متعلّقات
الحبّ والعشق

الرغبة والحبّ ، هو الميل القلبي والباطني نحو المحبوب والمرغوب ، ويقابلهما البغض والكراهة.

والحبّ في الإنسان تابع للقوّة الدرّاكة فيه ، وإدراكه باعتبار حواسّه الظاهرية والباطنية وقوّته العاقلة ، فيكون محبوبه حينئذ باعتبار ما يتلاءم مع نفسه ، وأ نّه تارةً باعتبار جسده ، فيتولّد منه الحبّ الحسّي والجسدي ، كحبّ النساء في إشباع الغريزة الجنسية ، واُخرى باعتبار ملاءمته للروح ، فيتولّد منه الحبّ الروحي كحبّ العلم والفن.

فمدركات الإنسان الملائمة له تكون في الواقع هي أنواع محبوبيّته ، وإن أفرط في الحبّ وازداد حبّاً ، فإنّه يصل إلى درجة العشق ، فتكون المحبوبات معشوقاته ، وأقوى المدركات هي مدركات العقل ، فألذّ اللذائذ هي الإدراكات العقلية عند أهله ، وكلّما ازداد العقل وذلك بالعلم ولقاح المعرفة ، ازداد الحبّ ، حتّى يصل إلى درجة العشق ، وذلك عندما يدرك الإنسان جمال الشيء وحقيقته.

والجمال إمّا أن يكون باطنياً أو يكون ظاهرياً ، فينقسم حينئذ إلى جمال ظاهري ، وجمال باطني.

فمن الجمال الحسّي والظاهري الطيب والنساء ، ومن الجمال الباطني والروحي الصلاة.

وقد ورد في الحديث النبويّ الشريف :

اُحبّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرّة عيني الصلاة.

وهذا يعني ما كان مقدّمة لقرّة العين وهي الصلاة ، وهي الجمال الباطني ، فإنّه يكون من الحبّ الممدوح ، فينقسم الحبّ باعتبار متعلّقاته إلى الحبّ الممدوح والحبّ المذموم ، كما ينقسم باعتبار مبادئه إلى أقسام ، كحبّ النفس وحبّ الغير ، وحبّ الإحسان والخير ، ثمّ الحبّ كلّي تشكيكي قابل للشدّة والضعف ، والزيادة والنقصان ، فله مراتب طولية وعرضيّة.

ومن أجمل مصاديق الحبّ والعشق : هو حبّ الله ، وحبّ رسوله وأنبيائه وأوليائه ، وحبّ العقائد السليمة والصحيحة ، والأخلاق الممدوحة.

ومن أقسام الحبّ ما يتمّ فيه المشاركة ، كحبّ الصبي للصبي ، والتاجر للتاجر ، باعتبار المشاركة في الوصف الظاهري من الصباوة والتجارة وما شابه ذلك ، وكلّما كان السبب أقوى كان الحبّ أشدّ وأقوى ، حتّى يصل إلى درجة العشق ، كما ذكرنا ذلك تكراراً لزيادة التقرير.

وللإنسان غرائز عديدة ، من أهمّها ( غريزة الحبّ ) ، وكلّ موجود في حركته الجوهرية ـ كما عند صدر المتألهين ـ فيه قوّة الحبّ ، وإنّه عاشق لكماله المودوع في جبلته ووجوده ، فكلّ شيء يَسبحُ ويُسَبِّح بحمد ربّه ، ويتحرّك نحو كماله بدرك جمال المحبوب والمعشوق ، وكمال المحبوب والمعشوق هو الله سبحانه.

ثمّ يتولّد من الحبّ الشوق ، ومن الشوق الوصال ، ومنه الاُنس ، ثمّ الفناء في المحبوب والمعشوق ، وهو كمال الحبّ والعشق.

وقيل : الغريزة الجنسية بين الزوجين هي العشق الحيواني ، وهي الشهوة الجنسية التي في الحيوانات أيضاً ، ولكن في منطق القرآن الكريم إنّما العشق بين الزوجين عبارة عن المودّة والرحمة الإلهيّة :

( وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )[1].

وهو العشق الإنساني.

