قال الله سبحانه وتعالى :
(إذْ تصْعدونَ وَلا تَلـْوونَ عَلى أحَد وَالرَّسولُ يَدْعوكُمْ في اُخْراكُمْ فَأثابَكُمُ غَمَّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أصابَكُمْ وَاللهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلونَ)[1].
(لِكَيْلا تَأسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتال فَخور)[2].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قول الله تعالى : (وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيَّاً) ، يعني الزهد في الدنيا . وقال الله تعالى لموسى : « يا موسى ، إنّه لن يتزيّن المتزيّنون بزينة أزين في عيني مثل الزهد » ، « ما اتّخذ الله نبيّاً إلاّ زاهداً ».
وورد في الخبر : « العلماء ورثة الأنبياء » ، وهذا يعني أنّ كلّ عالم لا بدّ أن يكون زاهداً ، فإنّه يرث النبيّ في زهده ، وإذا أراد أن يتوفّق في حياته العلميّة فمن أقرب الوسائل الزهد . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « النار لمن ركب محرّماً ، والجنّة لمن ترك الحلال ، فعليك بالزهد ، فإنّ ذلك ممّـا يباهي الله به الملائكة ، وبه يقبل الله عليك بوجهه ، ويصلّي عليك الجبّار ».
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) :
« الزهد أقلّ ما يوجد وأجلّ ما يعهد ، ويمدحه الكلّ ويتركه الجُلّ ».
« الزهد شيمة المتّقين وسجيّة الأوّابين ».
« الزهد متجر رابح ».
« إنّ علامة الراغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الدنيا ».
« الزهد أصل الدين ».
« الزهد ثمرة الدين ».
« الزهد أساس اليقين ».
« عليك بالزهد فإنّه عون الدين ».
« إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا ».
« الزهد كلّه في كلمتين من القرآن ، قال الله تعالى :
(لِكَيْلا تَأسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحوا بِما آتاكُمْ) .
فمن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فهو الزاهد ».
« أ يّها الناس ، إنّما الناس ثلاثة : زاهد وراغب وصابر ، فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها فاته ، وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه فإن أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها ، وأمّا الراغب فلا يبالي من حلٍّ أصابها أم من حرام ».
« يا ابن آدم ، لا تأسف على مفقود لا يردّه إليك الفوت ، ولا تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت ».
« الزهد تقصير الآمال وإخلاص الأعمال ».
« أصل الزهد حسن الرغبة فيما عند الله ».
« أيّها الناس ، الزهادة قصر الأمل والشكر عند النعم ، والتورّع عند المحارم ، فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم ولا تنسوا عند النعم شكركم ».
قال الإمام الصادق (عليه السلام) :
« جُعِل الخير كلّه في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا ».
عماد طالب العلم زهده في الدنيا ، ولا بدّ له من ذلك ، فإنّ ما يطلبه هو علم الآخرة ، علم الله والأنبياء والأولياء ، ولا يتأتّى ذلك مع الرغبة بما يكرهه الله ، وإنّ الله ليبغض الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها ، فهي التي تبعد عباده عن ساحة قدسه وفيض لقائه ، فيحبّ من زهد فيها ، ورسول الله يقول :
« الزهـد في الدنيـا قصر الأمر وشكر كلّ نعمة ، والورع عن كلّ ما حرّم الله ».
« الزهد ليس بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكنّ الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت اُصبت بها أرغب فيها لو أ نّها اُبقيت لك ».
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : الزهد مفتاح باب الآخرة ، والبراءة من النار وهو تركك كلّ شيء يشغلك عن الله ، من غير تأسّف على فوتها ولا إعجاب في تركها ، ولا انتظار فرج منها ولا طلب محمدة عليها ، ولا عوض منها ، بل ترى فوتها راحة وكونها آفة ، وتكون أبداً هارباً من الآفة ، معتصماً بالراحة .
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن الزاهد في الدنيا ؟ قال : الذي يترك حلالها مخافة حسابه ، ويترك حرامها مخافة عذابه .
ويقول زين العابدين (عليه السلام) : إنّ علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كلّ خليط وخلل ، ورفضهم كلّ صاحب لا يريد ما يريدون ، ألا وإنّ العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا .
عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حديث أ نّه قال : قلت : يا جبرائيل : فما تفسير الزهد ؟ قال : الزاهد يحبّ من يحبّ خالقه ويبغض من يبغض خالقه ، ويتحرّج من حلال الدنيا ولا يلتفت إلى حرامها ، فإنّ حلالها حساب وحرامها عقاب ، ويرحم جميع المسلمين كما يرحم نفسه ، ويتحرّج من الكلام كما يتحرّج من الميتة التي قد اشتدّ نتنها ، ويتحرّج عن حطام الدنيا وزينتها كما يتجنّب النار أن تغشاه ، ويقصر أمله ، وكان بين عينيه أجله .
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : الزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا ، والذلّ على العزّ ، والجهد على الراحة ، والجوع على الشبع ، وعاقبة الآجل على محبّة العاجل ، والذكر على الغفلة ، ويكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة .
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « لا يكون زاهداً حتّى يكون متواضعاً ».
« ويقول في صفة الزهّاد ، كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها ، فكانوا كمن ليس منها ، عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما يحذرون ، تقلّب أبدانهم بين ظهرانيّ أهل الآخرة ، يرون أهل الدينا يعظمون موت أجسادهم ، وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحبّائهم ».
« إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم ، وإن ضحكوا أو يشتدّ حزنهم وإن فرحوا ، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا ».
هذه بعض صفات الزاهدين ، ولا بدّ لأهل العلم منها ، ومقدّمتها التفكّر والتزهّد ، بمعنى أن يلقي نفسه في الزهد حتّى يزهد ، وهذا حكم جار في كلّ الصفات الحميدة ، فإنّ الحليم في بداية أمره يتحلّم حتّى يحلم .
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) :
« أوّل الزهد التزهّد ».
« التزهّد يؤدّي إلى الزهد ».
وأصل الزهد اليقين وحسن الرغبة فيما عند الله ، وثمرته السعادة ، وإنّما يزهد الإنسان بمقدار علمه بالله سبحانه ، وكيف يزهد في الدنيا من لا يعرف قدر الآخرة ؟
ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في وصيّة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) : « أكثر ذكر الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم ، فإنّ ذلك يزهدك في الدنيا ، ويصغّرها عندك وقد نبأّك عنها ، ونعتت لك نفسها ».
« من صوّر الموت بين عينيه هان امر الدنيا عليه ».
« أحزمكم أزهدكم ».
يقول الإمام الباقر (عليه السلام) : أكثر ذكر الموت فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلاّ زهد في الدنيا .
وعن مولانا الكاظم (عليه السلام) ، عند قبر حضره : إنّ شيئاً هذا آخره لحقيقٌ أن يزهد في أوّله ، وإنّ شيئاً هذا أوّله لحقيقٌ أن يخاف آخره .
ثمّ الزهد كلّي مشكّك له مراتب طوليّة وعرضيّة ، يتعرّض لها علماء السير والسلوك والأخلاق .
وقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) : الزهد عشرة أجزاء فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا ... ».
وأمّا ثمرات الزهد وآثاره في حياة المؤمن ولا سيّما طالب العلم فأوّلها :
الحكمة والعلم المبارك النافع ، والمخزون في القلوب والنفوس من لدن حكيم عليم .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ : « يا أبا ذرّ ، ما زهد عبدٌ في الدنيا إلاّ انبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه ، ويبصّره عيوب الدنيا وداءها ودواءها ، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام ».
« من يرغب في الدنيا فطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها ، ومن زهد فيها فقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلّم ، وهدىً بغير هداية ، وأذهب عنه العماء وجعله بصيراً ».
« يا أبا ذرّ : إذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا فاستمع منه ، فإنّه يلقى الحكمة ».
يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « من زهد في الدنيا ولم يجزع من ذلّها ، ولم ينافس في عزّها هداه الله بغير هداية من مخلوق ، وعلّمه بغير تعليم ، وأثبت الله الحكمة في صدره وأجراها على لسانه ».
ومن ثمرات الزهد شرح الصدر ، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى : (أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلى نُور مِنْهِ) ; إنّ النور إذا وقع في القلب انفسخ له وانشرح . قالوا : يا رسول الله ، فهل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت .
ومنها : المكاشفة ورؤية ملكوت الأشياء وحقائقها كما هي ، وإنّ علمائنا الأعلام نالوا في هذا المقام درجات من الحديث المستصعب ، أعطاهم الله الكرامات والمقامات الرفيعة وفتح سمعهم وأبصارهم ، فكانوا يسمعون ما لا يسمع غيرهم ويبصرون ما لا يبصر غيرهم .
عن سلام ، قال : كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل عليه حمران بن أعين ، فسأله عن أشياء ، فلمّا همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام) : اُخبرك أطال الله بقاك وأمتعنا بك ، أ نّا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى ترقّ قلوبنا وتسلوا أنفسنا عن الدنيا ، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثمّ نخرج من عندك ، فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا ؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام) : إنّما هي القلوب مرّة يصعب عليها الأمر ومرّةً يسهل . ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام) : أما إنّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالوا : يا رسول الله ، نخاف علينا النفاق ! قال : فقال لهم : ولِمَ تخافون ذلك ؟ قالوا : إنّا إذا كنّا عندك فذكرتنا روعنا ووجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا فيها حتّى كأ نّا نعاين الآخرة والجنّة والنار ، ونحن عندك . وإذا دخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والمال يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنّا عليها عندك ، وحتّى كأ نّا لم نكن على شيء ؟ أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق ؟ فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كلاّ ، هذا من خطوات الشيطان ليرغّبكم في الدنيا ، والله لو أ نّكم تدومون على الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ».
وفي خبر آخر : « لولا هيام الشياطين على قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع ».
قال الحواريّون لعيسى (عليه السلام) : ما لَكَ تمشي على الماء ونحن لا نقدر على ذلك ؟ فقال لهم : وما منزلة الدينار والدرهم عندكم ؟ قالوا : حسن . قال : لكنّهما عندي والمدر سواء .
ومن ثمرات الزهد تسهيل الطريق إلى الله سبحانه ، فإنّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : « العلم يرشدك إلى ما أمرك الله به ، والزهد يسهّل لك الطريق إليه ».
ومن ثمراته : معرفة الدنيا وعيوبها ، عن أمير المؤمنين : « إزهد في الدنيا يبصّرك الله عوراتها ، ولا تغفل فلست بمغفول عنك ».
ومن ثمراته : أنّ كلّ واحد يجب أن يكون من الصلحاء في حياته ، وأن يصلح حاله ودنياه وآخرته ، فمفتاح الصلاح الزهد ، قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : « الزهد مفتاح صلاح ، الورع مصباح نجاح ».
ومنها : نزول الرحمة وشمولها ، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إزهد في الدنيا تنزل عليك الرحمة » ومعلوم أثر نزول الرحمة على طالب العلم أن يوفّق في حياته ويرى بركات علمه .
ومنها : سعادة الدنيا ، والسعادة كلّ واحد يطلبها[3] ، وأمير المؤمنين (عليه السلام)يقول : « إنّكم إن زهدتم خلصتم من شقاء الدنيا وفزتم بدار البقاء ».
ومنها : الحرّية ، وهي اُنشودة الأحرار في العالم ، وما أكثر الدماء التي سفكت من أجلها ، ولكنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول : « من زهد في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربّه ».
ومنها : العزّ والكرامة ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أفلح الزاهد في الدنيا ، حظى بعزّ العاجلة وبثواب الآخرة ».
ومنها : الراحة واستهانة المصيبات ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) :
« الزهد في الدنيا الراحة العظمى ».
« السلامة في التفرّد ، الراحة في الزهد ».
« من زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ».
« من زهد في الدنيا هانت عليه مصائبها ولم يكرهها ».
« من زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ».
« الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن ، والرغبة فيها تتعب القلب والبدن ».
« الرغبة تورث الهمّ والحزن ».
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّ الزاهد في الدنيا يريح ويريح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة ، والراغب فيها يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة ».
قال الإمام عليّ (عليه السلام) : « من زهد في الدنيا لم تفته ، من رغب فيها أتعبته وأشقته ».
وفي وصاياه لولده الحسن (عليه السلام) يقول : « يا بني ، فإن تزهد فيما زهّدتك فيه وتعزف نفسك عنها ، فهي أهل ذلك ، وإن كنت غير قابل نصيحتي إيّاك فيها ، فاعلم يقيناً أ نّك لن تبلغ أملك ولا تعدو أجلك ، فإنّ في سبيل من كان قبلك ، فخفّض في الطلب وأجمل المكتسب ».
