الأمر  التاسع - اختيار  المعلّم  الصالح

ذكره الشهيد باعتبار الآداب التي يلزم المتعلّم أن يراعيها مع اُستاذه وشيخه ، إلاّ أ نّي أذكره ضمن الآداب العامّة لطالب الحوزة الذي يفكّر في سيرته الأخلاقية وإصلاحها وهو : أن ينظر إلى المعلّم الذي يأخذ علمه منه ، فإنّ من استمع إلى ناطق فقد عبده ـ كما ورد في الخبر ـ فإن تكلّم عن الله فقد عبد الله سبحانه ، وإن تكلّم عن الشيطان أو هوى النفس ، فإنّه قد عبد الشيطان واتّخذ إلهه هواه ، وقد ورد في الخبر الشريف : إذا رأيتَ العالم مقبلا على دنياه فاتّهمه في دينه ، أي لا يحقّ لكم أن تأخذوا دينكم وسلوككم ممّن كان مقبلا على دنياه ، فكيف المتلبّس بها والغاطّ في بحرها .

فيقول الشهيد الثاني (قدس سره) : أهمّ الاُمور التي يجب على المتعلّم أن يراعيها مع شيخه ، أن يقدّم النظر فيمن يأخذ عنه العلم ، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه ، فإنّ تربية الشيخ لتلميذه ونسبة إخراجه لأخلاقه الذميمة ، وجعل مكانها خلقاً حسناً ، كفعل الفلاّح الذي يقلع الشوك من الأرض ، ويخرج منها النباتات الخبيثة من بين الزرع ، ليحسن نباته ويكمل ريعه .

وليس كلّ شيخ يتّصف بهذا الوصف ، بل ما أقلّ ذلك ، فإنّه في الحقيقة نائب عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وليس كلّ عالم يصلح للنيابة ، فليختر من كملت أهليّته ، وظهرت ديانته ، تحقّقت معرفته ، وعرفت عفّته ، واشتهرت صيانته وسيادته ، وظهرت مروّته وحسن تعليمه ، وجاد تفهيمه .

ولا يغترّ الطالب بمن زاد علمه ، مع نقص في ورعه أو دينه أو خُلقه ، فإنّ ضرره في خُلق المتعلّم ودينه أصعب من الجهل الذي يطلب زواله ، وأشدّ ضرراً . وعن جماعة من السلف : هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم .

وفي ذيل الآية الشريفة :

( فَلـْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ )[1].

قال الإمام الباقر (عليه السلام) : أي فلينظر إلى علمه ممّن يأخذ .

ثمّ قال الشهيد الثاني : وليحترز ممّن أخذ علمه من بطون الكتب من غير قراءة على الشيوخ ـ كما نجد في حوزتنا بعض الطلاّب من دون أن يحضر دروس الأساتذة يتصدّى للتدريس ، لا سيّما درس الخارج على أ نّه من النوابغ ولا بدّ أن يكسر الأعراف والسنن التي كان عليها السلف الصالح في الحوزة العلمية المباركة ، وهناك من يكتفي بأشرطة التسجيل ـ قال بعض السلف : من تفقّه من بطون الكتب ضيّع الأحكام . وقال آخر : إيّاكم والصحفيّون الذين يأخذون علمهم من الصحف ، فإنّ ما يفسدون أكثر ممّـا يصلحون . وقد ورد في الخبر الشريف : « هلك من لم يكن له حكيمٌ يرشده » ، فكلّ طالب يحتاج في مقام التعلّم إلى اُستاذ ومعلّم ، لا سيّما في علم الأخلاق ، فإنّه بأمسّ الحاجة إلى مربٍّ خلوق ، وحكيم مرشد ، واُستاذ قدير ، صاحب الأنفاس القدسيّة ، التي أتعب نفسه في تهذيبها ومجاهدتها .

