أن يترك العِشرة مع من يشغله عن مطلوبه ، فإنّ تركها من أهمّ ما ينبغي لطالب العلم ، وأعظم آفات العِشرة ضياع العمر بغير فائدة ، وذهاب العرض والدين إذا كانت لغير أهل .
والذي ينبغي لطالب الحوزة العلمية أن لا يخالط إلاّ لمن يفيده أو يستفيد منه ، أي يغدو إمّا عالماً ربّانياً ; أو متعلّماً على سبيل النجاة ، ولا يكن الثالث همجٌ رعاع ، وإن احتاج إلى صاحب وصديق وزميل فليختر الصاحب الصالح[1] ، الديّن التقي الذكي الورع ، الذي يعين على اُمور دينه ودنياه وآخرته ، إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه ، وإن احتاج واساه ، وإن ضجر صبّره . فيستفيد من خلقه ملكة صالحة ، فإنّ المرء يكسب من قرينه أخلاقه وملكاته ، وإن لم يتّفق مثل هذا العبد الصالح ، فإنّ الوحدة خيرٌ له من قرين السوء ، وإنّ الصبر على الوحدة في مثل هذه المواقف من قوّة العقل ، وقطعيّة الجاهل تعدل صلة العاقل .
وقد حثّ علماء الأخلاق على ترك العشرة المانعة من تحصيل العلم ، بل لا بدّ لمن آثر الله على من سواه من العزلة في ابتدائه توحّشاً من غير الله ، ومن الخلوة في انتهائه اُنساً بالله ، وقد ورد في الخبر الشريف عن الإمام العسكري (عليه السلام) : « من استأنس بالله استوحش من الناس »[2].
والسيّد الإمام الخميني في كتابه « الجهاد الأكبر » يرى أ نّه من الحريّ لطالب العلم أن يبقى في الحوزة في مقام تهذيب نفسه ولو كان يستلزم ذلك خمسون سنة ، ثمّ بعد ذلك يخرج إلى المجتمع ، حتّى لا يتلوّث قبل تكميل نفسه بأوساخ المجتمع ، ولا يتغيّر بأهوائهم والأجواء التي يخلقونها ، بل يكون هو صاحب التصميم والقرار وهو الذي يلوّن المجتمع بصبغة الله ، لا أ نّه يتلوّن بألوانه وينجرف مع سيله ، حتّى يفقد دينه ـ والعياذ بالله ـ .
وروايات العزلة على نحوين ، كما في كتاب « المحاسن والمساوئ » ، منها تذمّ العزلة ، ومنها تمدح ، والجمع بينها ، كما هو واضح أنّ التي تحثّ على الاتّصال مع الناس لهدايتهم على أنّ هدف الأنبياء ذلك ، والعلماء ورثة الأنبياء ، إنّما ناضرة إلى من أكمل نفسه وهذّبها ، ووهبه الله قدرة إمامة الناس وسوقهم وهدايتهم إلى وادي السعادة والهناء ، وأمّا طالب العلم في بداية مسيرته العلميّة والاجتماعيّة ، فإنّه بحاجة ماسّة إلى العزلة الممدوحة ، التي يستتبعها العلم والتقوى وجهاد النفس ورجاحة العقل وكمال الأدب .
اُنظر إلى مدح الله أصحاب الكهف في قوله تعالى :
( وَإذِ اعْتَزَلـْتُموهُمْ وَما يَعْبُدونَ إلاّ اللهَ فَأوُوا إلى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مرْفقاً )[3].
( وَأعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعونَ مِنْ دونِ اللهِ وَأدْعو رَبيِّ عَسى أنْ أكونَ بِدُعاءِ شَقِيَّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدونَ مِنْ دونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقوبَ وَكُلاّ جَعَلـْنا نَبِيَّاً )[4].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
« العزلة عبادة ».
« قال الله عزّ وجلّ : إنّ من أغبط أوليائي عندي رجلا خفيف الحال ذا خطر أحسن عبادة ربّه في الغيب ، وكان غامضاً بين الناس ، جعل رزقه كفافاً فصبر عليه ، مات فقلّ تراثه وقلّ بواكيه ».
« إنّ أغبط أولياء الله عبدٌ مؤمنٌ خفيف الحال ذو حظٍّ من الصلاة أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السرّ ، وكان غامضاً في الناس لا يُشار إليه بالأصابع ».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :
« العزلة أفضل شيم الأكياس ».
« في اعتزال أبناء الدنيا جماع الصلاح ».
« الوصلة بالله في الانقطاع عن الناس ».
