الفصل  الأوّل - أقوال  علماء  العامّة  في  طهارة  الكفّار  أو  نجاستهم

لقد اختلف علماء المسلمين ـ على اختلاف آرائهم ومذاهبهم ـ في مسألة الكفّار من حيث نجاستهم أو طهارتهم على طرفي نقيض ، فمنهم من يقول بطهارتهم مطلقاً ، ومنهم من يقول بنجاستهم مطلقاً ، ومنهم من يقول بالتفصيل بين الكافر الكتابي وغيره ، كما سيعلم ذلك إن شاء اللّه تعالى ، وإن اشتهر عند بعض الكتّاب والأعلام كما جاء في بعض مؤلّفاتهم ، أنّ المذهب السنّي مطلقاً يقول بالطهارة ، كما أنّ المذهب الشيعي يقول بالنجاسة ، حتّى عدّوا ذلك من منفرداتهم ، وربما يتبجّح بها ، ولكن عند المراجعة إلى كتب الفريقين ، والسبر فيها بتعمّق وتدبّر نرى خلاف ذلك ، فإنّ المسألة خلافية عندهم ، وإنّما نذكر في هذا الفصل نماذج من أقوال أبرز علماء أبناء العامّة ، وإشارة إلى ما عندهم من الاستدلال ، ثمّ في الفصل الثاني نتعرّض إلى أقوال أصحابنا الأعلام وفقهائنا الكرام .

جاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة)[1] في مبحث الأعيان الطاهرة ، قال المصنّف : والأشياء الطاهرة كثيرة : منها الإنسان سواء كان حيّاً أو ميّتاً كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ )[2] ، أ مّا قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[3] فالمراد به النجاسة المعنوية التي حكم بها الشارع ، وليس المراد ذات المشرك نجسة كنجاسة الخنزير .

والعجب إنّه في (الصفحة 9) عند تعرّضه لمبحث الأعيان النجسة وتعريف النجاسة يذكر ما ينطبق على المشرك ، وأ نّه نجس كالكلب فيقول : قد ذكرنا في تعريف الطهارة تعريف النجاسة مجملا عند بعض المذاهب بمناسبة المقابلة بينهما ، وغرضنا الآن بيان الأعيان النجسة المقابلة للأعيان الطاهرة ، وهذا يناسبه بيان معنى النجاسة لغةً واصطلاحاً في المذاهب ، فالنجاسة في اللغة : إسم لكلّ مستقذر ، وكذلك النجس (بكسر الجيم وفتحها وسكونها) ، والفقهاء قسّموا النجاسة إلى قسمين : حكمية وحقيقية ، وفي تعريفهما اختلاف في المذاهب على أ نّهم يخصّون النجس (بالفتح) بما كان نجساً لذاته ، فلا يصحّ إطلاقه على ما كانت نجاسته عارضة ، وأ مّا النجس بالكسر فإنّه يطلق عندهم على ما كانت نجاسته عارضة أو ذاتيّة ، فالدم يقال له : نَجَس ونَجِس (بالفتح والكسر) والثوب المتنجّس يقال له : (نَجِس) بالكسر فقط ، ثمّ يذكر المصنّف الأعيان النجسة منها : الميتة غير الآدمي ...

وجاء في الهامش في قوله : (في تعريفهما اختلاف في المذاهب) الحنابلة : عرّفوا النجاسة الحكميّة بأ نّها الطارئة على محلّ طاهر قبل طروّها ، فيشمل النجاسة التي بها جرم وغيرها متى تعلّقت بشيء طاهر ، وأ مّا النجاسة فهي عين النجس (بالفتح) . الشافعية : عرّفوا النجاسة الحقيقية بأ نّها التي لها جرم أو طعم أو لون أو ريح ، وهي المراد بالعينيّة عندهم ، والنجاسة الحكمية بأ نّها التي لا جرم لها ولا طعم ولا لون ولا ريح ، كبول جفّ ولم تدرك له صفة ، فإنّه نجس نجاسة حكمية . المالكية : قالوا : النجاسة العينيّة هي ذات النجاسة ، والحكميّة أثرها المحكوم على المحلّ به . الحنفية : قالوا : النجاسة الحكمية هي الحدث الأصغر والأكبر ، وهو وصف شرعي يحلّ بالأعضاء أو بالبدن كلّه يزيل الطهارة ، والحقيقيّة هي الخبث وهو كلّ عين مستقذرة شرعاً .

وجاء في كتاب (حواشي الشيرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي)[4] : يكره استعمال أواني الكفّار وملبوسهم ، وما يلي أسافلهم ـ أي ممّا يلي الجلد ـ أشدّ ، وأواني مائهم أخفّ ، وكذلك المسلم الذي ظهر منه عدم تصوّنه عن النجاسات . (قول أواني الكفّار) أي وإن كانوا يتديّنون باستعمال النجاسة كطائفة من المجوس يغتسلون ببول البقر تقرّباً إلى الله تعالى : (قوله كذلك المسلم) أي كمدمن الخمر والقصّابين الذين لا يحترزون عن النجاسة . مغني وشيخنا .