ثمّ قال الشهيد الثاني : وليحذر من التقييد بالمشهورين ـ كما نجد هذه الظاهرة في الحوزة في العصر الراهن ، أ نّه يحضر الطالب عند من كان مشهوراً ويتقيّد بذلك ـ وترك الأخذ بالخاملين ، فإنّ ذلك من الكِبر على العلم ، وهو عين الحماقة ، لأنّ العلم ضالّة المؤمن ، يلتقطها حيث وجدها ويغتنمها حيث ظفر بها ، ويتقلّد المنّة ممّن ساقها إليها ، وربّما يكون الخامل ممّن تُرجى بركته ، فيكون النفع به أعمّ والتحصيل من جهته أتمّ .

وإذا سبرت أحوال السلف والخَلَف لم تجد النفع غالباً ، إلاّ إذا كان للشيخ من التقوى والنصح والشفقة للطلبة نصيب وآخر ، وكذلك إذا اعتبرت المصنّفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى أوفر ، والفلاح بالاشتغال به أكثر ، وبالعكس حال العالم المجرّد من التقوى والعمل الصالح ، وإنّما عنده من العلم بالمصطلحات يتبختر بها ، حتّى كاد أن يدّعي الربوبيّة ، لما يحمل من نفس فرعونية ـ والعياذ بالله ، ونجّانا الله من شرور أنفسنا الأمّارة بالسوء ـ .

« فينبغي لطالب العلم أن يختار الاُستاذ الأعلم والأورع والأسنّ ، وينبغي أن يشاور في طلب العلم ، أي علم يراد في المشي إلى تحصيله ، فإذا دخل المتعلّم إلى بلد يريد أن يتعلّم فيه ، فليكن أن لا يعجّل في الاختلاف مع العلماء ، وأن يصبر شهرين ، حتّى كان اختياره للاُستاذ ، ولم يؤدّ إلى تركه والرجوع إلى آخر ، فلا يبارك له ، فينبغي أن يثبت ويصبر على اُستاذ وكتاب حتّى لا يتركه أبتر ، وعلى فنّ لا يشتغل بفنٍّ آخر ، قبل أن يصير ماهراً فيه ، وعلى بلد حتّى لا ينقل إلى بلد آخر من غير ضرورة ، فإنّ ذلك كلّه يفرق الاُمور المقرّبة إلى التحصيل ، ويشغل القلب ويضيّع الأوقات »[2].

كما على طالب العلم أن يختار شريكاً في الدرس والمباحثة ، فيختار المجدّ والأورع وصاحب الطبع المستقيم ، ويحترز عن الكسلان والمعطّل ومكثار الكلام والمفسد والفتّان ، قيل : يعرف المرء بخليله .

فاعتبروا الأرض بأسمائها *** واعتبر الصاحب بالصاحب

ثمّ العمدة لطالب العلم أن يبحث عن اُستاذ في الأخلاق ، فإنّ العلم لا بدّ من مقارنته مع التربية والتزكية ، بل لأهميّة التزكية قدّمت في الآية الشريفة : ( يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ ) على التعليم .

وقال الإمام السجّاد (عليه السلام) : « هلك من ليس له حكيم يرشده »[3].

فزخرف الحياة وزبرجها ، ووساوس الشياطين وأعوانهم ، وحديث النفس الأمّارة بالسوء ، وكثرة الأعداء في الظاهر والباطن ، ظلمات بعضها فوق بعض ، ومن الصعب أن ينجو الإنسان بنفسه من هذه المغريات والمهلكات ، بل لا بدّ له من خضر في وادي الظلمات ، فصناعة الإنسان وتربيته من دون اُستاذ وبشكل تلقائي كأ نّه يعدّ من المستحيلات ، ولا يمكن لأحد أن يدّعي الوصول وتهذيب النفس وصيقلة القلب وتطهير الذات من الرذائل من دون مربٍّ ومعلّم ، فعلى طالب العلم في بداية مسيرته أن يبحث عن ( اُستاذ الأخلاق ) فيختار إنساناً متّقياً كاملا يتولّى تربيته منذ الأيّام الاُولى عند دخوله الحوزة العلميّة ، فهذا من الهمّ الأوّل لطلاّب العلوم الدينيّة .

