كلّ ما في الوجود من الموجودات المتكثّرة قد تنتهي إلى الوحدة ، وإنّ مقام الوحدة هو مقام الجمال ، وذكره ( الحمد لله ) ، كما أنّ مقام الكثرة مقام الجلال ، وذكره ( سبحان الله ) ، والأوّل هو الحقّ ، والثاني هو الخلق ، فمن الحقّ إلى الخلق ، ومن الخلق إلى الحقّ ، وكلّه بالحقّ.
ثمّ إنّ أصناف الموجودات مع تكثّرها تنقسم إلى قسمين : الروحاني والجسماني ، ويعبّر عنهما بالدنيا والآخرة ، والملك والملكوت ، والغيب والشهود ، والخلق والأمر ، والصورة والمعنى ، وغير ذلك.
والروحاني ما لا يدرك بالحواسّ الخمسة الظاهرية من السمع والبصر والذائقة والشامّة واللاّمسة ، كما لا حيّز له ، ولا يقبل القسمة والتجزّي ، بخلاف الجسماني.
وكلّ واحد منهما ينقسم إلى عوالم علويّة وعوالم سفليّة ، والعِلويّات نورانية لطيفة ، والسفليات ظلمانية كثيفة ، فتركّبت المخلوقات بعضها من بعض :
( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا )[1].
فظهرت المتكثّرات بما لا يعدّ ولا يحصى :
( وَمَا يَعْلَمُ جُـنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ )[2].
( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ )[3].
ومن زواج العلوّ الروحاني والعلوّ الجسماني ، تولّدت السماوات والملائكة ، وعُبّر عن النوعين بيومين ، كما قوله تعالى :
( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ )[4].
ومن الزواج الأسفل الروحاني مع الأسفل الجسماني ، تولّدت أنواع أربعة : مركّبات العناصر والنباتات والحيوانات والإنسان ، وعُبِّر عنها بأربعة أيام في قوله تعالى :
( فِي أرْبَعَةِ أيَّام سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ )[5].
فخلق كلّ ما في السماوات والأرضين وما بينهما في ستّة أنواع :
( خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَـيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيَّام )[6].
وما تعلّق
بالأسفل الروحاني بمركّبات العناصر ، سُمّي بالنفس النامية ، وهي في
النباتات ، وما تعلّق من الروحاني في النباتات تولّد منه الحيوانات ،
وتولّد من النفس الحيوانية الإنسان ، فالإنسان فيه روح نباتية ، وهي
الحياة النامية ، وفيه الروح الحيوانية ، وهي الحيوان الحسّاس المتحرّك
بالإرادة ، وفيه النفس الناطقة والروح الإنسانية ، وإنّه يدرك الكلّيات
بقوّة درّاكة وبعقله الذي امتاز به عن العجماوات ، فكان الإنسان قاب قوسين أو
أدنى في أعلى عليّين ، ثمّ مرّ بكلّ العوالم المُلكية والملكوتية ، حتّى
وصل إلى أسفل السافلين ، وجعل الله فيه
الاختيار ،
فإمّا شاكراً بصعوده إلى كماله الأوّل قاب قوسين أو أدنى ، عند مليك
مقتدر ، في مقعد صدق ، وإمّا في النار وفي أسفل السافلين كالأنعام بل
أضلّ سبيلا :
( لَـقَدْ خَلَـقْنَا الإنسَانَ فِي أحْسَنِ تَـقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْ نَاهُ أسْفَلَ سَافِـلِينَ )[7].
وذلك باختياره الكفر والضلال والعمى ، فالإنسان حمل الأمانة الإلهية التي لم تحملها السماوات والأرض ، فاختصّ بكمال ليس في خلق الله ، إذ جعله خليفته في الأرض ، لتتجلّى أسماء الله وصفاته فيه ، فيكون مظهراً لجماله وجلاله سبحانه :
( ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ )[8].
( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَـنَا )[9].
وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله ، بأن يوفّقه للعمل الصالح ، والعمل الصالح يرفعه ، ويرتفع العلّة الفاعلة برفعة المعلول ، فيترفّع الإنسان بعمله الصالح إلى ربّه الكريم.
وقد خلق الله الأشياء من أجله ، كما خلقه من أجله جلّ جلاله . فمن التكثّر يصل الإنسان إلى مقام الوحدة والفناء فيه ، فلا يريد إلاّ ما أراده الله سبحانه ، فيكون رضاه في رضاه ، وغضبه في غضبه.
[1] يس : 36.
[2] المدّثّر : 31.
[3] يس : 83 .
[4] فصّلت : 12.
[5] فصّلت : 10.
[6] الفرقان : 59.
[7] التين : 4 ـ 5.
[8] المائدة : 54.
[9] العنكبوت : 69.