ومنها : الغنى ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « لن يفتقر من زهد ».
ومنها : الحكمة التي هي ضالّة المؤمن ، أين وجدها أخذها ، وإنّها من الخير الكثير ، وتزيد على الدنيا وما فيها ، فإنّها متاع قليل ، فمن ثمرات الزهد الحكمة ، وإنّما تثمر مع الزهد ، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « مع الزهد تثمر الحكمة ».
ومنها : الصبر ، الذي هو أساس الأخلاق ، قال الإمام الكاظم (عليه السلام) : « إنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا » ، فبين الزهد والصبر تلازم ، فمن صبر زهد ، ومن زهد صبر .
ومنها : اجتناب الحرام وترك المعاصي ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أزهد الناس من اجتنب الحرام » ، فالزهد يوجب ترك الحرام وترك الحرام يوجب الزهد .
وهناك فوائد وثمرات كثيرة لمن زهد في هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها ، ويكفي في دناستها وخسّتها ، أ نّها مطلوبة الظالمين والفاسقين والكفّار والمنافقين .
الله الله في الزهد ، فلا يفتنك يا طالب العلم ، أيّها الأخ العزيز ، فكما قال مولانا وإمامنا الصادق (عليه السلام) : « ألا من صبّار كريم ، وإنّما هي أيّامٌ قلائل ».
فعلينا أن نصبر في هذه الأيّام القلائل لسنين ، صبروا أيّاماً قليلة وأعقبتهم أيّاماً طويلة في راحة وجنّة نعيم ، عند مليك مقتدر في مقعد صدق ، يطوف عليهم الحور العين والولدان المخلّدين بأكواب وأباريق ، تجري من تحتهم الأنهار ـ رزقنا الله وإيّاكم ـ .
فكن يا طالب العلم الإلهيّ زاهداً وابحث عن الزهّاد وعاشرهم وصاحبهم وخذ الحكمة والعلم منهم ، وافعل كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إذا هرب الزاهد من الناس فاطلبه ، إذا طلب الزاهد الناس فاهرب منه » ، ولا تقل في الدنيا قول الزاهدين وتعمل فيها عمل الراغبين ، فكن الاُسوة الحسنة والقدوة الصالحة ، ولا تفعل ما تندم عليه في الدنيا والآخرة .
هذه جملة من الروايات الشريفة في فضل الزهد ومقامه الشامخ وآثاره في الدنيا والآخرة ، وسلفنا الصالح جسّدوا آيات الزهد في حياتهم .
فهذا شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري (قدس سره) لمّا اشتهر بالزعامة الدينية والمرجعية بعثت الحكومة العثمانية مندوباً إليه ، فلمّـا دخل عليه وكان يتوقّع أن يعيش في القصور الزاهية حوله الحشم والخدم ، إلاّ أ نّه رأى شيخاً جالساً على حصير عتيق وعلى رأسه عمامة بيضاء لابساً جبّة زهيدة الثمن ، ثمّ رآه قام بنفسه وصبّ حليباً في قدح وأضاف عليه قليلا من الماء وقدّمه إليه ، ولمّـا شرب الحليب استاذن منه الشيخ على أنّ تلامذته بانتظاره للدرس فودّعه ، ولمّـا رجع المندوب فأخبر القوم قائلا : وجدت الشيخ زاهداً كما أوصى نبيّ الإسلام بالزهد[4].
كان صدر المتألّهين يعتقد بأنّ طالب العلم يجب أن لا يفكّر في المال والجاه إلاّ ما كان ضرورياً لمعاشه ، وكان يقول : من طلب العلم للمال والجاه فإنّه موجودٌ خطر ، يجب الحذر منه .
وفي جلسات درسه كان يقول : تعلّم العلم والفنّ بدون جوهره أشبه ما يكون بتمكين قاطع الطريق من الخنجر ، إنّ تمكين الزنجي السكران من الخنجر أفضل من وقوع العلم بيد من ليس أهلا له .
