الفصل  الثاني - أقوال  أصحابنا  الكرام

لقد ذكرنا في صدر الفصل الأوّل أنّ مسألة الكفّار في نجاستهم أو طهارتهم إنّما هي مسألة اختلافية بين علماء المذاهب ، وإن كان المشهور عند أئمة السنّة وأبناء العامّة طهارة المشركين ، كما إنّه اشتهر بين أصحابنا الأعلام نجاستهم ، ولكن لا زالت ، مسألة مختلف فيها ، لا سيّما بالنسبة إلى الكفّار الكتابيين من اليهود والنصارى والمجوس على قول ، ومقصودنا من هذا الفصل أن نشير إلى أقوال بعض الأعلام ، وفي الفصول القادمة سوف نتعرّض إلى وجوه الاستدلال على الأقوال ، ثمّ ما نذهب إليه إن شاء الله تعالى .

جاء في مفتاح الكرامة[1] في بيان الأعيان النجسة ، قال (قدس سره) : والكافر مشركاً أو غيره ، ذميّاً أو غيره ، إجماعاً في الناصريات والانتصار والغنية والسرائر والمعتبر والمنتهى والبحار والدلائل وشرح الفاضل وظاهر التذكرة ونهاية الإحكام وفي التهذيب إجماع المسلمين عليه . قال الفاضل الهندي وكأ نّه أراد إجماعهم على نجاستهم في الجملة لنصّ الآية الشريفة ، وإن كان العامّة يأوّلونها بالحكميّة ، وفي الغنية : أنّ كلّ من قال بنجاسة المشرك قال بنجاسة غيره من الكفّار ، وفي حاشية المدارك : أنّ الحكم بالنجاسة شعار الشيعة ، يعرفه علماء العامّة منهم ، بل وعوامّهم يعرفون إنّ هذا مذهب الشيعة ، بل ونسائهم وصبيانهم يعرفون ذلك . جميع الشيعة يعرفون أنّ هذا مذهبهم في الأعصار والأمصار . ونقل عن القديمين ـ ابن جنيد وابن أبي عقيل ـ القول بعدم نجاسة أسآر اليهود والنصارى ، وعن ظاهر المفيد في رسالته العزّية ، وربما ظهر ذلك في موضع من النهاية حيث قال : ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه ، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه ، ثمّ يأكل معه إن شاء ، لكنّه صرّح قبله في غير موضع بنجاستهم على اختلاف مللهم ، وخصوصاً أهل الذمّة ، ولذا اعتذر عنه المحقّق في النكت بالحمل على الضرورة أو المواكلة في اليابس ، قال : وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينيّة ، وإن لم تفد طهارة اليد ، واعتذر عنه ابن إدريس بأ نّه ذكر ذلك إيراداً لا اعتقاداً ، ومال إلى طهارتهم صاحب المدارك والمفاتيح ، قال الاُستاذ في حاشية المدارك : لا يحسن جعل ابن أبي عقيل من جملة القائلين بعدم نجاسة هؤلاء مع تخصيصه عدم النجاسة بأسآرهم لأ نّه لا يقول بانفعال الماء القليل ، والسؤر عند الفقهاء الماء القليل الذي لاقاه فم حيوان أو جسمه . قال : والكراهة في كلام المفيد لعلّه يريد منها المعنى اللغوي ، فيكون ابن الجنيد هو المخالف فقط . انتهى موضع الحاجة من كلامه .

وقال المحقّق الحلي[2] : إذا لاقى الكلب والخنزير والكافر المحكوم بنجاسته عينه ثوباً أو جسداً وهو رطب ، غسل موضع الملاقاة وجوباً ، وإن كان يابساً رشّ الثوب بالماء استحباباً ، وهو مذهب علمائنا أجمع .