وجاء في (الصفحة 293) ، بعد ذكر الميتة وأ نّها نجسة ، قال : واستثنى منها الآدمي لتكريمه بالنصّ ، وهو في الكافر من حيث ذاته ، فلا ينافي إهداره بوصف عرضي قام به ، وللخبر الصحيح : (لا تنجّسوا موتاكم ، فإنّ المسلم لا ينجس حيّاً ولا ميّتاً) ، وذكر المسلم للغالب ، ومعنى نجاسة المشركين في الآية نجاسة اعتقادهم أو المراد اجتنابهم كالنجس .

جاء في حاشية الشيرواني على ذلك (قوله لتكريمه) وقضية التكريم أن لا يحكم بنجاسته بالموت ـ مغني ونهاية ـ (قوله وللخبر الصحيح الخ) ولأ نّه لو كان نجساً لما أمر بغسله كسائر النجاسات أي العينيّة ، لا يقال ولو كان طاهراً لما أمر بغسله كسائر الأعيان الطاهرة ؟ لأ نّا نقول غسل الطاهر معهود في الحدث وغيره بخلاف النجس ، على أنّ الغرض منه تكريمه وإزالة الأوساخ عنه ، نهاية . (قوله وذكر المسلم للغالب) كذا قالوا ، وقد يقال : ما المانع من أنّ وجه الدلالة منه لطهارة الكافر ، إنّ الخصم لا يفرق بين المسلم والكافر في النجاسة بالموت ، فإذا ثبتت طهارة المسلم كالكافر مثله لعدم الفرق اتفاقاً ، رشيدي (قوله نجاسة اعتقادهم الخ) أي لا نجاسة أبدانهم ، مغني ...

وجاء في حاشية العبادي : (قوله وهو في الكافر من حيث ذاته) قال في شرحه للعباب من جملة كلام طويل ، فالآدمي ثبتت له الحرمة من حيث ذاته تارة ، ومن حيث وصفه اُخرى ، فالحرمة الثابتة له من حيث ذاته تقتضي الطهارة لأ نّه وصف ذاتي أيضاً ، فلا يختلف باختلاف الأفراد ، والثابت له من حيث وصفه تقتضي احترامه وتعظيمه بحسب ما يليق به ، ولا شكّ أنّ الحربي ثبتت له الحرمة الاُولى فكان طاهراً حيّاً وميّتاً ، ولم تثبت له الحرمة الثانية ، فلم يحترم ولم يعظم فجاز الاستنجاء بجلده وإغراء الكلب على جيفته ، واتخاذ الأواني من جلده ، لأ نّه أوجد عن عوارض المخالفات ما أوجب إهدار عوارض الصفات ، فتأمّل ذلك يتّضح لك إنّه لا إشكال في كلامهم . انتهى قوله ، ولكن قد يقال إن أراد بأنّ الطهارة وصف ذاتي إنّها مقتضى الذات فهو ممنوع ، ولذا اختلفت الأئمة فيها ، أو أ نّها قائمة بالذات فكلّ الأوصاف كذلك ، إلاّ أن يقال أ نّه أراد بالذاتي الحقيقي ، وقد يقال لِمَ اقتضت الذاتية الطهارة دون الاحترام . انتهى كلامه .

وقال محمد رشيد رضا صاحب المنار في مقدمة كتاب المغني لابن قدامة[5] ، تحت عنوان (نصوص الكتاب والسنّة في الطهارة والنجاسة) : فالنجس في اللغة هو المستقذر الذي تنفر منه الطباع ، ولفظ النجس لم يرد في القرآن إلاّ في قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسْ فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ )[6] الآية ، والمراد به النجاسة المعنوية لا الحسّية إلاّ في قول للشيعة ، وورد لفظ الرجس في تسع آيات ـ ثمّ يتعرّض إلى الروايات التي تدلّ على الأعيان النجسة واختلاف فهم الفقهاء فيها فراجع ـ  .

وقال ابن قدامة[7] : والحائض والجنب والمشركون إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر ، أ مّا طهارة الماء فلا إشكال فيه إلاّ أن يكون على أيديهم نجاسة ، فإنّ أجسامهم طاهرة ، وهذه الأحداث لا تقتضي تنجيسها ـ ثمّ يذكر وجه ذلك في الحيض والجنب ثمّ يقول في المشرك ـ : وتوضّأ النبيّ (صلى الله عليه وآله) من مزادة[8] مشركة ، متّفق عليه ، وتوضّأ عمر من جرّة نصرانية ، وأجاب النبيّ (صلى الله عليه وسلم) يهودياً دعاه إلى خبز وإهالة سنخة ، ولأنّ الكفر معنى في قلبه فلا يؤثّر في نجاسة ظاهره ، كسائر ما في القلب والأصل الطهارة ، ويتخرّج التفريق بين الكتابي الذي لا يأكل الميتة والخنزير وبين غيره ، ممّن يأكل الميتة والخنزير ، ومن لا تحلّ ذبيحتهم ، كما فرّقنا بينهم في آنيتهم وثيابهم .

وجاء في الهامش : التخريج معارض بأصل الطهارة ووضوء النبي وعمر المذكور آنفاً فهو ضعيف .

