![]() |
![]() |
![]() |
زبدة الكلام : من الأعيان النجسة : الكافر ، والمتيقّن منه المشركون العرب في الجاهلية ، وهم لا ينكرون الله سبحانه ، إنّما يتقرّبون إليه زلفى بعبادتهم الأصنام ، فكانوا يعبدون أصنامهم ، وعليه بطريق أولى ـ أي بالأولوية ـ يحكم بنجاسة من ينكر الله سبحانه وتعالى ، فأجمع علمائنا الأخيار بنجاستهم ، وكذلك الناصبي الذي نصب عداوة آل محمّد (صلى الله عليه وآله) في قلبه ، كما جاء ذلك في موثقة عبد الله بن يعفور :
الكافي بسنده ، عن الصادق (عليه السلام) ، قال : « لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما ، إنّ الله لم يخلق خلقاً شرّاً من الكلب ، وإنّ الناصب أهون على الله تعالى من الكلب »[1] .
والكلب من الأعيان النجسة ، متّفق عليه عند جميع المسلمين وأصحاب القبلة ، والناصب لعداوة أهل البيت (عليهم السلام) أنجس منه .
وهناك روايات عديدة تدلّ على كفره وأ نّه مهدور الدم ، منها رواية حفص ابن البختري محمّد بن الحسن شيخ الطائفة ، بإسناده عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن ابن محبوب (الحسين بن سعيد) ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس[2] .
وحفص من الثقات ، وإن كان البعض يناقش في عدالته بأ نّه كان يترك الواجب أو يلعب الشطرنج ، إلاّ أ نّه في النقل ثقة .
وأ مّا أهل الكتاب ، أي اليهود والنصارى الذين عندهم التوراة والإنجيل فعلا وإن كان محرّفاً ، إلاّ أ نّه عند صدور الروايات كانوا يعتقدون بهما .
أمّا المجوس ، فلم يثبت أنّ لهم كتاباً ، لكن حكم عليهم بحكم أهل الكتاب في غير موضع من الفقه الإسلامي .
وقيل : من المتسالم عليه نجاسة أهل الكتاب كذلك كالمشركين ، إلاّ أنّ ابن أبي الحديد ذهب إلى طهارتهم ، كما أ نّه عند متأخّري المتأخّرين كالسيّد الحكيم والسيّد الخوئي وبعض المعاصرين من الفقهاء الأعلام من يذهب إلى طهارتهم .
واستدل على نجاسة المشركين ـ بعد نقل الإجماعات ـ بالآية الشريفة : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، والمتيقّن من المشرك من يعبد غير الله ويعبد الصنم ، إلاّ أ نّه ـ كما قيل ـ يشمل اليهود والنصارى ، فإنّه بعد آيات يحكي القرآن الكريم عن اليهود بأ نّهم يقولون (العزير بن الله) فهم من المشركين ، فما دام العنوان ينطبق على أهل الكتاب فإنّه يحكم بنجاستهم الشرعية الذاتيّة ، إلاّ أ نّه يرد عليهم أ نّه وإن كان اليهود والنصارى وحتّى المجوس في الحقيقة والواقع من المشركين إلاّ أ نّهم في لسان الآيات الكريمة والروايات الشريفة يقابلون المشركين ، فالكافر قسيم المشرك ، لا أ نّه أحدهما يدخل في الآخر . كما أ نّه يلزم أن يدخل المرائي ـ أي من يعمل رياءً ـ في عنوان المشرك لتصريح الروايات بذلك ، والحال لم يقل أحد بذلك ، وإن ذكرنا تفصيل ذلك على أنّ الشرك تارةً في العقيدة واُخرى في العمل ، والرياء إنّما هو شرك في العمل ، والذي يوجب الكفر إنّما هو شرك العقيدة .
كما أنّ إطلاق الشرك على أهل الكتاب ليس على وجه الحقيقة ، بل على نحو المجاز والعناية باعتبار بعض اللحاظات ، كإطلاقه على من أطاع الشيطان[3] ، أو رجلا في معصية الله كما جاء ذلك في القرآن الكريم ، فالنصارى واليهود إنّما بحكم المشركين لاتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله سبحانه ، والمراد بذلك أ نّهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، كما جاء ذلك في الأخبار الشريفة ، كما قول النصارى : المسيح اتّحد مع الله ، إنّما هو قول اليعقوبية ، لا كلّهم ، فلا يمكن إثبات الشرك لهم جميعاً . أو يقال : إنّ المسيح مرتبة ظهور ذات الله الواحد وهو الأب . واليهود وإن لزم قولهم العزير ابن الله الكفر ، ولكن لا يلزمهم الشرك ، فإنّه ربما كان مقصودهم : أنّ العزير مظهر قدرة الله ، لأ نّه وجد التوراة بعد ضياعه ، كما في خبر ابن عبّاس ، كما إنّ من النصارى واليهود من يتلو آيات الله آناء الليل ، ويسجد ويؤمن بالله واليوم الآخر ، ويسارع في الخيرات وإنّه من الصالحين[4] ، فكيف يكون مشركاً نجساً ذاتاً . كما عطف أهل الكتاب على المشركين في كتاب الله ، وهذا يعني أ نّه قسيمه كما مرّ .