وقال المحقق السبزواري[3] : من النجاسات : الكافر بجميع أصنافه وإن أظهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة كالخوارج وهم أهل نهروان ومن دان بمقالتهم ، سمّوا بذلك لخروجهم على الإمام (عليه السلام) بعد أن كانوا من حزبه ، أو لخروجهم من الإسلام ، كما وصفهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأ نّهم يمرقون عن الدين كما يمرق السهم من الرامي ، ونقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) : أ نّهم مشركون ، والغلاة ، وهم الذين اعتقدوا في واحد من الأئمة أ نّه الإله ، وقد يطلق الغالي على من قال بإلهية أحد من الناس ، واعلم أنّ جماعة من الأصحاب ادّعوا الإجماع على نجاسة كلّ كافر ، كالمرتضى والشيخ وابن زهرة والمصنّف في عدّة من كتبه ، لكنّ المصنّف في المعتبر أشار إلى نوع خلاف فيه ، فقال : الكفّار قسمان : يهود ونصارى ومن عداهما ، أ مّا القسم الثاني : فالأصحاب متّفقون على نجاستهم ، وأ مّا الأوّل : فالشيخ قطع في كتبه بنجاستهم ، وكذا علم الهدى والأتباع وابنا بابويه ، وللمفيد قولان : أحدهما : النجاسة ، ذكره في أكثر كتبه ، والآخر : الكراهة ، ذكره في الرسالة العزيّة ، وقد تنسب المخالفة إلى الشيخ في النهاية ، وابن الجنيد أيضاً ، لكن في نسبة ذلك إلى النهاية تأمّل ، فتلخّص من ذلك أنّ القول بنجاسة من عدا اليهود والنصارى والمجوس من أصناف الكفّار موضع وفاق بين الأصحاب ، وقد صرّح بذلك المحقّق وغيره ، وأ مّا أهل الكتاب فالظاهر من كلام ابن الجنيد المخالفة فيه ، ويوافقه المفيد في أحد قوليه ، ولعلّ مدّعي الإجماع يعتقد رجوع المفيد إلى موافقه المشهور مع عدم اعتداده بمخالفة ابن الجنيد ، لأ نّه يعمل بالقياس ، لكنّ القول بطهارة سؤرهم ممّـا نسبه بعض المتأخّرين إلى ابن أبي عقيل أيضاً ، والعجب أنّ الشيخ في التهذيب نقل إجماع المسلمين على نجاسة الكفّار مطلقاً ، مع أنّ مخالفة جمهور العامة لهذا الحكم ممّـا لا خفاء فيه ، حتّى أنّ السيّد المرتضى جعلها من متفرّدات الإمامية . انتهى كلامه رفع الله مقامه .

أقول : لقد ذكر المتأخّرون اتّفاق الفقهاء وإجماعهم على نجاسة الكفّار ، إلاّ أ نّهم يذكرون مخالفة القديمين[4] ابن الجنيد الإسكافي والحسن بن أبي عقيل العمّاني والشيخين الطوسي في النهاية والمفيد على ما في رسالته العزيّة ، فحاول بعض الأعلام كصاحب كشف الغطاء توجيه ذلك كما مرّ بيانه في (مفتاح الكرامة 1 : 142) وفي (ذخيرة المعاد : 150) كذلك ، وهذه المحاولات والاعتذار وتوجيه كلام القدماء حتّى يتمّ الإجماع والاتّفاق ، إنّما هو لما اشتهر عندهم ، أنّ الاستنباط واستخراج الأحكام الشرعية الفقهيّة إنّما يكون من خلال :

1 ـ ظواهر الآيات الشريفة في كتاب الله الكريم .

2 ـ ظواهر السنة النبوية أو الولوية المتواترة لفظاً أو معنىً أو إجمالا .

3 ـ ظواهر الأخبار والروايات المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) بطريق الآحاد لو كان من الثقات ، أو قيل بحجيّتها شرعاً أو عقلا من باب حجيّة مطلق الظنّ .

4 ـ تقرير المعصوم (عليه السلام) بشرائطه المقرّرة في علم الكلام كقوله وفعله (عليه السلام) .