وقال ابن قدامة في الصفحة 43 ، في تقسيم الحيوان إلى نجس وطاهر (القسم الثاني) طاهر في نفسه وسؤره وعرقه ، وهو ثلاثة أضرب (الأوّل) الآدمي ، فهو طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامّة أهل العلم ، إلاّ أ نّه حُكي عـن النخعي أ نّه كره سُؤر الحائض ، وعن جابر بن زيد : لا يتوضّأ منه ...

وقال في الصفحة 68 : (فصل) والمشركون على ضربين أهل كتاب وغيرهم ، فأهل الكتاب يباح أكل طعامهم وشرابهم والأكل في آنيتهم ما لم يتحقّق نجاستها ، قال ابن عقيل : لا تختلف الرواية في أ نّه لا يحرم استعمال أوانيهم ، وذلك لقول الله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[9] ، وروى عن عبد الله بن المغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خيبر ، فالتزمته وقلت : والله لا اُعطي أحداً منه شيئاً ، فالتفتّ فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبتسم .

رواه مسلم وأخرجه البخاري بمعناه ، وروي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة ، رواه أحمد في المسند وكتاب الزهد ـ وتوضّأ عمر من جرّة نصرانية ـ وهل يكره له استعمال أوانيهم ؟ على روايتين : إحداهما : لا يكره لما ذكرنا ، والثانية : يكره لما روى أبو ثعلبة الخشني قال : قلت يا رسول الله : إنّا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ فقال رسول الله : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها . متّفق عليه ، وأقلّ أحوال النبيّ الكراهة ولأ نّهم لا يتورّعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم ، وأدنى ما يؤثّر ذلك الكراهة . وأ مّا ثيابهم فما استعملوه أو علا منها كالعمامة والطيلسان والثوب الفوقاني فهو طاهر لا بأس بلبسه ، وما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السفلاني والإزار . فقال أحمد : أحبّ إليّ أن يعيد ، يعني من صلّى فيه فيحتمل وجهين : أحدهما : وجوب الإعادة ، وهو قول القاضي ، وكره أبو حنيفة والشافعي ، الاُزر والسراويلات لأ نّهم يتعبّدون بترك النجاسة ولا يتحرّزون منها ، فالظاهر نجاسة ما ولي مخرجها ، والثاني : لا يجب ، وهو قول أبي الخطّاب ، لأنّ الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشكّ .

الضرب الثاني : غير أهل الكتاب وهم المجوس وعبدة الأوثان ونحوهم ، فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمّة ، وأ مّا أوانيهم فقال القاضي : لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم ، لأنّ أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم ، وذبائحهم ميتة فلا تخلوا أوانيهم من وضعها فيها ، وقال أبو الخطاب : حكمهم حكم أهل الكتاب ، وثيابهم وأوانيهم طاهرة ، مباحة الاستعمال ما لم يتيقّن نجاستها ، وهو مذهب الشافعي ، لأنّ النبي وأصحابه توضّأوا من مزادة مشركة ، متّفق عليه ، ولأنّ الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشكّ ، فظاهر أحمد مثل قول القاضي ، فإنّه قال في المجوس : لا يؤكل من طعامهم إلاّ الفاكهة ، لأنّ الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم فأشبهت السراويل من ثيابهم . ومن يأكل الخنزير من النصارى في موضع يمكنهم أكله ، أو يأكل الميتة ، أو يذبح بالسنّ أو الظفر ونحوه ، فحكمه حكم غير أهل الكتاب لاتّفاقهم في نجاسة أطعمتهم .

ومتى شكّ في الإناء هل استعملوه في أطعمتهم أو لم يستعملوه ، فهو طاهر ، لأنّ الأصل طهارته ، ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة الصلاة في الثوب الذي نجّسه الكفّار ، فالنبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه إنّما كان لباسهم من نسج الكفّار ، فأ مّا ثيابهم فأباح الصلاة فيها الثوري وأصحاب الرأي ، وقال مالك : في ثوب الكفّار يلبسه على كلّ حال إن صلّى فيه يعيد ما دام في الوقت . ولنا أنّ الأصل الطهارة ، ولم تَتَرجَّ جهة التنجيس فيه أشبه ما نسجه الكفّار . انتهى كلامه .

وجاء في فقه السنّة[10] : سؤر الآدمي : وهو طاهر من المسلم والكافر والجنب والحائض . وأ مّا قول الله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[11] فالمراد به نجاستهم المعنوية من جهة اعتقادهم الباطل ، وعدم تحرّزهم من الأقذار والنجاسات ، لا أنّ أعيانهم وأبدانهم نجسة ، وقد كانوا يخالطون المسلمين ، وترد رسلهم ووفودهم على النبي (صلى الله عليه وآله) ويدخلون مسجده ، ولم يأمر بغسل شيء ممّا أصابته أبدانهم .

