« من طلب العلم لله لم يصب منه باباً إلاّ ازداد به في نفسه
ذلا ، وفي الناس تواضعاً ، ولله خوفاً ، وفي الدين اجتهاداً ،
وذلك الذي ينتفع بالعلم فليتعلّمه ، ومن طلب العلم للدنيا والمنزلة عند الناس
والحظوة عند السلطان ـ أي يتقرّب به إلى الدولة والحكومة ـ
لم يصب منه باباً إلاّ ازداد في نفسه عظمةً وعلى الناس استطاعةً وبالله اغتراراً ،
ومن الدين جفاءً ، فذلك الذي لا ينتفع بالعم فليكفّ وليمسك عن الحجّة على
نفسه ، والندامة والخزي يوم القيامة » .
« فمن أخذ العلم من أهله وعمل به نجا ، ومن أراد به
الدنيا فهو حظّه » .
و « من
ابتغى العلم ليخدع به الناس لم يجد ريح الجنّة » .
و « من
تعلّم العلم رياءً وسمعة يريد به الدنيا نزع الله بركته ، وضيّق عليه
معيشته ، ووكله الله إلى نفسه ، ومن وكله الله إليه نفسه فقد
هلك » .
« فمن تعلّم العلم لغير الله تعالى فليتبوّأ مقعده من
نار » .
و « من
طلب العلم لغير العمل فهو كالمستهزئ بربّه عزّ وجلّ » .
« أوحى الله إلى بعض أنبيائه : قل للذين يتفقّهون
لغير الدين ، ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا لغير الآخرة ،
يلبسون للناس مسوك الكبائش وقلوبهم كقلوب الذئاب ، ألسنتهم أحلى من العسل
وأعمالهم أمرّ من الصبر : إيّاي يخادعون ؟ !
ولاُتيحنّ لكم فتنة تذر الحكيم حيراناً » .
فإنّه
سبحانه يبتليه ببلاء صعب يتحيّر منه اُولي الألباب .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« خذوا من العلم ما بدا لكم ، وإيّاكم أن تطلبوه لخصال
أربع : لتباهوا به العلماء ، أو تماروا به السفهاء ، أو
تراؤوا به في المجالس ، أو تصرفوا وجوه الناس إليكم للترؤّس » .
فمن الناس
من يطلب العلم بأمل الرئاسة على الناس ، فلا بدّ أن يهذّب نفسه من اليوم
الأوّل بأن يطلب العلم لله وللعمل لا رياءً وسمعةً وحبّاً للرئاسة .
« ومن طلب العلم لأربع دخل النار : ليباهي به
العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو ليصرف به وجوه الناس إليه ، أو
يأخذ به من الاُمراء » .
أ يّها
الأحبّة والأعزّاء ، يا إخوان الصفا وأخلاّء الوفا ، إنّ طلبة العلم
أصناف ، فلينظر طالب العلم إلى نفسه وطلبه للعلم حتّى يعرف أ نّه من أيّ
صنف هو ؟
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« طلبة العلم على ثلاثة أصناف ، ألا فاعرفهم بصفاتهم
وأعيانهم : صنف منهم يتعلّمون للمراء والجدل
( الجهل ) ، تراه مؤذياً ممارياً للرجال في أندية المقال ، قد
تسربل بالتخشّع ، وتخلّى من الورع ، فدقّ الله من هذا خيزومه وقطع منه
خيشومه ، وأمّا صاحب الاستطالة والختل فإنّه يستطيل على أشباهه من أشكاله
ويتواضع للأغنياء من دونهم ، فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم ، فأعمى
الله من هذا بصره ، وقطع من آثار العلماء أثره ، وأمّا صاحب الفقه
والعمل تراه ذا كآبة وحزن ، قد قام الليل في حندسه وقد انحنى في
بُرنسه ، يعمل ويخشى ، خائفاً وجلا من كلّ أحد إلاّ من كلّ ثقة من
إخوانه ، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه » .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) :
« العلماء ثلاثة : رجل عاش به الناس وعاش
بعلمه ، ورجل عاش به الناس وأهلك نفسه ـ إذ لم يعمل
بعلمه ـ ورجل عاش بعلمه ولم يعش به أحد غيره ـ فلم يعلّم
الناس من علمه ـ » .