« من انفرد عن الناس أنس بالله سبحانه ».
« لا سلامة لمن أكثر مخالطة الناس ».
« ملازمة الخلوة دأب الصلحاء ».
« سلامة الدين في اعتزال الناس ».
« من اعتزل الناس سلم من شرّهم ».
« مداومة الوحدة أسلم من خلطة الناس ».
« كان لقمان (عليه السلام) يطيل الجلوس وحده ، وكان يمرّ به مولاه فيقول : يا لقمان ، إنّك تديم الجلوس وحدك ، فلو جلست مع الناس كان آنس لك . فيقول لقمان : إنّ طول الوحدة أفهم للفكرة ، وطول الفكرة دليل على طريق الجنّة ».
« من حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن حكم ، قال (عليه السلام) : الصبر على الوحدة علامة على قوّة العقل ، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند الله ، وكان الله أنيسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ومعزّه من غير عشيرة ».
« قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إن قدرت أن لا تخرج من بيتك فافعل ، فإنّ عليك في خروجك أن لا تغتاب ولا تكذب ولا تحسد ولا ترائي ولا تتصنّع ولا تداهن ».
« كان شخص يبكي عند قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : إنّ اليسير من الرياء شرك ، وإنّ الله سحبّ الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا ، وإن حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ».
« يقول الإمام العسكري (عليه السلام) : الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم ».
« قال الإمام الصادق (عليه السلام) : خالط الناس تخبرهم ، ومتى تخبرهم تقلّهم ».
« قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من عرف الله توحّد ، من عرف الناس تفرّد ».
« ولمّـا سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن علّة اعتزاله ؟ قال : فسد الزمان وتغيّر الإخوان ، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد »[5].
ولنا روايات كثيرة تمدح العزلة بشرطها ، كما أنّ العرفاء حثّوا طلاّب السير والسلوك في بداية أمرهم على ذلك .
فقيل : ما اختار الخلوة على الصحبة فينبغي أن يكون خالياً عن جميع الأذكار إلاّ ذكره ، وعن جميع الإرادات إلاّ أمره ، وعن جميع مطالبات النفس إلاّ حكمه .
الوحدة جليس الصديقين وأنيس الصادقين ، ليكن خدنك الخلوة وطعامك الجوع وحديثك المناجاة ، فإمّا أن تموت وإمّا أن تصل .
وكان بعض العارفين يصيح : الإفلاس الإفلاس ! فقيل : وما الإفلاس ؟ قال : الاستيناس بالناس .
ودخل تلميذ على شيخه وكان وحيداً في داره ، فقال : أما تستوحش في هذه الدار وحيداً ؟ فقال : ما كنت أظنّ أنّ أحداً استوحش مع الله ، وقال آخر في الجواب ، لمّـا دخلت صرت وحيداً ، فإنّي كنت مشغولا ومستأنساً بربيّ .
إرضَ بالله صاحباً وذر الناس جانباً ، كفى بالله محبّاً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظاً .
صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة ، وفرّ من الناس فرارك من الأسد ، واتّخذ الله مؤنساً .
قال بعض الحكماء : إنّما يستوحش الإنسان بالوحدة لخلاء ذاته وعدم الفضيلة من نفسه ، فيتكثّر حينئذ بملاقاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم ، فإذا كانت ذاته فاضلة ونفسه كاملة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ، ويتفرّغ لاستخراج العلم والحكمة .
وفي بعض الآثار : وجدنا خير الدنيا والآخرة في الخلوة والقلّة ، وشرّهما في الكثرة والخلطة .
وفي بعضها : إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة آنسه بالوحدة ، وأغناه بالقناعة ، وبصّره عيوب نفسه ، ومن اُعطي ذلك اُعطي خير الدارين .
ومن فوائد العزلة : السلامة من الآفات ، وترك النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها ، ومنع النفس من التطلّع إليها ومنافسة الناس عليها . قال الله تعالى :
( وَلا تُمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فيهِ )[6].
وإنّها خالعة عنك ذلّ الإحسان ، وقاطعة رقّ الأطماع ، ومفيدة عزّ الناس عن الناس ، ومن آثر العزلة حصل العزّ له ، ومعاشرة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار .
العزلة تستر الفاقة ، وتكفّ جلباب التجمّل ، إنّها معينةٌ لمن أراد نظراً في علم ، أو إثارة لدفين رأي ، واستنباطاً لحكمة ، لأنّ شيئاً منها لا يتمّ إلاّ مع خلاء الذرع وفراغ القلب ، ومخالطة الناس ملغاة ومشغلة .
