لقد ورد في الحديث النبوي الشريف عند الفريقين قوله (صلى الله عليه وآله) : « ستفترق اُمّتي ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقية من الهالكين » .
وبعد رحلة
الرسول الأعظم انقلب الناس على أعقابهم ، وتفرّقوا إلى مذاهب في الاُصول
والفروع ، وكلّ الفرق هالكة يوم القيامة ومحكومة بالكفر ـ كما ورد
في أخبارنا الصحيحة ـ إلاّ فرقة واحدة ، وقد
عيّنها وبيّنها وأظهر معالمها النبيّ الأعظم في حياته الرسالية في مواطن وأزمنة
عديدة وبعبائر مختلفة ، كقوله (صلى الله عليه وآله) :
« مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق
وهوى »[1] ،
متّفق عليه ، وكحديث الثقلين : « إنّي تارك فيكم
الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن
تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »[2] ،
متّفق عليه عند الفريقين . وعشرات الروايات الاُخرى الدالّة بوضوح على
ذلك ، ولكن استحوذ على بعض الشيطان ، واغترّ آخرون بدنياهم الدنيّة
وزخرفها
وزبرجها ، فغرّتهم الحياة الدنيا ، وباعوا آخرتهم بدنياهم أو دنيا
غيرهم ، فخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين . فأنكروا
الحقّ وتركوا أهله ، ونصروا الباطل واتّبعوا الطواغيت والجبابرة ،
وانحرفوا عن الصراط المستقيم وخالفوا العترة الطاهرة (عليهم السلام) .
فيا ترى مثل هؤلاء هل يحكم عليهم بالنجاسة باعتبار صدق الكفر عليهم ، أو أ نّه نحكم عليهم بالطهارة ونجري عليهم أحكام المسلمين للضرورة ؟ ولولا ذلك للزم العسر والحرج ، وأ نّه في دولة الحقّ وعند ظهور صاحب الزمان (عليه السلام) ـ عجّل الله فرجه الشريف ، وجعلنا من خلّص شيعته وأنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه ، في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه في ربوع الأرض وأطرافها حتّى يكون الدين كلّه لله سبحانه ولو كره المشركون ، فإنّه في دولة صاحب الزمان (عليه السلام) ـ يتعامل معهم معاملة الكفّار ، كما أ نّهم يموتوا كفّاراً فيما لم يكونوا من المستضعفين ولم يصل إليهم الحقّ ، فيرجع أمرهم إلى الله سبحانه ، إن شاء غفر وإن شاء عذّب ، كالأعراف الذين خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً .
فنقول مقدّمة : إنّ أربع فرق حكم عليهم الفقهاء بنجاستهم وأجمعوا على ذلك ، وهم الخوارج والنواصب والغلاة والمجسّمة الحقيقيّة ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ .
وقد ذهب بعض في تحديد الناصب أ نّه من نصب عداوة آل محمّد في قلبه أو عداوة شيعتهم لانتسابهم إلى أئمتهم (عليهم السلام) ، لكن نذهب إلى أنّ الناصبي خصوص من نصب العداوة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين (عليهم السلام) ، كما ورد ذلك في كثير من الروايات الشريفة ، إلاّ أ نّه ورد أيضاً : « خذ من أموالهم وادفع إلينا خمسه » وهذا عامّ ، إلاّ أ نّه عند المتشرّعة من الإمامية الشيعة أنّ الناصب من نصب في قلبه عداوة أهل البيت (عليهم السلام) ، فانصراف « خذ من الناصب » وظهوره ، إنّما هو الناصب لأهل البيت (عليهم السلام) ، لا مطلق المعادي حتّى من كان عدوّ الشيعة الإماميّة الاثنى عشرية ، أعزّهم الله في الدارين .
وأمّا رواية من كان يعادي الشيعة فهو الناصبي ، كما ورد ذلك في رواية عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال : « ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأ نّك لا تجد أحداً يقول أنا أبغض محمّد وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أ نّكم تتولّونا وأ نّكم من شعيتنا » .
فإنّها لا تدلّ على حكم شرعي إن أغمضنا النظر عن سندها ، بل هي في مقام بيان مرتبة من مراتب العداوة ، باعتبار أ نّها من الكلّي المشكّك ذات مراتب طولية وعرضيّة ، فتدبّر[3] .
ثمّ قيل : إنّ نجاسة الناصبي كنجاسة المشرك من الخبث الباطني والنجاسة المعنوية والقذارة الباطنية ، وليست ذاتية وعينيّة ، وإلاّ فإنّ آل اُميّة كانوا يسبّون أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) على المنابر برهة من الزمن ـ ستّون عاماً ـ وكان الأئمّة الأطهار يراودونهم ويعاشرونهم ، ولم يذكر التاريخ حكمهم عليهم بالنجاسة . وجوابه : إنّ بعض الأحكام الشرعية لم تظهر من زمن النبيّ إلى زمن الإمامين الصادقين ـ الإمام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق (عليهما السلام) ـ كالخمس في أرباح المكاسب ، وذلك لحكمة ربّانية علمها عند الله والراسخين في العلم ، وربما يكون مبدأ الحكم الواقعي هو الزمان المتأخّر ، بحيث قبل الزمان المتأخّر لم يكن الحكم واقعيّاً وإن كان بنحو القضية الحقيقية ، ويحتمل من أوّل الأمر لم يكن قيداً في البين ففي كلّ زمان يوجد الحكم الواقعي ، فالخمس في أرباح المكاسب كان قبل زمان الإمامين الصادقين (عليهما السلام) ، ولكن لم يبلّغ الحكم للتقيّة ، ولعدم الظروف المؤاتية والمقتضية مثلا . وربما يقال فيما نحن فيه بنجاسة الناصبي المعادي للشيعة وإن لم يكن لنا نصّ خاصّ في ذلك وظهر حكمه بعد ذلك .
ثمّ السيّد اليزدي في العروة الوثقى ذهب إلى طهارة المجبّرة والمجسّمة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام ، وظاهر القيد الأخير أ نّه للصوفية . وأمّا المجسّمة فالمتعارف منهم ـ كالكراميّة ـ أ نّهم فرقة من العامّة التزموا بأنّ الله سبحانه جسم ، وأ نّه يرى في الآخرة ، بل وينزل إلى السماء وأ نّه يجلس على العرش ويكون له أطيط كأطيط الرحل ، وما شابه ذلك ممّا يدلّ على الجسم حقيقة ، ولازم الجسميّة الحدوث والافتقار ، فإنّه مركّب من أجزاء ، وكلّ مركّب محتاج ، والاحتياج آية الإمكان ، فلا يكون قديماً ولا غنيّاً بالذات ، وهذا ممّا يوجب الكفر الصريح .
وأمّا القول بالجسم الإلهي وأ نّه جسم لا كالأجسام ـ كما ذهب إليه بعض فلاسفة المسلمين ـ فإنّه باطل ، إلاّ أ نّه لا يوجب الكفر ، وجاء في شرح الكافي عند بعض الأعلام أنّ الجسم المقسّم ما له الأبعاد الثلاثة (الطول والعرض والعمق) وأ نّه ينقسم إلى إلهي ومثالي وعقلي وعيني ، فالقول بالجسم الإلهي ممّا يردّه العقل والنقل ، فإنّه سبحانه وجود مجرّد بحت ، وهو مطلق الوجود والوجود المطلق ، وإنّ ماهيّته إنّيته ، وتمام الكلام في علم الكلام ، إلاّ أنّ القول به لا يستلزمه الكفر والنجاسة .
وأمّا المجبّرة ، وهم الأشاعرة وأبناء العامّة ، فإنّهم يذهبون إلى أنّ أفعالنا لو قلنا بأ نّها مخلوقة لنا ، فإنّه يتنافى مع التوحيد الخالص ، فالفعل وإن كان من جوارحنا ، إلاّ أ نّه بمشية الله سبحانه وإرادته ، فإنّه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فلا بدّ للعاصي أن يعصي الله سبحانه ، فإنّ تمام الأفعال بعلم الله ومشيّته ، وقد أجاب الأئمة الأطهار عن ذلك ، بأ نّه كيف يعاقب العاصي حينئذ ولماذا يدخل المطيع الجنّة ، فبالنقض بيّنوا المنزلة بين المنزلتين ، وأ نّه لا جبر ولا تفويض ، بل أمرٌ بين الأمرين[4] .
والمجبرة أرادوا أن يفرّوا من هذا النقض والإشكال فقالوا بالكسب بأنّ العبد له إرادة لكن المؤثر هو الإرادة الإلهيّة ، ولمّـا يريد العبد تلك الإرادة يكون الكسب ، وهذا باطل وفاسد كما هو ثابت في محلّه .
وهناك من الخاصّة ـ كالشيخ الآخوند في كفاية الأصول في المجلّد الأول ـ كان يذهب إلى شبه الجبر ، بأنّ الأفعال من الإنسان ممكنة ، وكلّ ممكن ما لم يجب لا يوجد ، فإنّه إذا وجب وجد ، وإذا وجد وجب ، فهو مسبوق بوجوب كما إنّه ملحوق بوجوب ، فإنّ المعلول الممكن إنّما يوجد ، إذا وجدت علّته فهو واجب بالغير ، كما إنّه إذا انتفت العلّة انتفى المعلول ، ففعل الإنسان ممكن وإنّما وجب بالإرادة ، وهي بالمبادي ، والمبادي لازم الذات الإنسانية ، فلو كان ذات الشخص خبيثاً ، فإنّ المبادئ الخبيثة توجد ، وإن كانت الذات طيّبة ، فالمبادي كذلك ، والذاتي لا يعلّل ، فأفعال الإنسان حينئذ تتعلّق بالخبث والطيب الباطني لا بالإرادة الإلهيّة حتّى يلزم الجبر حقيقة ، والسعيد سعيد في بطن اُمّه ، والشقيّ شقيٌّ في بطن اُمّه ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، وغير ذلك من النصوص الدالّة على شبه الجبر ، والثواب والعقاب يتعلّقان بالقرب والبعد لا بالكسب ، وكلّ هذه المطالب فاسدة وغير تامّة ـ كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في مباحثنا الاُصوليّة ـ إلاّ أ نّها لا توجب الكفر الذي يحكم على معتنقه بالنجاسة ، فإنّ الكفر ما لم يكن فيه اعتراف بالشهادتين ، ولازمه إنكار الإلوهية أو الرسالة أو ما يلزم تكذيب النبوّة بإنكار ضروري من ضروريات الدين المتّفق عليه .
وكذلك الناصبي الذي نصب عداوة آل البيت (عليهم السلام) في قلبه . وممّـا ذكرنا يعلم حال المفوّضة الذين يقولون بأنّ العالم وما سوى الله سبحانه لا يحتاج في البقاء إلى العلّة المبقيّة ، بل حدوثه يحتاج إلى العلّة المحدثة وأنّ الله سبحانه فوّض الأمر إلى خلقه بعد خلقتهم ، وهم النقطة المقابلة المناقضة للمجبّرة ، ومسلكهم كمسلك اليهود الذين قالوا ( يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ ) وهذا من الكفر أيضاً ، ولا أدري لماذا السيّد اليزدي (قدس سره) لم يذكرهم مع المجبّرة .
وجمعاً بين الأخبار الواردة في هذا الباب نقول : أنّ المراد من الشرك والكفر بالنسبة إلى هؤلاء إنّما هو باعتبار إنكارهم الحقّ ، لا ما يقابل الإسلام الذي كان عبارة عن قول الشهادتين ، فتدبّر . وأمّا القول بوحدة الوجود وأ نّه إذا التزم القائل به بأحكام الإسلام لا يحكم بنجاسته . فإنّه ذهب بعض المتألّهين إلى أنّ القائل بالتوحيد والمعتقد به إمّا أن يتكلّم بكلمة التوحيد لفظاً ، كما هو عند أكثر الناس وعامّتهم واعتقادهم بذلك . أو إنّه يعتقد بوحدة الوجود والموجود ـ والمراد من الموجود الذات ، أي الماهية التي ثبت لها الوجود كالإنسان الموجود ـ فلا بدّ أن يكون مراده الوحدة الشخصيّة أي الوجود والموجود شيء واحد ، والاختلاف بينهما يكون بالاعتبار ـ ذهب بعض الصوفية إلى ذلك ـ وعندما لا يصحّ تعقّل ذلك التزموا بخلاف الظاهر ، بأنّ المراد من وحدة الوجود بأنّ الوجود واحد والموجود متعدّد ومتكثّر ، نسب هذا المعتقد والمبنى إلى بعض المتألّهين ، وبعضهم كصدرهم وعرفائهم ذهبوا : إلى تعدّد الوجود والموجود ، إلاّ أ نّه في عين كثرتهما واحد .
