هذا ، ويا حبّذا أن تتحلّى هذه الرسالة المختصرة بما قاله آية الحقّ الشهيد الثاني (قدس سره) في كتابه القيّم ( منية المريد في أدب المفيد والمستفيد ) ، حينما يذكر آداب المعلّم والمتعلّم في أنفسهما ، وذلك في القسم الأوّل ، وفي الثاني : آدابهما في درسهما ، وهي اُمور :
فيقول :
الأوّل : أن لا يزال كلّ منهما مجتهداً في الاشتغال قراءةً ومطالعةً وتعليقاً ومباحثةً ومذاكرةً وفكراً وحفظاً وإقراءً[1] وغيرها ، وأن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبه ورأس ماله ، فلا يشتغل بغيره من الاُمور الدنيويّة مع الإمكان ، وبدونه يقتصر منه على قدر الضرورة . وليكن بعد قضاء وظيفته من العلم بحسب أوراده ، ومن هنا قيل : أعطِ العلم كُلَّك يُعطِك بعضه[2].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنّ الله عزّ وجلّ يقول : تذاكُر العلم بين عبادي ممّـا تحيا عليه القلوب الميّتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري[3].
وعن الباقر (عليه السلام) :
رحِمَ الله عبداً أحيا العلم . فقيل : وما إحياؤه ؟ قال : أن يذاكَر به أهل الدين والورع[4].
وعنه (عليه السلام) :
تذاكُر العلم دراسه ، والدراسة صلاة حسنة[5].
الثاني : أن لا يسأل أحداً تعنّتاً وتعجيزاً ، بل سؤال متعلّم لله أو معلّم له منبِّه على الخير ، قاصد للإرشاد أو الاسترشاد ، فهناك تظهر زبدة التعليم والتعلّم وتثمر شجرته.
فأمّا إذا قَصَد مجرّد المراء والجدل ، وأحبّ ظهور الفلَج والغلبة فإنّ ذلك يثمر في النفس ملَكَةً رديَّةً وسجيّةً خبيثة ، ومع ذلك يستوجب المقت من الله تعالى . وفيه مع ذلك عدّة معاصي : كإيذاء المخاطب وتجهيل له وطعن فيه ، وثناء على النفس وتزكية لها ، وهذه كلّها ذنوب مؤكّدة ، وعيوب منهيٌّ عنها في محالِّها من السنّة المطهّرة ، وهو مع ذلك مشوِّش للعيش ، فإنّك لا تماري سفيهاً إلاّ ويؤذيك ، ولا حليماً إلاّ ويقليك.
وقد أكّد الله سبحانه على لسان نبيّه وأئمّته (عليهم السلام) تحريم المِراء ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
لا تمارِ أخاك ولا تمازحه ، ولا تَعِده موعداً فتُخلِفه.
وقال (صلى الله عليه وآله) :
ذروا المراء ، فإنّه لا تُفهم حكمته ، ولا تُؤمن فتنته.
وقال (صلى الله عليه وآله) :
من ترك المراء وهو محقٌّ بُني له بيت في أعلى الجنّة ، ومن ترك المِراء وهو مبطلٌ بُني له بيتٌ في رَبَض الجنّة.
وعن اُمّ سلمة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
إنّ أوّل ما عَهِد إليَّ ربِّي ، ونهاني عنه ـ بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ـ ملاحاة الرجال.
وقال (صلى الله عليه وآله) :
ما ضلّ قومٌ ] بعد أن هداهم الله [ إلاّ اُوتوا الجَدَل.
وقال (صلى الله عليه وآله) :
لا يستكمل عبدٌ حقيقة الإيمان حتّى يدع المراء وإن كان محقّاً.
وقال الصادق (عليه السلام) :
المِراء داءٌ دويّ ، وليس في الإنسان خصلةٌ شرٌّ منه ، وهو خُلق إبليس ونسبته ، فلا يماري في أيّ حال كان إلاّ مَن كان جاهلا بنفسه وبغيره ، محروماً من حقائق الدين.
وروي أنّ رجلا قال للحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) : إجلس حتّى نتناظر في الدين . فقال :
يا هذا ، أنا بصير بديني مكشوفٌ عليَّ هُداي ، فإن كنت جاهلا بدينك فاذهب فاطلبه ، ما لي وللمماراة ؟ وإنّ الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول : ناظِر الناس لئلاّ يظنّوا بك العجز والجهل . ثمّ المراء لا يخلو من أربعة أوجه : إمّا أن تتمارى أنت وصاحبك فيما تعلمان ، فقد تركتما بذلك النصيحة ، وطلبتما الفضيحة ، وأضعتما ذلك العلم ; أو تجهلانه ، فأظهرتما جهلا وخاصمتما جهلا ; وإمّا تعلمه أنت فظلمت صاحبك بطلب عثرته ; أو يعلمه صاحبك فتركت حرمته ، ولم تُنزله منزلته . وهذا كلّه محال ، فمن أنصف وقَبِل الحقّ وترك المماراة ، فقد أوثق إيمانه وأحسن صُحبة دينه وصان عقله[6].