ويقول الإمام الخميني (قدس سره) : اختاروا أساتذة أخلاق لكم ، اعقدوا مجالس الوعظ والخطابة والنصيحة ، التهذيب تلقائياً ( بدون اُستاذ ) غير ممكن ، إنّ الحوزات محكومة بالفناء إذا خلت من مجالس الوعظ والنصيحة . كيف يعقل أن يكون علم الفقه والاُصول بحاجة إلى مدرّس ، بحاجة إلى درس وبحث ؟ ! كيف يعقل أن يكون كلّ علم وصنعة في الدنيا بحاجة إلى اُستاذ ولا تكون العلوم المعنويّة والأخلاقيّة بحاجة إلى تعلّم وتعليم ، ثمّ يحصل عليها الإنسان تلقائيّاً ( أوتوماتيكيّاً ) ويحصلها بدون معلّم ، لقد سمعت كراراً أنّ سيّداً جليلا كان معلّم الأخلاق للشيخ الأنصاري ـ وهو السيّد علي الشوشتري اُستاذ العرفان في القرن الأخير ـ[4].

يقول العارف الجليل آية الله السيّد علي القاضي اُستاذ العلاّمة الطباطبائي في العرفان والسير والسلوك : أهمّ ما يلزم في هذا الطريق الاُستاذ الخبير البصير الخارج عن أسر الهوى ، الواصل إلى المعرفة الإلهيّة ، والإنسان الكامل الذي سافر ـ بالإضافة إلى السير إلى الله ـ الأسفار الثلاثة الاُخرى ، شرط أن يكون تجوّله وتفرّجه في عالم الخلق ( بالحقّ ) إذا أمضى الإنسان الذي يطلب طريق الله وسلوك طريق الله ، نصف عمره يبحث عن اُستاذ هذا الطريق ، ويفتّش عنه فإنّه يكون مصيباً ; لأنّ الأمر يستحقّ هذا الاهتمام ، من وصل إلى الاُستاذ ، وحصل عليه ، فقد قطع نصف الطريق .

أجل : لا بدّ من الاُستاذ في السير والسلوك ، وينبغي الاهتمام به جيّداً في اختيار الاُستاذ ، فيلزم على الطالب أن يكون دقيقاً جدّاً ومحتاطاً ، فلا يسلّم نفسه ودينه لأيّ مدّع ، حتّى يطمئنّ إلى صحّة دعواه .

إسمع إلى ما يقوله العلاّمة السيّد بحر العلوم في هذا المجال : وأمّا الاُستاذ العامّ ـ وهو غير المعصوم (عليه السلام) ـ فلا يعرف إلاّ بصحبته في السرّ والعلن ، ومعاشرته الباطنيّة ، وملاحظة اكتمال إيمان جوارحه وإيمان نفسه ، والحذر الحذر من أن يقع الانخداع بظهور خوارق العادات منه وبيانه لدقائق النكات ، وإخباره بالخفايا الآفاقيّة ، وخبايا الأنفس ، تبدّل بعض حالاتك نتيجة الاقتداء به ، لأنّ الإشراف على الخواطر والاطّلاع على الدقائق والعبور على الماء والنار ، وطيّ الأرض والهواء ، والإخبار بما يأتي وأمثال ذلك ، إنّما يحصل في مرتبة المكاشفة الروحيّة ، وبين هذه المرحلة والهدف المطلوب مسافة لا تتناهى . وكثير من المنازل والمراحل ، وما أكثر السالكين الذين يجتازون هذه المرحلة ، ثمّ يدخلون بعدها في وادي اللصوص والأبالسة ، ومن هنا يستطيع كثير من الكفّار أن يأتوا بكثير من الاُمور الغريبة[5].

ومن أراد الاُستاذ في الأخلاق ، لا سيّما من يدخل الحوزة وهو لا يعرف أحداً ، فعليه أن يدعو الله كثيراً في ذلك ، ويتوسّل بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبالأئمة الأطهار (عليهم السلام) وبفاطمة الزهراء (عليها السلام) ، وحتّى بأولاد الأئمة وبأرواح علمائنا الكبار الماضين قدّس الله أسرارهم الزكيّة ، فإنّ ذلك يعدّ من مفاتيح هذه الأبواب ، ومن المعدّات للوصول إلى الحلقات التربويّة الروحيّة لهؤلاء الأساتذة الكاملين والاستفادة منهم ، فمن كان متعطّشاً واقعاً من صميم القلب فإنّ الله تعالى يأخذ بيده ، ويضعه في يد إنسان آخر .