وجاء في نيل الأوطار[12] ، في حديث : (إنّ المسلم لا ينجس) قال : تمسّك بمفهومه بعض أهل الظاهر ، وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم والناصر ومالك فقالوا : إنّ الكافر نجس عين ، وقوّوا ذلك بقوله تعالي : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) وأجاب عن ذلك الجمهور بأنّ المراد منه إنّ المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة ، بخلاف المشرك ، لعدم تحفّظه عن النجاسة ، وعن الآية بأنّ المراد أ نّهم نجس في الاعتقاد والاستقذار ، وحجّتهم على صحّة هذا التأويل أنّ الله أباح نساء أهل الكتاب ، ومعلوم أنّ عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلاّ مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة ...

وعن صاحب البدايع[13] : سؤر الطاهر المتّفق على طهارته سؤر الآدمي بكلّ حال ، مسلماً كان أو مشركاً .

وحكى نحوه أو قريب منه عن الغزالي[14] وابن حجر[15] وصاحب الاقناع[16]إلى غير هؤلاء ممّن يطول بنا ذكرهم .

فجمهور العامّة يذهب إلى طهارة الكفّار إلاّ جمع قليل منهم من الصحابة والتابعين والمفسّرين وفقهائهم .

وقال محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره[17] ، في ذيل الآية الشريفة : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[18] تنبيهات : الأوّل : دلّت الآية على نجاسة المشرك كما في الصحيح (أخرجه البخاري في 72 ، كتاب الذبائح والصيد ، 4 ـ باب صيد القوس حديث رقم 2198) (المؤمن لا ينجس) وأمّا نجاسة بدنه ، فالجمهور على أ نّه ليس بنجس البدن والذات ، لأنّ الله تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن : من صافحهم فليتوضّأ ، رواه ابن جرير ، ونقله ابن كثير .

وأقول : الاستدلال بكونه تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب غير ناهض ، لأنّ البحث في المشركين ، وقاعدة التنزيل الكريم ، التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب ، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه .

وقال بعض المفسّرين اليمنيّين : مذهب القاسم والهادي وغيرهما ، أنّ الكافر نجس العين ، أخذاً بظاهر الآية ، لأ نّه الحقيقة ، ويؤيّد ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني فإنّه قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله) : إنّا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم ، فقال (صلى الله عليه وآله) : اغسلوها ثمّ اطبخوا فيها .

وقال زيد والمؤيّد بالله والحنفية والشافعية : إنّ المشرك ليس نجس العين ، لأ نّه (صلى الله عليه وآله) توضأ من مزادة مشرك ، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها ، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الاُسارى ولا تغسل ، وكان أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل . وأوّلوا الآية بما تقدّم من الوجوه ، ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[19] أي : ذوو نجس ، لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، فو مجاز عن خبث الباطن وفساد العقيدة ، مستعار لذلك . وهو حقيقة ، لأ نّهم لا يتطهّرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأ نّهم النجاسة بعينها مبالغةً في وصفهم بها[20] ، وكلٌّ متأوّلٌ ما احتجّ به الآخر . انتهى .

وقال محمد بن أحمد القرطبي[21] ، في ذيل الآية الشريفة : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[22] وفيه سبع مسائل : الأوّل : قوله تعالى : ( يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا إنَّما المُشْرِكونِ نَجَسٌ ) ابتداء وخبر ، واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس ، فقال قتادة ومعمّر بن راشد وغيرهما : لأ نّه جنب ، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل . وقال ابن عباس وغيره : بل معنى الشرك هو الذي نجسه . قال الحسن البصري : من صافح مشركاً فليتوضّأ . والمذهب كلّه على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم ، إلاّ ابن عبد الحكم فإنّه قال : ليس بواجب ، لأنّ الإسلام يهدم ما كان قبله . وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد . وأسقطه الشافعي ، وقال : أحبّ إليّ أن يغتسل . ونحوه لابن القاسم . ولمالك قول : إنّه لا يعرف الغسل ، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس ، وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يردّ هذه الأقوال . رواهما أبو حاتم السبتي في صحيح مسنده . وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بثمامة يوماً فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلّى ركعتين ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « لقد حسن إسلام صاحبكم » وأخرجه مسلم بمعناه . وفيه : أنّ ثمامة لمّـا منّ عليه النبيّ (صلى الله عليه وآله) انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل . وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسِدر .

فإن كان اسلامه قُبيل احتلامه فغسله مستحبّ . ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغُسله الجنابة . هذا قول علمائنا ، وهو تحصيل المذهب .