وأساس العشق هو حبّ الكمال ، وكلّ ممكن فيه الوجود ، فباعتبار وجوده ، يكون محبّاً وعاشقاً ليصل إلى كماله . وهو إمّا أن يكون طبيعياً ، كعشق الحجر الساقط ليصل إلى مكانه الطبيعي ، أو اختيارياً كعشق الإنسان لغيره.

مراتب الحبّ :

ثمّ للحبّ مراتب :

أوّلها : الهوى ، وهو الميل الباطني نحو المحبوب.

ثانيها : العلاقة ، وهو الحبّ الملازم للقلب ولا ينفكّ عنه.

ثالثها : الكلَف ، وهو شدّة الحبّ.

رابعها : العشق ، ما يزيد على الحبّ.

خامسها : الشعف ( بعين مهملة ) ، وهو إحراق القلب بزيادة الحبّ.

سادسها : الشغف ( بغين معجمة ) ، يصل الحبّ إلى غلاف القلب.

سابعها : الجوى ، وهو الحبّ الباطني.

ثامنها : التيم ، يطلب المعشوق الحقيقي : « واجعل قلبي بحبّك متيّماً »[2].

تاسعها : التَبْل ( بفتح التاء وسكون الباء ) ، من شدّة الحبّ يتغلّب عليه الوجع والمرض.

عاشرها : التدلية ( بفتح التاء وسكون الدال ) ، ينتهي إلى زوال العقل.

الحادي عشر : الهيوم ( بضمّ الهاء والياء ) ، وهو الفناء في المعشوق ، فلا يرى إلاّ المعشوق ، كهيام قيس في حبّ ليلى.


[1] الروم : 21.

[2]دعاء كميل.

جدال العقل والعشق

جدال العقل والعشق

كان في قديم الزمان ، في الأدب العالمي ، لا سيّما في الأدب الفارسي والثقافة الفارسية ، وكذلك الأدب الأوربي[1] ، حكاية الجدال العنيف بين العقل والعشق ، ولمّا كان مركز العشق هو القلب ، فالجدال يرجع في الواقع بين العقل والقلب ، والإنسان وإن كان ظاهره يتألّم بلسعة البقّة ، وتقتله الشهقة ، إلاّ أ نّه في باطنه ووجوده يحيط بالعالم الميتافيزيقي وما وراءه من الروح الإلهيّة ، وإنّ فيه انطواء العالم الأكبر :

أتزعم أ نّك جرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )[2].

وإنّه ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه أنّ سمائي وأرضي لا تسعني ويسعني قلب عبدي المؤمن ، فيكون قلبه حينئذ عرش الرحمن وحرم الله جلّ جلاله.

والعقل لغةً : من عقال البعير لضبط ركبتيه عند بركه ، وليكون تحت تصرّف صاحبه ، وللعقل معنى اسمي وآخر مصدري . والثاني بمعنى الإدراك للأشياء ، والأوّل حقيقة يميّز بها الخير من الشرّ ، والحقّ من الباطل.

والعقل اصطلاحاً : بمعنى ضبط الأهواء ، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل . ويأتي العقل بمعنى الفهم أيضاً ، كما له تعاريف اُخرى في علوم شتّى ، فهو جوهر مجرّد ذاتاً وفعلا ، أو وجود منبسط ، فإذا كان العقل كانت الأشياء ، أو القوّة الدرّاكة للكلّيات ، أو القوّة الدرّاكة للخير والشرّ ، أو ملكة تدعو إلى الخير ، أو الملكة لتنظيم اُمور المعاش ، أو القوّة المدركة المطلقة التي تنقسم إلى العقل النظري والعقل العملي ، والأوّل ينقسم إلى العقل الهيولائي وبالملكة وبالعقل وبالمستفاد ، والثاني إلى التخلية والتحلية والتجلية والفناء . أو العقل هو الروح القدسي الموجود بالفعل ، وهو العقل الفعّال الذي يخرج ما بالقوّة إلى ما بالفعل ، وهو العقل العاشر عند الفلاسفة المشّائين.

قال الإمام الصادق في تعريف العقل :

« هو ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان ».