وحينئذ نقول : ما المراد من قولكم : القائل بكلمة التوحيد إن كان المراد (لا إله إلاّ الله) فإنّها لا تتعلّق بوحدة الوجود وكثرته ، فإنّها في مقام تعدّد آلهة ووحدة المعبود سبحانه ، فإنّه وحده لا شريك له .
وأمّا من قال بوحدة الوجود الشخصية وهو الموجود وليس إلاّ وجود واحد والباقي اعتبارية ، فهذا من الكفر والزندقة ، إذ لازمه نفي الخالق والمخلوق ، وكلّ شيء سوى الوجود الواحد الشخصي الحقيقي عندهم ، فهذا كفر يوجب النجاسة ، ولا معنى لتقيّد هؤلاء بالتزامهم أحكام الإسلام .
وأمّا الوحدة الشخصية في الوجود وأنّ الكثرة في الماهيات الموجودة ، فالوجود الحقيقي هو ذات الله سبحانه واحد لا ماهية فيه فإن ماهيته إنيّته ـ أي : وجوده ـ ، والتكثّر من جهة الموجودات وذات الماهيات ، فإنّما يتمّ هذا بناء على أصالة الماهيّة ، ولا إشكال فيه إلاّ أنّ اختيار صدر المتألّهين والفلاسفة المشّائيين أصالة الوجود ، ولا يتعقّل ذلك على مبناه ، وقد قرّبه المحقّق السبزواري بتعدّد المرائي ووقوف شخص واحد أمامها ، فإنّ الصورة تتعدّد ، إلاّ أنّ الحقيقة واحدة ، فإن كان مراده مجرّد التقريب فلا ضير فيه ، إلاّ أ نّه لا يتمّ ذلك ، فإنّه في الخارج مخلوق بفعل الله لا بالعلّة والمعلول ، بل بالفعل والفاعل ، وإن كان مراده مجرّد التشبيه ، أي ذات الباري واحد والصور لمعات وتجليات منه ، فهذا باطل أيضاً ، فإنّه يلزمه القول بأ نّه نحن لمعات ربّ العالمين ، فلا حاجة إلى النبيّ فيلزمه الكفر ، إذ مقولته تنتهي إلى إنكاره النبوّة ، وواضح حكمه كما مرّ حتّى لو التزم بأحكام الإسلام .
أمّا سائر الفرق الشيعية غير الإمامية الإثنى عشرية كالزيدية والإسماعيلية والواقفية وغيرهم ، فإنّ السيّد في عروته ذهب إلى طهارتهم بشرط أن لا يظهروا العداوة مع سائر الأئمّة الأطهار الذين لا يعتقدون بإمامتهم ، وأن لا يسبّونهم (عليهم السلام) ، وإلاّ فيحكم بنجاستهم .
ولكن لم يكن لنا دليل على أن من يسبّ الأئمّة الأطهار فإنّه نجس ، نعم لو كان ذلك من باب إظهار العداء والبغضاء والنصب ، فإنّه يحكم عليه بحكم الناصبي ويحكم بكفره للأدلّة التي مرّت ، وإن كان الداعي أمر آخر كأن يكون في حالة الغضب ، فلا دليل لنا على كفره بعد قوله الشهادتين التي توجب الإسلام والطهارة . نعم سبّ الأئمة الأطهار يوجب مهدورية الدم ، فكل من سمع من يسبّهم أو أحدهم وكذلك فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)فله أن يقتله إذا أمن الفساد ، وفي ذلك روايات عديدة كما في كتاب الحدود والقصاص في حدّ السبّ[5] .
وبقي ما لم يذكره السيّد اليزدي (قدس سره) في العروة ، وهو حكم المخالفين غير الخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة ، وهم الذين خالفوا الحقّ وأنكروا مقام الولاية ، حيث أنّا نعتقد أنّ للنّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) ثلاث مقامات إلهية :
1 ـ النبوّة ، وذلك بالأصالة يوحى إليه .
2 ـ الزعامة والولاية وزمام اُمور المسلمين بيده .
3 ـ أ نّه كان مبلِّغ الحلال والحرام .
وعقيدتنا أنّ المنصبين الأخيرين دون النبوّة قد جعلت بأمر من الله سبحانه ، ووضعت في الأئمة المعصومين الاثني عشر الأطهار (عليهم السلام) ، أوّلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم الحجّة بن الحسن العسكري صاحب الزمان (عليه السلام)وعجّل الله فرجه الشريف . وهذان المنصبان غير المحبّة والمودة والولاء الذي يتعلّق بالناس ، فإنّ هذا من فروع الدين وتلك الولاية من اُصوله ، بعبارة اُخرى الولاية باعتبار المنصب الإلهي وأ نّه من فعل الله سبحانه كالنبوّة ، وأ نّه من اللطف ، فيدخل في مباحث علم الكلام ، وأ نّه من اُصول الدين ، وباعتبار أ نّه يرتبط بأفعال الناس وأ نّهم اُمروا بمودّتهم ومحبّتهم تعظيماً للرسالة وأجراً لها ( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ في القُرْبى ) ، فهذا من فروع الدين ، والذي يعبّر عنه بالتولّي والتبرّي[6] . والمخالفون يعتقدون بالمودّة ، بل وعندهم من لم يصلِّ عليهم فلا صلاة له ، إلاّ أ نّهم لا يقولون بالزعامة لهم والولاية على المسلمين ، وغاية ما عندهم من المعرفة بمقامهم الشامخ أ نّهم أحد العلماء الصلحاء المبلِّغين للرسالة المحمّدية ، فلا يعترفون بمقام الولاية ووجوب إطاعتهم ، وأ نّهم اُولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ، فهؤلاء المخالفون ذهب المشهور من علمائنا الأعلام إلى طهارتهم ، إلاّ أنّ صاحب الحدائق والسيّد المرتضى وبعض يذهبون إلى كفرهم ونجاستهم ، ولا بدّ من دليل على ذلك ، إمّا بإنكارهم الضروري بما هو ضروري وإن لم يلزم منه إنكار التوحيد والرسالة ، وأنّ الولاية من الضروريات فمنكرها كافر ، كما ذهب إلى هذا المعنى صاحب الحدائق ، بناءً على أنّ قصّة الغدير ونصب أمير المؤمنين (عليه السلام)في آخر حياة النبيّ أصبح من ضروريات الدين وإنكاره يوجب الكفر ، ولكنّ صغرى المسألة وكبراها محلّ إشكال ، فإنكار الضروري بما هو ضروري ما دام لم يرجع إلى إنكار التوحيد أو الرسالة فإنّه ليس من الإنكار الموجب للكفر ، كما أنّ ولاية الأمير (عليه السلام) لم يكن ضرورياً لجميع الناس في آخر أيّام النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإلاّ لما تجشّم الاستدلال علماء الشيعة في إثبات الغدير .
نعم ربّما يتمسّك على كفرهم بروايات ، إلاّ أ نّه استثنى صاحب الحدائق المستضعفين منهم بأ نّهم ضلّوا الطريق ، فلا يثبتون الولاية ولا ينكرونها .
فمن الروايات ما جاء في الكافي[7] : علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن أبي سلمة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : نحن الذين فرض الله طاعتنا ، لا يسع الناس إلاّ معرفتنا ، ولا يعذر الناس بجهالتنا ، من عرفنا كان مؤمناً ، ومن أنكرنا كان كافراً ، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاّ ، حتّى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة ، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء .
ورواية يونس ولا يبعد اعتبارها سنداً . الكافي : علي ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن محمّد بن الفضيل ، قال : سألته عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى الله عزّ وجلّ ، قال : أفضل ما يتقرّب به العباد إلى الله عزّ وجلّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة اُولي الأمر . قال أبو جعفر (عليه السلام) : حبّنا إيمان ، وبغضنا كفر[8] .
ولكن يحمل هذا الكفر على ما يقابل الإيمان الذي في القلب ، لا الكفر بالله الذي يقابل الإسلام ، وذلك جمعاً بين الروايات ـ كما مرّ ـ فإنّ في بعضها دلالة على إسلامهم ، وأ نّه بقولهم الشهادتين يُحقن دمهم ، ويحفظ مالهم وعرضهم ، كما جاء ذلك في موثّقة سماعة[9] : محمّد ، عن أحمد ، عن السّراد ، عن جميل بن صالح ، عن سماعة ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان ؟ فقال : إنّ الإيمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الإيمان ، فقلت : فصفهما لي ؟ فقال : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والتصديق برسول الله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ... إلى آخره[10] .
ومعنى « وعلى ظاهره جماعة الناس » ، أ نّه يحكم عليهم بالإسلام كما في صحيحة حمران بن أعين[11] : العدة ، عن سهل ومحمّد بن أحمد ، جميعاً عن السّراد ، عن ابن رئاب ، عن حمران بن أعين ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : سمعته يقول : « الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله ، وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمر الله . والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها وبه حقنت الدماء ... » .
فاتّضح وجه الجمع بين الروايات ، فغير الناصبي ومن هو بحكمه يحكم عليه بالطهارة .
إلاّ أ نّه لا بأس أن نذكر ما قاله المحقّق البحراني في حدائقه الناضرة[12]في نجاسة المخالفين ، لما فيه من التحمّس الولائي والتفاني المذهبي في ولاء أهل البيت (عليهم السلام) ، فإنّ هناك في يومنا هذا من يذهب إلى هذا النوع من التحمّس عند طائفة ويعبّر عنهم بالولائيين .