أعرف شخصاً من أهل العلم في بداية سيره السلوكي ، كان يدعو الله بالبكاء والتضرّع ويطلب منه اُستاذاً في الأخلاق والعرفان ، وفي يوم من الأيام كان مستلقياً وبين السِّنَة والنوم ، وإذا به يسمع صرير الباب ، ويسمع هاتفاً يقول : هذا اُستاذ أخلاقك ، وإذا بشخص يدخل الغرفة ، فيقوم لاحترامه وتقديره ، فلم يرَ أحداً ، ثمّ التقى به وبقي عنده سنين يأخذ منه المعارف ، ثمّ تعرّف على شيخه واُستاذه ، فحضر عند ذلك خمس سنوات أيضاً .

وهذا العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) يحدّثنا عن حياته قائلا : عندما كنت في طريقي من تبريز إلى النجف الأشرف للدراسة ، لم أكن أعرف شيئاً عن النجف ، ولم أكن أعرف أين أذهب ، وماذا أفعل ؟ كنت في الطريق اُفكّر دائماً أيّ درس أدرس ؟ وعلى مَن أتتلمذ ؟ وأيّ طريقة أختار ويكون فيها رضا الله تعالى ؟ عندما وصلت إلى النجف الأشرف وحين الدخول توجّهت إلى حرم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقلت : سيّدي ، تشرّفت بمحضرك لمواصلة الدراسة ، ولكنّي لا أعرف أيّ نهج أسلك ، وأيّ برنامج أختار ، اُريد منك أن ترشدني إلى ما فيه صلاحي . استأجرت منزلا وسكنته ، وفي الأيام الاُولى ، وقبل أن أبدأ أيّ درس ، كنت جالساً في البيت اُفكّر في مستقبلي ، فجأةً طرق الباب ، فتحت الباب ، فرأيت أحد العلماء الكبار ، سلّم ودخل ، جلس في الغرفة ورحّب بي ، كانت له طلعة جذّابة ونورانيّة جدّاً ، حادثني بكامل الصفاء والصميميّة والاُنس ، وخلال أحاديثه قرأ لي أشعاراً ، وقال لي ما مضمونه : الشخص الذي يأتي إلى النجف بهدف الدراسة من الجيّد أن يفكّر بالإضافة إلى الدراسة بتهذيب نفسه وتكميلها ، وأن لا يغفل عن نفسه ، قال هذا ومضى ...

وفي ذلك المجلس أسرتني أخلاقه وتصرّفاته ، وقد أثّرت في قلبي كلماته القصار والأخّاذة إلى حدّ أ نّي عرفت منها برنامجي المستقبلي ، وطيلة الفترة التي كنت فيها في النجف لم أترك محضر ذلك العالم التقي ، اشتركت في درسه الأخلاقي واستفدت من سماحته ، ذلك العالم الكبير هو المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا علي القاضي رضوان الله عليه[6].

فيا طالب العلم ، لا تيأس من روح الله واطلب الاُستاذ منه ، وفّقك الله للعلم النافع والعمل الصالح .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :

« العلم دين ، الصلاة دين ، فانظروا عمّن تأخذون هذا العلم ».

قال الإمام الحسن (عليه السلام) :

« عجبت لمن يتفكّر في مأكوله كيف لا يتفكّر في معقوله ؟ ! فيجنّب بطنه ما يؤذيه ويودع ما يرديه ».

قال الإمام الكاظم (عليه السلام) :

« لا علم إلاّ من عالم ربّاني ، ومعرفة العالم بالعقل ».

من وصيّة ذي القرنين :

« لا تتعلّم العلم ممّن لا ينتفع به ، فإنّ من لم ينفعه علمه لا ينفعك »[7].


[1]عبس : 24 .

[2]آداب المتعلّمين ـ جامع المقدّمات 2 : 51 .

[3]كشف الغمّة 2 : 325 .

[4]سيماء الصالحين : 38 .

[5]المصدر : 40 .

[6]سيماء الصالحين : 82 .

[7]ميزان الحكمة 6 : 484 .

الأمر العاشر