وهذا من التعريف باللازم ، وأوّل ما خلق الله في عوالم الشرف هو العقل ، وذلك من نور مخزون مكنون ، في سابق علمه ، الذي لم يطلع عليه ، لا نبيّ مرسل ، ولا ملك مقرّب.

وأمّا القلب فهو معروف عند الجميع ، وهو مركز الإدراكات والأحاسيس والعواطف ، وإنّه وراء القلب الصنوبري الذي في القفص الصدري لتصفية الدم ، وما جاء في الآيات والروايات من ذكر القلب والقلوب وأوصافها وأقسامها إلى ممدوح ومذموم ، إنّما هو المعنى الروحاني والمعنوي للقلب ، وكذلك الصدر والفؤاد ، وعند العامّة يطلق القلب على النفس أيضاً عندما يقال : قلبي يشتهي هذا ، أي نفسه تشتهيه[3].

ويرجع تاريخ الجدال الموهوم بين العقل والعشق إلى القدماء من الفلاسفة ، فإنّ أفلاطون تلميذ سقراط يقول بالمثل[4] وبالإشراق ، وتلميذه أرسطوطاليس يذهب إلى البرهان العقلي ويفنّد المثل ، وقد اشتهرت فلسفته بالمشائية ، فالنزاع بين الإشراقيين والمشّائيين ، ومن ثمّ بين أصالة الوجود وأصالة الماهيّة ، وبين العرفاء القائلين بالشهود والذوق وصيقلة القلب حتّى يكون كالمرآة ، ومن ثمّ تطبع فيها حقائق الأشياء إشراقاً ، وبين الفلاسفة القائلين بالأدلّة العقليّة والصغرى والكبرى والنتيجة ، وبالحجّة والبرهان العقلي ، ثمّ موضوع الفلسفة هو : ( الموجود بما هو موجود أو الموجود المطلق ) وموضوع العرفان ( وجود الحقّ سبحانه بين الارتباطين ).

والواقع لا اختلاف بين الموضوعين في المآل والنتيجة ، وهذا ما نعتقده ونقول به ، فإنّ العقل نور من الله جلّ جلاله ، وبه يعبد ويكتسب جنانه ، كما أنّ القرآن نور ، وكلام الأئمة الأطهار نور ، والرسول الأعظم نور وسراج منير ، وخلق الله آدم فتجلّى فيه مصباح ، وخلقت الملائكة من النور ، والله سبحانه نور السماوات والأرض ، ومن نوره خلق النور.

والعشق نور ونار ، فنورانية العشق مع نورانية العقل من باب ( نورٌ على نور ) يهدي الله لنوره من يشاء ، فمن أصابه من ذلك النور كان من المهتدين.

ولا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، فكان من وسع الإنسان أن يحمل النورين : نور العقل ونور القلب ، ومن الأوّل الفكر ، ومن الثاني العشق والذكر ، و ( حملها الإنسان ) إنّه حمل تلك الأمانة الإلهيّة ، إلاّ أنّ أكثر الناس غير شاكرين ، فقصّروا في حملها ، وكان الإنسان ظلوماً جهولا.

وفي الدعاء :

« اللهمّ اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي لساني نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن يساري نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأمامي نوراً ، وخلفي نوراً ، واجعلني نوراً ، وأعظم لي نوراً ».

وحينئذ يكون الإنسان نورانياً بنور الله سبحانه ، فإنّه قد طلب في دعائه هذا النور من النور المطلق ومطلق النور ، وبهذا النور يكون عاقلا وعاشقاً ، فلا جدال حينئذ بين عقله وقلبه ، بل كلّ إلى ذاك الجمال والنور المطلق يسير ويُشير.

فالعقل والعشق بمنزلة الجناحين لمن أراد أن يحلّق في سماء الفضائل ، ويصل إلى الجمال المطلق ومطلق الجمال.

فمعرفة الحقّ بالاستدلال والبرهان ، كما أ نّه بالذوق والإلهام والكشف والشهود.

