![]() |
![]() |
![]() |
اعلم أنّ العمدة في مقام الاستدلال على الأحكام الشرعيّة أوّلا ما جاء في كتاب الله الكريم ، وممّا يدلّ على نجاسة الكفّار قوله سبحانه وتعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ إنَّ اللهَ عَليمٌ حَكيمٌ )[1] .
كيفية الاستدلال : قوله (نجس) بفتحتين ـ فتحة النون وفتحة الجيم المعجمتين ـ مصدر كالغضب ، ولمّا لا يصح أن يكون المصدر خبراً ، لأ نّه مجرّد الحدث من دون اقترانه بأحد الأزمنة الثلاثة ، ولا يحمل ذلك على مبتدأ إلاّ بتأويل أو تقدير ، فوقوع النجس خبراً عن ذي الخبر إمّا بتقدير مضاف : أي ذو نجس ، أو بتأويله بالمشتقّ نظراً إلى أ نّه صفة يستوي فيه الواحد وغيره ، فيقال : رجل نجس وقوم نجس ورجلان نجس وامرأة نجس وامرأتان نجس ونساء نجس ، أو أ نّه باق على المعنى المصدري من غير إضمار ولا تأويل ، إلاّ أنّ حمله على المبتدأ يكون من المبالغة ، كما يقال : زيدٌ عدل ، أي كثير العدالة ، وما نحن فيه كأ نّهم تجسّموا من النجاسة ، وقيل : هذا المعنى أولى من غيره ، ويؤيّده أداة الحصر (إنّما) فإنّها للمبالغة ، والحصر يفيد القصر ، وهو هنا من القصر الإضافي من قصر الموصوف على الصفة ، كقولهم : إنّما زيدٌ شاعر ، وهو قصر قلب : أي ليس المشركون طاهرين كما يعتقدون ، بل هم نجس ، منحصرون في النجاسة .
والعجب العجاب من أبي حنيفة إمام المذهب الحنفي ، حيث ذهب إلى أنّ الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس ، فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس ، بخلاف الماء الذي استعمله المشرك ، فإنّه طاهر لعدم إزالة حدثه ، فذهب الفخر الرازي إلى أنّ القصر هنا من قصر الصفة على الموصوف : أي لا نجس من الإنسان غير المشركين ، ثمّ قال : وعكس بعض الناس ذلك وقالوا : لا نجس إلاّ المسلم لأنّ الماء المستعمل في رفع حدثه نجس دون المشرك ، فأراد بهذا التشنيع ، الردّ على أبي حنيفة ، فتدبّر .
ثمّ ـ كما مرّـ اختلف العلماء والمفسّرون في تفسير كون المشرك نجساً ، فذهب فقهاؤنا الأعلام ـ قدّس الله أرواحهم الزكيّة ـ إلى أنّ المراد به النجاسة الشرعية العينيّة ، بمعنى أنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وربما يقال : هذا هو الظاهر المتبادر لغةً وعرفاً ، والتبادر علامة الحقيقة ، كما أنّ ظواهر الكتاب حجّة ، ويؤيّده قوله تعالى : ( فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ ) ، كما يؤيّده أيضاً ، أ نّه غالباً يستعمل كلمة النجس بالكسر مع الرّجس الذي يدلّ على القذارة العينية ، فصار بمنزلة النصّ فيه ، فلا بدّ من الحمل عليه خصوصاً عند عدم دليل على خلافه ، وهو المرويّ عن أهل البيت الذين أدرى بما في البيت ، والذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، وهو مذهب شيعتهم الإمامية ، كما يروى عن الزيديّة أيضاً ، كما هو المنقول عن ابن عباس والحسن البصري ـ كما مرّ في بيان أقوال علماء أبناء العامّة ـ وأ مّا أئمة المذاهب الأربعة وفقهائهم ، فقد اتّفقوا على طهارة أبدانهم ، وأوّلوا الآية الشريفة بأنّ المراد بنجاستهم : خبث باطنهم وسوء سريرتهم وبطلان اعتقادهم ، أو المراد : نجاسة ظاهرهم بالعرض لا ذاتاً ، نظراً إلى أ نّهم لا يراعون الطهارة ، ولا يغتسلون من الجنابة ، ولا يتجنّبون النجاسات ، بل يلابسونها ويباشرونها غالباً كشربهم الخمور وأكلهم لحم الخنزير ، فيكون المعنى أ نّهم ذو نجاسة ، وعلى هذا حمل صاحب الكشّاف والبيضاوي هذه الآية ، إلاّ أ نّه بعيد جداً ، كما ذهب إليه العلاّمة الجواد الكاظمي[2] ، فقال : إذ المتبادر منها نجاسة ذواتهم وأعيانهم مطلقاً لا ملامستهم النجاسة ، فإنّ ذلك مجاز يحتاج الحمل عليه إلى قرينة وإخراج القرآن عن الظاهر من غير دليل لا وجه له ، فإنّ العمل بظاهر القرآن واجب لا يجوز العدول عنه إلاّ بما هو مثله أو أقوى منه في الدلالة . وظاهر كلامهما ـ الرازي والبيضاوي ـ أ نّه لا دليل عليه إلاّ اتّفاق أهل المذاهب الأربعة على خلاف صريح القرآن ، وإن كان ينبغي في الشرع أن يشير إليه ، والعجب أنّ البيضاوي بعد أن حمل الآية على ملابسة النجاسة غالباً ، قال : وفيه دليل على أنّ ما الغالب نجاسته نجس ، وفيه نظر لأ نّا لا نسلّم ذلك ، إذ عدم التطهير وعدم الاجتناب عن النجاسة غالباً لا يستلزم النجاسة حقيقة ، نعم يظنّ كونهم ذوي النجاسة ، والأصل في الأشياء الطهارة ما لم يعلم أ نّها نجسة ، وبالجملة اللازم ممّا قاله أنّ إطلاق النجاسة عليهم تجوّزاً ، والعلاقة ملابستهم النجاسة . والظاهر أ نّه لا يلزم من تسميتهم بالنجاسة مبالغة وتجوّزاً ، كونهم نجاسة على الحقيقة فضلا عن نجاسة غيرهم ممّا الغالب فيه ذلك ، بل لا يلزم صحة إطلاقها عليه مجازاً لعدم اطّراد المجاز . فتأمّل ، مع أ نّه يلزم كون المسلم الغالب نجاسة بدنه نجساً ، ويجب اجتنابه ، وليس كذلك إجمالا . انتهى كلامه .
وقال العلاّمة الحلّي[3] : لنا قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) لا يقال : إنّه مصدر فلا يصحّ وصف الخبر به إلاّ مع حرف التشبيه ولا دلالة فيه حينئذ ، لأ نّا نقول : إنّه يصحّ الوصف بالمصادر إذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : رجلٌ عدل ، وذلك يؤيّد ما قلناه .
وجاء في الجواهر[4] ، بعد نقله الإجماعات المنقولة في الباب : ويدلّ عليه ـ على نجاسة الكفّار ـ مضافاً إلى ذلك ـ الإجماع ـ قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) المتمّم دلالتها ـ حيث تضمّنت لفظ النجس الذي لم يعلم إرادة المعنى الاصطلاحي منه ، أو اختصّت بالمشرك ـ بظهور إرادة الاصطلاحي هنا ولو بالقرائن الكثيرة التي منها تفريع عدم قربهم المساجد الذي لا يتّجه إلاّ عليه ، على أنّ النجاسة اللغوية مع منع تحقّقها في المترفين منهم ليست من الوظائف الربّانيّة ، واحتمال إرادة الخبث الباطني من النجاسة ـ كما اختاره بعض الناس ممّن لا نصيب له في مذاق الفقه تبعاً للعامّة العمياء ـ ضروريّ الفساد ، مع أ نّها ليست من المعاني المعهودة المعروفة للفظ النجاسة .