5 ـ فتاوى قدماء الأصحاب في المسائل الأصليّة التي من شأنها أن تتلّقى من المعصومين (عليهم السلام) ، إذا كانت كاشفة عن وجود حجّة معتبرة عندنا كالنصّ أو الظاهر أو أخذ الحكم خلفاً عن سلف مشافهة .

بل عن الشهيد في الذكرى كفاية فتوى فقيه واحد في الاستكشاف حيث قال : الأصل الثالث : الإجماع وهو اتّفاق علماء الطائفة على أمر في عصر ـ إلى أن قال ـ : وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن بن بابويه (رحمه الله) عند إعواز النصوص لحسن ظنّهم به ، وإنّ فتواه كروايته . انتهى .

فكان من دأب بعض القدماء عدم الفتوى إلاّ بالنّص الأعمّ من الصريح أو الظاهر ، أمثال : الشيخ علي بن موسى بن بابويه في رسالة شرايعه ، وولده محمّد ابن علي بن بابويه في مقنعه بل وهدايته وفي من لا يحضره الفقيه ، والحسن بن علي ابن أبي عقيل العماني في المتمسك بحبل آل الرسول ، الذي يعدّ أوّل رسالة عملية عند الشيعة وكان متداولا عند الخراسانيين[5] كما قيل ، والشيخ الجليل محمّد بن محمّد ابن النعمان المشهور بالشيخ المفيد (قدس سره) في مقنعته ، والشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة في غير كتابي المبسوط والخلاف كما يظهر من عبارته في أوّل المبسوط ، ومحمّد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي[6] ، والسيّد المرتضى علم الهدى ، والسيّد الرضي ، وسلاّر بن عبد العزيز ، والقاضي عبد العزيز ابن البّراج ، وعلي ابن حمزة الطوسي ، وأمثالهم قدّس الله أسرارهم الزكيّة .

ولقد كان الآية العظمى السيّد البروجردي يحثّ تلامذته في درسه الخارج إلى مراجعة فتاوى القدماء من أصحابنا الأخيار ، معلّلا ذلك بأ نّهم كانوا يتلقّون المسائل الفقهيّة غالباً من النصوص الواردة عن أهل بيت الوحي والنبوّة (عليهم السلام)[7] .

ومن هذا المنطلق نرى أنّ المتأخّرين كثيراً ما يهابون مخالفة القدماء صراحةً ، إنّما يحاولون توجيه كلامهم ، والاعتذار عنهم بوجه من الوجوه ، كما علم ذلك فيما نحن فيه ، فتدبّر .

عود على بدء :

وممّن قال بنجاسة الكافر : الشيخ ابن إدريس الحلي في السرائر[8] ، في النجاسات : وأسآر الكفّار على اختلاف ضروبهم من مرتدّ وكافر أصلي وكافر ملّي ومن حكمه حكمهم . وجملة الأمر وعقد الباب أنّ ما يؤثّر بالتنجيس على ثلاثة أضرب : أحدهما يؤثّر بالمخالطة ، وثانيها بالملاقاة ، وثالثها بعدم الحياة ... والثاني : أن يماسّ الماء وغيره حيوان نجس العين ، وهو الكلب والخنزير والكافر ...

وكذلك فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحليّ في كتابه إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد[9] .