فقال عليه الرحمة ملخّصاً : المشهور بين متأخّري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم ، وخصّوا الكفر والنجاسة بالناصب ، كما أشرنا إليه في صدر الفصل وهو عندهم من أظهر عداوة أهل البيت (عليهم السلام) ، والمشهور في كلام أصحابنا المتقدّمين هو الحكم بكفرهم ونصبهم ونجاستهم ، وهو المؤيّد بالروايات الإماميّة ، ثمّ يذكر ما قاله الشيخ ابن نوبخت بأنّ دافع نصّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كافر عند جمهور أصحابنا ، ومن أصحابنا من يفسّقه ، وقول العلاّمة في شرحه على كلام ابن النوبخت على أنّ إمرة الأمير (عليه السلام) معلوم بالتواتر ، فإنكاره إنكار لضروري من ضروريات الدين كالصلاة والصوم الموجب للكفر والنجاسة ، كما يذكر ما جاء في المنتهى وما قاله الشيخ المفيد في المقنعة بأ نّه لا يجوز لأحد من أهل الإيمان أن يغسل مخالفاً للحقّ في الولاية ولا يصلّي عليه ، ونحوه ما قاله ابن البرّاج وما قاله الشيخ في التهذيب بأنّ الوجه فيه على أنّ المخالف كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفّار إلاّ ما خرج بالدليل ، وما قاله ابن إدريس في السرائر ومذهب المرتضى ، وما قاله المولى محمّد صالح المازندراني في شرح اُصول الكافي ، وما قاله القاضي نور الله في كتاب إحقاق الحقّ ، وما قاله المولى المحقّق أبو الحسن الشريف ، ثمّ قال : وعندي أنّ كفر هؤلاء من أوضح الواضحات في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، انتهى . ثمّ قال المصنّف : هذا والمفهوم من الأخبار المستفيضة هو كفر المخالف الغير المستضعف ونصبه ونجاسته ، وممّن صرّح بالنصب والنجاسة أيضاً جمع من أصحابنا المتأخّرين منهم شيخنا الشهيد الثاني في بحث السؤر من الروض وأنّ المراد من الناصبي من نصب العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) أو لأحدهم وأظهر البغضاء لهم صريحاً أو لزوماً ككراهة ذكرهم ونشر فضائلهم والإعراض عن مناقبهم من حيث إنّها مناقبهم والعداوة لمحبّيهم بسبب محبّتهم ، وروى الصدوق ابن بابويه عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) : « قال : ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ، لأ نّك لا تجد أحداً يقول أنا اُبغض محمّداً وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أ نّكم تتولّونا وأ نّكم من شيعتنا » ـ وهذا يعني أنّ الوهابية في يومنا هذا لحقدهم على الشيعة يلزم أن ينطبق عليهم عنوان النصب ويجري عليهم أحكام الناصبي حينئذ ـ وفي بعض الأخبار : « أنّ كلّ من قدّم الجبت والطاغوت فهو ناصب » ، واختاره بعض الأصحاب ... ثمّ قال بعد نقل عبارة السيّد نعمة الله الجزائري من كتابه الأنوار النعمانية : وقد تفطّن شيخنا الشهيد الثاني من الاطّلاع على غرائب الأخبار فذهب إلى أنّ الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) وتظاهر في القدح فيهم ، كما هو حال أكثر المخالفين لنا في هذه الأعصار في كلّ الأمصار ... إلى آخر كلامه زيد في علوّ مقامه . وهو الحقّ المدلول عليه بأخبار العترة الأطهار كما ستأتيك إن شاء الله ساطعة الأنوار . ثمّ يذكر من يذهب إلى طهارة المخالفين وأنّ أوّل ما قال بها هو العلاّمة الحلّي (قدس سره) ، ومعروف عند الأخباريين أنّ الإسلام تهدّمت أركانه بالسقيفة وبولادة العلاّمة الحلّي لأ نّه فتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها ، ومن هذا المنطلق نرى بعضهم يتهجّم عليه وعلى مثل المحقّق الحلّي (قدس سرهما) ، مع أ نّهما قدّما أكبر خدمة للطائفة بمصنّفاتهما القيّمة ، وأحيا المذهب ونجّيا الشيعة من الجمود الفكري كما عند الأخباريين وعند أبناء العامّة ، فجزاهما الله عن الإسلام وأهله والمذهب وخاصّته ، خير الجزاء وأحسن العطاء ، فقال الشيخ البحراني : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ من جملة من صرّح بطهارة المخالفين بل ربما كان هو الأصل في الخلاف في هذه المسألة في القول بإسلامهم وما يترتّب عليه : المحقّق في المعتبر ، حيث قال : أسآر المسلمين طاهرة وإن اختلفت آراؤهم عدا الخوارج والغلاة . وقال الشيخ في المبسوط بنجاسة المجبّرة والمجسّمة ، وصرّح بعض المتأخّرين بنجاسة من لم يعتقد الحقّ عدا المستضعف . لنا : أنّ النّبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن يجتنب سؤر أحدهم وكان يشرب من المواضع التي تشرب منها عائشة ، وبعده لم يجتنب عليّ (عليه السلام) سؤر أحد من الصحابة مع مباينتهم له ، ولا يقال أنّ ذلك كان تقيّة لأ نّه لا يصار إليها إلاّ مع الدلالة ، وعنه (عليه السلام) أ نّه سُئل : أيتوضّأ من فضل جماعة المسلمين أحبّ إليك ، أو يتوضّأ من ركو أبيض مخمر ؟ فقال : « بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإنّ أحبّ دينكم إلى الله تعالى الحنفية السمحة » ، ذكره أبو جعفر بن بابويه في كتابه . وعن العيص بن القاسم عن الصادق (عليه السلام) : « إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يغتسل هو وعائشة من إناء واحد » ، ولأنّ النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة ، أمّا الخوارج فيقدحون في عليّ (عليه السلام) ، وقد علم من الدين تحريم ذلك ، فهم بهذا الاعتبار داخلون في الكفر لخروجهم عن الإجماع ، وهم المعنيّون بالنصاب . انتهى كلامه زيد مقامه ...
ثمّ يقول المصنّف : وعندي فيه نظر من وجوه ، ثم يذكر وجوهاً أربعة ، وخلاصة الأوّل : أنّ الكفر لمخالفتهم إنّما هو بعد رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فلا يستدلّ بحديث عائشة والغسل معها ومساورتها ، على أ نّه فرق بين النفاق في حياة النبيّ والارتداد بعد موته ، بنقضهم البيعة الغديرية التي هي في ضرورتها أظهر من الشمس ، فقد كشفوا ما كان مستوراً من الداء الدفين ، وارتدّوا ، جهاراً غير منكرين ولا مستخفين كما استفاضت به أخبار الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ، فشتّان ما بين الحالتين وما أبعد ما بين الوقتين ، فأيّ عاقل يزعم أنّ اُولئك الكفرة اللئام قد بقوا على ظاهر الإسلام حتّى يستدلّ بهم في هذا المقام ، والحال أ نّه قد ورد عنهم (عليهم السلام) : « ثلاثة لا يكلّمهم الله تعالى يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم : من ادّعى إمامة من الله ليست له ، ومن جحد إماماً من الله ، ومن زعم أنّ لهما في الإسلام نصيباً » ، نعوذ بالله من زلاّت الأفهام وطغيان الأقلام .
ثمّ قال في الوجه الثاني : إنّ من العجب الذي يضحك الثكلى ، والبيّن البطلان ، الذي أظهر من كلّ شيء وأجلى ، أن يحكم بنجاسة من أنكر ضرورياً من سائر ضروريات الدين وأن يعلم أنّ ذلك منه عن اعتقاد ويقين ، ولا يحكم بنجاسة من يسبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخرجه قهراً مقاداً يُساق بين جملة العالمين وأدار الحطب على بيته ليحرقه عليه وعلى من فيه ، وضرب الزهراء (عليها السلام) حتّى أسقطها جنينها ولطمها حتّى خرّت لوجهها وخرجت لوعتها وحنينها ، مضافاً إلى غصب الخلافة الذي هو أصل هذه المصائب وبيت هذه الفجائع والنوائب ، ما هذا إلاّ سهو زائد من هذا النحرير وغفلة واضحة عن هذا التحرير ، فيا سبحان الله كأ نّه لم يراجع الأخبار الواردة في المقام الدالّة على ارتدادهم عن الإسلام واستحقاقهم القتل منه (عليه السلام) لولا الوحدة وعدم المساعد من اُولئك الأنام ، وهل يجوز يا ذوي العقول والأحلام أن يستوجبوا القتل وهم طاهروا الأجسام ؟ وأيّ دليل على نجاسة ابن زياد ويزيد وكلّ من تابعهم في ذلك الفعل الشنيع الشديد ؟ وأيّ دليل دلّ على نجاسة بني اُميّة الأرجاس وكلّ من حذا حذوهم من كفرة بني العبّاس الذين قد أبادوا الذريّة العلوية وجرّعوهم كؤوس الغصص والمنية ؟ وأيّ حديث صرّح بنجاستهم حتّى يصرّح بنجاسة أئمّتهم ؟ وأيّ ناظر وسامع خفي عليه ما بلغ بهم من أئمة الضلال حتّى يصار إليه إلاّ مع الدلالة ، ولعلّه (قدس سره) أيضاً يمنع من نجاسة يزيد وأمثاله من خنازير بني اُميّة وكلاب بني العبّاس لعدم الدليل على كون التقيّة هي المانعة من اجتناب اُولئك الأرجاس .
وبهذه المقولة الخطابية التي تُثير أحاسيس الشيعة المرهفة ويتحمّس لها كلّ شيعي ، يحاول المصنّف أن يتهجّم على المحقّق (قدس سره) ، والحال ليس كلّ من وجب قتله كمن كان عليه القود هو نجس ، ثمّ يذكر وجهين آخرين وروايات تدلّ بظاهرها على كفر المخالفين عدا المستضعفين منهم ، ثمّ يتعرّض لمعنى النصب ومن هو الناصبي ويحاول أن يثبت أنّ المخالف هو الناصبي مطلقاً ، فقال : نحن ندّعي دخولهم تحته ـ تحت عنوان الناصب ـ وصدقه عليهم وهم ـ الذين يعتقدون أنّ الناصبي من نصب العداوة لأهل البيت كما عند المشهور ، بل ادّعى الإجماع عليه ـ يمنعون ذلك ودليلنا على ما ذكرنا الأخبار المذكورة الدالّة على أنّ الأمر الذي يعرف به النصب ويوجب الحكم به على من اتّصف به هو تقديم الجبت والطاغوت أو بغض الشيعة ، ولا ريب في صدق ذلك على هؤلاء المخالفين . . وبالجملة فإنّه لا دليل لهم ولا مستند أزيد من وقوعهم في ورطة القول بإسلامهم فتكلّفوا هذه التكلّفات الشاردة والتأويلات الباردة ...
ثمّ يذكر المصنّف الروايات الدالّة على نجاسة الناصبي ، ثمّ يتعرّض إلى من ألجأته ضرورة التقيّة إلى المخالطة والحكم بالطهارة لو ارتفعت التقيّة ، فهل يجب التطهير ؟ يذهب إلى ذلك[13] ، التوقّف والاحتياط ثمّ يذكر حكم الفرق الشيعية غير الإمامية الاثني عشرية ، فيقول : ينبغي أن يعلم أنّ جميع من خرج عن الفرقة الاثنى عشرية من أفراد الشيعة كالزيدية والواقفية والفطحية ونحوها ، فإنّ الظاهر أنّ حكمهم كحكم النواصب فيما ذكرنا ، لأنّ من أنكر واحداً منهم (عليهم السلام)كان كمن أنكر الجميع كما وردت به أخبارهم ، ثمّ يذكر الأخبار ، ثمّ قال : ولهذا نقل شيخنا البهائي (قدس سره) في مشرق الشمسين أنّ متقدّمي أصحابنا كانوا يسمّون تلك الفرق بالكلاب الممطورة ، أي الكلاب التي أصابها المطر مبالغة في نجاستهم والبعد عنهم ، والله العالم .
ثمّ يتعرّض المصنّف إلى حكم ولد الزنا وولد الكافر ثمّ في المسألة الرابعة يذكر اختلاف الفقهاء في نجاسة أو طهارة المجبّرة والمجسّمة ، ثمّ قال : لا يخفى أنّ ما طوّل به الأصحاب المقال في المجال وتعسّفوه من الاستدلال وكثرة الأقوال مع ما فيه من الإشكال ، بل الاختلاف كلّه إنّما نشأ من القول بإسلام المخالفين ، وإلاّ فإنّه على القول بكفرهم ونصبهم ونجاستهم كما أوضحناه فيما تقدّم لا ثمرة لهذا البحث والاختلاف ، ولا خصوصية لهذه الفرق في البحث دون غيرهم من ذوي الخلاف ، وما ذكره صاحب الذخيرة جرياً على مذهبه وتصلّبه ومبالغته في القول بإسلام المخالفين فهو أوهن من بيت العنكبوت وإنّه لأوهن البيوت ، وقد تقدّم تحقيق البحث في المسألة الاُولى مستوفىً بحمد الله تعالى ، وتقدّم الكلام في خبره المذكور في الكلام على كلام المحقّق الذي هو الأصل في هذا القول المنكور والله هو العالم . انتهى كلامه زيد في مقامه .
وأمّا صاحب الجواهر (قدس سره) فإنّه بعبقريّته الاُصوليّة يذهب إلى طهارة المخالفين قائلا : وكذا لا يندرج في الضابط المذكور ـ الذي ذكره المصنّف المحقّق الحلّي في ضابط الكافر بأ نّه من خرج عن الإسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوارج والغلاة والنواصب فلا يندرج تحت هذا الضابط ـ معتقد خلاف الحقّ من فرق المسلمين ، كجاحد النصّ على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في محلّه ، لأنّ الأقوى طهارتهم في مثل هذه الأعصار وإن كان عند ظهور صاحب الأمر (عليه السلام)بأبي واُمّي يعاملهم معاملة الكفّار ، كما أنّ الله تعالى شأنه يعاملهم كذلك بعد مفارقة أرواحهم أبدانهم ، وفاقاً للمشهور بين الأصحاب ، سيّما المتأخرين نقلا وتحصيلا ، بل يمكن تحصيل الإجماع كما عن الاُستاذ أ نّه معلوم ، بل لعلّه ضروري المذهب للسيرة القاطعة من سائر الفرقة المحقّة في سائر الأعصار والأمصار ، وللقطع بمخالطة الأئمة المرضيين (عليهم السلام) وأصحابهم لهم ، حتّى لرؤسائهم ومؤسسي مذهبهم على وجه يقطع بعدم كونه للتقيّة مع أنّ الأصل عدمها فيه ، وإلاّ لعلم كما علم ما هو أعظم منه من السبّ والبراءة ونحوها ـ أي لو كان لبان ـ ولذا حكي الإجماع في كشف اللثام والرياض على عدم احتراز الأئمّة (عليهم السلام) وأصحابهم عنهم في شيء من الأزمنة وهو الحجّة بعد الأصل ، بل الاُصول فيهم وفيما يلاقيهم والعمومات وشدّة العسر والحرج على تقدير النجاسة المنفيين بالعقل والآية والرواية وللنصوص المستفيضة بل المتواترة في حلّ ما يوجد في أسواق المسلمين ، والطهارة مع القطع بندرة الإمامية في جميع الأزمنة ، سيّما أزمنة صدور تلك النصوص ، فضلا عن أن يكون لهم سوق يكون مورداً لتلك الأحكام المزبورة ـ هذه التفاتة لطيفة من المصنّف ـ فهو من أقوى الأدلّة على طهارة هؤلاء الكفرة ، وإن كانوا في المعنى أنجس من الكلاب الممطورة .