اختيار
المعلّم الصالح :
ثمّ لا بدّ
في طلب العلم من اختيار المعلّم الصالح والاُستاذ النافع ، فإذا رأيتم العالم
مقبلا على دنياه يدخل في زمرة السلاطين وعلى موائد الأغنياء فاتّهموه في
دينه ، فلا يؤخذ منه الفقه والدين ، وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه
السلام)في
قوله تعالى : ( فَـلْيَـنْظُرِ الإنسَانُ
إلَى طَعَامِهِ )([27]) ;
قال : « فلينظر إلى علمه الذي يأخذه ممّن يأخذه » .
« فلا تتعلّم العلم ممّن لم ينتفع به ، فإنّ من لم ينفعه
علمه لا ينفعك » .
« فلا علم إلاّ من عالم ربّاني ، ومعرفة العلم
بالعقل » .
فمن آثاره
وصُنعه وأعماله تعرف علمه وعمله .
« وعجباً لمن يتفكّر في مأكوله كيف لا يتفكّر في
معقوله ، فيجنّب بطنه ما يؤذيه ، ويودع صدره ما يزكّيه » .
« فتعلّم علم من يعلم ، وعلّم علمك من
يجهل » .
حقوق العلم
وحدوده :
ولا يخفى
أنّ للعلم حدوداً وحقوقاً ، لا بدّ من مراعاتها حتّى يتمّ المطلوب ونصل إلى
المراد والمقصود ، فإنّه لمّا سئل رسول الله عن العلم ؟
قال : الإنصات ، قال : ثمّ مه ؟
قال : الاستماع له ، قال : ثمّ مه ؟
قال : الحفظ له ، قال : ثمّ مه ؟
قال : العمل به ، قال : ثمّ مه ؟
قال : ثمّ نشره .
وقال أمير
المؤمنين (عليه
السلام) :
تواضعوا لمن تتعلّمون منه العلم ولمن تعلّمونه ، ولا تكونوا من جبابرة
العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم .
وقال
الإمام الصادق (عليه
السلام) :
تواضعوا لمن تعلّمونه العلم ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، ولا
تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقّكم .
وقال (عليه
السلام)في قوله تعالى : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ
لِلنَّاسِ )([28]) :
« ليكن الناس عندك في العلم سواء » .
فالتواضع
من الاُصول الأساسية في طلب العلم عالماً أو متعلّماً .
وعن الإمام
زين العابدين (عليه
السلام)في رسالة الحقوق المرويّة عنه في حقوق المتعلّم على المعلّم قال :
« أمّا حقّ رعيّتك بالعلم : فأن تعلم أنّ الله عزّ
وجلّ إنّما جعلك قيّماً لهم فيما آتاك من العلم ، وفتح لك من خزائنه ،
فإذا أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله ،
وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم كان حقّاً على الله عزّ وجلّ
أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلّك » .
وأمّا في
حقوق المعلّم على المتعلّم ، فقال :
« حقّ سائسك بالعلم : التعظيم له ، والتوقير
لمجلسه ، وحسن الاسمتاع إليه ، والإقبال عليه ، وأن لا ترفع عليه
صوتك ، وأن لا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو يجيب ، ولا تحدّث
في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك
بسوء ، وأن تستر عيوبه به ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له
عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذاك شهد لك ملائكة الله
بأ نّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للناس » .
قال الإمام
الباقر (عليه
السلام) :
« إذا جلست إلى عالم فكن على أنّ تسمع أحرص منك على أن
تقول ، وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن القول ، ولا تقطع على أحد
حديثه » .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« من حقّ العالم عليك أن تسلّم على القوم عامّة وتخصّه دونهم
بالتحيّة ، وأن تجلس أمامه ، ولا تشيرنّ عنده بيدك ، ولا تغمزن
بعينيك ، ولا تقولن ( قال فلان ) خلافاً لقوله ، ولا تغتابنّ
عنده أحداً ، ولا تسارّ في مجلسه ، ولا تأخذ بثوبه ، ولا تلحّ عليه
إذا أملّ ، ولا تعرض من طول صحبته ، فإنّما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى
يسقط عليك منها شيء ، فإنّ المؤمن العالم لأعظم أجراً من الصائم القائم
الغازي في سبيل الله ، فإذا مات العالم انثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء
إلى يوم القيامة » .