ثمّ المصنّف في المسألة الثالثة يتعرّض إلى اختلاف العلماء في دخول الكفّار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال : فقال أهل المدينة : الآية عامّة في سائر المشركين وسائر المساجد ، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله ، ونزع في كتابه بهذه الآية ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى : ( في بُيوت أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرُ فيها اسْمُهُ )[23]ودخول الكفّار فيها مناقض لترفيعها ، وفي صحيح مسلم وغيره : أنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر ، الحديث . والكافر لا يخلو عن ذلك . وقال (صلى الله عليه وآله) : لا اُحِلّ المسجد لحائض وجنب . والكافر جنب . وقوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[24] فسمّاه الله تعالى نجساً . فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعداً من طريق الحكم ، وأيّ ذلك كان فمنعه من المسجد واجب ، لأنّ العلّة وهي النجاسة موجودة فيهم ، والحرمة موجودة في المسجد . يقال : رجل نَجَس ، وامرأة نَجَس . ورجلان نَجَس وامرأتان نَجَس ورجال نَجَس ونساء نَجَس ، لا يثنّى ولا يجمع لأ نّه مصدر . فأ مّا النِّجْس (بكسر النون وجزم الجيم) فلا يقال إلاّ إذا قيل معه رِجْس ، فإذا اُفرد قيل نَجِس (بفتح النون وكسر الجيم) ونجُس (بضم الجيم) . وقال الشافعي : الآية عامّة في سائر المشركين خاصّة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد . قال ابن العربي : وهذا جمود منه على الظاهر ، لأنّ قوله عزّ وجلّ : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) تنبيه على العلّة بالشرك والنجاسة ، فإن قيل : فقد ربط النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمامة في المسجد وهو مشرك قيل له : أجاب علماؤنا عن هذا الحديث ـ وإن كان صحيحاً ـ بأجوبة : ثمّ يذكر وجوه عديدة لذلك فراجع ، انتهى كلامه .

وقال الفخر الرازي[25] ، في ذيل تفسير آية ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[26]وفي الآية مسائل : (الثانية) قال الأكثرون لفط المشركين يتناول عبدة الأوثان ، وقال قوم : بل يتناول جميع الكفّار ، وقد سبقت هذه المسألة وصحّحنا هذا القول بالدلائل الكثيرة ... (المسألة الثالثة) قال صاحب الكشّاف : النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً ، ومعناه ذو نجس وقال الليث : النجس الشيء القذر من الناس ومن كلّ شيء ، ورجل نجس وقوم أنجاس ، ولغة اُخرى : رجل نجس ، وقوم نجس ، وفلان نجس ، ورجل نجس ، وامرأة نجس ، واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً ، نقل صاحب الكشّاف عن ابن عباس أنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن : من صافح مشركاً توضّأ ، وهذا هو قول الهادي من أئمّة الزيدية ، وأ مّا الفقهاء فقد اتّفقوا على طهارة أبدانهم .

واعلم أنّ ظاهر القرآن يدلّ على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلاّ بدليل منفصل ، ولا يمكن ادّعاء الإجماع فيه لما بيّنا أنّ الاختلاف فيه حاصل . واحتجّ القاضي على طهارتهم بما روى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدّل ذلك بسبب الإسلام . والقائلون بالقول الأوّل أجابوا عنه : بأنّ القرآن أقوى من خبر الواحد ، وأيضاً فبتقدير صحّة الخبر وجب أن يعتقد أنّ حلّ الشرب من أوانيهم كان متقدّماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين : الأوّل : أنّ هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن .

وأيضاً كانت المخالطة مع الكفّار جائزة فحرّمها الله تعالى ، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله ، فلا يبعد أن يقال أيضاً : الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرّمه الله تعالى .

الثاني : أنّ الأصل حلّ الشرب من أيّ إناء كان ، فلو قلنا : أ نّه حرّم بحكم الآية ، ثمّ حلّ بحكم الخبر ، فقد حصل نسخان . أ مّا إذا قلنا : إنّه كان حلالا بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثمّ جاء التحريم بحكم هذه الآية ، لم يحصل النسخ إلاّ مرّة واحدة ، فوجب أن يكون هذا أولى . أ مّا قول القاضي : لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدّلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام ، فجوابه أ نّه قياس في معارضة النصّ الصريح ، وأيضاً إنّ أصحاب هذا المذهب ـ أي الحنفي ـ يقولون أنّ الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالةً للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر ، فهذا تقرير هذا القول ـ فالرازي أجابهم بجواب حلّي ونقضي وأجاد ثمّ قال : ـ وأ مّا جمهور الفقهاء فإنّهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه ، ثمّ اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه :

الأوّل : قال ابن عباس وقتادة : معناه أ نّهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضّؤن من الحدث ، الثاني : المراد أ نّهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه ، الثالث : أنّ كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء .

واعلم أنّ كلّ هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل . (المسألة الرابعة) قال أبو حنيفة وأصحابه : أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية ، وبنوا عليه أنّ الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس ، ثمّ روى أبو يوسف أ نّه نجس نجاسة حقيفة ، وروى الحسن بن زياد : أ نّه نجس نجاسة غليظة ، وروى محمد بن الحسن أنّ ذلك الماء طاهر .