وبعدم القول بالفصل بين المشرك وغيره منهم ، كالمحكي في الغنية والرياض إن لم نقل بتعارف مطلق الكافر من المشرك ، أو لما يشمل اليهود والنصارى ، لقوله تعالى : ( وَقالَتِ اليَهودُ عُزَيْرٌ ) إلى قوله تعالى ( عَمَّا يُشْرِكونَ )[5] ، ولما يشعر به قوله تعالى لعيسى : ( أأنْتَ قُلْتَ لِلْناسِ اتَّخِذوني وَاُمِّي إلـهَيْنِ )[6]من شركهم أيضاً ، ولقولهم أيضاً : ( إنَّهُ ثالِثُ ثَلاثَة )[7] المشعر بكونه عند اليهود ثاني اثنين وغير ذلك ـ وبهذه الوجوه يذهب صاحب الجواهر إلى إلحاق أهل الكتاب اليهود والنصارى بالمشركين ـ وكذلك المجوس ، لما قيل إنّهم يقولون بإلهيّة يزدان والنور والظلمة ، كتتمّة ما دلّ على نجاسة المجوس به أيضاً من صحيح علي بن جعفر[8] ، ومحمّد بن مسلم[9] ، وموثّق سعيد الأعرج[10] ، وغيرها[11] ، وما دلّ على نجاسة خصوص اليهود والنصارى أيضاً من المعتبرة[12] ، وهي وإن كان في مقابلها أخبار دالّة على الطهارة ، وفيها الصحيح وغيره ، بل هي أوضح من تلك في الدلالة ، بل لولا معلومية الحكم بين الإمامية وظهور بعضها في التقيّة ، لاتّجه العمل بها ، لكن لا ينبغي أن يصغى إليها في مقابلة ما تقدّم ، وإن أطنب بعض الأصحاب في البحـث عنها وتجشّم محامل لها يرّجح الطرح عليها فضلا عن التقيّة . انتهى كلامه .
وقال السيّد على الطباطبائي[13] : والحكم على نجاسة الكافر بعد الإجماعات المستفيضة ... الآية الكريمة ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، المتمّم دلالتها حيث اختصّت بالمشرك وتضمنّت لفظ النجس الغير المعلوم إرادة المعنى الاصطلاحي منه ، بعدم القائل بالتخصيص ، وظهور المعنى المصطلح هنا بقرينة ( فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ ) .
وقال الشيخ عبد النبي العراقي[14] : كما يدلّ على نجاسة الكافر الآية الكريمة : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ; بناءً على أنّ المشرك اسم واصطلاح لجميع فرق الكفر ، فغير المسلم مشرك ، فيشمل عابد الصنم واليهود والمجوس والزنديق إلى غير ذلك من أصنافهم ، أو عدم القول بالفصل إذا قلنا باختصاصه بالمشرك بالمعنى الأخصّ كما لا يخفى ، خصوصاً أنّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس من أظهر أفراد المشرك ، حيث إنّ المجوس ذهب إلى المبدأين من النور والظلمة ، واليهود زعموا أنّ عزير ابن الله ، والنصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ، كما نصّ به القرآن إلى قوله عزّ اسمه : ( تَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ ) . وكيف كان ، لا إشكال في دلالة الآية لكلّ كافر .
أقول : وجوابه يتّضح من خلال طيّات هذه الرسالة ، لا سيّما ما يقوله السيّد الخوئي في التنقيح ، فلا نكرّر روماً للاختصار .
[1]سورة التوبة : 28 .
[2]مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 1 : 101 ، طبع مكتبة المرتضوية .
[3]المنتهى 1 : 168 ، الطبعة الحجرية .
[4]الجواهر 6 : 42 .
[5]التوبة : 30 .
[6]المائدة : 116 .
[7]المائدة : 77 .
[8]الوسائل ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 1 ـ 6 .
[9]الوسائل ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 1 ـ 6 .
[10]الوسائل ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 8 .
[11]الباب 14 من أبواب النجاسات .
[12]الباب 14 من أبواب النجاسات .
[13]رياض المسائل 1 : 85 .
[14]المعالم الزلفى 1 : 336 .
![]() |
![]() |
![]() |