ولانحصار مقتضى النجاسة في كفرهم بذلك ، وقد ثبت ضدّه ، وهو صفة الإسلام بشهادة ما دلّ على حصوله بإبراز الشهادتين من الأخبار ، كخبر سفيان ابن السمط المروي هو وما يأتي بعده أيضاً في باب الكفر والإيمان من الكافي ... الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) ... وخبر سماعة ... فقال : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله) وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس ... وخبر حمران بن أعين أو صحيحه ... والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها وبه حقنت الدماء ... .
والحديث طويل فيدخلون حينئذ تحت ما دلّ على طهارة المسلمين ، مضافاً إلى ما في هذه كغيرها من الأخبار أيضاً من ظهور إناطة سائر الأحكام الدنيوية التي منها الطهارة على الإسلام المزبور ، ثمّ يذكر المصنّف وجوهاً اُخرى ويقول : فتحصّل حينئذ أ نّه قد يطلق الإسلام على ما يرادف الإيمان ، وعلى المصدّق بغير الولاية ، وعلى مجرّد إظهار الشهادتين ، ويقابله الكفر في الثلاثة كما إنّه يطلق المؤمن على الأوّل وعلى المصدّق بالولاية .
فلعلّ ما ورد في الأخبار الكثيرة من تكفير منكر عليّ (عليه السلام) لأ نّه العلم الذي نصبه الله بينه وبين عباده وأ نّه باب من أبواب الجنّة من دخله كان مؤمناً ومن خرج منه كان كافراً ، وتكفير منكر مطلق الإمام ، وإنّ من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية ، محمول على إرادة الكافر في مقابل المؤمن بالمعنى الثاني ، ونجاسته بهذا المعنى محلّ البحث ، إذ العمدة في دليلها عموم معاقد الإجماعات السابقة ، ومن المعلوم إرادة غيره منها ، كيف لا والمشهور هنا شهرة كادت تكون إجماعاً ، بل هي كذلك كما عرفت على الطهارة ، على أنّ ما فيها من العموم اللغوي إنّما يراد به عموم أفراد معنى من معاني الكفر لا عموم معانيه .
نعم ، هو بالمعنى المزبور أخبث باطناً منه بغيره ، بل أشدّ عقاباً ، كما يشير إليه قول الصادق (عليه السلام) : « أهل الشام شرّ من أهل الروم ، وأهل المدينة شرّ من أهل مكّة ، وأهل مكّة يكفرون بالله جهرة) كقول أحدهما (عليهما السلام) : « إنّ أهل مكّة يكفرون بالله تعالى جهرة ، وأهل المدينة أخبث منهم سبعين ضعفاً » ، بل هو المعلوم من مذهب الشيعة ، كما علم منه ثبوت كفرين عندهم دنيوي واُخروي ، وخلاف نادر منهم لو تحقّق غير قادح ، أو محمول على إرادة تنزيله منزلة الكافر فيما يتعلّق بالاُمور الاُخروية من شدّة العذاب والخلود فيه ، ودفع وهم أ نّهم ربّما يكون لهم الثواب على أعمالهم يوم القيامة ، أو مرتبة اُخروية أو امتياز على الكفّار بسبب قولهم الشهادتين ، فالأئمّة (عليهم السلام) أنكروا ذلك أشدّ الإنكار ، ثمّ يرد المصنّف قول السيّد المرتضى واستدلاله على نجاسة مطلق المخالف ، وكذلك ما جاء في الحدائق ، وما جاء عن المفيد في المقنعة من أ نّه لا يصلّى عليهم ، أ نّه يحتمل إلحاقهم لهم في هذا الحال بعالم الآخرة المحكوم بكفرهم فيه لا مطلقاً ، وردّ ما قاله ابن إدريس في السرائر ، والفاضل محمّد صالح في شرح اُصول الكافي ، والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق ، وما عن جدّه العلاّمة ملاّ أبي الحسن الشريف في شرحه على الكفاية فقال : فإنّه بالغ غاية المبالغة في دعوى وضوح كفرهم حتّى نسبه إلى الأخبار التي بلغت حدّ التواتر واقتفى أثره صاحب الحدائق ، وأطنب في المقال ، لكنّه لم يأت بشيء يورث شكّاً في شيء ممّا ذكرناه أو إشكالا ، إذ أقصى ما عنده التمسّك بالأخبار التي قد عرفت حالها وما يعارضها .
ثمّ يتعرّض المصنّف إلى تحقيق معنى الناصب ، ويجيب عمّن يرى أ نّه من نصب عداوة الشيعة أيضاً فقال : وهو ـ مع معلومية بطلانه بالسيرة القاطعة والعمل المستمرّ ، ولذا نسبه في نكاح الفقيه إلى الجهلاء ، فقال : (والجهلاء يتوهّمون أنّ كلّ مخالف ناصب ، وليس كذلك) إلى آخره . ومع أ نّا لم نعرف له شاهداً أصلا عدا الخبر المتقدّم المغضي عن سنده والمحتمل لإرادة تنزيله منزلته بالنسبة للعذاب وغيره من أحكام الكفّار نحو ما تقدّم فيما ورد بكفره ـ مخالف للمستفاد من أهل اللغة وكلام الأصحاب وأخبار الباب إذ النصب كما عن الصحاح وغيره العداوة ، وتحقّقها عرفاً بمجرّد تقديم فلان وفلان ولو لشبهة قصّر في دفعها محل منع . ثمّ يذكر المصنّف مؤيّدات لقوله هذا سيّما السيرة القاطعة في سائر الأعصار والأمصار على مساورة المخالفين ومخالطتهم ثمّ قال : والاحتياط في اجتناب الجميع ، وعن شرح المقداد : إنّ الناصب يطلق على خمسة أوجه : الأوّل : الخارجي القادح في عليّ (عليه السلام) ، الثاني : ما ينسب إلى أحدهم (عليهم السلام) ما يسقط العدالة ، الثالث : من ينكر فضيلتهم لو سمعها ، الرابع : من اعتقد فضيلة غير عليّ (عليه السلام) ، الخامس : من أنكر النصّ على عليّ (عليه السلام)بعد سماعه أو وصوله إليه بوجه يصدّقه ، أمّا من أنكر لإجماع أو مصلحة فليس بناصب ، انتهى . قلت : ولا ريب في نجاسة الخامس والأوّل ، وأمّا الثلاثة فيظهر البحث فيها ممّا مرّ ، لكن ليعلم أنّ الظاهر عدم تعدّد معنى الناصب ليكون مشتركاً ، بل هو على تقدير تسليم التعدّد فيه حقيقة تعدّد مصداق كالمتواطئ ، فهو من المشترك المعنوي ، على أن يكون المراد به مثلا العدوّ لأهل البيت (عليهم السلام) ولو بعداوة شيعتهم ، فتأمّل جيّداً .
ثمّ قال في حكم الفرق الشيعية غير الإمامية : ومن جميع ما ذكرنا يظهر لك الحال في الفرق المخالفة من الشيعة من الزيدية والواقفية وغيرهم ، إذ الطهارة فيهم أولى من المخالفين قطعاً ، لكن عن الكشي أ نّه روى في كتاب الرجال بسنده إلى عمر ابن يزيد قال : دخلت على الصادق (عليه السلام) فحدّثني مليّاً في فضائل الشيعة ، ثمّ قال : إنّ من الشيعة بعدنا من هم شرّ من الناصب . فقلت : جعلت فداك أليس هم ينتحلون مودّتكم ويتبرّأون من عدوّكم ؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك بيّن لنا لنعرفهم ؟ قال : إنّما قوم يفتنون بزيد ويفتنون بموسى . وإنّه روي أيضاً قال : إنّ الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة واحدة ... إلى غير ذلك من الأخبار المشعرة بنجاستهم . ولعلّه لازم ما سمعته من المرتضى وغيره ، إلاّ أ نّه لا يخفى قصورها في جنب ما سمعته من الأدلّة السابقة التي يمكن جريانها بل وغيرها هنا ، والله أعلم .
وأمّا المستضعف من كلّ فرقة فلتمام البحث فيه موضوعاً وحكماً مقام آخر ، وإن كان الذي يقوى في النفس الآن ، ويعضده السيرة والعمل ، إجراء حكم فرقته عليه . انتهى كلامه رفع الله مقامه ، وإنّما أطنبنا في نقل عبائره القيّمة لأنّ المقصود أن نردّ ما قاله صاحب الحدائق ومن يسلك مسلكه ، فرأيت خير الردّ أن يكون من مثل صاحب الجواهر (قدس سره) ، فإنّ الحديد بالحديد يفلح ، ولترسيخ ما نذهب إليه من طهارة المخالفين دون الخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة الحقيقية كما مرّ ، لا بأس أن نذكر إجمال ما جاء في كتابي العلمين الإمامين في الفقه والاُصول سيّدنا الحكيم في مستمسكه وسيّدنا الخوئي في تنقيحه ، قدّس الله أسرارهما ورفع مقامهما ، وأنزل على رمسهما شآبيب رحمته الواسعة .
فقال السيّد الحكيم[14] بعد قول السيّد اليزدي في عروته : « لا إشكال في نجاسة الغلاة » فقال : بلا كلام ـ كما عن جامع المقاصد ـ وعن ظاهر جماعة ، وصريح روض الجنان والدلائل الإجماع عليه ، وهو واضح جدّاً لو اُريد منهم من يعتقد الربوبية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أو أحد الأئمة (عليهم السلام) كما في كشف الغطاء ـ لأ نّه إنكار لله تعالى وإثبات لغيره فيكون كفراً بالذات فيلحقه حكمه من النجاسة ـ .
أقول : وهو القدر المتيقّن من الغلاة الذين حكمنا عليهم بالنجاسة إلاّ أنّ الغلوّ من الكلّي المشكّك له مراتب فمثل الشيخ الصدوق يرى أ نّه من لم يعتقد بسهو النبيّ أو يقول الشهادة الثالثة في الأذان فهو من الغلاة ، فهل يحكم على مثل هذا بالنجاسة ؟
هذا ما يُجيب عنه السيّد الحكيم قائلا : أمّا لو اُريد منهم من يعتقد حلوله تعالى فيهم ، أو في أحدهم ـ كما هو الأظهر عند شيخنا الأعظم ـ فالنجاسة مبنيّة على أنّ إنكار الضروري كفر تعبّدي ، فإن لم يثبت أشكل الحكم بها ، ودعوى الإجماع لعلّها مبنية على ذلك المبنى ، فيشكل الاعتماد عليها . وكذا الحال لو اُريد من الغلوّ تجاوز الحدّ في صفات الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) مثل اعتقاد أ نّهم خالقون ، أو رازقون ، أو لا يغفلون ، أو لا يشغلهم شأن عن شأن ، أو نحو ذلك من الصفات . ولذا حكي عن ابن الوليد أنّ نفي السهو عن النبيّ أوّل درجة الغلوّ ، فالنجاسة في مثل ذلك أيضاً مبنيّة على الكفر بإنكار الضروري ، ودعوى القطع بعدم الكفر بمثل ذلك غير واضحة ، وكأنّ وجهها إنكار كون مثل ذلك إنكاراً للضروري ، ولكنّها كما ترى ، لوضوح كون اختصاص الصفات المذكورة به جلّ شأنه ضرورياً في الدين ، نعم ما لم يبلغ اختصاصه حدّ الضرورة ، فالدعوى المذكورة فيه في محلّها . وقد يستدلّ للنجاسة في الغلاة بما ورد في فارس بن حاتم (الغالي) عن الإمام الهادي (عليه السلام)من الأمر بتوقّي مساورته ، لكن فيه ـ مع إجمال غلوّه لعنه الله ـ أنّ النسخة الصحيحة (مشاورته) بالشين المعجمة لا بالسين المهملة ، فلا يكون ممّا نحن فيه .
ثمّ في نجاسة الخوارج قال : بلا كلام ـ كما عن جامع المقاصد ـ وعن ظاهر جماعة وصريح روض الجنان والدلائل : الإجماع عليه ، والمراد بهم من يعتقد ما تعتقده الطائفة الملعونة التي خرجت على أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفّين ، فاعتقدت كفره واستحلّت قتاله ، واستدلّ له برواية الفضيل : دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وعنده رجل فلما قعدت قام الرجل فخرج ، فقال (عليه السلام) لي : يا فضيل ، ما هذا عندك ؟ قلت : كافر . قال (عليه السلام) : أي والله مشرك . ولإطلاق التنزيل الشامل للنجاسة ، ولأ نّهم من النواصب ، فيدلّ على نجاستهم ما دلّ على نجاستهم .