وهناك
مؤيّدات اُخرى تدلّ بوضوح على أنّ إطلاق الشرك على أهل الكتاب لبعض الجهات
والاعتبارات لا على وجه الحقيقة ، كما يطلق الشرك
على المرائي
وعلى أدنى مراتب لغير الله .
هذا وليعلم أنّ ما ذكر من عدم دلالة الآية الشريفة على نجاسة أهل الكتاب لا ينافي كفرهم ، لدلالة الآيات والأخبار والإجماع ، بل ضرورة الدين والمذهب على ذلك، بل لا يخصّ الكفر إيّاهم ، إنّما يطلق على المنتحل للإسلام أيضاً ، كالخوارج والنواصب ، بل وغيرهم ، وأن يحكم بطهارتهم ، فلا ملازمة بين النجاسة والكفر .
فالآية لا تدلّ على نجاسة أهل الكتاب ، وغاية ما يستفاد منها نجاسة المشركين بأصنافهم الثلاثة ـ من الشرك في أصل العبادة ، وفي الخلق ، وفي الاُلوهية ـ ويستفاد نجاسة الملحدين ومنكري أصل وجوده تعالى بالأولوية[5] ، فتدبّر .
وما دلّ على نكاح الكتابية كما في ( وَالمـُحْصَنات مِنَ المُؤْمِنات وَالمـُحْصَنات مِنَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )[6] ، وهي غير منسوخة بآية ( لا تُمْسِكوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ )[7] ، ولا بآية ( وَلا تنكحوا المـُشْرِكاتِ )[8] ، كما هو ثابت في محلّه ، والروايات في ذلك مختلفة[9] .
كما هناك
روايات تدلّ على الجواز ، كما في صحيحتي معاوية بن وهب
ومحمّد
بن مسلم[10] ،
وخبر سماعة بن مهران وأبي بصير وخبر زرارة : « لا بأس أن يتزوّج
اليهودية والنصرانية متعة وعنده امرأته » .
واختلاف الأخبار كان السبب في اختلاف الفتاوى ، فمنهم من منع مطلقاً ، ومنهم من أجاز ، ومنهم من قال بالتفصيل بين المنقطع والدائم وملك اليمين ، وبين الاضطرار والاختيار .
والخلاصة : إنّه لو كانت الكتابية نجسة ذاتاً ، لكان من الحري بيان ذلك في الأخبار والتنبيه عليه ، والحال لم يكن إلى ذلك ولو إشارة ، بل اُشير إلى نجاستهم العرضية ، كما في صحيح معاوية : « إن فعل فليمنعها من شرب الخمر ولحم الخنزير » .
وممّا يؤيّد طهارة الكتابي : جواز اتّخاذ الكتابية ظئراً ، كما في خبر سعيد ابن يسار ، وغيره[11] . فلو كانت المرضعة نجسة ذاتاً لتنجّس الرضيع ، فلم يكن في الأخبار إشارة إلى نجاستهم الذاتية ، بل فيها نهي عن شربهم الخمر وأكل لحم الخنزير ، وهذا يدلّ على النجاسة العرضية ، كما ذكرنا .
وما يؤيّد
ما دلّ على جواز اشتراط ضيافة مارّة العساكر ـ بل المسلمين مطلقاً ـ
على الكتابيين ، كما عليه الأخبار والفتاوى ، بل في التذكرة الإجماع
عليه ، كما في خبر قرب الإسناد[12] ، كما
جاء في المبسوط[13] ،
والمحقّق في الشرائع والشهيد في المسالك وغيرهم ، كما إنّ
مخالطة المسلمين معهم يدلّ على طهارتهم ،
وجواز الصلاة
في الكنائس والبيع وبيت المجوس مع رش الماء واتّخاذها مسجداً .