واعلم أنّ قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[27] يدلّ على فساد هذا القول ،
لأنّ كلمة (إنّما) للحصر ، وهذا يقتضي أن لا نجس إلاّ المشرك ، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النصّ ، والعجب أنّ هذا النصّ صريح في أنّ المشرك نجس وفي أنّ المؤمن ليس بنجس ، ثمّ إنّ قوماً ما قلبوا القضية وقالوا : المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس ، وزعموا أنّ المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهّرة ، والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، وهذا من العجائب ـ أقول : وأعجب العجائب من الفخر الرازي يرى هذه الطرّهات وزخرف القول والتناقض ، ومع ذلك يسلك مسلكهم ويدع أهل البيت (عليهم السلام) الذين كلامهم الرشد والنور ، ووصيّتهم التقوى والعلم الصحيح ، ثمّ قال : ـ وممّا يؤكّد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله (عليه السلام) « المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً » فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن ، ثمّ الاعتبارات الحكميّة طابقت القرآن والأخبار في هذا الباب ، لأنّ المسلمين أجمعوا على أنّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كانت رطبة ، فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده . ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب ، فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث ، فكيف يمكن مخالفته ؟ وشبهة المخالف أنّ الوضوء يسمّى طهارة ، والطهارة لا تكون إلاّ بعد سبق نجاسة ، وهذا ضعيف ، لأنّ الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام ، قال الله تعالى في صفة أهل البيت ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً )[28] وليست هذه الطهارة إلاّ عن الآثام والأوزار ، وقال في صفة مريم ( إنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ )[29] والمراد تطهيرها عن التهمة
الفاسدة .

وإذا ثيت هذا ، فنقول : جاءت الأخبار الصحيحة في أنّ الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار ، فلمّـا فسرّ الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى ، فما الذي حملنا على مخالفته ، والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجمالية ؟ انتهى كلام الفخر الرازي .

ربما يقال : إنّما حملهم وحملك على أمثال هذا ، هو حبّ الدنيا ، ومخالفة الحقّ ، واتّباع الهوى وعمى القلوب التي في الصدور .

وجاء في المحلّى[30] لابن حازم إمام الظاهرية في عصره قال : مسألة : ولعاب الكفّار من الرجال والنساء ـ الكتابيين وغيرهم ـ نجس كلّه ، وكذلك العرق منهم والدمع ، وكلّ ما كان منهم ، ولعاب كلّ ما لا يحلّ أكل لحمه من طائر أو غيره من خنزير أو كلب أو هرّ أو سبع أو فار ، حاشا الضبع فقط ، وعرق كلّ ما ذكرنا ودمعه حرام واجب اجتنابه .

برهان ذلك قول الله تعالى ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[31] وبيقيني يجب أنّ بعض النجس نجس ، لأنّ الكلّ ليس هو شيئاً غير أبعاضه ، فإن قيل : إنّ معناه نجس الدين ، قيل : هبكم أنّ ذلك كذلك ، أيجب من ذلك أنّ المشركين طاهرون ؟ حاش لله من هذا ، وما فهم قط من قول الله تعالى ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )مع قول نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) « إنّ المؤمن لا ينجس » أنّ المشركين طاهرون ، ولا عجب في الدنيا أعجب ممّن يقول فيمن نصّ الله تعالى : أ نّهم نجس : إنّهم طاهرون ، ثمّ يقول في المني ـ الذي لم يأت قطّ بنجاسته نصّ ـ : إنّه نجس ، ويكفي من هذا القول سماعه . ونحمد الله على السلامة .

فان قيل : قد اُبيح لنا نكاح الكتابيات ووطؤهن ، قلنا : نعم فأيّ دليل في هذا على أنّ لعابها وعرقها ودمعها طاهر . فإن قيل : إنّه لا يقدر على التحفّظ من ذلك ، قلنا : هذا خطأ ، بل يفعل فيما مسّه من لعابها وعرقها مثل الذي يفعل إذا مسّه بولها أو دمها أو مائية فرجها ولا فرق ، ولا حرج في ذلك ، ثمّ هبك أ نّه لو صحّ لهم ذلك في نساء أهل الكتاب ، من أين لهم طهارة رجالهم أو طهارة النساء والرجال من غير أهل الكتاب ؟ فإن قالوا : قلنا ذلك قياساً على أهل الكتاب ، قلنا : القياس كلّه باطل ، ثمّ لو كان حقاً لكان هذا منه عين الباطل ، لأنّ أوّل بطلانه أنّ علّتهم في طهارة الكتابيات جواز نكاحهن ، وهذه العلّة معدومة بإقرارهم في غير الكتابيات ، والقياس عندهم لا يجوز إلاّ بعلّة جامعة بين الحكمين ، وهذه علّة مفرّقة لا جامعة ، وبالله التوفيق . انتهى كلامه[32] .