وفي نجاسة النواصب قال (قدس سره) : بلا كلام ـ كما عن جامع المقاصد والدلائل ـ ولا خلاف على الظاهر فيه كما عن شرح المفاتيح ، وعن الحدائق والأنوار للجزائري الإجماع صريحاً عليه ، ويشهد له ما رواه الفضيل عن الباقر (عليه السلام) : « عن المرأة العارفة هل أزوّجها الناصب ؟ قال (عليه السلام) : لا ، لأنّ الناصب كافر »[15] ، وما في رواية ابن أبي يعفور : « إنّ الله تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب ، وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » .
وأمّا المجسّمة ، فقال السيّد اليزدي : الأقوى عدم نجاستهم ، فقال السيّد الحكيم : لعدم الدليل عليها فيرجع فيها إلى أصالة الطهارة ، وإن حكي القول بالنجاسة مطلقاً عن المبسوط والمنتهى والدروس وظاهر القواعد وغيرها ، بل عن جامع المقاصد : لا كلام فيها . أو في خصوص المجسّمة بالحقيقة ، كما عن البيان والمسالك وغيرهما ، وعن روض الجنان : لا ريب في نجاستهم .
إذ المستند إن كان هو الإجماع فهو ممنوع جدّاً ، فقد حكي عن ظاهر المعتبر والتذكرة وصريح النهاية والذكرى : الطهارة ، وإن كان إنكارهم للضروري ففيه ـ مع أ نّه مختص بالمجسّمة بالحقيقة ومبني على الاكتفاء في تحقّق إنكار اللازم بإنكار الملزوم ، إذ عدم التجسيم ليس ضرورياً من الدين ـ والعجب من سيّدنا الحكيم في مقولته هذه فإنّه كيف لا يكون من ضروري الدين مع أ نّه من الصفات السلبية التي لا بدّ أن نعتقد بها ، إذ لولا ذلك للزم نفي الربوبية وإنكار واجب الوجود لذاته ، فتأمّل فيما يقول ـ إذ عدم التجسيم ليس ضرورياً من الدين ، لإيهام كثير من الآيات والأخبار له ، وإنّما الضروري القدم وعدم الحاجة ، اللذان يكون إنكارهما لازماً لاعتقاد الجسمية ، إنّك قد عرفت عدم ثبوت الاجماع على كون الإنكار سبباً مطلقاً ، ولو مع عدم العلم بكون المنكر من الدين ، نعم استدلّ على نجاستهم بخبر ياسر الخادم عن الرضا (عليه السلام) : « من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر » ، وخبر الحسين بن خالد عنه (عليه السلام) : « من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك » ، وخبر داود بن القاسم عنه (عليه السلام) : « من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن وصفه بالمكان فهو كافر ، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كاذب » ، وخبر محمّد ابن أبي عمير عن غير واحد عن الصادق (عليه السلام) : « من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن أنكر قدرته فهو كافر » ، بناءً على أنّ التجسيم نوع من التشبيه . لكنّ دلالتها لا تخلو من خدش ، لأنّ الظاهر من التنزيل فيها بقرينة التفصيل بين المشرك والكافر كونه بلحاظ الأحكام الخاصّة ، لا المشتركة ، كما لعلّه ظاهر . نعم في رواية الهروي عن الرضا (عليه السلام) : « من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر » دلالة على ذلك لإطلاق التنزيل ، لكن التجسيم غير التشبيه إذ بينهما عموم من وجه .
ونقول : إنّ ظاهر الروايات المذكورة أنّ تشبيه الله بالخلق يستلزمه التجسيم ، وإن كان بينهما عموم من وجه ، فإنّه في مورد الاجتماع يلزم القول بالكفر الموجب للنجاسة .
ثمّ في نجاسة المجبّرة قال : وأ مّا المجبّرة فالنجاسة فيهم محكيّة عن المبسوط وكاشف اللثام واختاره في كشف الغطاء ، وإذ لا إجماع مدعّى هنا ، ولا إنكار لضروري إلاّ بناءً على تحقّق إنكار اللازم بإنكار الملزوم ، فيكون إنكار الاختيار إنكاراً للثواب والعقاب ، وهو ممنوع ، فالبناء على النجاسة ضعيف . نعم استدلّ عليها ببعض النصوص المتقدّمة في المجسّمة ، ومثلها خبر يزيد بن عمر الشامي عن الرضا (عليه السلام) : « والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك » ، وقد عرفت الإشكال في دلالتها على النجاسة ، نعم في رواية حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) : « الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله تعالى في حكمه فهو كافر ، ورجل زعم أنّ الله مفوّض إليهم ، فهذا قد وهن الله تعالى في سلطانه فهو كافر » ، ودلالتها على النجاسة بإطلاق التنزيل ظاهرة ، فالبناء على النجاسة في المشبّهة والمجبّرة قوي وكذا في المفوّضة ـ كما في كشف الغطاء ـ للرواية المذكورة ، نعم قد يشكل ذلك بما عن شرح المفاتيح من أنّ ظاهر الفقهاء طهارتهم ، فتكون الرواية مخالفة للمشهور ـ وكأ نّما يريد أن يقول أنّ إعراض الأصحاب يوجب وهنها ـ لكنّه لم يثبت بنحو تسقط به الرواية عن الحجيّة . ولا سيّما بناء على اندفاع المناقشة في نصوص التفصيل لكثرة الروايات الدالّة على نجاسة المفوّضة حينئذ .
ثمّ يذكر السيّد إشكالا وهو أنّ الحكم بنجاسة المجبّرة والمفوّضة مع أ نّهم كانوا في زمن الأئمة مخالف لسيرتهم (عليهم السلام) ، فأجاب بجوابين : نقضي وحلّي ، والأوّل : أنّ الإشكال يرد في النواصب من الاُمويين الذين كانوا يسبّون أمير المؤمنين على المنابر ، والثاني : وضوح بطلان الجبر والتفويض ممّا يوجب بناء العامّة على خلافهما ، فإنّه من البعيد اعتقاد متعارف الناس عدم الاختيار في العبد ضرورة ثبوت القدرة له كإرادته ، وكذا بطلان التفويض بمعنى استقلال العبد في القدرة في قبال قدرته سبحانه ...
ثمّ يقول في حكم المخالفين : أ مّا الفرق المخالفة للشيعة فالمشهور طهارتهم ، ويحكي عن السيّد القول بنجاستهم ، وعليه بعض متأخّري المتأخّرين كصاحب الحدائق وحكاه عن المشهور في كلمات أصحابنا المتقدّمين ... وكيف كان فالاستدلال على النجاسة تارة : بالإجماع المحكي عن الحلّي على كفرهم ... واُخرى بالنصوص المتجاوزة حدّ الاستفاضة ، بل قيل إنّها متواترة المتضمّنة كفرهم ... وثالثة : بأ نّهم ممّن أنكر ضروري الدين كما في محكي المنتهى في مسألة اعتبار الإيمان في مستحقّ الزكاة ... ورابعة : بما دلّ على نجاسة الناصب من الإجماع وغيره بضميمة ما دلّ على أ نّهم نواصب ... وفي الجميع خدش ظاهر ، إذ الكفر المدّعى عليه الإجماع في كلام الحلّي وغيره إن كان المراد منه ما يقابل الإسلام فهو معلوم الانتفاء ، فإنّ المعروف بين أصحابنا إسلام المخالفين ، وإن كان المراد به ما يقلّ الإيمان كما هو الظاهر ، فإنّه لم ينفع في إثبات النجاسة ، لأنّ الكافر الذي انعقد الإجماع ودلّت الأدلّة على نجاسته ما كان بالمعنى الأوّل ، وأمّا النصوص فالذي يظهر منها أ نّها في مقام إثبات الكفر للمخالفين بالمعنى المقابل للإيمان ، كما يظهر من المقابلة فيها بين الكافر والمؤمن فراجعها ... وبالجملة : فالقرائن الداخلية والخارجية قاضية بكون المراد من الكفر في النصوص السابقة ما لا يكون موضوعاً للنجاسة ... وأمّا النصوص الدالّة على نصبهم ، فمع عدم صحّة أسانيدها ومخالفتها للمشهور بين الأصحاب وتعارضها فيما بينها ... ولإشكال مضامينها في نفسها ... والسيّد يذكر لهذا الوجه موارد من الروايات فراجع ، ويستنتج طهارة المخالفين وغير الإثنى عشرية من الشيعة بأنّ مقتضى الأصل طهارتهم ولا دليل يقتضي الخروج عنه ، إلاّ أن ينطبق عليه أحد العناوين النجسة المتقدّمة ، وما عن الجواد (عليه السلام) : من أنّ الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة واحدة محمول على وحدة المنزل في الآخرة ، ومثله ما عن الكشي ـ كما مر ـ وغيره فلا نعيد طلباً للإختصار .
وأ مّا سيدنا الخوئي (قدس سره) فقال[16] ـ في قول السيّد اليزدي (لا إشكال في نجاسة الغلاة) ـ قال : الغلاة على طوائف : فمنهم من يعتقد الربوبية لأمير المؤمنين أو أحد الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فيعتقد بأ نّه الربّ الجليل وأ نّه الإله الجسم الذي نزل إلى الأرض ، وهذه النسبة لو صحّت وثبت اعتقادهم بذلك فلا إشكال في نجاستهم وكفرهم ، لأ نّه إنكار لإلوهيته سبحانه ، فمن البديهي عدم الفرق بين ثوبتها للأصنام أو لأمير المؤمنين (عليه السلام) لاشتراكهما في إنكار الإلوهية وهو من أحد الأسباب الموجبة للكفر . ومنهم : من ينسب إليه الاعتراف بإلوهيته سبحانه إلاّ أ نّه يعتقد أنّ الاُمور الراجعة إلى التشريع والتكوين كلّها بيد أمير المؤمنين أو أحدهم (عليهم السلام) فيرى أ نّه المحيي والمميت وأ نّه الخالق والرازق وأ نّه الذي أيّد الأنبياء السالفين سرّاً ، وأيّد النبيّ الأكرم جهراً . واعتقادهم هذا وإن كان باطلا واقعاً وعلى خلاف الواقع حقّاً حيث إنّ الكتاب العزيز يدلّ على أنّ الاُمور الراجعة الى التكوين والتشريع كلّها بيد الله سبحانه ، إلاّ أ نّه ليس ممّا له موضوعية في الحكم بكفر الملتزم به ، نعم الاعتقاد بذلك عقيدة التفويض ، لأنّ معناه أنّ الله سبحانه كبعض السلاطين والملوك قد عزل نفسه عمّا يرجع إلى تدبير مملكته وفوّض الاُمور الراجعة إليها إلى أحد وزرائه ، وهذا كثيراً ما يترائى في الأشعار المنظومة بالعربية أو الفارسية حيث ترى أنّ الشاعر يسند إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بعضاً من هذه الاُمور ، وعليه فهذا الاعتقاد إنكار للضروري ، فإنّ الاُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع مختصّة بذات الواجب تعالى .
أقول : العجب من سيّدنا الأجلّ كيف يرى ذلك من التفويض ويقول بذلك على إطلاقه ، فإنّه لا يتمّ ، فإنّه لو كان الاعتقاد بذلك على نحو الاستقلال فإنّه يلزم التفويض ، ولكن إذا كان ما يفعله المعصوم (عليه السلام) بإذن الله سبحانه ، فأيّ مانع فيه مع وجود المقتضي ؟ كيف لا يكون خالقاً ، والمسيح بن مريم (عليه السلام) قد خلق من الطين طيراً فنفخ فيه فصار طيراً بإذن الله سبحانه ، وقد ورد في روايات مستفيضة قولهم (عليهم السلام) : « نزّلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم ، ولن تبلغوا » ، وعن الأمير (عليه السلام) أ نّه كلّما يقال هو عشر معشار ما فينا[17] ، ثمّ الاُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع مختصّة بذات الواجب سبحانه وتعالى ، إنّما هو على نحو الاستقلال ، وإلاّ فإنّ الأئمة الأطهار عندهم الولاية التكوينية الكليّة كالولاية التشريعية ، بل أصحابهم وشيعتهم عندهم الولاية التكوينية إلاّ أ نّها جزئية ، وبهذا يمتازون عن أئمتهم وساداتهم (عليهم السلام) ، فتدبّر ، فإنّه كيف يكون المعتقد بهذا منكراً للضروري الموجب للكفر والنجاسة ؟ !
