا اُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُ  كِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَـنظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ  )([371]) .

             كلّ ما يضمره الإنسان في قلبه فإنّه يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، والله سبحانه يخاطب نبيّه الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) في الذين في قلوبهم مرض ، أ نّه عندما يأمر الله بالجهاد وينزل سورة محكمة يذكر فيها القتال في سبيل الله ، فإنّهم ينظرون إلى النبيّ الأعظم وكأ نّما الطير يتخطّف على رؤوسهم ، فإنّهم ينظرون إليه نظر المغشيّ عليه من الموت ، كالمحتظر الذي ينظر إلى أطرافه بنظراته الأخيرة ، وإنّما ظهر ذلك عليهم ، لأ نّهم كذبوا في قولهم وادّعائهم الإيمان ، فهم من ضعفاء المؤمنين عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه أينما درّت معائشهم ، فإذا مُحّصوا بالبلاء قلّ الديّانون  :

             (  وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ  )([372]) .

             فهؤلاء ضعفاء الإيمان حينما لم تنزل سورة من القرآن يطالبون النبيّ بها ، ولكن لمّـا تنزل سورة محكمة من دون تأويل وشبهة ، ويذكر فيها القتال والجهاد لحبّهم الدنيا والمال والأهل والراحة ولما في قلوبهم من المرض ، يستولي عليهم الخوف ، ومن شدّته كانوا ينظرون إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) كنظر المحتضر في حالة الموت .

             فمن شكّ في دينه وانجرف إلى النفاق وانتهى إلى الكفر ، إنّما يبتلى بأمراض قلبيّة وهي كالأمراض الجسدية ، لها مراتب طولية وعرضية ، قابلة للشدّة والضعف ، والبُرء والشفاء ، فبداية المرض الشكّ ، فمن لم يتداركه باليقين برجوعه إلى أطباء القلب وهم الأنبياء وأوصيائهم ومن ثمّ ورثتهم العلماء الصالحين ، فإنّه سوف يشتدّ مرضه ويزداد فيبتلى بمرض النفاق ، فإذا لم يتب توبة نصوحاً ويرجع إلى الله وينيب إليه ويعمل الصالحات ، فإنّه يزداد في مرضه فيبتلى بمرض الكفر والإثم والتكبّر والإجرام والتجاوز والحميّة الجاهلية والغيظ والغلظة والغمرة والانحراف واللهو واللعب والغبار والرين والغفلة والزيغ والقساوة فيطبع على قلبه ، ويختم ويقفل بابه ، وله في الدنيا خزيٌّ ، وفي الآخرة عذاب أليم .

             7 ـ (  أمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أضْغَانَهُمْ  )([373]) .

             الضغينة بمعنى البغض والعداوة والحقد الشديد ، فمن ضعف إيمانه ، فإنّه يبتلى بمرض القلب من الشكّ والنفاق ، ومثل هذا المريض مهما يبالغ في إخفاء نفاقه ومرضه ، فإنّه لا يحسب أن يمكنه ذلك ، فإنّه يوماً ما ، يخرج الله حقده على المؤمنين وبغضه وضغائنه ، ويكشف أمره للمؤمنين ليحذروه ويتجنّبوه ، فإنّ الإغراء بالجهل قبيح ، والله منزّه عن القبائح ، فلا يدع المنافق يموت بحسن السمعة وصدق اللسان ، بل يعلن الله حاله ، ويظهر سريرته للمؤمنين ، حتّى يلعن في دنياه كما لعنه الله  : ( ألا  لعنة الله على المنافقين ) .

             وهذا من عدل الله بهم ، ولطفه ورحمته بالمؤمنين ، حتّى يتميّز الخبيث من الطيّب ، والمؤمن من الكافر ، والمخلص من المرائي ، والمتكبّر من المتواضع ، والغثّ من السمين ، والصالح من الطالح ، والمسيء من المطيع .

             هذا كلّه فيما لو لم يتب إلى الله ويرجع إليه ، وإلاّ فإنّ الله ستّار العيوب ، وسبقت رحمته غضبه ، وأظهر الجميل وستر القبيح ، ولا يعتدي على أهل مملكته ، ولم يأخذ أهل الأرض بألوان العذاب ، فإنّ له ألف وواحد من الأسماء الحسنى ، كلّها تدلّ على الرحمة ، إلاّ قليل يُعدّ بالأصابع كالمنتقم وشديد العقاب والقهّار ،وهذه الأسماء في بواطنها أيضاً من الرحمة ، فهو ربّ العالمين الكريم الحليم الرحمن الرحيم الرؤوف العطوف الشفيق واسع الرحمة .

             8 ـ (  وَإنْ يَكُنْ لَهُمْ الحَقُّ يَأ تُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أمِ ارْتَا بُوا أمْ يَخَافُونَ أنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ اُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  )([374]) .

             الإذعان بمعنى الانقياد والطاعة ، والحقّ في الآية ظاهراً هو حكم النبيّ الأكرم  (صلى الله عليه وآله) ، والحيف بمعنى الجور والتجاوز .