وجاء في هامشه : القول بنجاسة بدن الكافر وعرقه وريقه إلخ ، قول شاذّ لم أعرفه روي عن أحد من العلماء إلاّ ما نقله ابن كثير في تفسيره[33] عن بعض أهل الظاهر ولعلّه يريد المؤلف ، وإلاّ ما نقله الطبري في تفسيره[34] عن الحسن : (لا تصافحوهم ، فمن صافحهم فليتوضّأ) ومن العجب العجاب أن ينسب أبو حيان في النهر بهامش البحر[35] للطبري القول بنجاسة أعيانهم ! والطبري إنّما ذكره قولا عن اُناس ، وحكي أ نّه منسوب لابن عباس من غير وجه حميد فكره ذكره ، والمؤلف إنّما أتى بمغالطات زعمها أدلّة ، وقد أباح الله للمؤمنين طعام أهل الكتاب ومؤاكلتهم ، ولن يخلو هذا من آثارهم ، وزواج الكتابيات يدعو إلى مخالطتهنّ أتمّ مخالطة ، ممّـا لا يمكن معه الاحتراز عن ريقهن وعرقهن في بدن المؤمن وثوبه وفراشه ، والآية ظاهرة في أنّ المراد نجاستهم المعنوية من جهة الاعتقاد الباطل ، وعدم الحرص على الطهارات ، وأ نّهم لا يتحرّزون من النجاسات . قال السيّد الأمير الصنعاني فيما علّقه على هامش المحلّى : (وقوله تعالى : إنّما المشركون نجس) ليس المراد به المعنى الشرعي بل الاستقذار وعدم أهليّتهم قربان المسجد الحرام ، ولفظ (نجس) في اللغة مشترك بين معان ، والقرائن هنا تدلّ أ نّه اُريد به أنّ المشركين مستقذرون مبعدون عن بيوت الله لما معهم من نجاسة الاعتقاد وإلهية الأوثان ، فيقصون عن أشرف مكان ، ويبعدون عن أفضل متعبّدات أهل الإيمان . انتهى كلامه .

                        أقول : ما أشكله على صاحب المحلّى بأ نّه أتى بمغالطات زعمها أدلّة ، فإنّه يرد عليه ذلك ، فلم يأت المهمّش إلاّ باستحسانات عقلية وعرفية ، ولا تقاوم ظاهر الآية الشريفة الدالّة بوضوح على نجاسة المشركين في أعيانهم ، وظواهر الكتاب حجّة كما هو ثابت في الاُصول .

والمسألة على كلّ حال بين علماء أبناء العامّة خلافيّة ، وإن كان المشهور منهم يذهب إلى طهارة المشركين في أعيانهم ، وإنّما نجاستهم معنوية ، كما إنّها عرضية باعتبار عدم اجتنابهم من النجاسات ، كالميتة ولحم الخنزير وشرب الخمور .

وجاء في كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام[36] لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ، وعن أبي ثعلبة الخشني (رضي الله عنه) قال :

قلت : يا رسول الله إنّا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟

قال : لا تأكلوا فيها ، إلاّ أن لا تجدوا غيرها ، فاغسلوها وكلوا فيها) متّفق عليه . (رواه البخاري في كتاب الذبائح 9 : 604 ـ 605 ، باب 4 صيد القوس ، حديث رقم 5478 . ومسلم في كتاب الصيد 3 : 1532 ، حديث رقم 1930 . وأبو داود رقم الحديث 3839 . والترمذي في كتاب السير 4 : 129 ، 1560 . وابن ماجة في كتاب الصيد 2 : 1069 ، 3207 . وأحمد 4 : 193)

وقال الصنعاني في شرحه :

متّفق عليه بين الشيخين ، استدلّ به على نجاسة آنية أهل الكتاب ، وهل هو لنجاسة رطوبتهم أو لجواز أكلهم الخنزير وشربهم الخمر أو للكراهة ؟ ذهب إلى الأوّل القائلون بنجاسة رطوبة الكفار وهم الهادوية والقاسمية ، واستدلّوا أيضاً بظاهر قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونِ نَجَسٌ )[37] والكتابي يسمّى مشركاً إذ قد قالوا : المسيح ابن الله وعزير ابن الله ، وذهب غيرهم من أهل البيت كالمؤيد بالله وغيره وكذلك الشافعي إلى طهارة رطوبتهم وهو الحقّ لقوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[38] ، ولأ نّه (صلى الله عليه وآله) توضّأ من مزادة مشركة ، ولحديث جابر عند أحمد وأبي داود (كنّا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم ولا يعيب ذلك علينا) واُجيب بأنّ هذا كان بعد الاستيلاء ولا كلام فيه . قلنا في غيره من الأدلّة غنية عنه .

فمنها ما أخرجه أحمد من حديث أنس (أ نّه (صلى الله عليه وآله) دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأكل منها) قال في البحر : لو حرّمت رطوبتهم لاستفاض بين الصحابة نقل توقّيهم لها لقلّة المسلمين حينئذ ، مع كثرة استعمالاتهم التي لا يخلو منها ملبوس ومطعوم . والعادة في ذلك تقضي بالاستفاضة . قال : وحديث أبي ثعلبة إمّا محمول على كراهة الأكل في آنيتهم للاستقذار ، لا لكونها نجسة ، إذ لو كانت نجسة لم يجعله مشروطاً بعدم وجدان غيرها ، إذ الأناء المتنجّس بعد إزالة نجاسته هو وما لم يتنجّس على سواء ، أو لسدّ ذريعة المحرّم ، أو لأ نّها نجسة لما يطبخ فيها لا لرطوبتهم كما تفيده رواية أبي داود وأحمد بلفظ (إنّا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ، ويشربون في آنيتهم الخمر ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن وجدتم غيرهما ـ الحديث) وحديثه الأوّل مطلق وهذا مقيّد بآنية الطبخ فيها ما ذكروا يشرب ، فيحمل المطلق على المقيّد . وأ مّا الآية : فالنجس لغة المستقذر ، فهو أعمّ من المعنى الشرعي ، وقيل معناه : ذو نجس لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، لأ نّهم لا يتطهّرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، وبهذا يتمّ الجمع بين هذا وبين آية المائدة ، والأحاديث الموافقة لحكمها ، وآية المائدة أصرح في المراد . انتهى كلامه .