ثمّ قال السيّد (قدس سره) : فيبتنى كفر هذه الطائفة على ما قدّمناه من أنّ إنكار الضروري هل يستتبع الكفر مطلقاً ، أو أ نّه إنّما يوجب الكفر فيما إذا رجع إلى تكذيب النّبي (صلى الله عليه وآله) كما إذا كان عالماً بأنّ ما ينكره ثبت بالضرورة من الدين ؟ فنحكم بكفرهم على الأوّل ، وأمّا على الثاني فنفصّل بين من اعتقد بذلك لشبهة حصلت له بسبب ما ورد في بعض الأدعية وغيرها ممّا ظاهره أ نّهم (عليهم السلام) مفوّضون في تلك الاُمور من غير أن يعلم باختصاصها لله سبحانه ، وبين من اعتقد بذلك مع العلم بأنّ ما يعتقده ممّا ثبت خلافه بالضرورة من الدين بالحكم بكفره في الصورة الثانية دون الاُولى .
أقول : لقد اعترف السيّد أ نّه ورد في الأدعية وغيرها ما يدلّ على نسبة بعض الاُمور التكوينية إليهم ، إلاّ أ نّه لا على نحو الاستقلال حتّى يلزم التفويض الذي نقول ببطلانه وإنّ من يعتقده فهو كافر ، بل على نحو العرضية ، فإنّه ورد في الصحيح : « رضا الله في رضانا ، ورضانا في رضا الله » فإنّه يدلّ على الوحدة الرضا ، لأ نّهم وصلوا إلى مقام الفناء في مشيّة الله ورضاه ، فلا فرق بينك وبينهم إلاّ أ نّهم عبادك فتقهم ورتقهم بيدك ـ كما ورد في دعاء رجب ، الصادر من الناحية المقدّسة (عليه السلام) ـ وما كلّ ما يقال في هذا الوادي إنّه من التفويض أو الغلوّ .
ولا يخفى إنّ مدرسة قم العرفانية ـ في عصرنا هذا ـ قد حازت السبق عن مدرسة النجف الأشرف في مثل هذه المعارف السامية والمطالب السنية والعلوم الرفيعة ، إلاّ أنّ سيّدنا المحقّق (قدس سره) من عباقرة العلم وأساطين الفقه والمعرفة لا يفوته مثل هذه المعارف القيّمة ، فلهذا أردف مقولته الآنفة قائلا في تقسيم الغلوّ والغلاة : ومنهم من لا يعتقد أ نّه (عليه السلام) وغيره من الأئمة الطاهرين ولاة الأمر وأ نّهم عاملون لله سبحانه ، وأ نّهم أكرم المخلوقين عنده فينسب إليهم الرزق والخلق ونحوهما ـ لا بمعنى إسنادها إليهم (عليهم السلام) حقيقة ، لأ نّه يعتقد أنّ العامل فيها حقيقة هو الله ـ بل كإسناد الموت إلى ملك الموت والمطر إلى ملك المطر والإحياء إلى عيسى (عليه السلام) ، كما ورد في الكتاب العزيز : ( وَاُحْيي المَوْتى بِإذْنِ اللهِ )[18] وغيره ممّا هو من إسناد فعل من أفعال الله سبحانه إلى العاملين له بضرب من الإسناد ، ومثل هذا الاعتقاد غير مستتبع للكفر ولا هو إنكار للضروري ، فعدّ هذا القسم من أقسام الغلوّ نظير ما نقل عن الصدوق (قدس سره) عن شيخه ابن الوليد : أنّ نفي السهو عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أوّل درجة الغلوّ[19] . والغلوّ بهذا المعنى الأخير ممّا لا محذور فيه ، بل لا مناص عن الالتزام به في الجملة .
وفي نجاسة الخوارج قال السيّد (قدس سره) : إن اُريد بالخوارج الطائفة المعروفة ـ خذلهم الله ـ وهم المعتقدون بكفر أمير المؤمنين (عليه السلام) والمتقرّبون إلى الله ببغضه ومخالفته ومحاربته فلا إشكال في كفرهم ونجاستهم ، لأ نّه مرتبة عالية من النصب الذي هو بمعنى نصب العداوة لأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام) ، فحكمهم حكم النصاب ، ويأتي أنّ الناصب محكوم بكفره ونجاسته . وإن اُريد منهم من خرج على إمام عصره من غير نصب العداوة ، ولا استحلال لمحاربته ، بل يعتقد إمامته ويحبّه ، إلاّ أ نّه لغلبة شقوته ومشتهيات نفسه من الجاه والمقام إرتكب ما يراه مبغوضاً لله سبحانه ، فخرج على إمام عصره ، فهو وإن كان في الحقيقة أشدّ من الكفر والإلحاد ، إلاّ أ نّه غير مستتبع للنجاسة المصطلحة ، لأ نّه لم ينكر الإلوهية ولا النبوّة ولا المعاد ، ولا أنكر أمراً ثبت من الدين بالضرورة .
أقول : وكأنّما يوحي كلامه الأخير بطهارة اُولئك الذين حاربوا سيّد الشهداء (عليه السلام) في كربلاء ، فإنّ عمر بن سعد لعنه الله كان يقول : يا خيل الله اركبي وبالجنّة ابشري ، فكان يعتقد بالمعاد كما أ نّه كان يعتقد بسيّد الشهداء ويعلم أنّ قتله من الظلم والجور ، إلاّ أنّ حبّ الدنيا وملك الريّ وحبّ الجاه والمقام ـ كما يقوله السيّد الخوئي (قدس سره) ـ دفعه إلى ذلك ، ولهذا كان يقول : سأستغفر ربّي قبل موتي بسنتين ، وغير ذلك من الشواهد ، فهل يعني أنّ عمر بن سعد كان طاهراً ؟ لست أدري !
ثمّ قال سيّدنا الخوئي (قدس سره) في نجاسة النواصب : وهم الفرقة الملعونة التي تنصب العداوة وتظهر البغضاء لأهل البيت (عليهم السلام) كمعاوية ويزيد لعنهما الله ، ولا شبهة في نجاستهم وكفرهم ، وهذا لا للأخبار الواردة في كفر المخالفين كما تأتي جملة منها عن قريب ، لأنّ الكفر فيها إنّما هو في مقابل الإيمان ولم يرد منه ما يقابل الإسلام ، بل لما رواه ابن أبي يعفور في الموثّق عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : « وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ... وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » ، حيث إنّ ظاهرها إرادة النجاسة الظاهرية الطارئة على أعضاء الناصب لنصبه وكفره ، وهذا من غير فرق بين خروجه على الامام (عليه السلام) وعدمه ، لأنّ مجرّد نصب العداوة وإعلانها على أئمة الهدى (عليهم السلام) كاف في الحكم بكفره ونجاسته ، وقد كان جملة من المقاتلين مع الحسين (عليه السلام) من النصاب وإنّما أقدموا على محاربته من أجل نصبهم العداوة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام) .
ثمّ للسيّد التفاتة ظريفة في أنّ الناصب لماذا أنجس من الكلب ، بمعنى أ نّه أشدّ نجاسة ، وكأ نّما النجاسة كلّي مشكّك لها مراتب ، والظاهر أ نّها أمر بسيط لا تركيب فيها حتّى يستلزم الشدّة والضعف ، إلاّ أن يقال إنّ ذلك مثل الوجود البسيط الذي له مراتب أشدّها مرتبة واجب الوجود لذاته سبحانه وتعالى ، فتأمّل . ويقول : ثمّ إنّ كون الناصب أنجس من الكلب لعلّه من جهة أنّ الناصب نجس من جهتين وهما جهتا ظاهره وباطنه ، لأ نّه الناصب محكوم بالنجاسة الظاهرية لنصبه ، كما أ نّه نجس من حيث باطنه وروحه ، وهذا بخلاف الكلب لأنّ النجاسة فيه من ناحية ظاهره فحسب .
أقول : لكن ينقض ذلك أ نّه لا تنحصر هاتان الجهتين في الناصبي ، بل كذلك المشرك والمنكر لله سبحانه .
ثمّ في نجاسة المجسّمة يقول : وهم على طائفتين ، فإنّ منهم من يدّعي أنّ الله سبحانه جسم حقيقة كغيره من الأجسام ، وله يد ورجل إلاّ أ نّه خالق لغيره وموجد لسائر الأجسام ، فالقائل بهذا القول إن التزم بلازمه من الحدوث والحاجة إلى الحيّز والمكان ونفي القدمة ، فلا إشكال في الحكم بكفره ونجاسته ، لأ نّه إنكار لوجوده سبحانه حقيقة ، وأمّا إذا لم يلتزم بذلك ، بل اعتقد بقدمه تعالى وأنكر الحاجة فلا دليل على كفره ونجاسته وإن كان اعتقاده هذا باطلا وممّا لا أساس له . ومنهم من يدّعي أ نّه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام ، كما ورد أ نّه شيء لا كالأشياء فهو قديم غير محتاج ، ومثل هذا الاعتقاد لا يستتبع الكفر والنجاسة ، وأمّا استلزامه الكفر من أجل أ نّه إنكار للضروري حيث إنّ عدم تجسّمه من الضروري فهو يبتني على الخلاف المتقدّم من أنّ إنكار الضروري هل يستلزم الكفر مطلقاً ، أو أ نّه إنّما يوجب الكفر فيما إذا كان المنكر عالماً بالحال بحيث كان إنكاره مستلزماً لتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) .
وفي المجبّرة يقول : القائلون بالجبر إن التزموا بتوالي عقيدتهم من إبطال التكاليف والثواب والعقاب ، بل وإسناد الظلم إلى الله تعالى ، لأ نّه لازم إسناد الأفعال الصادرة عن المكلّفين إليه سبحانه ونفي قدرتهم عنها نظير حركة اليد المرتعش فلا تأمّل في كفرهم ونجاستهم ، لأ نّه إبطال للنبوّات والتكاليف . وأمّا إذا لم يلتزموا بها ـ كما لا يلتزمون ـ حيث اعترفوا بالتكاليف والعقاب والثواب بدعوى أ نّهما لكسب العبد ، وإن كان فعله خارجاً عن تحت قدرته واختياره فلا يحكم بكفره ، فإنّ مجرّد اعتقاد الجبر غير موجب له ، ولا سيّما بملاحظة ما ورد من أنّ الإسلام هو الاعتراف بالشهادتين اللّتين عليهما أكثر الناس ، لأنّ لازمه الحكم بطهارة المجبّرة وإسلامهم لاعترافهم بالشهادتين ، مضافاً إلى استبعاد نجاستهم وكفرهم على كثرتهم حيث أنّ القائل بذلك القول هم الأشاعرة ، وهم أكثر من غيرهم من العامّة .
أقول : بل قال المحقّق كاشف الغطاء في أصل الشيعة واُصولها : إنّ المذاهب الأربعة وأبناء العامّة على الإطلاق في يومنا هذا أشعريو المذهب في الاُصول ، كما أنّ أكثر العرفاء وربّما كلّهم يقولون بالجبر ، أو شبه الجبر كما عند بعض أعلامنا في اُصول الفقه ، فكيف يحكم بكفرهم ومن ثمّ نجاستهم ؟ ! !
نعم عقيدة الجبر من العقائد الباطلة والفاسدة في نفسها ، وأمّا المفوّضة فحالهم حال المجبّرة من القول بلوازم اعتقادهم ، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار من أنّ القائل بالتفويض مشرك ، فهو باعتبار أنّ للشرك مراتب كما مرّ تفصيله ولا يستتبع للكفر على إطلاقه ، فإنّ الشخص المرائي القائل بالشهادتين مسلم مع أنّ الرياء في العبادة شرك بالله سبحانه ، فالمشرك النجس من كان منكراً لله أو عابد الأصنام والأوثان .