هذا كلّه[7] من كلام الصادق (عليه السلام).
واعلم أنّ حقيقة المراء الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه لفظاً أو معنىً أو قصداً لغير غرض ديني أمر الله به ، وترك المراء يحصل بترك الإنكار والاعتراض بكلّ كلام يسمعه ، فإن كان حقّاً وجب التصديق به بالقلب وإظهار صدقه حيث يطلب منه ، وإن كان باطلا ولم يكن متعلّقاً باُمور الدين ، فاسكت عنه ما لم يتمحّض النهي عن المنكر بشروطه.
والطعن في كلام الغير إمّا في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو اللغة أو جهة النظم والترتيب بسبب قصور المعرفة أو طغيان اللسان ; وإمّا في المعنى بأن يقول : ليس كما تقول ، وقد أخطأت فيه لكذا وكذا ; وإمّا في قصده مثل أن يقول : هذا الكلام حقّ ولكن ليس قصدك منه الحقّ ، وما يجري مجراه.
وعلامة فساد مقصد المتكلّم تتحقّق بكراهة ظهور الحقّ على يد غير يده ليتبيّن فضله ومعرفته للمسألة ; والباعث عليه الترفّع بإظهار الفضل والتهجّم على الغير بإظهار نقصه ، وهما شهوتان رديّتان للنفس : أمّا إظهار الفضل فهو تزكية للنفس ، وهو من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلوّ والكبرياء ، وقد نهى الله تعالى عنه في محكم كتابه ، فقال سبحانه : ( فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ )[8] ; وأمّا تنقيص الآخر فهو مقتضى طبع السبعيّة ، فإنّه يقتضي أن يمزق غيره ويصدمه ويؤذيه ، وهي مُهلكة.
والمراء والجدال مقوّيان لهذه الصفات المهلكة ، ولا تنفكّ المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حقٍّ أو باطل ، ويقدح في قائله بكلّ ما يتصوّر ، فيثور التشاجر بين المتماريَين ، كما يثور التهارش بين الكلبين ، يقصد كلّ منهما أن يعضّ صاحبه بما هو أعظم نكايةً وأقوى في إفحامه وإنكائه.
وعلاج ذلك أن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله والسبعيّة الباعثة له على تنقيص غيره ، بالأدوية النافعة في علاج الكِبر والغضب من كتابنا المتقدّم ذكره في أسرار معالم الدين[9] أو غيره من الكتب المؤلّفة في ذلك.
ولا ينبغي أن يخدعك الشيطان ، ويقول لك : أظهر الحقّ ولا تداهن فيه . فإنّه أبداً يستجرّ الحمقى إلى الشرّ في معرض الخير ، فلا تكن ضُحكة الشيطان يسخر بك . فإظهار الحقّ حسن مع من يقبل منه ، إذا وقع على وجه الإخلاص ، وذلك من طريق النصيحة بالتي هي أحسن لا بطريق المماراة.
وللنصيحة صفة وهيأة ، ويُحتاج فيها إلى التلطّف ، وإلاّ صارت فضيحة ، فكان فسادها أعظم من صلاحها.
ومن خالط متفقّهة هذا الزمان ، والمتّسمين بالعلم غلب على طبعه المراء والجدال ، وعسر عليه الصمت إذا ألقى عليه قرناء السوء أنّ ذلك هو الفضل . ففِرَّ منهم فرارك من الأسد.
الثالث : أن لا يستنكف من التعلّم والاستفادة ممّن هو دونه في منصب أو سنّ أو شهرة أو دين أو في علم آخر ، بل يستفيد ممّن يمكن الاستفادة منه ، لا يمنعه ارتفاع منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه ، فتخسر صفقته ويقلّ علمه ويستحقّ المقت من الله تعالى ، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
الحكمة ضالّة المؤمن ، فحيث وجدها فهو أحقّ بها[10].
وقال سعيد بن جبير (رحمه الله) : لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم ، فإذا ترك التعلّم وظنّ أ نّه قد استغنى واكتفى بما عنده ، فهو أجهل ما يكون.
وأنشد بعضهم في ذلك :
وليس العمى طول السؤال وإنّما *** تمام العمى طول السكوت على الجهل
ومن هذا الباب أن يترك السؤال استحياءً ، ومن هنا قيل : من استحيا من المسألة لم يستحي الجهل منه.
وقيل أيضاً : من رقّ وجهه رقّ علمه[11].
وقيل أيضاً : لا يتعلّم العلم مستحي ولا مستكبر.