وسلفنا الصالح كان يطلب العلم للعلم ، ولتبليغ الرسالة وهداية الناس ، وللأجر والثواب ، لا للمال والمنال والجاه والمقام واحترام الناس وما شابه ، فكانوا يدرسون ليصبحوا علماء صلحاء حتّى إذا علموا بأ نّهم سيعيشون الفقر والحرمان المادّي حتّى آخر يوم من حياتهم .
فالزهد عنوان رجل الدين ، وخلقه الأوّل والأخير ، وإليكم هذه القصّة في الزهد : لمّـا وضع الاسكندر في تابوته ، قيل للعلماء : تكلّموا فقد كان يسمع إليكم وينصت لكم ، وكان اثني عشر عالماً .
فقال الأوّل : يا أ يّها الساعي المتعصّب ! جمعت ما خانك عند الاجتماع ، وودّعك عند الاحتياج ، فلا قرابة يعضدك ، ولا وزير يفتقدك .
وقال الثاني : قد ذهبت زهرة بهجته كما ذهب شعاع الشمس بنور النبات .
وقال الثالث : هذا الاسكندر صاحب الاُسراء أصبح اليوم أسيراً .
وقال الرابع : قد أمنك من كان يخافك ، فهل أمنت من الذي كنت تخافه ؟
وقال الخامس : بل هل أمنت ما كنت تخاف نزوله بك ؟
وقال السادس : اُنظروا إلى حلم النائم كيف انقضى ، وإلى ظلّ الغمام كيف انجلى .
وقال السابع : قد كان هذا الشخص يسأل عمّا قبله ، ولا يسأل عمّـا بعده .
وقال الثامن : ورد علينا هذا الجسد بما كان يستبقيه .
وقال التاسع : ما أرغبنا فيما فارقت وأغفلنا عمّـا عاينت !
وقال العاشر : ما أبعد شبه مكانك الذي أنت به اليوم من مكانك الذي كنت به الأمس !
وقال الحادي عشر : لم يقضِ هذا الجسد نهمته من هذه الدنيا حتّى قضت الدنيا نهمتها منه .
وقال الثاني عشر : أنت أمس كان أنطق منك اليوم ، وأنت اليوم أوعظ منك بالأمس .
من الديوان المنسوب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) :
أضحت قبورهم من بعد عزّهم *** تسفي عليها الصبا والحرجف الشمل
لا يدفعون هواها عن وجوههم *** كأ نّهم خشب بالقاع منجدل
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا *** أين الأسرّة والتيجان والحلل ؟
أين الوجوه التي كانت منعّمة *** من دونها تضرب الأستار والكلل ؟
فأفصح القبر عنهم حين ساءله *** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قال طال ما أكلوا دهراً وما شربوا *** فأصحبوا بعد طول الأكل قد اُكلوا[5]
أجل ، من نظر إلى حقيقة الدنيا ، فإنّه يزهد فيها لا محالة .
ومن زهد طالب العلم أن لا يعجل للتصدّي إلى مسؤولية التدريس وإمامة الجماعة ، وما شابه ذلك ، بل لا يكون منه ذلك حتّى تكمل أهليّته ، ويظهر استحقاقه لذلك على صفحات وجهه ونفحات لسانه ، وتشهد له به صلحاء مشايخه وأساتذته . ففي الخبر الشريف : « المتتبّع لما لم يعطَ كلابس ثوبي زور » ، وقال بعض الفضلاء : من تصدّر قبل أوانه فقد تصدّى لهوانه ، وقال آخر : من طلب الرئاسة في غير حينه ، لم يزل في ذلّ ما بقي ، وأنشد بعضهم :
لا تطمحنّ إلى المراتب قبل أن *** تتكامل الأدوات والأسباب
إنّ الثمار تمرّ قبل بلوغها *** طعماً وهنّ إذا بلغن عِذاب[6]
وقد شاهدنا في عصرنا هذا كم من أشخاص ادّعوا المرجعيّة قبل أوانها فذلّوا ، وكم تصدّى لتدريس درس الخارج وهو شابّ لم يبلغ الحلم في العلم والأدب فأهان نفسه ، وأصبح في خبر كان .
وكم من مرجع ورع تقي قد زهد في الرئاسة ، وفرّوا منها ، فأتتهم ذليلة حقيرة ، وتصدّوا لها لأداء التكليف الشرعي ، لا طمعاً بها وحبّاً لها ، فاعتبروا يا ذوي النهى .