ثمّ السيّد (قدس سره) يتعرّض إلى طهارة المخالفين قائلا[20] : قد وقع الكلام في نجاسة الفرق المخالفة للشيعة الاثنى عشرية وطهارتهم . وحاصل الكلام في ذلك أنّ إنكار الولاية لجميع الأئمة (عليهم السلام) أو لبعضهم هل هو كإنكار الرسالة يستتبع الكفر والنجاسة ؟ أو إنّ إنكار الولاية إنّما يوجب الخروج عن الإيمان مع الحكم بإسلامه وطهارته . فالمعروف المشهور بين المسلمين طهارة أهل الخلاف وغيرهم من الفرق المخالفة للشيعة الاثنى عشرية ، ولكنّ صاحب الحدائق نسب إلى المشهور بين المتقدّمين وإلى السيّد المرتضى وغيره الحكم بكفر أهل الخلاف ونجاستهم وبنى عليه واختاره . وما يمكن أن يستدلّ به على نجاسة المخالفين وجوه ثلاثة . ثمّ يذكر السيّد الوجوه :
الأوّل : الروايات التي تحكم بكفرهم . وأجاب عنها بأنّ المراد من الكفر فيها ما يقابل الإيمان لا ما يقابل الإسلام الذي يوجب النجاسة . أو أنّ المراد من الكفر فيها الكفر الباطني والذي له دركات الآخرة وعذابها الأليم وبئس المصير ، كما يدلّ على طهارتهم السيرة القطعية للمتشرّعة الكاشفة عن تقرير الأئمة (عليهم السلام) .
الثاني : الروايات التي تشير إلى أنّ المخالف هو الناصبي . وجوابه أنّ النصب الذي يوجب النجاسة لو كان لآل محمّد (عليهم السلام) لا لشيعتهم وإن ورد ذلك في الخبر فإنّه يشير إلى مراتب النصب .
الثالث : إنكارهم لما هو من الضروري من الدين وهو ولاية أمير المؤمنين ، ولكن إنّما يتمّ هذا لو كان عالماً ومنكراً ، ولا يتمّ بالإضافة إلى جميع أهل الخلاف ، لأنّ الضروري من الولاية الذي يعدّ من فروع الدين هو الحبّ والمودّة وهم لا ينكرون ذلك ، أمّا الولاية بمعنى الخلافة فهي مسألة عقائدية واُصولية ونظرية فسّروها بالحبّ ، وإنكارهم للضروري إنّما يوجب النجاسة لو كان مستلزماً لإنكار الله أو تكذيب النبيّ أو إنكار المعاد مع العلم بذلك ، وبهذا يعلم حكم الفرق الشيعية كالزيدية والإسماعيلية .
ثمّ قال السيّد : فالصحيح الحكم بطهارة جميع المخالفين للشيعة الاثنى عشرية وإسلامهم ظاهراً بلا فرق في ذلك بين أهل الخلاف وبين غيرهم ، وإن كان جميعهم في الحقيقة كافرين ، وهم الذين سمّيناهم بمسلم الدنيا وكافر الآخرة . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
ولمزيد من الاطلاع على كلمات الأعلام لا بأس أن نذكر ما قاله الشيخ عبد النبي العراقي[21] حول الغلاة والخوارج .
فقال : لا إشكال في نجاسة الغلاة وهم فريق من الناس يزعمون ربوبية فرد من أفراد البشر ، كالقائل بربوبية أمير المؤمنين (عليه السلام) . وتصوّره يمكن على وجوه :
أحدها : أ نّه هو ، فإنّه تعالى ظهر بلاهوتيّته في الناسوت ، وكتم نفسه عن عباده ، وجعل لنفسه اسماً بشريّاً وهو عليّ (عليه السلام) ، كما يقول بعض النصارى في عيسى على نبيّنا وعليه السلام .
وثانيها : أ نّه غيره ، لكنّه حلّ فيه واتّحد معه ، لكنّه فُني جهة الإمكان وبقي الواجب ، وبعد الحلول والاتحاد هو هو ، ولا إله في الخارج إلاّ هو .
وثالثها : أنّهم يعتقدون للواجب مرتبتين : مرتبة منه لا اسم له ولا رسم له وليس قابلا لأن يُعبد ، ومرتبة منه يكون له الأسماء الحسنى وهو الذي يدعى بأسمائه ويُعبد ، كما عليه كلّ المراشد الصوفية ، ولذا يجعلون صورة الخبيث أو عكسه في مقام العبادة ويخاطبونه ـ كما عند الشيخية ، ويقولون إنّه الركن الرابع ـ كما نصّ به جماعة منهم ، ومنهم ملاّ عبد الصمد الهمداني في بحر المعارف المطبوع وهكذا غيره ، الذي ذكر الشيخ الحرّ العاملي (قدس سره) في أمل الآمل أنّي كتبت رسالة في كفر عموم فرقهم بالأدلّة الأربعة ، ومن الأحاديث الواردة في كفرهم أزيد من ألف حديث ، كذا ذكر في روضات الجنات ، وجهات الكفر فيهم عديدة كما حكم به جماعة كالأردبيلي في حدائق الشيعة والجزائري في أنواره ، وفصّلنا جهاته في كتابنا « الخزائن النبوية » ، فلا شكّ فيه وفي نجاسته .
ورابعها : زعم أنّ الله خلق خلقاً موجوداً مجرّداً ، ثمّ فوّض أمر خلقة العوالم وتدبيرها ورتقها وفتقها ، أيّ شيء من الذرّة إلى الذروة إليه مستقلاّ في الإيجاد والإعدام وغيرهما ، وهو قد يظهر في الناسوت كظهور جبرئيل على شكل دحية الكلبي أو سائر الملائكة على صورة الشباب من البشر كما في قصّة إبراهيم ولوط وأمثالهما .
وخامسها : يتعدّى في حقّهم ويخرجونهم عن حدود البشرية في الصفات الإلهية ، ويزعمون أ نّه عالم بكلّ شيء ، وقادر على كلّ شيء ، ومحيط بكلّ شيء ، إلى غير ذلك ، كما عليه بعض الفرق من المسلمين ، بل يزعمون أ نّهم العلل الأربعة ـ المادية والصورية والفاعلية والقابلية ـ للعالم ، ولا ريب في كفر تمام الفرق ، ولا يحتاج إلى دعوى الإجماع على بعض الفرق والتردّد في البعض ، وإنّ السبب فيه هو إنكار الضروري أو غيره .
أقول : كثير من هؤلاء الفرق وأمثالهم إنّما ذهبوا إلى مثل هذه العقائد المنحرفة عن شبهات وقصور وإغواء بعض الأكابر لمطامع دنيوية من حبّ الرياسة والجاه والمقام وتجمّع المردة والجمهرة ، إنّما يحكم بكفر من كان إنكاره الضروري يرجع إلى تكذيب النّبي (صلى الله عليه وآله) وإنكار الرسالة ، ثمّ يتعرّض المصنّف إلى تعريف الخوارج والنواصب وكفرهم ونجاستهم ولم يأت بشيء جديد ، وأمّا في المجسّمة فقد استعمل الاُسلوب الخطابي لإثبات نجاستهم وكفرهم مطلقاً ، والحال قد ثبت الفرق بين الحقيقية حيث ذهبنا إلى نجاستهم وغيرهم فقال : وأمّا المجسّمة فقد أطالوا فيه الكلام ووجّهوا القائل به ، فيا ليت ما الداعي عليه ، فإنّ مدار التفهيم والتفهّم هو العرف واللغة ، فما معنى لكلامهم إنّهم لو أرادوا كذا فكذا ولو أرادوا كذا فكذا ، فمن قال إنّ الله جسم أخرجه من الواجب الوجودي إلى ممكن الوجود ، إذ الجسم هو الذي يكون ذا أبعاد ثلاثة في اللغة والعرف ، بل الشرع إذ هو من الموضوعات الصرفة يتبعه الشارع ، بل العقل أيضاً كذلك ، والتعليمي لا بدّ من متابعة مصطلحه كما لا يخفى ، إذ الجسم لا يكون إلاّ مركّباً فصار محتاجاً ، ولا يكون إلاّ في حيّز فصار محتاجاً ، ولا يكون إلاّ مرئياً فصار ممكناً ، لأ نّه لا بدّ من أن يكون في جهة ... إلى غير ذلك من لوازم الجسم ، فمن توهّم من الأصحاب أ نّه لا مانع أن يقال أ نّه جسم لا كالأجسام ، فلا مانع أن يقال : أ نّه له صاحبة لا كصاحبة ، وزوجة لا كزوجات ، وله ولد لا كالولد ... كلّ ذلك ممّـا لا يمكن التفوّه به مضافاً إلى الأخبار الآتية في ذيل عنوان المجبّرة ، وقد قال الله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) فلا شكّ في كفرهم بلا كلام ولا يحتاج إلى دعاوى الإجماعات ، التزموا بأحكام الإسلام أم لا ، فمن أنكر رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) فهو كافر ، إلتزم بأحكام الإسلام أم لا ، فهو كذلك ـ فبماذا بعث الأنبياء وبماذا كانت دعوتهم فلا ريب في نجاستهم ـ وفي المجبّرة يحاول أن يثبت كفرهم ونجاستهم مطلقاً ، ولم يأت بما يعتمد عليه سوى الأخبار التي هي قابلة للنقاش في دلالتها ، كما عند سيّدنا الخوئي (قدس سره) في التنقيح ، ثمّ في القائلين بوحدة الوجود من الصوفية يقول : فلا شك بأ نّهم من الكفّار بتمام فرقهم الذين على حسب الإختلاف في المراشد في العصر الحاضر ينتهي إلى أربعين مذهب ، إذ أ نّهم يرون سقوط التكاليف عنهم ، لأ نّه قد حصل لهم اليقين ، فكلّ حرام يرونه مباحاً ، وإنّهم يرون أنفسهم معبود الناس فيوجبون عليهم في العبادة حضور صورتهم والخطاب به ... ولو ذكرت كفرياتهم في مذهبهم بتفصيلها فيحتاج إلى كتاب كبير أكبر من قاموس بل الاقيانوس ـ أعاذنا الله من شرّهم ـ ثمّ يشنّ هجوماً عشوائياً على كلّ الصوفية ، والحال ليس الكلّ يعتقد بمثل هذه الأباطيل ، فقوله على الإطلاق لا يتمّ ، بل المدار هو إنكار الرسالة كما علم فلا نعيد ، كما إنّه يتهجّم على الفلاسفة ـ ومنهم المحقّق السبزواري ـ ويحكم على القائلين بوحدة الوجود بالكفر والنجاسة . وفي المخالفين يذهب إلى نجاستهم تبعاً لصاحب الحدائق ، فراجع .
وإليك ما قاله المحقّق آقا ضياء الدين العراقي[22] ، حيث قال : ثمّ المراد بالمسلم هو المظهر للشهادتين بنحو يصلح للطريقية إلى اعتقاده ، للأخبار المستفيضة[23]الواردة في شرحه ، وقد عقد في اُصول الكافي باباً كذلك ، فلا يكفي الاعتقاد بلا إقرار ولا العكس .
وإجراء حكم الإسلام على المنافقين في الصدر الأوّل كان لمحض المصلحة حفظاً لحوزة المسلمين وتكثيراً لعددهم ، لا أ نّهم حقيقة كانوا مسلمين .
أقول : هذا خلاف الظاهر ، كما يردّه آية ( قالوا آمَنَّا ... ) والروايات التي تقول : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وهو ما عليه جماعة الناس وعليه جرت المناكح والمواريث ، حتّى لو لم نكشف من ذلك على نحو الطريقية على اعتقاده في الباطن ، فالظاهر كفاية الإقرار بإظهار الشهادتين ، إلاّ إذا علمنا كذبه ودسيسته ومكره ، وجعل الإقرار وسيلة لمآربه الخاصّة كالمستشرقين والجواسيس ، فتدبّر وتأمّل .
ثمّ قال (قدس سره) : وعلى ما ذكرنا فالمخالفون مسلمون حقيقة ، وما ورد من النصوص[24] في كفرهم ، محمولة على كفرهم باطناً ، بمعنى استحقاقهم دركات الكفّار ـ يوم القيامة ـ كما إنّ غير الجاحد ـ أيضاً ـ غير كافر بهذا المعنى ، وعليه يحمل قوله : (لم يجحدوا لم يكفروا)[25] ، وإلاّ فلا يترتّب عليهم أحكام الإسلام ما لم يقرّوا .