والطرق إلى الله سبحانه بعدد أنفاس الخلائق ، إلاّ أنّ الصراط المستقيم إنّما هو صراط واحد ، فمن التكثّر إلى الوحدة ، ومن الجلال إلى الجمال ، ومن الخلق إلى الحقّ جلّ جلاله.

ونعتقد بحقيقة هذا العالم التكويني والذي نعيش فيه ، كما نعتقد بما وراء هذا العالم وكلاهما عندنا من الحقيقة ، وليس كما عند أفلاطون من القول بالمثل بأنّ هذا العالم ظاهر لعالم آخر واقعي وكلّي قائم بنفسه ، بل كلا العالَمين من الواقع ، والعقل يدرك ما في هذا العالم ، كما أنّ القلب يدرك ما في ذلك العالم ، وكلاهما من جنود الله سبحانه ، ومن العوامل الموصلة إليه عزّ وجلّ.

إلاّ أ نّه جلّ جلاله لا يكتنفه العقول ، ولكن يسعه قلب عبده المؤمن ، وبهذا ربما يتوهّم من لم يقف على الحقيقة ، أنّ بينهما جدال وصراع ، وأحدهما ينفي الآخر ، ويُسفّه طريقه ، فترى النزاع قائماً بين الفلاسفة والعرفاء ، وكلّ يدّعي الوصل بليلى ، والحال في الواقع كلّ إلى ذاك الجمال يشير.

نعم العشق يدلّ على الحياة الطيّبة أكثر ممّا يدلّ عليه العقل ، ويعطي للحياة جمالا خاصّاً ، وروحانيّة فائقة ، فإنّ القلب أوسع ظرفاً من العقل ، كما أنّ حكومة العشق أوسع دائرة من حكم العقل.

ولا يخفى أنّ علماء النفس لا سيّما المعاصرين منهم يبحثون أيضاً عن العشق ، إلاّ أ نّ محور دراساتهم حول العشق بين الرجل والمرأة ، أي العشق الجنسي ، فالكلّ حينئذ يحمل جوهرية العشق ، إلاّ أ نّه ربما يخطئ في المصاديق كما هو عند أكثر الناس ، فيعشق ما لا يستحقّ العشق ، والعقل هنا يظهر دوره وحكومته ، فإنّه يدلّ على العشق الحقيقي وكيفية ذلك . فمن الناس من يعشق والده أو اُمّه ، أو يعشق الفلسفة أو الفنّ ، أو يكون عاشقاً لله سبحانه.

وفرويد العالم النفسي الغربي يذهب إلى أنّ العشق هو عبارة عن الغريزة الجنسية ، ولكن هذا إنّما هو مظهر العشق الحيواني ، فيلزمه أن يُحطّ من قيمة الإنسان ، ويُنزّله إلى حضيض الحيوانية ، بعد أن كان في مقام الإنسانية ، وإنّه بإمكانه أن يصعد إلى قمّة الكمال والجمال . ويكون في عداد الملائكة ، بل يتجاوزهم إلى قاب قوسين أو أدنى في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

والناس كما في عقولهم وإدراكاتهم العقلائية يتفاوتون ، وليس الكلّ على نمط واحد ، كذلك في عشقهم ، فإنّهم يختلفون في الشدّة والضعف ، كما يختلفون في متعلّقات العشق.

ثمّ العشق الحقيقي من أوصافه أنّ له قوّة خلاّقة ، توجب ترقّي الإنسان وتصعيده إلى قمّة السعادة وشموخ الكمال وصباحة الجمال.

ولأفلاطون الحكيم رسالة في العشق باسم ( مائدة أفلاطون ) يذهب إلى أنّ الحب والعشق في البداية ليس هو الميل نحو الجمال ، بل الحبّ في الإنسان هو الميل نحو التوالد والتناسل في محلّ جميل ، وذهب إلى هذه العقيدة من المتأخرين الكاتب الألماني ( شوپنهاور ) أيضاً ، ثمّ أفلاطون ( على لسان سقراط ) يعتقد أنّ نتيجة المحبّة في التوالد هو حبّ البقاء والخلود ، ثمّ يرى من قوى عنده الجانب العقلائي فإنّه يفكّر بخلوده من خلال فنونه وعلومه وإبداعاته الفكرية ، ثمّ يعتقد بالعشق المجازي وأ نّه قنطرة للعشق الحقيقي عندما يدرك الإنسان الجمال المطلق ، وأ نّه هو الذي يستحقّ العبادة والتقرّب إليه لا غير.