ومن الواضح جدّاً أنّ أبرز خصيصة في القادة الإلهيّين في الشرائع السماويّة المختلفة ، ولا سيّما في دين الإسلام الحنيف ، هي البساطة والزهد واجتناب مظاهر الترف والكماليّات .
وكان السلف الصالح يوصون أهل العلم دائماً باجتناب البذخ والترف ، واختيار بساطة العيش ، والتزهّد في حطام الدنيا ، ومظاهرها الخلاّبة .
وخير ما نقتدي به سيرة المعصومين (عليهم السلام) ، فكانوا يعيشون بمنتهى البساطة والزهد ، والتأريخ حافل بالشواهد على ذلك .
فهذه فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) ، جاء في حديث طويل حولها : « فنهضت والتفّت بشملة لها خَلِقَة ( بالية ) قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل ، كلّما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة ، وبكى وقال : وا حزناه ، إنّ بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير ، وابنة محمّد (صلى الله عليه وآله) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً .
فلمّـا دخلت فاطمة الزهراء (عليها السلام) على النبيّ (صلى الله عليه وآله) قالت : يا رسول الله ، إنّ سلمان تعجّب من لباسي : فوالذي بعثك بالحقّ ما لي ولعليّ (عليه السلام) منذ خمس سنين إلاّ مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا ، فإذا كان الليل افترشناه ، وإنّ مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : يا سلمان ، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق[7].
يقول السيّد الإمام الخميني (قدس سره) : « يجب أن تكون حياة الروحانيين بسيطة ، الذي حفظ الروحانيّة وجعلها تتطوّر إلى هنا ، بساطة العيش ، اُولئك الذين كانوا منشأ آثار كبيرة في الحياة التزموا ببساطة العيش ، اُولئك الذين كانوا موجّهين لدى الناس ، وكان الناس يلتزمون بتعاليمهم ، التزموا ببساطة العيش .
كلّما مشيت خطوة واحدة باتّجاه أن يكون بيتك أحسن ، نقص من معنويّتك من قيمتك بنفس ذلك المقدار ، قيمة الإنسان ليس بالبيت ، ولا بالحديقة ، لو كانت قيمة الإنسان بمثل هذا لاهتمّ به الأنبياء ، قيمة الإنسان ليست بأن يكون له ضجيج وعجيج وسيارة فخمة ، أن يكون كثير الذهاب والإياب ، قيمة الروحانية ليست بأن يكون للروحاني جهاز ، مكتب ومفكّرة ».
يقول بعض خواصّ الإمام عليه الرحمة : كان الحرّ في النجف الأشرف شديداً جدّاً ، وكانت تصل درجة الحرارة أحياناً إلى 50 درجة ، وذات يوم ذهبت مع عدد من الإخوة للإمام وقلنا : سيّدنا الحرّ شديد وأنت مُسنّ ، وبما أنّ حرّ الكوفة معتدلا فلماذا لا تذهب إليها كما يذهب الآخرون .
قال في الجواب : وكيف أذهب إلى الكوفة من أجل برودة هوائها ، وإخواني في إيران في السجن .
نقل عن بنت الشيخ الأنصاري أ نّها قالت : في أيّام الطفولة ، عندما كنت أذهب إلى المدرسة ، كان الأهالي يرسلون الطعام أحياناً إلى المدرسة ليتناول الطالبات الطعام مع المعلّمة ، ذات يوم قلت لوالدتي : إنّهم يحضرون معهم ألوان الأطعمة وأنت ترسلين لي الخبز والكرّاث فقط ، إنّي أخجل من ذلك ، سمع الشيخ كلامي فقال منزعجاً : من الآن فصاعداً أرسلي لها خبزاً فقط ، حتّى تصبح تتذوّق الخبز والكرّاث .
لم يكن
الشيخ الأعظم قدوتنا في العلم والعمل يملك أيّة ثروة ، وكان يكتفي دائماً
بأقلّ ما يقنع به ، كما كان أليف الضائقة المادّية والإعسار ، كان
يقول :
أنا شخص
فقير ، يجب أن أعيش كواحد من الفقراء[8].
وكان رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) يقول : أنا مسكين وأحبّ المساكين واُجالس المساكين .
