ثمّ ممّا يلوح في الأدب العالمي كثيراً ، ولا سيّما في الأدب الفارسي ، حديثهم عن العشق وجذباته وسكره وجذواته ، وأنّ للعشق مدائن سبعة : أوّلها الطلب ، ثمّ العشق ، ثمّ المعرفة ، ثمّ الاستغناء ، ثمّ التوحيد ، ثمّ الحيرة ، ثمّ الفناء . وبه يصل العاشق إلى مقام الجذبة والاطمئنان والتوحّد ، وأنّ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة.
والعشق نار يحرق كلّ ما سوى المعشوق ، وإنّه بحكم الماء ، يُرى الألوان فيه ولا لون له ، والعقل ما يدرك به الأشياء ويعرف به حدودها وماهيّاتها فيتقيّد ، وإن تجاوز القيد فإنّه يدخل في اللامتناهي فيكون العقل عاشقاً ، والعاشق عقلا ، فالعقل قبل عشقه كالشمع يضيء أمام الأقدام ، وبعد عشقه يكون كالشمس يضيء العالم ، فالعشق هو الرتبة العالية والمرتبة السامية للعقل ، بل هو قمّة العقل وذروته ، وإذا قيل : الحب يعمي ويصمّ ، فإنّه يعني يعمي عن رؤية غير المعشوق ، ويصمّ عن كلام غير المعشوق ، فلا يرى إلاّ معشوقه ، فيصل بالعشق إلى مقام التوحيد ، ثمّ الفناء ، فلا إله إلاّ الله عزّ وجلّ ، وحينئذ ينظر بنور الله ، ويسمع بنور الله ، ويكون سبحانه بصره الذي يبصر به ، وسمعه الذي يسمع به ، فكيف الحبّ يعمي ويصمّ ؟ ! وبالعشق يصل الإنسان إلى بحار المعارف ومدائن المعرفة ، ويدخل شوارعها وأزقّتها وبساتينها ودورها . باحثاً عن الحقّ والحقيقة :
( إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَا أ نَا مِنَ المُشْرِكِينَ )[1].
فيستغني العاشق بغنى معشوقه :
( لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ )[2].
فيصل إلى مقام التوحيد ، وأ نّه ليس في الدير ديّار إلاّ هو ، وأ نّه يستحقّ العشق والعبادة ، فيصل من الكثرة إلى الوحدة :
( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ )[3].
فيصل إلى وادي الدهشة والحيرة ، ومن عرف الله كَلّ لسانه ، وعيّ بيانه ، فيفنى في محبوبه ، فيكون مرآة جماله ، فيا ليت قومي يعلمون.
[1]الأنعام : 79.
[2] المؤمن : 16.
[3]النساء : 78.