وقال بعض الحكماء : من الطيور من جعل راحته في اعتزال العمران ، وآثر المواضع النائيه عن الناس ، فليتشبّه به من أراد النظر في كتب الحكمة .
وقال بعض الأخيار : لا يتمكّن أحد من الخلوة إلاّ بالتمسّك بكتاب الله ، والمتمسّكون بكتاب الله هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر الله ، الذاكرون الله بالله ، عاشوا بذكر الله وماتوا بذكر الله ، ولقوا الله بذكر الله .
وقيل لبعض العبّاد ، ما أصبرك على الوحدة ! فقال : ما أنا وحدي ، أنا جليس الله جلّ وعزّ ! إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه ، وإذا أردت أن اُناجيه صلّيت .
وكان بعضهم يلزم الدفاتر والمقابر ، فقيل له في ذلك ، فقال : لم أرَ أسلم من وحدة ، ولا صاحباً أوعظ من قبر ، ولا جليساً أمنع من دفتر .
كان بعض العارفين يقول : مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة . وكان يقول : من أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه ، فليعتزل الناس ويستوحش من الأغنياء وليجانب السلطان كما يجانب الرجل السباع الضارية والهوام العادية .
وعن بعض الحكماء حين قيل له : لماذا رفضت الناس ؟ فقال : لم أرَ إلاّ عدوّاً يداجيني بعداوته ، وصديقاً يعدّ عليّ معايبي في أيام صداقته .
وطالب العلم إنّما يستأنس بكتبه ، وإنّ الكتب بساتين العلماء .
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي *** وفيها شفاء للذي أنا كاتم
كأ نّي سقيمٌ قد اُصيب فؤاده *** وهنّ حواليَّ الرقا والتمائم
وقال بعض العرفاء : العزلة في الحقيقة اعتزال الخصال المذمومة ، لا الانقطاع عن الإخوان والتنائي عن الأوطان ، فلهذا قيل للعارف : ( كائن بائن ) أي كائن مع الخلق ، بائن عنهم بالسرّ ، كما ورد في الأثر : ( كن مع الناس ، ولا تكن معهم ) ، أي : كن معهم بالأجساد ، ولا تكن بالأرواح ، فإنّ المؤمن تعلّقت روحه بالملأ الأعلى ، فإنّه يستأنس بالله ويطمئنّ قلبه بذكر الله سبحانه .
والعقلاء إنّما يختارون العزلة لفوائدها الجمّة ، ولقلّة إخوان الصفا وخُلاّن الوفاء ، وقد علموا أنّ المعاشرة مع الأبرار الصالحين والأخيار المتّقين ، أفضل من الوحدة والانفراد والعزلة ، ومن يترك الأخيار اختياراً ابتلي بالأشرار اضطراراً ، فإن لم نجد من يتحلّى بالعقل ، ولم يتجمّل بالعلم والفضل والأدب ، لزمنا زوايا البيوت والمدارس ، وتوكّلنا على الحيّ الذي لا يموت[7] ، ونعمل بما قاله الإمام الكاظم (عليه السلام) : « قطيعة الجاهل تعدل صلّة العاقل ».
هذا وكبار علمائنا الأعلام في وصاياهم لأولادهم وتلامذتهم ، كانوا يحثّونهم على اختيار العزلة ، عند فساد الزمان .
ومن وصايا سيّدنا الاُستاذ السيّد النجفي المرعشي (قدس سره) : وبتقليل المعاشرة ، فإنّ المعاشرة والدخول في نوادي الناس في هذه الأعصار محظور مخطور ، قلّما يرى ناد يخلو عن البهت والغيبة في حقّ المؤمنين والإرزاء بهم ، وتضييع حقوقهم واُخوّتهم .
[1]لقد تعرّضت لمواصفات الصديق وواجبات الصداقة في كتاب « معالم الصديق والصداقة في رحاب أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) » ، فراجع .
[2]لقد ذكرت مقامات عديدة تلزم مقام الاُنس بالله في رسالة « مقام الاُنس بالله » شرحاً وبياناً لهذه الرواية الشريفة ، وهي مطبوعة ، فراجع .
[3]الكهف : 16 .
[4]مريم : 48 ـ 49 .
[5]ميزان الحكمة ، كلمة « العزلة » 3 : 1964 ، الطبعة الجديدة .
[6]طه : 131 .
[7]آداب النفس : 41 ـ 63 .