فماذا تقول أنت يا طالب العلم في حياتك وسيرتك ـ الذاتيّة والأخلاقيّة ـ ؟
فاصبر صبراً جميلا ، وعليك بالجهاد الأكبر ، وتخلية القلب من الصفات الذميمة ، وتحلية الروح بالسجايا الحميدة ، وتجليتها في سيرك إلى الله سبحانه ، حتّى تصل إلى كمالك المنشود ومقامك المحمود ، ليس ذلك إلاّ التخلّق بأخلاق الله عزّ وجلّ والتحلّي بصفات الأنبياء والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فأنت وارثهم فيما يحملون من المسؤوليّات الثقيلة والمقامات الرفيعة .
وإنّما تنال ذلك بالعلم والعمل الصالح ، بالورع والتقوى .
وقد ذكر علماء الأخلاق مراتب أربعة للورع ، بين الواحدة والاُخرى ممّـا عليه الناس وطلاّب العلوم الدينيّة مسافات بعيدة المدى ، فالورع يتفاوت بين الناس في مراحل :
1 ـ المرحلة الاُولى سمّيت بورع التائبين : وذلك حين يمنع العبد إيمانه من ارتكاب المحرّمات خوفاً من المولى تبارك وتعالى أن تنطبق عليه صفة الفسق في دينه ، واتّباع الشيطان ، وهذا ما يسمّى بتقوى العامّ ـ كما مرّ ـ فإذا ترقّى فيه ذلك الخوف اتّصف :
2 ـ بورع الصالحين : وذلك حين يمتنع عن اقتحام الشبهات خوفاً من ارتطامه في المحرّمات ، لأنّ من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، فيدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ، وهذا ما يسمّى بتقوى الخاصّ ، ويترقّى عنده هذا الشعور أو الخوف فيصبح ورعه :
3 ـ ورع المتّقين : وذلك حين يبتعد عن المباحات خوفاً من أن تجرّه إلى المحرّمات والمكروهات كمن يتوقّف عن ذكر أحوال الناس ـ المباح ـ خشيةً من أن يجرّه إلى الغيبة المحرّمة ، وهذا يسمّى بتقوى الخاصّ الخاصّ ، ويترقّى هذا الخلق في بعضهم حتّى يكون من المقرّبين فينهيه إلى :
4 ـ ورع السالكين : إذ يكون حينئذ قد توحّدت غاياته في غاية واحدة ، والتقت أهدافه في هدف واحد هو ذكر الله تعالى والعمل بما يحبّه الله تعالى ، فيتجنّب كلّ خوض في غير ذلك الله ، ويستغفر من كلّ لذّة ليس فيها اسم الله ، ويمتنع عن كلّ سعي إلاّ ما يحبّه الله تبارك وتعالى له .
فهي وإن كانت مباحة لا يخشى أ نّها تجرّه إلى المحرّمات ، ولكن فلسفته في الحياة المستمدّة من إيمانه العميق تزهّده في كلّ أمر لا يؤدّي إلى الغاية التي من أجلها خلقه المولى وبها امتنّ عليه .
فكلّ حديث غير الله عزّ وجلّ يعدّ عنده لغوٌ فارغ ، لأ نّه لا يحقّق الهدف الأسمى الذي يسعى لتحقيقه ، أو لأ نّه يحجبه عن محبوبه الذي لا يرغب أن يحجبه شيء عنه ، وكلّ حركة وسكون في غير ما يحبّ الله فضول لا يرضاه لنفسه ، وهو يأخذ نفسه بالجدّ والحزم في اُموره كلّها[9].
وأنتم يا طلاّب العلوم الدينية والفضائل دعيتم في سيرتكم الأخلاقيّة ـ العلميّة والعمليّة ـ إلى مثل هذا الورع السامي والكامل ، وإلى ربّك المنتهى ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
[1]آل عمران : 153 .
[2]الحديد : 23 .
[3]ذكرت مفهوم السعادة ومن هو السعيد من خلال آراء الأعلام والروايات والآيات في كتاب ( السعيد والسعادة بين القدماء والمتأخّرين ) ، وهو مطبوع ، فراجع .
[4]قصص وخواطر : 228 .
[5]آداب النفس : 100 .
[6]منية المريد : 179 .
[7]سيماء الصالحين : 379 ، عن البحار 43 : 88 .
[8]سيماء الصالحين : 394 .
[9]من مقدّمة كتاب ( الطريق إلى الله ) : 12 .