وقد تعرّضنا من قبل إلى العشق المجازي ومذمّته في الإسلام[5] ، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سئل عن العشق ، فقال (عليه السلام) : « قلوب خلت عن ذكر الله فأذاقها الله حبّ غيره » . فلا نعيد البحث طلباً للاختصار.

عودٌ على بدء :

ثمّ العقل البشري وإن كان المائز بينه وبين العجماوات ، وبه تشرّف على المخلوقات ، إلاّ أ نّه غير قادر على درك الله سبحانه : ( لا تدركه الأبصار ولا يكتنفه العقول ، وهو يدرك الأبصار ويكتنف العقول ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ، وقد أحاط بكلّ شيء علماً ).

وكلّ ما تصوّره الإنسان في معرفة ربّه فإنّما هو مخلوق له ، وليس بخالقه . والعقل يدرك الماهيات في مثالها وصورها ، لا في وجودها الحقيقي الخارجي.

والعقل نور وبه يستضاء في معرفة الأشياء ، فيعلم بها ، والقلب نور يرى به الأشياء ، فالعقل علم والقلب رؤية ، ومركز الحبّ والعشق هو القلب.

وبالعشق يكون الشرّ خيراً ، والكريه جميلا ، والمرّ حلواً ، فالعشق موهبة إلهية يعطيها الله من أحبّه ، وكان أهلا للعشق . وربما لا يمكن تعريف العشق ووصفه ، فهو أعظم من الكلمات والألفاظ ، فكلّ ما يقال في حدّه ورسمه ، فإنّما هو من باب شرح الاسم ، لا بيان ماهيّته وذاتياته ، فيتحيّر العقل عن إدراكه ويعجز القلب عن دركه وفهمه ، فكلّ ما يقال في تعريف العشق إنّما هو بيان حالاته وأوصافه ، وبيان أحوال العاشق والمعشوق ، وربما يصل العشق بأهله إلى أن يقال باتّحاد العاشق والمعشوق والعشق.

أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حَلَلنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته *** وإذا أبصرته أبصرتنا

وقال آخر :

روحه روحي وروحي روحه *** من رأى روحين عاشا في بشر

فما هو العشق ؟ وكيف يفعل بأهله حتّى يصل إلى مقام الفناء ؟ ! ويتجاوز الاثنينية والتكثّر إلى الوحدة والتوحّد.

ومرّ علينا أنّ لفظ العشق لم يستعمل في القرآن الكريم ، إلاّ أنّ هناك ألفاظ تدلّ على معنى العشق ومراتبه ، كالحبّ والودّ والتبتّل ، وفي اللغة العربية كلمات ترادف العشق في المفهوم والمعنى ، كالغرام والصبابة والوله والودّ والمقه والخلّة والكلف واللوعة والشغف والجوى واللعج والتدلية والهيم والتبتّل ، ومنها ما هي بمنزلة المراحل والمراتب ، كما مرّ.

وللحبّ علامات ودلالات ، حتّى لا يختلط الحقّ بالباطل.

لا تُخدعنّ فللمحبّ دلائل *** ولديه من تُحف الحبيب وسائلُ

منها تنعّمه بمرّ بلائه *** وسروره في كلّ ما هو فاعلُ

فالمنع منه عطيّةٌ مبذولةٌ *** والفقرُ إكرامٌ ولطفٌ عاجلُ

ومن الدلائل أن يرى من عزمه *** طوعُ الحبيبِ وإن ألحّ العاذلُ

ومن الدلائل أن يُرى متبسّماً *** والقلب فيه من الحبيب بلابلُ

ومن الدلائل أن تراه مشعراً *** في خرقتين على شطوط الساحل

ومن الدلائل حزنه ونحيبه *** جوف الظلام فما له من عاذل

ومن الدلائل أن تراه باكياً *** أن قد رآه على قبيح فاعل

ومن الدلائل أن تراه راضياً *** بمليكه في كلّ حكم نازل

ومن الدلائل زهده فيما ترى *** من دار زلّ والنعيم الزائل

ومن الدلائل أن تراه مسلّماً *** كلّ الاُمور إلى المليك العادل

ومن الدلائل أن تراه مسافراً *** نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل

وكمال الإنسان بالعشق ، والعشق الحقيقي هو عشق الله سبحانه ، وهذا ما يسمّى بعشق العرفاء والعشق العرفاني ، وهو الذي ينتهي بالعاشق إلى رؤية جمال المعشوق ، فلا يرى شيئاً إلاّ ويرى الله قبله ومعه وبعده ، فليس في الدير ديّار إلاّ هو جلّ جلاله ، وهذا العشق الإلهي يرى في كلّ الموجودات ، فهو في حركتها الجوهرية عاشقة لله سبحانه.

وفي الصحيفة السجّادية :

« ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً ، واخترعهم على مشيته اختراعاً ، ثمّ سلك بهم طريق إرادته ، وبعثهم سبيل محبّته »[6].

والعاشق ذاكر لمعشوقه ، فلا يغفل عنه ، والذاكر له درجات : أوّلها الميل الباطني نحو الذكر ، فيذكر بلسانه دون قلبه ، ثمّ يشتدّ الميل فيصل إلى مقام الإرادة القلبية فيذكر بلسانه وقلبه بتكلّف حضور القلب ، ثمّ يشتدّ الحبّ فيستولي الذكر على قلبه ، وهو مقام ذكر المحبّ ، ثمّ في نهاية الذكر يصل إلى مقام العشق فيستولي المعشوق على القلب ، فيهيم بحبّه ويتبتّل بذكره.

كما نشاهد هذه الحالات في عشّاق الله جلّ جلاله ، وعاشقي الحسين(عليه السلام) ، وما إقامة الشعائر الحسينية بكلّ مظاهرها ، من البكاء واللطم وسفك الدم ومشي ألف كيلومتر على الأقدام في الصحاري والبراري ، إلاّ آيات الحبّ والعشق الحسيني الذي هو من عشق الله سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم أنّ ما يفعله العاشق ، لا يدركه العاقل.

وكيف للعقل الغربي المتوغّل بالمادّيات والرذائل ، ولمن يدور في فلكه من أنصاره وأتباعه أن يدرك ما يفعله المشاة العاشقون ؟ هيهات هيهات.


[1] اعلم أنّ الأدب الأوربي بفنونه وشُعبه يبتني على أصلين ، أو بالأحرى ينتهي إلى مدرستين : المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانتيكية . ومحور الاُولى باعتبار العقل ورأس الإنسان ، والثانية باعتبار العشق وقلب الإنسان ، ومحتوى الاُولى الفكر ، ومحتوى الثانية الإلهام ، ونتيجة الاُولى الاستدلال ، ونتيجة الثانية العشق ، وينتمى إلى الاُولى الحكماء ، كما ينتمي إلى الثاني : العرفاء ، ومن غلب عليه أحكام قلبه يكون عاشقاً ، ومن غلب عليه الاستدلال والنظر يعدّ عاقلا ، ويحاول أرباب العشق أن يتخلّصوا من القيود الكلاسيكية ، كما أنّ أرباب العقل يسفّهون العشق ولوازمه ، ولا يزال الجدال بين المدرستين.

[2]الحجر : 29.

[3] لقد ذكرت أحوال القلب في كتاب ( حقيقة القلوب في القرآن الكريم ) ،وهو مطبوع ، فراجع.

[4] يرى أفلاطون إنّ عالم المحسوسات عالم ظاهري ومجازي ، وعالم المعقولات عالم واقعي وحقيقي ، ويتعرّص للمثل في جمهوريّته في قصّة الغار ، فراجع.

[5]رسالة في العشق ، طبع في كتاب ( الرافد ) الجزء الأوّل ، سنة 1398 هـ ، فراجع.

[6]الصحيفة السجّادية : الدعاء الأوّل.

العشق العرفاني