وخلاصة الكلام : إنّ ما يستدلّ على طهارة أهل الكتاب تامّ في نفسه ، كما إنّ ما يستدلّ به على نجاسته غير تامّ وإن قيل بظهورها ـ لو خلّيت ونفسها ـ على النجاسة إلاّ أنّ الطائفة الاُخرى من الروايات فيها صراحة على الطهارة ، فيقدم عليها ، ويحمل ما على النجاسة على الكراهة ، ومع الجمع الدلالي بينهما لا تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجّحات الداخلية أو الخارجية . وإن أبيت إلاّ المعارضة ، فما دلّ على ترجيح أخبار النجاسة غير تامّ ، من قولهم موافقتها لظاهر الآية ، فتوافق ما في الكتاب الكريم ، ولكن ذكرنا عدم شمولها لأهل الكتاب . وقولهم مخالفتها لرأي العامّة ، لاتّفاقهم على الطهارة ، ولكن لم يثبت الاتّفاق كما مرّ بما لم يثبت تفرّد الإمامية بالقول بنجاستهم ، وقولهم إنّ الطهارة جارية مجرى التقيّة ، ولكن لم يثبت ذلك ، كما يبعد صدور الثانية على كثرتها للتقيّة ، وقولهم إنّ الدالّة على الطهارة أعرض عنها الأصحاب ، ولكن لم يثبت ذلك ، كما إنّه لم يكن إعراض أصحاب الأئمة ، بل كان الحكم بالطهارة مفروغاً عنه عندهم ، وأمّا ما قيل من نقل الإجماعات فهو من المدركي الذي ليس بحجّة ، فإنّه من مظنون المدرك لو لم يكن مقطوعاً وارتكاز النجاسة عند العوامّ إنّما كان في زمن الغيبة الكبرى من جرّاء فتوى الفقهاء ، ومثل هذا الارتكاز لا ينفع ، فالمرجّحات المدّعاة غير تامّة ، وإن أبيت إلاّ التعارض فيقال مع التكافي بالتساقط والقول بالتخيير كما عند المشهور أو الرجوع إلى الأصل ، والأصل هو الطهارة ، فتمّ المطلوب ، وهو الحكم بطهارة أهل الكتاب .
وإنّما حدثت شهرة القول بالنجاسة في الأزمنة المتأخّرة عن المعصومين (عليهم السلام) ، حتّى شاع بين الناس من خلال اتّباعهم فتوى العلماء الأعلام والفقهاء الكرام .
وبعد تمامية الدليل على الحكم بطهارة الكتابي ، فلا مجال للأصل ، ولكن لا بأس بالإشارة إليه لو لم تتمّ الأدلّة ، فمقتضى الأصل الطهارة في كلّ ما يشكّ في طهارته ، كما يستدلّ على طهارة الكتابي من جهات اُخرى ، كجواز تغسيل الكتابي والكتابية للميّت المسلم أو المسلمة عند فقد المماثل والمحرم ، كما في موثقة عمّار الساباطي[14] ، وفي خبر عمر بن خالد ، كما أفتى به المفيد في المقنعة ، وجاء في التهذيب والوسيلة والمنتهى والقواعد والإرشاد واللمعة والبيان وروض الجنان والذخيرة والحدائق والمبسوط والنهاية والمراسم والصدوقين وابن الجنيد والصهرشتي وابن سعيد وصاحب الجواهر .
ثمّ انّما يدخل أهل الكتاب في إطلاق الآية وعمومها ، لو لم يكن لنا دليل خاصّ لإخراجهم ، وقد ثبت عند بعض خروجهم من إطلاق الآية بدليل خاصّ ، وهو عبارة عن الروايات الشريفة الواردة في المقام .
ثمّ ، ربما يقال حينئذ : لا قيمة للإجماع والتسالم الأوّل على نجاسة المشركين لعدم تمامية الاستدلال بالآية الشريفة ، إلاّ أنّ جوابه : إنّ الكلّ يقولون بنجاستهم حتّى من لم يستدلّ بالآية ، كما أنّ الناصبي لا إشكال في نجاسته ، وبالأولوية من يظهر العداوة مع الله سبحانه بإنكاره أو عبادة الأصنام ، فإنّه يحكم بنجاسته .
فلنا دليل على نجاسة المشرك حتّى مع الإغماض عن الإجماعات المنقولة أو الشهرة الفتوائية ، فتدبّر .
الروايات الظاهرة في نجاسة أهل الكتاب :
وأ مّا الروايات الدالّة على نجاسة أهل الكتاب كما عند المشهور القائلين بنجاستهم ـ كما مرّ ـ فمنها صحيحة محمّد بن مسلم .
الشيخ الكليني في الكافي ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن العلا بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، في رجل صافح رجلا مجوسيّاً ، فقال : يغسل يده ولا يتوضّأ .
ورواه الشيخ بإسناده ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان : مثله .
ومثلها موثّقة أبي بصير .
الكليني ، عن حميد بن زياد ، وعن الحسن بن محمّد ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير ، عن أحدهما (عليهما السلام) ، في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني ، قال : من وراء الثوب ، فإن صافحك بيده فاغسل يدك . ورواه الشيخ بإسناده ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم ، عن علي ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) : مثله[15] .
والرواية سندها الصحيح عبارة عن : الكافي ، عن حميد بن زياد ، عن الحسن ابن محمّد . وفي نسخة الوسائل اشتباه ، فإنّه ذكر الحسن بن محمّد بواو العاطفة ، كما ذكرنا ذلك للأمانة .