وقال المحقّق الكركي في جامع المقاصد في شرح القواعد[10] ، في قول المصنّف من النجاسات : الكافر سواء كان أصلياً أو مرتدّاً وسواء إنتمى إلى الإسلام كالخوارج والغلاة أو لا ... والأقرب طهارة المسوخ . ومن عدّ الخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة من المسلمين قال : المراد بالخوارج أهل نهروان ومن دان بمقالتهم ، والغلاة جمع غال : وهم الذين زادوا في الأئمة (عليهم السلام) فاعتقدوا فيهم أو في أحدهم أ نّه إله ونحو ذلك . والنواصب جمع ناصب : وهم الذين ينصبون العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) ولو نصبوا لشيعتهم ; لأ نّهم يدينون بحبّهم فكذلك . وأ مّا المجسّمة فقسمان : بالحقيقة ، وهم الذين يقولون : إنّ الله تعالى جسم كالأجسام ، والمجسّمة بالتسمية المجرّدة ، وهم القائلون بأ نّه جسم لا كالأجسام ، وربما تردّد بعضهم في نجاسة القسم الثاني ، والأصحّ نجاسة الجميع . إذا تقرّر ذلك ، فنجاسة هؤلاء الفرق الأربع لا كلام فيها ، إنّما الخلاف في نجاسة كلّ من خالف أهل الحقّ مطلقاً ـ كما يقوله المرتضى ـ أو نجاسة المجبّرة من أهل الخلاف ـ وهو قول الشيخ ـ والقولان ضعيفان . واعلم أنّ حكم المصنّف لطهارة من عدا الفرق الأربع من المسلمين مشكل ، فإنّ من أنكر شيئاً من ضروريات الدين ، ولم يكن أحد هؤلاء لا ريب في نجاسته . انتهى كلامه .

والسيّد المرتضى إنّما قال ذلك في كتابه « الانتصار »[11] ، وجاء في إيضاح الفوائد[12] ، وذهب المرتضى إلى نجاسة غير المؤمن لقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ )[13] ، ولقوله تعالى : ( إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامَ )[14] ، ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )[15] ، والإيمان يستحيل مغايرته للإسلام ، فمن ليس بمؤمن ليس بمسلم ، وليس بجيّد ; لقوله تعالى : ( قالَتِ الأعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنوا وَلكِنْ قولوا أسْلَمْنا )[16] ، ولقوله (عليه السلام) : « اُمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله » . والمراد بالإيمان هنا : الإسلام ، استعمالا للفظ الخاصّ في العامّ . انتهى كلامه .

لقد ذكرنا حكم هؤلاء الفرق الأربعة ـ الخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة ـ وغيرهم والمخالفين بصورة عامة فيما مرّ ، فلا نعيده ، وإنّما أردت الإشارة هنا تتميماً للفائدة ، كما سنذكر تفصيل ذلك في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى .


[1]مفتاح الكرامة 1 : 142 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم .

[2]المعتبر : 122 ، الطبعة الحجرية .

[3]ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد : 150 ، طبع مؤسسة آل البيت ، الحجرية .

[4]قال العلاّمة الطباطبائي السيّد بحر العلوم في خلاصة الأقوال في معرفة الرجال في ترجمة ابن أبي عقيل : إنّ رجال هذا الشيخ الجليل في الثقة والعلم والفضل والكلام والفقه أطهر من أن يحتاج إلى بيان ، وللأصحاب مزيد اعتناء بنقل أقواله وضبط فتاواه خصوصاً الفاضلين ومن تأخّر عنهما ، وهو أوّل من هذّب الفقه واستعمل النظر ـ أي الإجتهاد ـ وفتق البحث عن الاُصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ، وبعده الشيخ الفاضل ابن الجنيد (تنقيح المقال 1 : 291) راجع ترجمته إلى كتاب (معجم الرجال) للآية العظمى السيّد الخوئي (قدس سره) 5 : 23 .

[5]جاء ذلك في رجال النجاشي : 36 ، كما في تنقيح المقال (1 : 291) : ما ورد الحاجّ من خراسان إلاّ طلب واشترى منه نسخ .

[6]في المختصر الأحمدي في الفقه المحمّدي .

[7]اقتباس من مقدّمة كتاب « رسالتان مجموعتان من فتاوى العلمين » علي بن الحسين ابن بابويه المتوفّى 329 ، والحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتوفّى بعده : 8 .

[8]السرائر 1 : 179 ، طبع مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم .

[9]إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد 1 : 26 ، طبع مؤسسة إسماعيليان ـ قم .

[10]جامع المقاصد في شرح القواعد 1 : 164 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم .

[11]الانتصار : 10 .

[12]إيضاح الفوائد 1 : 27 .

[13]الأنعام : 125 .

[14]آل عمران : 19 .

[15]آل عمران : 85  .

[16]الحجرات : 14 .

الفصل الثالث