و « ليس
من أخلاق المؤمن التملّق ولا الحسد إلاّ في طلب العلم » .
و « إذا
رأيت عالماً فكن له خادماً » .
« فمن وقّر عالماً فقد وقّر ربّه » .
و « من
استقبل العلماء فقد استقبل رسول الله ، ومن زارهم فقد زاره ، ومن جالسهم
فقد جالسه ، ومن جالس رسول الله فكأ نّه جالس الله سبحانه » .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) :
« من علّم شخصاً مسألةً فقد ملك رقبته ، فقيل
له : يا رسول الله ، أيبيعه ؟ فقال : لا
ولكن يأمره وينهاه » .
وهذا من
قولهم : ( من علّمني حرفاً فقد صيّرني عبداً ) .
فينبغي :
« عل المتعلّم أن يدأب نفسه في طلب العلم ، ولا يملّ من
تعلّمه ولا يستكثر ما علم » .
« ولا يحرز العلم إلاّ من يطيل درسه » .
و « من
أكثر الفكر فيما تعلّم أتقن علمه ، وفهم ما لم يكن يفهم » .
« فلا فقه لمن لا يديم الدرس » .
« فاطلب العلم تزدد علماً » .
و « تفرّغ
للعلم إن كنت تريده ، فإنّ العلم لمن تفرّغ » .
« فلا تسأم من طلب العلم طول عمرك » .
وإليكم هذا
الحديث الجامع في طلب العلم :
العلاّمة
المجلسي بسنده عن عنوان البصري ـ وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع
وتسعون سنة ـ قال : كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين ،
فلمّا قدم جعفر الصادق المدينة اختلفت إليه ، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن
مالك ، فقال لي يوماً : إنّي رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كلّ
ساعة من آناء الليل والنهار ، فلا تشغلني عن وردي ، وخذ عن مالك واختلف
إليه كما كنت تختلف إليه ، فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده وقلت في
نفسي : لو تفرّس فيّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ
عنه ، فدخلت مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّمت عليه ثمّ رجعت
من الغد إلى الروضة وصلّيت فيها ركعتين وقلت : أسألك الله يا الله أن
تعطف عليّ قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم ، ورجعت
إلى داري مغتمّاً ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما اُشرب قلبي من حبّ جعفر ،
فما خرجت من داري إلاّ إلى الصلاة المكتوبة حتّى عيل صبري ، فلمّا ضاق صدري
تنعّلت وتردّيت وقصدت جعفراً وكان بعدما صلّيت العصر ، فلمّا حضرت باب داره
واستأذنت عليه فخرج خادم له فقال : ما حاجتك ؟
فقلت : السلام على الشريف ، فقال : هو قائم في
مصلاّه ، فجلست بحذاء بابه ، فما لبثت إلاّ يسيراً إذ خرج خادم
فقال : ادخل على بركة الله ، فدخلت وسلّمت عليه ، فردّ
السلام وقال : إجلس غفر الله لك ، فجلست ، فأطرق مليّاً ثمّ
رفع رأسه ، وقال : أبو من ؟ قلت : أبو عبد
الله . قال : ثبّت الله كنيتك ووفّقك يا أبا عبد الله ، ما
مسألتك ؟ فقلت في نفسي : لو لم يكن لي من زيارته والتسليم
غير هذا الدعاء لكان كثيراً ، ثمّ رفع رأسه ثمّ قال : ما
مسألتك ؟ فقلت : سألت الله أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من
علمك وأرجو أنّ الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته ، فقال : يا
أبا عبد الله ليس العلم بالتعلّم ، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله
تعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبوديّة ،
واطلب العلم باستعماله ، واستفهم الله يفهمك ، فقلت : يا
شريف ، فقال : قل يا أبا عبد الله ، قلت : يا أبا
عبد الله ، ما حقيقة العبوديّة ؟ قال : ثلاثة
أشياء : أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكاً ، لأنّ
العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله
به ، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً ، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى
ونهاه عنه ، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكاً هان عليه الإنفاق
فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه على مدبّره
هان عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا
يتفرّغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس ، فإذا أكرم الله العبد بهذه
الثلاثة هان عليه الدنيا وإبليس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثراً
وتفاخراً ، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً ، ولا يدع أيامه
باطلا ، فهذا أوّل درجة التقى ، قال الله تبارك وتعالى : ( تِلْكَ
الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ
وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُـتَّقِينَ )([29]) ،
قلت : يا أبا عبد الله أوصني ، قال : اُوصيك بتسعة
أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفّقك
لاستعماله ، ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ،
وثلاثة منها في العلم ، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها . قال
عنوان : ففرّغت قلبي له .