فالسند تامّ ، وكذلك الأدلّة . ويُحمل غسل اليد على ما كان في البين رطوبة مسرية ، ولو كان ذلك من عرق اليد ، لحكومة رواية ابن بكير عليها القائلة : « كلّ يابس ذكي » . وما قاله صاحب التنقيح (قدس سره) : أ نّه من حمل الفرد النادر ، فإنّه غير صحيح ، فإنّ المصافحة غير نادرة ، كما أنّ رطوبته ليست نادرة ، وإلاّ لكان في مسّ الميّت والكلب ، حيث ورد غسل اليد مع رطوبتهما ، وعدم الغسل عند عدمها أيضاً من الحمل النادر .
نعم لو ثبت من الخارج أنّ اليهودي والنصراني ليس فيهما نجاسة ذاتية ، فإنّه يحمل الغسل حينئذ على الاستحباب ، إلاّ أنّ المقام في بيان الحكم الوضعي لا التكليفي .
وممّا يدلّ على النجاسة رواية الكليني أيضاً عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد ابن محمّد بن خالد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السلام) ، قال : سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة ، وأرقد معه على فراش واحد ، واُصافحه ؟ قال : لا[16] .
ربما يقال في دلالتها تأمّل ، فإنّ نهي الإمام (عليه السلام) عن المصافحة إنّما هو من باب النهي التوبيخي الدالّ على الكراهة لا الحرمة والنجاسة .
ومن الروايات : عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن سعيد الأعرج ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني ، فقال : لا . محمّد بن الحسن ، بإسناده عن محمّد بن يعقوب : مثله[17] .
يقال : لا وجه لعدم الجواز إلاّ النجاسة .
ومنها : أحمد بن
أبي عبد الله البرقي في المحاسن ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان
بن يحيى ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله (عليه
السلام) ،
في آنية
المجوس ،
قال : إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء .
لقد اختلف الأصحاب في موسى بن بكر الواسطي ، الذي وقع في سند الرواية المزبورة ، أ نّه من الثقات أو غيرهم .
فقيل : إنّه من الثقات ، لوجوه :
الأوّل : أ نّه كثير الرواية ، ولكن لا يدلّ ذلك على وثاقته ، إلاّ أن يكون بنحو من الكثرة بحيث يكون كمعلّى بن أحمد ، حيث يقال : إنّ خمس الكافي منه . وكذلك غيره ، يقال : ربع الكافي منه ، ومثل هذا حينئذ لا يصحّ أن ينقل عنه وهو ضعيف ، وإنّما لم يذكر توثيقه ، فهو باعتبار إحراز جلالته ، وكأ نّه مفروغ عنه . وموسى بن بكر لم يكن مثل هؤلاء ، ولم يكن له من الكثرة بهذا النحو .
الثاني : أ نّه قد نقل الثقات عنه ، ولكن هذا لا يدلّ أيضاً على وثاقته ، إذ ليس معنى لا يروون إلاّ عن ثقة ، أ نّهم لا يُرسلون .
الثالث : إنّما هو ثقة بناءً على أصالة العدالة في الرواة ، كما عند السيّد ابن طاووس عليه الرحمة ، ولكن هذا من المتأخّرين ومن اجتهاده ذلك ، وتوثيقه ليس كتوثيق القدماء ، كما لا نعتقد بأصالة العدالة .
الرابع : وهو العمدة ، قول صفوان بن يحيى بأ نّه : « لا خلاف فيه بين أصحابنا على اعتباره » ، وحديث صفوان في باب الإرث[18] .
وفي الكافي ، ورد أنّ صفوان قال : وصلني كتاب موسى بن بكر وحسن ابن سماعة يقول : قرأت على صفوان ذلك الكتاب وفي أوّله ... قال : هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) .
وصاحب معجم
رجال الحديث[19]
أرجع ضمير قال إلى صفوان ، وإنّ المراد
من
الكتاب كتاب موسى بن بكر ، فيدلّ على توثيقه . إلاّ أ نّه إنّما
يرجع ضمير قال إلى زرارة ، وهذا إشارة إلى الحكم ، فليس فيه اختلاف عند
أصحابنا ، كما يدلّ على ذلك ظهور الرواية ويشهد عليه روايات اُخرى في
المقام ، فتوثيق موسى غير ثابت ، فروايته في المقام
لا يتمّ الاستدلال بها ، فتأمّل . كما إنّ دلالتها غير تامّة[20] .
ومنها : رواية علي بن جعفر :
وبإسناده ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن العمركي ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) ، قال : سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه ؟ قال : لا بأس ، ولا يصلّى في ثيابهما . وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه . قال : وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان ، هل تصلح الصلاة فيه ؟ قال : إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله[21] .
ومنها : رواية علي بن جعفر أيضاً :
بإسناده ، عن علي بن جعفر ، أ نّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام ، قال : إذا علم أ نّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام ، إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل . وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، أيتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا ، إلاّ أن يضطرّ إليه .
