الإشكال الثاني

الثاني : لقد مرّ علينا في الفصل الأوّل أنّ علماء أبناء العامّة وأئمة المذاهب الأربعة قالوا بطهارة المشركين ، على أنّ المراد من الآية الشريفة هي النجاسة والقذارة الباطنيّة لا العينّية والجسديّة ، وهذا فاسد بالضرورة ، كما أنّ الخبث الباطني من النجاسة ، ليس من المعاني المعهودة والمعروفة عند نزول الآية للفظ النجاسة ، فإنّها من المعاني التحمليّة من قبل المتأخّرين منهم على القرآن الكريم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد رأينا كيف أنّ ابن الحزم منهم ينكر عليهم ، وكذلك فخرهم الرازي ، وغيرهما .

كما استدلوا على طهارتهم بالآية الشريفة : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[1] ، إلاّ أ نّه لا ينبغي الإصغاء إليه ; وذلك لوجوه :

أوّلا : إذا أطلق أهل الحجاز ـ كما عن المصباح المنير ـ الطعام عنوا به البُرّ خاصّة ، وما عن المغرب : (أنّ الطعام اسمٌ لما يؤكل ، وقد غلب على البُرّ) ، بل عن ابن الأثير عن الخليل (أنّ الغالب في كلام العرب أ نّه البُرّ خاصّة) ـ أي الحنطة ـ إلى غير ذلك ممّا حكي عنهم بما يقتضي اختصاصه بالبُرّ .

وثانياً : لقد ورد في الأخبار المعتبرة[2] ، وفيها الصحيح والموثّق وغيرهما ، بإرادة العدس والحبوب والبقول من الطعام . وعن أبي علي الأشعري ، عن محمّد ابن عبد الجبار ، عن محمّد بن إسماعيل ... عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، في حديث أ نّه سئل عن قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ ... ) ، قال : كان أبي يقول : إنّما هي الحبوب وأشباهها[3] . وشيخ الطائفة بمسنده مثله .

وثالثاً : وقد يشهد للمعنى الأوّل حديث أبي سعيد[4] : « كنّا نخرج الصدقة الفطرة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير » .

لكنّ ـ صاحب الجواهر ـ قال : قد ينافي ذلك إضافة الطعام إلى الذين اُوتوا الكتاب ، فمن هنا كان حمل الطعام في الآية الكريمة على مضمون الأخبار السابقة متّجهاً ، بل لا يبعد إرادة طعامهم المنزل عليهم ، كالمنّ والسّلوى ، والذي دعا الله لهم موسى بأن تنبته الأرض لهم من العدس والفوم ونحوهما . وكيف كان فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم ، انتهى كلامه .

وقال السيّد الحكيم[5] : وأ مّا آية حلّ طعام أهل الكتاب ، فلا مجال للاستدلال بها على الطهارة ، بعد ورود النصوص الصحيحة المفسّرة له بالحبوب ، مع أنّ ظهورها في الطهارة غير ظاهر ، لأنّ الظاهر من الحِلّ فيها الحِلّ التكليفي ، بقرينة السياق ، مع قوله تعالى : ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ )[6] ، وهذا الحلّ كما لا يعارض ما دلّ على حرمة المغصوب ، لا يعارض ما دلّ على حرمة النجس . والظاهر من الإضافة إضافة الملك ، لا إضافة العمل والمباشرة المؤدّية إلى سراية النجاسة ، ولعلّ الوجه في إنشاء التحليل المذكور دفع توهّم الحرمة من جهة عدم حجيّة أيديهم على الملكيّة ، لأ نّهم يستحلّون الأموال بالمعاملات الفاسدة التي لم يشرّعها الإسلام أو لعدم مبالاتهم في الأسباب المملّكة ، فالتحليل المذكور ظاهري ، لحجّية اليد لا واقعي ، فمع العلم بالبطلان وعدم صحّة اليد ، فلا تحليل ، بل يجب العمل على العلم .

اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الحلّ وإن كان تكليفاً ، إلاّ أنّ إطلاق الحلّ الظاهر في الفعليّة يقتضي الطهارة ، بل الظاهر منه كون النظر فيه إلى ذلك ، إذ لا فرق في حجيّة اليد بين الكتابيين وغيرهم . فتخصيص الحلّ بهم لا بدّ أن يكون من هذه الجهة . وأ مّا الرواية المفسّرة للطعام بالحبوب ، فالظاهر من الحبوب فيها ما يقابل اللحوم لا خصوص الحبوب الجافّة ، فإنّ ذلك بعيد جدّاً ، إذ لا خصوصية لأهل الكتاب في ذلك ، وملاحظة التبيان ومجمع البيان في تفسير الآية شاهد بما ذكرنا . فلاحظ ، انتهى كلامه رفع الله مقامه .

وقال الشيخ عبد النبي العراقي[7] : وأ مّا توهّم أ نّه أراد الرجس الذي هو قذارة معنوية ، وحمل الرجس في الآية على آية الرجس في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فاسد جداً ، إذ قلنا : أنّ النجاسة والطهارة من الأحكام الوضعيّة التي مجعولة عندنا على التحقيق ، ولو لم نقل بعمومها أو أ نّها من الاُمورات الحقيقية الواقعية استكشفها الشارع الذي قال الله سبحانه في حقّه : ( اليَوْمَ بَصَرُكَ حَديد )[8] ، مع ثبوت الحقيقة الشرعية عندنا ، وعليه فإنّه ولو في اللغة غير ما هو معهود شرعاً ، إلاّ أ نّه في عرفه يستعمل ، ويحمل على المعنى الشرعي كما لا يخفى على من تتبّع الأخبار وجاس خلال تلك الديار ، فإنّ من تأمّل في عرف زمان النبي (صلى الله عليه وآله) ، مع ملاحظة قانون التبليغ ، ليعرف أنّ عرفهم في الأحكام الشرعية وفتاواهم وأمرهم ونهيهم كان راجعاً إليه ، وإن الأئمة (عليهم السلام) كانوا نقلة عنه وحفظة لشرعه وتراجمة لوحيه ، فلا غبار أ نّه ما أراد من النجس إلاّ هو الشايع عندنا الساعة ، خصوصاً بملاحظة قوله : ( فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ )[9] ; فإنّه ليس إلاّ من جهة دخول النجس في المسجد ، فإنّ أعظم قرينة على إرادة القذارة الخاصّة ، كما لا يخفى .

أقول : ولكنّ السيّد الخوئي أجاب عن هذا بما يشفي الغليل ، وإن كان لنا في كلامه تأمّل ، فراجع .


[1]المائدة : 5 .

[2]الوسائل ، الباب 26 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 و 6 ، والباب 27 ، الحديث 46 ، من كتاب الصيد والذبائح .

[3]الوسائل ، 16 : 381 ، الباب 51 ، الحديث 4 .

[4]تيسير الوصول 2 : 130 .

[5]المستمسك 1 : 375 .

[6]المائدة : 5 .

[7]المعالم الزلفى 1 : 337 .

[8]ق : 22 .

[9]التوبة : 28 .

الإشكال الثالث