فقال :
أمّا
اللواتي في الرياضة :
ــ فإيّاك
أن تأكل ما لا تشتهيه ، فإنّه يورث الحماقة والبله .
ــ ولا
تأكل إلاّ عند الجوع .
ــ وإذا
أكلت فكل حلالا وسمّ الله واذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) :
ما ملأ آدمي وعاءً شرّاً من بطنه ، فإذا كان ولا بدّ فثلث لطعامه وثلث لشرابه
وثلث لنفسه .
وأمّا
اللواتي في الحلم :
ــ فمن قال
لك : إن قلت واحدةً سمعت عشراً ، فقل : إن قلت عشراً
لم تسمع واحدة .
ــ ومن
شتمك فقل له : إن كنت صادقاً فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي ،
وإن كنت كاذباً فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك .
ــ ومن
وعدك بالخِنى ـ الفحش في الكلام ـ فعده بالنصيحة
والدعاء .
وأمّا
اللواتي في العلم :
ــ فاسأل
العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة .
ــ وإيّاك
أن تعمل برأيك شيئاً ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا .
ــ واهرب
من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً .
قم عنّي يا
أبا عبد الله فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي ، فإنّي امرؤٌ ضنين
بنفسي ، والسلام على من اتّبع الهدى([30]) .
وآخر
دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
بسم الله الرحمن
الرحيم
فضيلة العلم والعلماء
القسم الثاني
الحمد لله
ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله .
لا يخفى
على ذوي النهى أنّ الإسلام بمصدره الغني في علومه ومعارفه ـ القرآن
الكريم والسنّة الشريفة ـ ليحثّ معتنقيه حثيثاً بالغاً على طلب العلم
النافع والعمل الصالح ويامر بذلك ، وإنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا
وعملوا الصالحات .
وأساس
الإيمان العلم ، وإنّه النور الذي يسعى بين يدي المؤمن في حياته الدنيوية
والاُخرويّة ، وما أكثر النصوص الدينية من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة
الصادرة عن النبيّ المصطفى محمّد (صلى الله عليه وآله) وعن أهل بيته وعترته
الأطهار الأئمة الأبرار (عليهم السلام) التي تذكر فضائل
العلم والعلماء ، وإنّ السعادة الأبدية تتبلور في حمل العلم الإلهي المقارن
بالنوايا الصادقة والأعمال الصالحة .
وقد ذكرنا
جملة منها في القسم الأوّل وكان المحور الأساس هو فضيلة العلم وبركاته وآثاره في
الدنيا والآخرة ، وشمّة من آدابه ولوازمه .
والمقصود
من هذا القسم بيان جوانب اُخرى من مكارمه ومعالمه ، ليزداد طالب العلم بصيرةً
وشوقاً وعشقاً وهمّةً عالية وصبراً وحلماً في طلبه وتحمّله ، فإنّ العلم إذا
أعطيته كلّك أعطاك بعضه . ومن طلب العُلى سهر الليالي ، لا سيّما في
أيام الشباب ، فإنّ من أتعب نفسه في شبابه استراح في شيبته ، وتعرف
أواخر الأشياء بأوائلها ، فمن كان في بدايته مستقيماً وخالصاً يتعلّم لله
ويعمل لله ويعلّم لله ، سيكون على خير في عاقبة الاُمور ، فما كان لله
ينمو ، وما عند الله فهو الباق .
« فاغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ،
وحياتك قبل مماتك ، وصحّتك قبل مرضك ، وفراغك قبل
شغلك ... » .
شموخ مقام
العلماء :
هذا وقد
بيّن القرآن الكريم والرسول الأعظم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) عظمة
العلم وشموخ مقام العلماء .
قال الإمام
الصادق (عليه
السلام) :
« علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس
وعفاريته ، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا ، وعن أن يتسلّط عليهم
إبليس وشيعته » .