             فضعفاء الإيمان إذا حكم لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وكان بنفعهم ولمصلحتهم يأتوا إليه مذعنين ومنقادين ويطيعون أمره ، وإذا لم يكن حكم النبيّ بصالحهم فإذا بهم ينقلبون على أعقابهم ، ولا يرضون بحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فما لهم كيف يحكمون  ؟ فهل في قلوبهم مرض أم شكّوا وارتابوا في الدين  ؟ أم يخافون أنّ الله ورسوله يجور عليهم ـ  والعياذ بالله  ـ بل اُولئك هم الظالمون لأنفسهم بارتكابهم الذنوب من قبل ولم يتوبوا ، فما اُولئك بالمؤمنين حقّاً وصدقاً .

             9 ـ (  وَلِـيَـقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلا  )([375]) .

             إنّ الله أخبر نبيّه بأنّ الموكّلين على نار جهنّم تسعة عشر من الملائكة الغلاظ ، وبهذا يتيقّن أهل الكتاب بأنّ هذا القرآن الذي ينزل عليك إنّما هو من الله سبحانه ، فإنّه يطابق لما عندهم من الكتاب ، وبهذا يزداد المؤمنون إيماناً ، ولكنّ الذين في قلوبهم مرض من ضعفاء المؤمنين والكافرين يقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا .

             فالله سبحانه يصف نار جهنّم ، وأ نّه سيصلاه من كان عنيداً مستكبراً ، يؤذي النبيّ في قوله  : (  إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ يُـؤْثَرُ * إنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ الـبَشَرِ  )([376]) ، فيقول الله سبحانه  : (  سَاُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُـبْـقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَـفَرُوا لِـيَسْتَـيْقِنَ الَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَـنُوا إ يمَاناً وَلا يَـرْتَابَ الَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِـيَـقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكَافِرُونَ مَاذَا أرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُـنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ  )([377]) .

             فمن كان قلبه مريضاً  : فإنّه يظهر الإيمان نفاقاً وهو من ضعفاء الإيمان ، وربما يكون كافراً ويموت كافراً ، فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين .

             « ثمّ المرض نوعان  : مرض قلوب ومرض أبدان .

             أمّا مرض القلوب فينقسم إلى ثلاثة أقسام  :

             1 ـ مرض شُبَه وشكّ .

             2 ـ شهوة وغيّ .

             3 ـ غلّ .

             وقد ورد جميعاً في القرآن الكريم ، وإليك بيان ذلك  :

             أمّا مرض الشُبَه والشكّ  : فهو أن يطمس على بصيرة العبد فيجعل لله ندّاً أو يشبهه بمثل ، ويشكّ في قدرته تعالى ، فيستعظم حياته بعد موته ، ويشكّ في إمكانية البعث والقيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب ، كلّ ذلك توسوس به نفسه في كيان قلبه ، وهذا الصنف من الناس تحدّث الحقّ تعالى عنهم ، وبيّن لنا حقيقة ما في قلوبهم من مرض ، فقال سبحانه  :

             (  فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضاً  )([378]) .

             أمّا مرض الشهوة والغيّ  :

             فنتحدّث أوّلا عن مرض الشهوة  : وهو أن يتلذّذ العبد في إشباع رغباته فلا  يفرّق في ذلك بين حلال وحرام ، بل قلبه مريض بما في يد غيره ، لا يقنع بما عنده ولا يرضى بما قسّم ربّه . وهذا النوع تحدّث الحقّ تعالى عنهم وحذّر منهم فقال سبحانه  : (  يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَد مِنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ  )([379]) ، فهو مرض الزنا .

             ثانياً  : مرض الغيّ .

             فهو ضياع الفروض والأركان ، لعدم صدق الاعتقاد بأدائها ، والانصراف إلى اللهو واتّباع الشهوات ، وهذا النوع تحدّث الحقّ تعالى عنهم ، فقال  :

             (  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً  )([380]) .

             أي بغيّهم في الحياة أعدّ الله لهم وادياً في جهنّم سمّـاه وادي الغيّ ، لا يدخله إلاّ الغاوون . وقد تعجب حينما تعلم أنّ جهنّم نفسها تستعيذ منه كلّ يوم سبعين مرّة ، تشكوا إلى الله أن يخفّف عنها من شدّة حرّه .

             ثالثاً  : مرض الغلّ ، وهو الذي ينشأ منه الحسد والحقد .

             وهما الآفتان اللتان أبادتا الإنسانية ، وورثتا الكراهية والعداوة والبغضاء بين الاُمم . وقلب مريض بالغلّ لا يكون صاحبه مؤمناً أبداً ، لأنّ المؤمنين شرطهم أن ينزع الغلّ من قلوبهم ، فإذا نزع الغلّ من الصدور تتمّ الاُخوّة ، وعند هذه المرحلة بيّن الحقّ تعالى هذا النوع فقال  : (  وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَاناً عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ  )([381]) لأنّ الصدر المريض قلبه بالغلّ يتشعّب منه .