فلو كان الغُسل للنجاسة فلا فرق بين الإضطرار وغيره ، فذيل الرواية ربما يستفاد منه عدم النجاسة لعدم الفرق ، والمتفاهم العرفي من الإضطرار أ نّه ليس له ماء ، لا للتقية كما ذهب إليه الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، فيستدلّ حينئذ على استحباب التنزّه ، وغسل الحوض ما دام لم يتصلّ بالمادّة ، فإنّه يغسل .
وصاحب الوسائل حمل أوّل الحديث على عدم المادّة ، وآخره محمول على كرّية الماء أو على المادّة في الحمّام ، وهذا من الحمل التبرّعي ، لا اعتبار له ، وإلاّ فنحتاج إلى قرينة يدلّ على ذلك .
ومنها : رواية محمّد بن مسلم الصحيحة :
محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمّة والمجوس ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم ، ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر .
فذيلها يدلّ على أنّ النجاسة باعتبار الخمر ، فيوجب تزلزل مدلول الآية في نجاسة المجوس ، كما في روايات اُخرى قيّد ، مثلا : إذا طبخوا ميتة أو لحم خنزير ، وحينئذ لو كان لنا روايات تدلّ على استحباب الغسل ، فإنّه نرفع اليد حينئذ عن مثل هذه الإطلاقات التي مرّت، وإن كان للنقاش مجال في بعضها سنداً ودلالة ، وإلاّ فيأتي دور التعارض بين الأخبار الواردة في المقام ، وإنّ الخبر الثقة إنّما يكون حجّة لو اجتمعت شرائط العمل بالخبر ومنها عدم التعارض ، وما نحن فيه قد نرى طائفة من الروايات تعارض الطائفة الاُولى .
بيان ذلك : أنّ الطائفة الاُولى من الروايات دلّت بالظهور الإطلاقي لا بالنصّ الصريح على نجاسة أهل الكتاب من الكفّار ، فإنّ المصافحة توجب غسل اليد عند رطوبتها وذلك بالظهور الإطلاقي ، فلو كانت هناك روايات تدلّ على جواز ذلك ، فإنّه يوجب حمل الطائفة الاُولى على الاستحباب حينئذ جمعاً بين الأخبار المتعارضة .
ولنا روايات صريحة في طهارة أهل الكتاب ذاتاً ، وإنّما نجاستهم عرضية .
منها : صحيحة علي بن إبراهيم ، وعنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن إبراهيم ابن أبي محمود ، قال : قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أ نّها نصرانية لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : لا بأس ، تغسل يديها[22] .
ظاهر السؤال أ نّه على نحو الفرض ، والجواب صريح على أ نّها طاهرة ذاتاً ، إلاّ أنّ لها نجاسة عرضية وتطهر بالتطهير والغسل .
ومنها : صحيحة إسماعيل بن جابر : وعن أبي علي الأشعري ، عن محمّد ابن عبد الجبّار ، عن صفوان (بن يحيى خ) ، عن إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : لا تأكله ، ثمّ سكت هنيّة ، ثمّ قال : لا تأكله ، ثمّ سكت هنيّة ، ثمّ قال : لا تأكله ، ولا تتركه ، تقول إنّه حرام ، ولكن تتركه تتنزّه عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير . محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن يعقوب : مثله[23] .
القرينة الحالية تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الطعام المطبوخ ، والتنزّه إنّما هو من جهة أنّ في إنائهم الخمور ، وفي قدورهم يطبخون لحم الخنزير ، وهذا التعليل صريح على طهارتهم الذاتية ، ويدلّ على هذا التعليل ما جاء في صحيحة محمّد بن مسلم :
محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية أهل الذمّة والمجوسي ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر . ورواه الشيخ باسناده عن الحسن ابن محبوب : مثله[24] .
وهناك روايات اُخرى دالّة بوضوح على هذا المعنى وتكون قرينة وشاهد على حمل الطائفة الاُولى من الروايات على استحباب التنزّه ، وكراهة المعاشرة معهم . إلاّ إذا قلنا بإعراض الأصحاب عن الطائفة الثانية ممّا يوجب وهنها وعدم مقاومتها مع الاُولى ومقارعتها ، وإعراضهم ليس من جهة عدم التفاتهم إلى الجمع العرفي ، فلا قيمة للثانية حينئذ ، بل وأصبح نجاسة الكفّار وأهل الكتاب رمزاً للشيعة ومن منفرداتهم ، ويمتازونهم عن المخالفين بذلك .
كما لا فرق بين ما نحن فيه وبين ماء البئر ونجاسته وتطهيره بالنزح ، فإنّه يمكن الجمع العرفي بين صحيحة البزنطي والروايات الاُخرى المخالفة ، إلاّ أ نّهم طرحوا الصحيحة ، وربما ذلك لموافقتها مع العامّة ، وقد ورد في الأخبار العلاجية : « خذ ما خالف العامّة ، فإن الرشد في مخالفتهم » ، ولكن لا يتمّ ذلك فإنّه إنّما يؤخذ بما خالف العامّة فيما لم يمكن الجمع العرفي ، وما نحن فيه يصحّ الجمع العرفي ، إلاّ إذا اطمئنّ وتُيقّن أنّ الروايات الثانية وردت للتقيّة ، حتّى مع وجود الجمع العرفي ، فيصحّ حينئذ طرح المقيّد ، إلاّ أ نّه لم نحصل على مثل هذا الاطمئنان في أصالة الجهة ، فإنّها تسقط مع الاطمينان .
وحينئذ يحمل القيد على المطلق في الطائفة الاُولى ، كما في تطهير البئر ، ولا يقال أ نّه يقدّم ما وافق كتاب الله ، فإنّ ذلك عند التعارض وعدم وجود الجمع العرفي .
ثمّ من الروايات الدالّة على طهارة أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ويتبعهم المجوس ـ : محمّد بن يعقوب ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن عيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي ، فقال : إن كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس .
والمراد من التوضّي هنا مطلق غسل اليدين ، وهو المعنى اللغوي للوضوء لا المعنى المصطلح الشرعي ، ويعلم من هذا أنّ نجاسته عرضية ، وطعامه ويده لا تجري فيهما قاعدة الطهارة ، كما لا تجري في قدور الكفّار ، كما جاء ذلك في روايات اُخرى ، كرداء الصابي ، وصحيحة الحلبي وموثّقة أبي بصير وصحيحة عبد الله بن سنان[25] في إعطاء العارية للذمّي وقوله (عليه السلام) : صلّ فيه ولا تغسله من ذلك ، فإنّك أعرته وهو طاهر ولم يتيقّن أ نّه نجس . وهذا يعني الاستصحاب ، فيستدلّ به على طهارة الثوب العاري ، فطهارتهم ليست تعبّدية ، إنّما يوافق الاُصول كما في الروايات الأخيرة ، ثمّ المراد من الاطمينان هو اليقين ، فلو علم بوقوع المتنجّس ولم يعلم بالطهارة فيشكّ فيها ، مثل أواني الكفّار التي تستعمل في الشراب والدم والميتة ولحم الخنزير ، فإنّها لم يعلم طهارتها ، فإنّه يشترط أن تكون بكيفية خاصّة ولم يعلم ذلك ، فإنّه تستصحب النجاسة حينئذ لعدم المعارض لها بالطهارة ، وأمّا عند المعارضة كما يفهم ذلك من موثّقة أبي بصير .
فقوله (عليه السلام) : « أليس يغسل بالماء » ، يلزمه أن يكون لنا يقين بالنجاسة ويقين بالطهارة ، فيتعارضان ويقدّم أصالة الطهارة ، فقال (عليه السلام) : « لا بأس » .
وزبدة الكلام : أنّ الجمع العرفي بين الروايات الشريفة يقتضي القول بطهارة أهل الكتاب بالخصوص من الكفّار والمشركين ، وإن ذهب المشهور من فقهائنا الأعلام ، ولا سيّما المتقدّمين منهم إلى نجاستهم ، فتدبّر .
قال الفيض الكاشاني[26] ، بعد بيان أنّ الكافر غير اليهودي والنصراني والمجوسي نجسة عيناً ولعاباً بالإجماع ولقوله : ( إنَّما المُشْرِكونَ ) و ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ ) ، فقال : والأكثر على نجاسة الفرق الثلاث أيضاً ، لإشراكهم ، وفيهم ورد ( سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ )[27] ، وللصحاح ، خلافاً للقديمين ; لقوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ )[28] ، وهو شامل لما باشروه ، وللصحاح المستفيضة ، وعدم صراحة الآيتين .
وخصّ الاُولى في النصوص بالحبوب ، وحمل الثاني على التقيّة ، لكن حمل الصحاح الاُول على الكراهة ، لدلالة الحسان عليها ، بل المستفاد من أكثر النصوص أنّ الأمر باجتنابهم إنّما هو لشربهم الخمر ومزاولتهم لحم الخنزير . وفي الصحيح عن مؤاكلة المجوسي فقال : إذا توضّأ فلا بأس . والمراد غسل اليد . وفي هذه الأخبار دلالة على أنّ معنى نجاستهم خبثهم الباطني ، لا وجوب غسل الملاقي ، كما مرّت الإشارة إليه ، وفي كثير منها جواز استرضاع اليهودية والنصرانية[29] .
وحكم الشيخ بنجاسة المجبّرة ، والسيّد بنجاسة المخالفين ، أ مّا الخارجي والناصب والمجسّم والغالي ، فالظاهر عدم الخلاف في نجاستهم وإن أقرّوا بالشهادتين . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
وشيخ الطائفة[30] يقول : من صافح ذميّاً أو ناصبياً معلناً بعداوة آل محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وجب عليه غسل يده إن كان رطباً ، وإن كان يابساً مسحها بالتراب . انتهى كلامه . فهو يرى نجاسة الكافر الذمّي كما عند المشهور ، والذمّي أعمّ من الكتابي وغيره ، ولكن ينسب للشيخ في نهايته قوله بطهارة الكتابي .