« فالعلماء اُمناء والأتقياء حصون والأوصياء
سادة » .
« العلماء قادة » .
و « الملوك
حكّام على الناس والعلماء حكّام على الملوك » .
« العلماء حكّام على الناس » .
يقول
الإمام الهادي (عليه
السلام) :
« لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عليه السلام) من
العلماء الداعين إليه ، والدالّين عليه ، والذّابّين عن دينه بحجج
الله ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ، ومن فخاخ
النواصب ، لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله » .
« فالعلماء أطهر الناس أخلاقاً ، وأقلّهم في المطامع
أعراقاً » .
« فهم اُمناء الله على خلقه » .
« العلم وديعة الله في أرضه ، والعلماء اُمناؤه
عليه ، فمن عمل بعلمه أدّى أمانته ، ومن لم يعمل بعلمه كتب فى ديوان
الخائنين » .
« فالعلماء اُمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان » .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) :
« فضل العالم على غيره كفضل النبيّ على اُمّته » .
و « العالم
يعرف الجاهل لأ نّه كان قبلُ جاهلا ، والجاهل لا يعرف العالم
لأ نّه لم يكن قبلُ عالماً » .
و « إنّه
ينظر بقلبه وخاطره ، والجاهل ينظر بعينه وناظره » .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« إنّما العالم من دعاه علمه إلى الورع والتقى ، والزهد
في عالم الفناء ، والتولّه بجنّة المأوى » .
« فلا يكون العالم عالماً حتّى لا يحسد من فوقه ، ولا
يحتقر من دونه ، ولا يأخذ على علمه شيئاً من حُطام الدنيا » .
و « لا
يعظ إلاّ من يقبل عظته ، ولا ينصح معجباً برأيه ، ولا يخبر بما يخاف
إذاعته » .
« ألا اُنبّئكم بالعالم كلّ العالم ؟ من لم يزيّن
لعباد الله معاصي الله ، ولم يؤمّنهم مكر الله ، ولم يؤيّسهم من
رَوحه » .
و « للعالم
ثلاث علامات : العلم والحلم والصمت » .
و « العالم
من عرف قدره ، وكفى بالمرء جهلا ألاّ يعرف قدره » .
« فالعالم الذي لا يملّ من تعلّم العلم » .
و « من
قال : أنا عالم ، فهو جاهل » .
« فلا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكّاً ، إذا
علمتم فاعملوا ، وإذا تيقّنتم فأقدموا » .
« فإنّ ثمرة العلم العمل به ، وإخلاص العمل
والعبادة » .
ثمرات
العلم :
ومن ثمراته :
« التقوى واجتناب الهوى واتّباع الحقّ ومجانبة الذنوب ومودّة
الإخوان والاستماع من العلماء والقبول منهم ، ترك الانتقام عند القدرة ،
واستقباح مقاربة الباطل ، واستحسان متابعة الحقّ ، وقول الصدق والتجافي
عن سرور في غفلة ، وعن فعل ما يعقّب ندامة ، والعلم يزيد العاقل
عقلا ، ويورث متعلّمه صفات حمد ، فيجعل الحليم أميراً ، وذا
المشورة وزيراً ، ويقمع الحرص ويخلع المكر ، ويميت البخل ، ويجعل
مطلق الفحش مأسوراً ـ أي كلّ مصاديق الأعمال والأقوال الفاحشة يجعلها
أسيرةً لعقله وعلمه ـ ويعيد السدّاد قريباً » .
فالعلم
النافع المقرون بالعمل يورث الخشية والخوف من الله سبحانه :
( إنَّ الَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ
إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ
سُبْحَانَ رَبِّـنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّـنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ
لِلأذْقَانِ يَـبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً )([31]) .
« فالخشية ميراث العلم ، والعلم شعاع المعرفة وقلب
الإيمان ، ومن حُرم الخشية لا يكون عالماً وإن شقّ الشعر بمتشابهات
العلم » .
قال الله
تعالى :
( إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ
العُلَمَاءُ )([32]) .
« ويعني بالعلماء من صدّق فعله قوله ، ومن لم يصدّق فعله
قوله فليس بعالم » .