             وجميع أمراض القلب يمكن براؤها من كلّ داء إلاّ مرض الغلّ الذي يساوي  : ( حسد + حقد ) في المعادلة . لأنّ الحسد هو تمنّي زوال نعمة الغير . أمّا الحقد  : فهو استكثار النعمة على الغير ... والنعم بيد المنعم لا يملك زوالها إلاّ هو ، خالق كلّ شيء ، وهو على كلّ شيء وكيل . لذا يتعذّر شفاء ذلك القلب المغلول ، إلاّ إذا وقّر نور الإيمان فيه وانشرح الصدر به ، عندها إذا ينزع الغلّ وتسود المحبّة وتتمّ الاُخوّة .

             هذا بيان خلاصة أنواع مرض القلوب »([382]) .

             وقد تعرّض الأئمة الأطهار لمعالجة أمراض القلوب وذكر أسبابها ، نذكر منها ما يتلائم مع هذا المختصر .

             قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في نهجه  : إنّ من البلاء الفاقة ، وأشدّ من ذلك مرض البدن ، وأشدّ من ذلك مرض القلب ، وإنّ من النعم سعة المال ، وأفضل من ذلك صحّة البدن ، وأفضل من ذلك تقوى القلوب .

             وقال (عليه السلام)  : ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة ، لرجعو إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة والبصائر مدخولة .

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : إيّاكم والمراء والخصومة ، فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان ، وينبت عليهما النفاق .

             وقال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب .

             وقال (عليه السلام)  : شرّ ما اُلقي في القلب الغلول .

             وفي كتاب له لمالك الأشتر لمّـا ولاّه على مصر  : ولا تقولنّ  : إنّي مؤمَّر آمر فاُطاع ، فإنّ ذلك إدغال في القلب ومهلكة في الدين .

             قال الإمام الصادق (عليه السلام)  : ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتّى تغلب عليه ، فيصير أعلاه أسفله([383]) .

             فبمثل هذا العوامل والأسباب يمرض القلب ، ولا بدّ من مراجعة طبيب الروح وهو النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي كان طبيباً دوّاراً بطبّه ، ومن يحذو حذوه من أوصيائه (عليهم السلام) ، ومن العلماء الصلحاء الذين هم ورثة الأنبياء ، فهم أطباء الروح في المجتمع ، وقد جاء في وصفتهم الطبّية ما يشفي القلب .

             قال الله تعالى في محكم كتابه  :

             (  يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ  )([384]) .

             (  وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ  )([385]) .

             وجاء في صفة النبيّ الأكرم طبيب نفوسنا وشافع ذنوبنا محمّد (صلى الله عليه وآله)  : طبيب دوّار بطبّه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه ، يضع ذلك حيث الحاجة إليه ، من قلوب عُمي وآذان صُمّ ، وألسنة بُكم ، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة ... هكذا وصفه أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة([386]) .

             وقال (عليه السلام)  : اعلموا أ نّكم إن اتّبعتم طالع المشرق سلك بكم مناهج الرسول  (صلى الله عليه وآله) فتداويتم من العمى والصمم والبكم ...

             وقال (عليه السلام)  : إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم ، وبصر عمى أفئدتكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس أنفسكم ، وجلاء عشا أبصاركم([387]) .

             فالقلب يمرض كما يمرض الجسد ، وربما بعض الأمراض ـ  والعياذ بالله  ـ تؤدّي إلى الموت ومفارقة الحياة ، كذلك مرض القلب ربما ينتج موته لولا معالجته واستشفاءه .

             فمن سهام الموت عشق الدنيا ، فإنّ الحبّ المفرط كما يعمي ويصمّ ، فإنّه ربما ينتهي بصاحبه إلى الموت .

             قال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)  : من عشق شيئاً أعشى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع باُذن غير سميعة ، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه .

             وقال (عليه السلام)  : من قلّ ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار .

             وفي مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام)  : إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي ، وجلّلني التباعد منك لباس مسكنتي ، وأمات قلبي عظيم جنايتي ، فأحيِهِ بتوبة منك يا أملي وبُغيتي ...

             قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)  : إيّاك وكثرة الضحك ، فإنّه يميت القلب .

             وقال (صلى الله عليه وآله)  : ثلاث مجالستهم تميت القلب  : مجالسة الأنذال ، ومجالسة الأغنياء ، والحديث مع النساء .

             وقال  : اربعٌ مفسدة للقلوب  : الخلوة بالنساء ، والاستماع منهن والأخذ برأيهن ، ومجالسة الموتى ، فقيل له  : وما مجالسة الموتى  ؟   قال  : مجالسة كلّ ضالّ عن الإيمان وجائر في الأحكام .

             وقال  : أربعٌ يمتن القلب  : الذنب على الذنب ، وكثرة مناقشة النساء ـ  يعني محادثتهن  ـ ومماراة الأحمق ، تقول ويقول ولا يرجع إلى خير ، ومجالسة الموتى . فقيل  : يا رسول الله ، وما الموتى  ؟ قال  : كلّ غنيّ مترف .