قال المحقّق الخوانساري[31] ـ من الفقهاء المعاصرين ـ في بيان الأعيان النجسة : وأ مّا الكافر فالمشهور نجاسته بجميع أصنافه ، بل لم يعرف الخلاف في غير الكتابي منه من أحد ، وقد تواتر نقل الإجماع في غير الكتابي ، وأمّا الكتابي فالمشهور نجاسته ، ولكنّه حكي عن ابن الجنيد وظاهر العمّاني ونهاية الشيخ القول بالطهارة ، وتبعهم جماعة من متأخّري المتأخّرين ، واستدلّ للنجاسة مطلقاً بقوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، ونوقش بعدم صدق المشرك على نحو الحقيقة على جميع أصناف الكافر ، وعدم إحراز المراد من النجس فإنّ معناه العرفي ، وإن كان هو القذر لكنّه ليس كلّ قذر يجب الاجتناب عنه كما يجب الاجتناب عن النجاسات عند المتشرّعة ، فإنّ القذارة المعنوية الحاصلة بالحيض ونحوه قذارة ، وليست موجبة للاجتناب ، فلعلّ الشرك قذارة معنوية أشدّ من سائر القذارات من دون أن يترتّب عليها آثار النجس بالمعنى المعروف عند المتشرّعة على المتّصف به ، هذا مع أنّ المتبادر من الآية مشركوا أهل مكّة كما يشهد به القرائن .
واستدلّ أيضاً بالأخبار التي استدلّ بها على نجاسة أهل الكتاب ، فإنّها تدلّ على نجاسة سائر الكفّار بالأولوية القطعيّة ، ونوقش في هذا الاستدلال بعدم الأولوية في خصوص الكفّار المنتحلين للإسلام ، واستدلّ لنجاسة أهل الكتاب بأخبار ، منها : موثّقة سعيد الأعرج أ نّه « سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني ، أيؤكل أو يشرب ؟ قال : لا » . ومنها صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال : « سألته عن رجل صافح مجوسيّاً ؟ قال : يغسل يده ولا يتوضّأ » ، ومنها رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني ؟ قال : « من وراء الثياب ، فإن صافحك بيده ، فاغسل يدك » ، وروايات صحاح وغير صحاح ، لكنّ غالبها يمكن الخدشة فيها من جهة الدلالة ، بل بعضها في خلاف المطلوب ظاهر ، وفي قبالها أخبار اُخر يظهر منها الطهارة ، بل لعلّها صريحة في الطهارة الذاتية ، وعلى فرض ظهور هذه الروايات من النجاسة الذاتية يجمع بينهما برفع اليد عن الظهور لصراحة تلك الأخبار في الطهارة الذاتية ، لكنّ الظاهر إعراض الأصحاب عن العمل بالأخبار الدالّة على الطهارة فلا محيص من القول بالنجاسة . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
وقال صاحب مدارك الأحكام[32] : وأ مّا اليهود والنصارى ، فقد ذهب الأكثر إلى نجاستهم ، بل ادّعى عليه المرتضى وابن إدريس الإجماع ، ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل القول بعدم نجاسة أسآرهم . وحكى المصنّف في المعتبر عن المفيد (رحمه الله)في المسائل العزّية القول بالكراهة ، وربّما ظهر من كلام الشيخ في موضع من النهاية[33] .
احتجّ القائلون بالنجاسة بأمرين :
الأوّل : قوله تعالى ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ; فإنّ اليهود والنصارى مشركون لقوله تعالى بعد حكايته عنهم أ نّهم ( اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْباباً مِنْ دونِ اللهِ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ )[34] ، ويتوجّه عليه مضافاً إلى ما سبق منع هذه المقدّمة أيضاً ، إذ المتبادر من معنى المشرك من اعتقد إلهاً مع الله ، وقد ورد في أخبارنا أنّ معنى اتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله : امتثالهم أوامرهم ونواهيهم ، لا اعتقادهم أ نّهم آلهة ، وربما كان في الآيات المتضمّنة لعطف المشركين على أهل الكتاب وبالعكس بالواو إشعار بالمغايرة .
الثاني : الأخبار الدالّة على ذلك كصحيحة علي بن جعفر ... وحسنة سعيد الأعرج ... وصحيحة محمّد بن مسلم ...
احتجّ القائلون بالطهارة بوجوه :
الأوّل : البراءة الأصلية ، فإنّ النجاسة إنّما تستفاد بتوقيف الشارع ، ومع انتفائه تكون الطهارة ثابتة بالأصل .