نعم ; لا إشكال في كفر الناصب ، كما ورد أ نّهم أنجس من الكلب ، ويلحق بالنجاسة سائر أحكام الكفر بعدم القول بالفصل كما لا يخفى . وكذلك الغلاة للنصّ من قوله : (توقّوا مساورته) ـ ولكن أجاب السيّد الحكيم : إنّ الصحيح من النسخ مشاورته بالشين المعجمة ، فراجع ـ وكذلك الخوارج للإجماع ، وبقية الفرق يحكم بإسلامهم ما لم ينكروا ضرورياً ، مع التفاتهم بضروريّته ، ومع غفلتهم عنها إشكال ، لعدم دليل على كفرهم ، عدى دعاوى الإجماعات على موضوعيّته ، وفيه نظر ، لإمكان حمل الإطباق على جعل ظاهر حاله طريقاً إلى كون إنكاره راجعاً إلى تكذيب النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولا يسمع منه دعوى الاشتباه . لا أ نّه موجب لكفره حتّى مع الجزم باشتباهه . والمسألة لا تخلو عن إشكال جدّاً . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
والسيّد الطباطبائي[26] ، بعد أن ذهب إلى نجاسة الكفّار مطلقاً قال : قد عرفت انحصار أدلّة الكفّار في الإجماع وفحوى الأخبار المزبورة ، ظهر لك وجه قوّة القول بطهارة من عدا الخوارج والغلاة والنواصب من فرق المسلمين ، إلاّ أن ينكر ضرورياً من الدين على وجه يلحق بالكافرين سواء كان جاحداً لنصّ أو غيره ، وهو المشهور بين الأصحاب لأصالة عدم الطهارة وعموماتها مع عدم جريان شيء من الدليلين المخرجين عنهما هنا ، لفقد الإجماع في محلّ النزاع ، سيّما مع شهرة الطهارة وعدم الأولويّة ، إذ ليسوا لشرف الإسلام أمرّ من أهل الذمّة ، هذا مع لزوم الحرج على تقدير النجاسة ، والإجماع على عدم احتراز الأئمّة (عليهم السلام) والأصحاب عنهم في شيء من الأزمنة على حدّ يظهر عدم كونه من جهة التقيّة ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة ، بل المتواترة الحاكمة بحِلِّ ما يوجد في أسواق المسلمين والطهارة مع القطع بندرة الإمامية في جميع الأزمنة ، سيّما في أزمنة صدور تلك النصوص ، وأ نّه لا ينعقد لخصوصهم سوق يكون الأحكام المزبورة الواردة عليه ، فهو من أقوى الأدلّة على طهارة هؤلاء الكفرة ، وإن كانوا في المعنى أنجس من الكلاب الممطورة ، خلافاً للشيخ فحكم بنجاسة المجبّرة ، وللسيّد فحكم بنجاسة المخالفين لإطلاق الكفر عليهم في كثير من الأخبار وهو كما ترى ، فإنّه أعمّ من الحقيقة ، مع أنّ أمارات المجازات من عدم التبادر أو تبادر الغير وصحّة السلب موجودة ، وعلى تقديرها فلا دليل على النجاسة كليّة ، وإن هو إلاّ مصادر محضة لفقد الإجماع وما مضى من الأولوية ، مضافاً إلى معارضتها بكثير من المعتبرة الدالّة على إسلامهم من حيث الشهادتين ، ففي الخبر : « الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره عامّة الناس » . وقريب منه آخر : « الإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح » ، والمعتبرة بمعناهما مستفيضة ، وفيها الصحيح والحسن ، لكن ليس فيها أنّ الإسلام هو الشهادتان وإن كان يظهر عنها بنوع من التأمّل ، فإذا ثبت إسلامهم ثبت طهارتهم للخبر « أيتوضّأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحبّ إليك أو يتوضّأ من ركو أبيض مخمر ؟ فقال : بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإنّ أحبّ دينكم إلى الله تعالى الحنفية السهلة السمحة » .
وأمّا الحجّة على نجاسة الفرق الثلاث ومن أنكر ضروري الدين ، فهو الإجماع المحكى عن جماعة ، ويدخل في الأخير المجسّمة الحقيقية ، لقولهم بالحدوث الباطل بالضرورة من الدين ، ولولاه لكان القول بالطهارة متعيّناً للأخبار المزبورة الحاكمة بإسلام من صدر عنه الشهادتان المستلزم للطهارة للرواية المتقدّمة . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
أقول : إنّما ذكرت كلمات العلماء الأعلام في بعض الفصول ، وربما أطنبت في النقل وحرّرت في بعض الموارد تمام عبائرهم ممّـا يوجب الملل والكلل للقارئ النبيل ، فإنّي توخّيت من ذلك كلّه اُمور ومقاصد :
الأوّل : مقصود الرسالة عرض آراء وأفكار جملة كبيرة من فقهاء الإسلام وأصحابنا الكرام ، كما يدلّ على ذلك عنوان الرسالة .
الثاني : ليقف ويعلم طالب الحوزة ومن كان على أبواب الاجتهاد أنّ كثيراً ممّـا صنّف واُ لّف في الفقه الاستدلالي إنّما هو تكرار مكرّرات ، حتّى أنّ العبائر بعينها عند بعض تتكرّر ، ولم يؤتَ بشيء جديد إلاّ النزير والقليل ، وتبديل كلمات بكلمات واُسلوب باُسلوب ، وإلاّ فإنّ المحتوى واحد والمعنى واحد ، إنّما الاختلاف بالألفاظ والتقديم والتأخير .
الثالث : لا نغمط الحقّ أهله ، فإنّه نرى الخلف يزيد على السلف بعض الرشحات الفكريّة ، ويتنبّه إلى نكات ظريفة والتفاتات لطيفة ، لا سيّما ويقال : المتأخّر أعلم من المتقدّم ، لأنّ عنده ما عند المتقدّم وإضافة ، ولمثل هذا يُقال بعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، فعند المتأخّرين زيادة على ما عند المتقدّمين تظهر من خلال كلماتهم القيّمة ، وهذا يقضي أن نستعرضها كلاّ حتّى يقطف ثمراتها الدانية ، كلّ بحسب ما يحمل من علوم وثقافة خلفيّة .
الرابع : بما أنّ المسألة خلافية ، ويعرف الصواب من خلال ضرب الآراء بعضها ببعض ، فمقتضى الأمانة ، أن نذكر الرأي بتمامه ، حتّى لا يوجب إجماله وهنه وتحريفه ، وربما هذا يستلزم الإطالة والإطناب المملّ ، إلاّ أ نّه لا بدّ منه ، والصبر عليه ، لتحرّي الحقيقة ، وما هو الحقّ والصواب .
الخامس : ليس كلّ تكرار مخلّ بالفصاحة ، فإنّه لو كان لإفادة التقرير وزيادته وتحكيم المبنى ورصّ المعنى ، فإنّه من الحسن الجميل ومن القول الفصيح ، كما في سورة الرحمن وتكرار قوله تعالى : ( فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان ) فقصد من التكرار مثل هذه المقاصد ، ولي فيها مآرب اُخرى .
[1]لقد ذكرت أسانيد هذا الخبر الشريف بتفصيل في كتاب « أهل البيت سفينة النجاة » ، مطبوع ، فراجع .
[2]أيضاً ذكرت أسانيد هذا الخبر بالتفصيل ومباحث جديدة في كتاب « في رحاب حديث الثقلين » ، فراجع .
[3]فإنّ صاحب الجواهر يرى أ نّه من الكلّي المتواطي ذات المصاديق المختلفة (الجواهر 6 : 67) .
[4]لقد شرحنا هذا المعنى بالتفصيل في كتاب « الحق والحقيقة بين الجبر والتفويض » ، مطبوع سنة 1397 » فراجع .
[5]لقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا « القصاص على ضوء القرآن والسّنة » ، مطبوع ، فراجع المجلّد الأوّل .
[6]ذكرت هذا المعنى بالتفصيل في كتابي « عقائد المؤمنين » و « دروس اليقين في معرفة اُصول الدين » ، وهما مطبوعان .
[7]الكافي 1 : 187 ، الباب الثامن فرض طاعة الأئمة ، الحديث 11 . وفي الباب 17 حديثاً .
[8]الوافي 3 : 77 .
[9]الكافي 2 : 25 .
[10]الكافي 1 : 187 ، الحديث 12 .
[11]الكافي 2 : 26 .
[12]الحدائق الناضرة 5 : 174 .
[13]لقد حقّقنا مسألة التقية وأحكامها بالتفصيل في كتاب « التقية بين الأعلام » ، مطبوع . ورسالة « التقية بين العلمين الشيخ الأنصاري والإمام الخميني » ، وهو مطبوع أيضاً من قِبل مؤتمر الشيخ الأنصاري (قدس سره) ، فراجع .
[14]المستمسك 1 : 386 .
[15]الوسائل ، الباب 10 من أبواب ما يحرم من النكاح بالكفر ، الحديث 15 .
[16]التنقيح 2 : 73 .
[17]وقد حقّقت هذا المعنى وأقمت عليه وجوهاً من الأدلّة العقلية والنقلية في رسالة سمّيتها « جلوة من ولاية أهل البيت (عليهم السلام) » ، وهي مطبوعة ، كما ذكرت مثل هذه المباحث العقائدية في كتاب « علي المرتضى (عليه السلام) نقطة باء البسملة » ، و « فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليلة القدر » ، وهما مطبوعان ، فراجع .
[18]آل عمران : 49 .
[19]يبدو لي أنّ مسألة تحديد الغلوّ من المسائل العويصة جدّاً ، لا سيّما عند القدماء ، فإنّ كثيراً من أصحابنا إنّما أنكر عليهم بعض الأعلام ونسبوا إليهم الغلوّ لما عندهم من المعرفة بالأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فاتّهموهم بالغلوّ ، وضعّفوا رواياتهم كمحمّد بن سنان ، لأ نّه كان يذكر بعض المقامات الرفيعة للأئمة الهداة (عليهم السلام) ، وكالحافظ البرسي ، ولكن العلاّمة الأميني يدافع عنه ويطهّر ساحته من الغلوّ ، كما ذكرت تفصيل ذلك في كتاب « علي المرتضى نقطة باء البسملة » ـ مطبوع ـ فراجع .
ويظهر لي أ نّه في عصر الصادق كانت مدرستان متفاوتتان في معرفة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) : مدرسة قم ومدرسة بغداد ، وكانت الاُولى في إيران محاطة باُناس ترى الاُلوهيّة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ومثل مشايخ قم آنذاك كان عليهم إنكار البدع التي تظهر ـ من باب « إذا ظهرت البدع ، فعلى العالم أن يُظهر علمه » ـ فكانوا يحاربون الغلاة ، ممّـا أدّى أن ينكروا على كثير من الرواة الذين يذكرون فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ، ويعدّون من لم يقل بسهو النبيّ أ نّه من الغلاة وإنّ هذا من علائم غلوّه ، وأ نّه أوّل درجات الغلوّ ، حفاظاً على الناس من أن لا يقعوا في أحضان الغلاة الذين يعتقدون باُلوهيّة عليّ (عليه السلام) ، أو أحد الأئمة (عليهم السلام) . ر؛؛
وأمّا مدرسة بغداد في العراق ـ وكان يترأّسها آنذاك المرحوم ثقة الإسلام آية العلاّم الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (قدس سره) ، صاحب كتاب (الكافي) ـ فإنّها كانت محاطة بأبناء العامّة ، الذين ينكرون مقامات الأئمة الأبرار من أهل بيت الرسول المختار (عليهم السلام) ، فكان يرى الكليني عليه الرحمة وأتباع مدرسته أنّ من واجبه أن يعرّف حقيقة الأئمة (عليهم السلام) إلى الناس من خلال الروايات الصحيحة الواردة في شأنهم (عليهم السلام) ، وبهذا اختلفت مدرسة قم عن بغداد في معرفة الأئمة ، فمدرسة قم تقول : (من لم يعتقد بسهو النبيّ فهو من الغلاة) ، ومدرسة بغداد تقول : (نحن صنائع الله ، والخلق صنايعنا) ، (إذا شئنا شاء الله) ، (رضا الله في رضانا) .
وبنظري لا بدّ من تجديد النظر في نسبة الغلوّ إلى بعض الرواة وقدحهم بذلك وعدم توثيقهم ، فإنّ ذلك ليس إلاّ من باب أ نّهم ذكروا ورووا بعض الروايات التي تذكر الشيء النزير ومعشار العشر في شموخ مقام الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ، واليوم مدرسة قم وحوزتها المباركة تعدّ من اُولى المدارس وأهمّها في بثّ علوم آل محمّد (عليهم السلام) ومقاماتهم الرفيعة ودرجاتهم الشامخة ، وحازت السبق في هذا المضمار ، حتّى أصبحت الحجّة قبل ظهور الحجّة (عليه السلام) ، فتدبّر .
[20]التنقيح 2 : 83 .
[21]معالم الزلفى 1 : 353 .
[22]في شرحه على تبصرة المتعلّمين 1 : 239 .
[23]اُصول الكافي 2 : 24 ـ 27 .
[24]الوسائل ، الباب 6 و 10 من أبواب حدّ المرتدّ .
[25]الوسائل ، الباب 2 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 8 .
[26]رياض المسائل 1 : 85 .
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |