الأمر  الثاني - اغتنام  الفرصة

أن يغتنم التحصيل في الفراغ والنشاط وحالة الشباب وقوّة البدن ونباهة الخاطر وسلامة الحواسّ وقلّة الشواغل وتراكم العوارض ، سيّما قبل ارتفاع المنزلة والاتّسام بالفضل والعلم ، فإنّه أعظم صادٍّ عن درك الكمال ، بل سبب تامّ في النقصان والاختلال .

هذا ما يقوله الشهيد الثاني وإنّه الرجل العالم الحكيم العارف بحقائق الاُمور والمجرّب لما يبتلى به طلاّب الحوزة .

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ الغفاري : اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحّتك قبل سقمك ، ودنياك قبل آخرتك ، وحياتك قبل مماتك ، وفراغك قبل شغلك .

والعلم في الصغر كالنقش في الحجر ، ومثل الذي يتعلّم في كبره كالذي يكتب على البحر ، وما اُوتي عالم علماً إلاّ وهو شابّ ، فيلزم طالب العلم أن يستغلّ وقته ، منذ الصغر ، وفي بداية أمره وتعلّمه « ينبغي لطالب العلم أن يكون مستفيداً في كلّ وقت حتّى يحصل له الفضل ، وطريق الاستفادة أن يكون معه في كلّ وقت ( قلم وقرطاس ) حتّى يكتب ما يسمع من الفوائد ، قيل : ( ما حفظ فرّ ، وما كتب قرّ ) ، قيل : ( العلم ما يؤخذ من أفواه الرجال ; لأ نّهم يحفظون أحسن ما يسمعون ، ويقولون أحسن ما يحفظون ) ، ووصّى شخص لابنه بأن يحفظ كلّ يوم شقصاً من العلم ، فإنّه يسير وعن قريب يصير كثيراً ، فالعلم كثير والعمر قصير ، فينبغي أن لا يضيّع الطالب له الأوقات والساعات ، ويغتنم الليالي والخلوات ، قيل : ( الليل طويل فلا تقصّره بمنامك ، والنهار مضيء فلا تكدّره بآثامك ) .

وينبغي لطالب العلم أن يغتنم الشيوخ ويستفيد منهم ، ولا يتحسّر لكلّ ما فات ، بل يغتنم ما حصل له في الحال والاستقبال من تحميل المشاقّ والمذلّة في طلب العلم والتملّق مذموم ، إلاّ في طلب العلم ، فإنّه لا بدّ له من التملّق للاُستاذ والشركاء وغيرهم للاستفادة ، وقيل : ( العلم عزّ لا ذلّ فيه ، ولا يدرك إلاّ بذلٍّ لا عزّ فيه ) »[1].

« قيل : وقت التعلّم من المهد إلى اللحد ، وأفضل أوقاته شرع الشباب ، ووقت السحر وما بين العشائين ، وينبغي أن يستغرق جميع أوقاته ، فإذا ملّ من علم يشتغل بعلم آخر ، وكان محمّد بن الحسن لا ينام الليل ، وكان يضع عنده دفاتر إذا ملّ من نوع ينظر إلى نوع آخر ، وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء ، وكان يقول : النوم من الحرارة »[2].

وبنظري على طالب العلم أن يطالع كثيراً ، ليل نهار ، والمطالعة كباقي الصفات والأعمال من قسم العادة ، فإذا اعتاد الإنسان عليها ، فإنّه من الصعب تبديل العادة ، فإنّها طبيعة ثانويّة في الإنسان ، فلا بدّ أن يعوّد نفسه على المطالعة مع مراعاة شرائطها وآدابها ، وثمرتها أنّ سماء ذهن المطالع تمتلئ من الأسحبة المختلفة والمتفاوتة ، وهذا يعني أ نّه يطالع كلّ شيء حتّى القصص البوليسيّة ، ونتيجة المطالعات الكثيرة والمختلفة ، أ نّها في سماء الذهن تصطدم بعضها مع بعض فيتولّد منها الرعد والبرق ، ثمّ المطر والوابل ـ كما في سماء الطبيعة ـ وهي التي تسمّى بالرشحات الفكريّة ، والنتائج العقلانيّة ، ويأتي للمجتمع بشيء جديد ، وموضوع لم يسمع من قبل ، ويقال : فلان العالم منظّر وأ نّه صاحب نظرية جديدة ، وفكر عملاق ، وما شابه ذلك من الكلمات التي تنبئ عن أمر مبتكر جديد .

ثمّ على طالب العلم أن يتأمّل فيما يقرأه ويطالعه ويدرسه ( ينبغي لطالب العلم أن يكون متأمّلا في جميع الأوقات في دقائق العلوم ، ويعتاد ذلك ، فإنّما يدرك الدقائق بالتأمّل ، ولهذا قيل : « تأمّل تدرك » ، ولا بدّ من التأمّل قبل الكلام حتّى يكون صواباً ، فإنّ الكلام كالسهم ، فلا بدّ من تقديمه بالتأمّل قبل الكلام ، حتّى يكون ذكره مصيباً في اُصول الفقه ، هذا أصل كبير ، وهو أن يكون كلام الفقيه المناظر بالتأمّل ، ويكون مستفيداً في جميع الأحوال والأوقات ، وعن جميع الأشخاص ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « الحكمة ضالّة المؤمن ، أينما وجدها أخذها » ، وقيل : « خذ ما صفى ، ودع ما كدر » ، وليس لصحيح البدن والعقل عذر في ترك العلم )[3].

( ثمّ لا بدّ لطالب العلم من الجدّ والمواظبة والملازمة قيل : « من طلب شيئاً وجَدَّ وَجَد ، ومن قرع باباً ولَجَّ وَلَج » ، وقيل : « بقدر ما يسعى ينال ما يتمنّى ».

قيل يحتاج في التعلّم إلى جدّ الثلاثة : المتعلّم والاُستاذ والأب إن كان في الحياة .

ولا بدّ لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أوّل الليل وآخره وما بين العشائين ، ووقت السحر وقت مبارك ، قيل : « من أسحر نفسه بالليل فقد فرح قلبه بالنهار » ، ويغتنم أ يّام الحداثة وعنفوان الشباب ، ولا يجتهد نفسه جهداً يضعف النفس ، وينقطع عن العمل ، بل يستعمل الرفق في ذلك ، والرفق أصل عظيم في جميع الأشياء .

ولا بدّ لطالب العلم من الهمّة العالية في العلم ، فإنّ المرء يطير بهمّته ، كالطير يطير بجناحيه ، فلا بدّ أن تكون همّته على حفظ جميع الكتب حتّى يحصل البعض ، فأمّا إذا كان له همّة عالية ولم يكن له جدّ ، أو كان له جدّ ولم يكن له همّة عالية ، لا يحصل له إلاّ قليلٌ من العلم ، وينبغي أن يتعب نفسه على الجدّ والتحصيل والمواظبة بالتأمّل في فضائل العلوم ودقائقها ، فإنّ العلم يبقى ، وغيره يفنى ، فإنّه حياة أبديّة ، قيل : « العالمون أحياء وإن ماتوا » ، « العلماء باقون ، أعيانهم مفقودة ، ومحبّتهم في القلوب » ، وكفى بلذّة العلم داعياً إلى التحصيل للعاقل )[4].

فلا بدّ من النشاط الدائم في تحصيل العلم ، والتفقّه في الدين ، قيل : تفقّهوا قبل أن تسوّدوا ، أي تصيروا سادة ، فتأنفوا من التعلّم او تستحيوا منه بسبب المنزلة ، فيفوتكم العلم . وقال آخر : تفقّه قبل أن تترأّس ، فإذا رئست فلا سبيل إلى التفقّه . وعن ابن عباس : ما اُوتي عالم علماً إلاّ وهو شابّ ، وقد نبّه الله تعالى ذلك بقوله :

( وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيَّاً )[5].

وهذا باعتبار الغالب ، وإلاّ فمن كبر لا ينبغي له أن يحجم عن الطلب ، فإنّ الفضل واسع والكرم وافر ، والله المعين ، وأبواب الرحمة مفتّحة ، وإذا كان المحلّ قابلا تمّت النعمة وحصل المطلوب ، والله سبحانه يقول :

( وَاتَّقوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ )[6].

( وَلَمَّـا بَلَغَ أشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حَكْماً وَعِلـْماً )[7].

وقد اشتغل جماعة من السلف في حال كبرهم حتّى فاقوا الشباب ، فتفقّهوا وصاروا أساطين في الدين وعلماء مصنّفين في الفقه وغيره ، فليغتنم العاقل عمره ، وليحرز شبابه عن التضييع ، فإنّ بقيّة العمر لا ثمن لها[8].

فاطلب العلم من المهد إلى اللحد ، وليغتنم العاقل عمره الثمين ، وليحرز شبابه عن البطالة والتضييع .

وإذا رجعنا إلى سيرة فطاحل العلم وعباقرة الفنّ والأدب رأينا أنّ الغالب فيهم إنّما نال درجات العلى ، وفاق الأقران وحاز السبق ، من اتّبع نفسه في صباه وأيّام شبابه ، ولهذا يقال : من أتعب نفسه في شبابه استراح في شيبته .

وقال بعض السلف : لا يطلب أحد هذا العلم بعزّ النفس فيفلح ، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح .

وقال آخر : ولا يبلغ أحد من هذا العلم ما يريد حتّى يضرّ به الفقر ، ويؤثره على كلّ شيء .

وقال بعضهم : لا ينال هذا العلم إلاّ من عطّل دكّانه ، وخرّب بستانه ، وهجر إخوانه ، ومات أقرب أهله ، فلم يشهد جنازته .

كما حدث ذلك لصاحب جامع السعادات المحقّق النراقي (قدس سره) .

وهذا كلّه وإن كان فيه مبالغة ، فالمقصود أ نّه لا بدّ فيه من جمع القلب واجتماع الفكر ، وأن يقطع من العوائق الشاغلة والعلائق المانعة من تحصيل العلوم والفنون .


[1]آداب المتعلّمين ، جامع المقدّمات 2 : 57 .

[2]آداب المتعلّمين ، جامع المقدّمات 2 : 57 .

[3]آداب المتعلّمين ـ جامع المقدّمات 2 : 54 .

[4]المصدر : 53 .

[5]مريم : 12 .

[6]البقرة : 282 .

[7]القصص : 14 .

[8]منية المريد : 226 .

الأمر الثالث