« فأعلم الناس بالله أخوفهم لله ، وأخوفهم له أعلمهم
به ، وأعلمهم به أزهدهم في الدنيا » .
فمن ثمرة
العلم وعلائمه الزهد في هذه الدنيا بأن لا تملكه الدنيا ولا يفرح بما هو آت ولا
يحزن على ما فات ويغتنم الساعة التي هو فيها ، كما ورد جمع الزهد كلّه في
قوله تعالى :
( لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا
تَـفْرَحُوا بِمَا آ تَاكُمْ )([33]) .
و « من
اُوتي من العلم ما لا يبكيه لحقيقٌ أن يكون قد اُوتي علماً لا ينفعه ، لأنّ
الله نعت العلماء فقال عزّ وجلّ ( إنَّ الَّذِينَ اُوتُوا
العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّداً
* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّـنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّـنَا لَمَفْعُولا *
وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَـبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً )([34]) » .
« فمن خشي الله كمل علمه » .
« أعلمكم أخوفكم » .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) :
« لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا ولخرجتم إلى
الصُّعُدات تجأرون إلى الله لا تدرون تنجون أو لا تنجون » .
أجل :
للعلم النافع علامات وشعب وأشعّة نورانية تضيء العالم وتضفي عليه وعلى حامله
جمالا ، ويحضى بالبركات والخيرات الفردية والاجتماعية .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) :
« أمّا العلم فيتشعّب منه الغنى وإن كان فقيراً ، والجود
وإن كان بخيلا ، والمهابة وإن كان هيّناً ، والسلامة وإن كان
سقيماً ، والقرب وإن كان قصيّاً ، والحياء وإن كان صلفاً ، والرفعة
وإن كان وضيعاً ، والشرف وإن كان رَذلا ، والحكمة والحظوة ، فهذا
ما يتشعّب للعاقل بعلمه » .
العلم
مقرون بالعمل :
نعم ،
إنّ مقام العلم لمقام عظيم وشامخ في الدنيا والآخرة ، إلاّ أ نّه بشرطها
وشروطها ، وأوّل شرط هو العمل بالعلم ، فإنّ :
« العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ، ولا
يزيده سرعة السير من الطريق إلاّ بعداً » .
و « من
عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » .
و « المتعبّد
بغير فقه كالحمار في الطاحون يدور ولا يبرح » .
و « مثل
العابد الذي لا يتفقّه كمثل الذي يبني بالليل ويهدم بالنهار » .
بل قال
أمير المؤمنين (عليه
السلام) :
« قصم ظهري اثنان عالم متهتّك لا يعمل بعلمه وجاهل متنسّك
يعبد من غير علم » .
« فالعلم مقرون إلى العمل ، فمن علم عمل ، ومن عمل
علم ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ ارتحل » .
« فيا حملة القرآن اعملوا به ، فإنّ العالم من علم ثمّ
عمل بما علم ووافق عمله علمه » .
« فليس بنافعك أن تعلم ما لم تعمل ، إنّ كثرة العلم لا
يزيدك إلاّ جهلا إذا لم تعمل به » .
« فما علم من لم يعمل بعلمه » .
و « ما
زكا العلم بمثل العمل به » .
« فالعلم رشد لمن عمل به » .
« وما أكثر من يعلم العلم ولا يتّبعه » .
« فالعلم الذي لا يصلحك ضلال ، كما أنّ المال الذي لا
ينفعك وبال » .
و « من
لم يتعاهد علمه في الخلأ ـ أي لا يراعي علمه في الخلوات ـ
فضحه في الملأ ، فإنّه يفتضح بعلمه ويكون عليه نقمة ولا خير في علم لا
ينفع » .
كان الرسول
الأعظم يتعوّذ بالله من علم لا ينفع ، وهو العلم الذي يضادّ العمل
بالإخلاص :
« فالعلم الذي لا يعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه ،
أتعب صاحبه نفسه في جمعه ، ولم يصل إلى نفعه » .
و « ربّ
عالم قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه » .
« فعلم لا ينفع كدواء لا ينجع » .
ويصف أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام)زمانه بقوله :
« أ يّها الناس إنّا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن كنود
( شديد ) يُعدّ فيه المحسن مسيئاً ، ويزداد الظالم فيه
عتوّاً ، لا ننتفع بما علمنا ، ولا نسأل عمّا جهلنا » .