وخلاصة الكلام : أ نّه قد اتّفق فقهاء العامّة على طهارة أبدان المشركين كما جاء ذلك في التفسير الكبير[39] وفي المغني[40] حيث قال إنّ الآدمي طاهر وسؤره طاهر ، سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامّة أهل العلم . وفي البديع[41] : سؤر الطاهر المتّفق على طهارته سؤر الآدمي بكل حال مسلماً كان أو مشركاً ، وبه صرّح ابن نجيم الحنفي[42] . وقال الشرييني الشافعي في إقناعه[43] : الحيوان كلّه طاهر العين حال حياته إلاّ الكلب والخنزير وما تولّد منهما أو من أحدهما ، ويقرب منه عبارة الغزالي[44] وبه قال ابن حجر[45] والعيني[46] وكذا في الفقه على المذاهب الأربعة[47] ـ كما مرّ تفصيله ـ  .

إلاّ أ نّه ذهب جمع منهم إلى نجاسة المشرك ، منهم الفخر الرازي في تفسيره ، ونقل عن صاحب الكشّاف عن ابن عباس أنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن : من صافح مشركاً توضّأ ، وقال : هذا قول الهادي من أئمة الزيدية ، ونسب القول في فتح الباري إلى أهل الظاهر ، وممّن صرّح بالنجاسة ابن حزم الحلّي في المحلّى ـ كما مرّ بيانه بالتفصيل ـ وتعجّب عن القول بالطهارة قائلا : ولا عجب في الدنيا أعجب ممّن يقول ـ فيمن نصّ الله تعالى أ نّهم نجس ـ : أ نّهم طاهرون ، ثمّ يقول في المني الذي لم يأتِ قطّ بنجاسته نصّ ، أ نّه نجس ، ويكفي في هذا القول سماعه ونحمد الله على السلامة[48] ...

فالمسألة خلافية عند القوم وإن ذهب معظمهم إلى طهارة المشركين والكفّار .


[1]الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 6 ، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

[2]الإسراء : 70 .

[3]التوبة : 28 .

[4]حواشي الشيرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي 1 : 127 ، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

[5]المغني لابن قدامة 1 : 20 ، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت سنة 1392 هـ .

[6]التوبة : 28 .

[7]المغني 1 : 211 .

[8]مزادة : بفتح الميم بعدها زاي ثمّ ألف وبعد الألف مهملة ، وهي الرواية ، ولا تكون إلاّ من جلدتين تقام بثالث بينهما لتتّسع كما في القاموس . (سبل السلام 1 : 71) .

[9]المائدة : 5 .

[10]فقه السنّة ; للسيّد سابق 1 : 20 .

[11]التوبة : 28 .

[12]نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ; لمحمد الشوكاني 1 : 31 .

[13]البدايع 1 : 63 .

[14]الوجيزة 1 : 4 .

[15]فتح الباري في شرح صحيح البخاري .

[16]الإقناع 1 : 74 .

[17]محاسن التأويل 8 : 162 .

[18]التوبة : 28 .

[19]التوبة : 28 .

[20]المصدر : 161 .

[21]تفسير الجامع لأحكام القرآن 8 : 103 ، طبع دار إحياء التراث العربي .

[22]التوبة : 28 .

[23]النور : 36 .

[24]التوبة : 28 .

[25]التفسير الكبير 16 : 24 ، طبع دار إحياء التراث العربي .

[26]التوبة : 28 .

[27]التوبة : 28 .

[28]الأحزاب : 33 .

[29]آل عمران : 43 .

[30]المحلّى ; لابن حازم 1 : 129 ، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

[31]التوبة : 28 .

[32]كما جاء هذا المعنى أيضاً في الصفحة 183 .

[33]تفسير ابن كثير 4 : 372 .

[34]تفسير الطبري 10 : 74 .

[35]النهر بهامش البحر 5 : 27 .

[36]سبل السلام ، شرح بلوغ المرام ; لمحمد بن إسماعيل الصنعاني 1 : 69 ، طبع دار الكتاب العربي سنة 1410 .

[37]التوبة : 28 .

[38]المائدة : 5 .

[39]التفسير الكبير 4 : 614 .

[40]المغني 1 : 49 .

[41]البديع 1 : 63 .

[42]البحر الرائق 1 : 126 .

[43]الإقناع 1 : 74 .

[44]الوجيز 1 : 4 .

[45]فتح الباري (شرح البخاري) 1 : 269 .

[46]عمدة القاري (شرح البخاري) 2 : 60 .

[47]الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 11 .

[48]من هامش التنقيح في شرح العروة الوثقى 2 : 42 .

الفصل الثاني