وروى زرارة ومحمّد بن مسلم وبُريد العِجلي ، قالوا : قال أبو عبد الله (عليه السلام) :
إنّما يهلك الناس ، لأ نّهم لا يسألون[12].
وعنه (عليه السلام) :
إنّ هذا العلم عليه قُفل ، ومفتاحه المسألة[13].
الرابع : وهو من أهمّها ، الانقياد للحقّ بالرجوع عند الهفوة ، ولو ظهر على يد من هو أصغر منه ، فإنّه مع وجوبه من بركة العلم ، والإصرار على تركه كبر مذموم عند الله تعالى ، موجب للطرد والبُعد ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة من كِبر . فقال بعض أصحابه : هلكنا يا رسول الله ! إنّ أحدنا يحبّ أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً . فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : ليس هذا الكِبر ، إنّما الكِبر بطَر الحقّ وغمص الناس[14].
والمراد ببطر الحقّ ردّه على قائله ، وعدم الاعتراف به بعد ظهوره ، وذلك أعمّ من ظهوره على يدي الصغير والكبير والجليل والحقير ، وكفى بهذا زجراً وردعاً.
الخامس : أن يتأمّل ويهذّب ما يريد أن يورده أو يسأل عنه قبل إبرازه والتفوّه به ليأمن من صدور هفوة أو زلّة أو وهم أو انعكاس فهم ، فيصير له بذلك ملكةٌ صالحة ، وخلاف ذلك إذا اعتاد الإسراع في السؤال والجواب فيكثر سقطه ويعظم نقصه ويظهر خطاؤه ، فيُعرف بذلك ، سيّما إذا كان هناك من قرناء السوء مَن يخشى أن يُصيِّر ذلك عليه وصمة ، ويجعله له عند نظرائه وحسَدَته وسمة.
السادس : أن لا يحضر مجلس الدرس إلاّ متطهّراً من الحدث والخبث متنظّفاً متطيّباً في بدنه وثوبه ، لابساً أحسن ثيابه ، قاصداً بذلك تعظيم العلم وترويح الحاضرين من الجلساء والملائكة ، سيّما إن كان في مسجد . وجميع ما ورد من الترغيب في ذلك لمطلق الناس ، فهو في حقّ العالم والمتعلّم آكد.
هذا ما بيّنه شهيدنا الثاني قدّس الله سرّه وأسكنه فسيح جنانه ، في كتابه القيّم ( منية المريد ) ، وإنّي لأنصح إخوتي الكرام بمطالعة هذا الأثر العظيم ، ليس للمرّة الواحدة ، بل تكراراً ومراراً ، لما فيه من الفوائد الثمينة والأخلاق الطيّبة والآداب الرفيعة.
ثمّ يا ترى بعد أن عرفنا أثر السؤال وأهميّته البالغة في حياة الإنسان ، ووقفنا ولو إجمالا على بعض آداب السؤال ، وعلمنا أنّ الله أمرنا في كتابه الكريم بقوله تعالى :
( فَاسْألوا أهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمونَ ).
فحينئذ لنا أن نسأل : ومَن هم أهل الذكر ؟
والجواب إنّما يكون من نفس القرآن المجيد ، ومَن عنده علم الكتاب.
فمن هم أهل الذكر ؟
[1]« إذا قرأ الرجل القرآن والحديث على الشيخ ، يقول : أقرأني فلان ، أي حملني على أن أقرأ عليه » ( لسان العرب 1 : 130 ، قرأ ).
[2]في ( محاضرات الاُدباء 1 : 50 ) : « قال الخليل : العلم لا يعطيك بعضه حتّى تعطيه كلّك » ; ومثله في ( إحياء علوم الدين 1 : 44 ) ; و ( ميزان العمل : 116 ) ، ونسبه إلى القيل.
[3]الكافي 1 : 40 ـ 41 ، كتاب فضل العلم ، باب سؤال العالم وتذاكره ، الحديث 6.
[4]الكافي 1 : 41 ، كتاب فضل العلم ، باب سؤال العالم وتذاكره ، الحديث 7.
[5]الكافي 1 : 41 ، كتاب فضل العلم ، باب سؤال العالم وتذاكره ، الحديث 9.
[6]بحار الأنوار 2 : 135 ، الحديث 32.
[7]أي : من قوله : « قال الصادق (عليه السلام) » إلى هنا.
[8]سورة النجم : 32.
[9]يعني : كتاب ( منار القاصدين في أسرار معالم الدين ).
[10]بحار الأنوار 2 : 99 ، الحديث 58.
[11]الكافي 2 : 87 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحياء ، الحديث 3.
[12]الكافي 1 : 40 ، كتاب فضل العلم ، باب سؤال العالم وتذاكره ، الحديث 2.
[13]الكافي 1 : 40 ، كتاب فضل العلم ، باب سؤال العالم وتذاكره ، الحديث 3.
[14]الكافي 2 : 310 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكبر ، الحديث 9.