سيّدي
ومولاي ، إذا كان زمانك هكذا فكيف بعصرنا الراهن .
و « الدنيا
كلّها جهل إلاّ مواضع العلم والعلم كلّه حجّة إلاّ ما عمل به » .
« قال رجل : يا رسول الله ، ما ينفي عنه حجّة
الجهل ؟ قال : العلم ، قال : فما ينفي عنّي
حجّة العلم ؟ ـ أي كيف أتخلّص من حجّة العلم فإنّ الله
يحتجّ عليّ بعلمي ـ فقال : العمل » .
و « إنّ
العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله ، بل الحجّة
عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألوم » .
و « كلّ
علم وبال على صاحبه يوم القيامة إلاّ من عمل به » .
« فالعلم بلا عمل ضلال » .
والعالم
غير العامل فتنة للناس .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« إيّاكم والجهّال من المتعبّدين ، والفجّار من
العلماء ، فإنّهم فتنة كلّ مفتون ، قطع ظهري رجلان من
الدنيا : رجل عليم اللسان فاسق ، ورجل جاهل القلب ناسك ، هذا
يصدّ بلسانه عن فسقه ، وهذا بنسكه عن جهله ، فاتّقوا الفاسق من
العلماء ، والجاهل من المتعبّدين ، اُولئك فتنة كلّ مفتون ، فإنّي
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : يا
عليّ ، هلاك اُمّتي على يدي كلّ منافق عليم اللسان » .
« فالجاهل يغشّ الناس بتنسّكه ، والعالم ينفّرهم
بتهتّكه » .
« فتناصحوا في العلم ـ أي ينصح بعضكم
بعضاً ـ فإنّ خيانة أحدكم في علمه أشدّ من خيانته في ماله ، وإنّ
الله سائلكم يوم القيامة » .
تأديب
النفس بالعلم :
وينبغي
للعالم في مقام الوعظ والإرشاد والنصيحة والتعليم أن يبدأ بنفسه أوّلا ، فإنّ
الكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب ، وإذا خرج من اللسان ، فإنّه لم
يتجاوز الآذان .
قال أمير
المؤمنين عليّ (عليه
السلام) :
« من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل
تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلّم نفسه
ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم » .
و « على
العالم أن يعمل بما علم ، ثمّ يطلب تعلّم ما لم يعلم » .
و « إنّكم
إلى العمل بما علمتم أحوج منكم إلى تعلّم ما لم تكونوا تعلمون » .
و « على
العالم إذا علّم أن لا يعنف ـ أي يستعمل العنف مع المتعلّمين من الناس
أو التلامذة ـ وإذا عُلّم أن لا يأنف ـ ممّن ذكّره بشيء لا
يستنكف من ذلك ـ » .
قال رسول
الله (صلى
الله عليه وآله) :
« ينبغي للعالم أن يكون قليل الضحك ، كثير البكاء ،
لا يمازح ولا يصاخب ولا يماري ولا يجادل ، إن تكلّم تكلّم بحقّ ، وإن
صمت صمت عن الباطل ، وإن دخل دخل برفق ، وإن خرج خرج بحلم » .
« فاعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية ، لا عقل
رواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل » .
و « تعلّموا
ما شئتم أن تعلّموا ، فلن ينفعكم الله بالعلم حتّى تعملوا به ، لأنّ
العلماء همّتهم الرعاية والسفهاء همّتهم الرواية » .
« فكونوا للعلم وعاةً ولا تكونوا رواةً » .
« فإنّ همّة العلماء الوعاية ، وهمّة السفهاء
الرواية » .
و « علم
المنافق في لسانه ، وعلم المؤمن في عمله » .
« فتعلّم ما تعلّم لتعمل به ، ولا تعلّمه لتحدّث
به ، فيكون عليك بوره ، ويكون على غيرك نوره » .
و « إنّ
أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة الذين وصفوا العدل ثمّ خالفوه ، وهو قول الله
تعالى : ( أنْ تَـقُولَ نَـفْسٌ يَا
حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ )([35]) » .
وهل هذا
إلاّ من الجهل ، ولا بدّ من طرده ورفعه بكلّ ما اُوتي الإنسان من قوّة
ومثابرة .