الثاني : قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) ، فإنّه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصه بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر ، لاندراجها في الطيّبات ، ولأنّ ما بعده وهو ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) شامل للجميع قطعاً ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر ، فإنّ سائر الكفّار كذلك . وقد يقال : إنّ هذا التخصيص وإن كان مخالفاً للظاهر إلاّ أ نّه يجب المصير إليه ، لدلالة الأخبار عليه ومنها ما هو صحيح السند . لكن لا يخفى أنّ هذا الاختصاص لا ينحصر وجهه في النجاسة ، لانتفائها في غير الحبوب ممّا يعلم مباشرتهم له قطعاً .
الثالث : الأخبار ، فمن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص ابن القاسم : أ نّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني فقال : « لا بأس إذا كان من طعامك » . وفي الصحيح عن علي بن جعفر أ نّه سأل أخاه موسى (عليه السلام) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء يتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : « لا ، إلاّ أن يضطرّ إليه » ، وفي الصحيح عن ابراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أ نّها نصرانية ، لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : « لا بأس ، تغسل يديها » .
ويمكن الجمع بين الأخبار بأحد الأمرين : إمّا حمل هذه على التقيّة ، أو حمل النهي في الأخبار المتقدّمة على الكراهة . ويشهد للثاني مطابقته لمقتضى الأصل ، وإطلاق النهي عن الصلاة في الثوب قبل الغسل في صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة ، ويدلّ عليه صريحاً خصوص صحيحة إسماعيل بن جابر : قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : « لا تأكله » ، ثمّ سكت هنيئة ، ثم قال : « لا تأكله » ، ثمّ سكت هنيئة ، ثم قال : « لا تأكله ، ولا تتركه تقول إنّه حرام ، ولكن تتركه تتنزّه عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير » ، وربما كان في هذه الرواية إشعار بأنّ النهي عن مباشرتهم ، للنجاسة العارضية . فتأمّل . انتهى كلامه رفع الله مقامه . فهو ممّن يقول بطهارة أهل الكتاب وإن تأمّل في ذلك .
وقال الشيخ البهائي[35] ، بعد أن نقل عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد والمفيد عدم نجاسة سؤر أهل الكتاب : وربما يحتجّ لهم قدّس الله أسرارهم بالحديث التاسع ـ وهو عن علي بن جعفر ، أ نّه سأل أخاه موسى (عليه السلام) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، يتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا ، إلاّ ان يضطر إليه ـ لأنّ جواز الوضوء بسؤرهم إذا اضطرّ إليه دليل طهارته ، وظنّي أ نّه لا يبعد أن يقال أنّ الاضطرار يجوز أن يكون كناية عن التقيّة ، فإنّ المخالفين من العامّة على طهارتهم ، وربما يحتجّ لهم أيضاً بالحديث العاشر ـ وهو عن إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : لا تأكله ، ثمّ سكت هنيئة ... إلى آخر الحديث كما مرّ ـ كما هو ظاهر ويشعر به تعليله (عليه السلام) بأنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير ، فإنّ هذا التعليل يعطي أنّ نجاستهم لذلك لا لذواتهم وأعيانهم ، ولا يذهب عليك أنّ نهيه (عليه السلام) عن طعامهم ثمّ سكوته هنيّة ، ثمّ نهيه ثمّ سكوته هنيّة اُخرى ، ثمّ أمره في المرّة الثالثة بالتنزّه عنه لا تحريمه ممّا يؤذن بالتردّد في حكمه ، وحاشاهم سلام الله عليهم من التردّد فيما يصدر عنهم من الأحكام ، فإنّ أحكامهم ليست صادرة عن الظنّ ، بل هم صلوات الله عليهم قاطعون في كلّ ما يحكمون به ، وقد لاح لي على ذلك دليل أوردته في شرحي على الصحيفة الكاملة ، فهذا الحديث من هذه الجهة معلول المتن ، وذلك يوجب ضعفه . والله أعلم بحقايق الاُمور . انتهى كلامه رفع الله مقامه .
ولكن ربّما استعمل هذا الاُسلوب في الجواب ، لما في نفس السائل ، أو لما كان في المجلس من تقيّة وما شابه ، أو لتثبيت الجواب النهائي بعد ذكر مثل هذه المقدّمات ، وغير ذلك ، والله العالم .
وقال المحقّق السبزواري[36] : واحتجّ الأصحاب على نجاسة أهل الكتاب بطريقين :
الأوّل : عموم الآيتين ( إنَّما المُشْرِكونَ ) و ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ ) ، أمّا الثانية فظاهرة بعد فرض دلالتها على التنجيس ، وأمّا الاُولى فيحتاج إلى إثبات شرك أهل الكتاب ، واستدلّ عليه بأنّ الشرك محقّق في المجوس منهم لما قيل من أ نّهم يقولون بإلهين اثنين ، النور والظلمة ، وفي اليهود والنصارى بدليل قوله تعالى : ( سُبْحانُهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ ) عقيب حكايته عن اليهود وقولهم : ( العُزَيْرُ ابْنُ اللهِ ) ، وعن النصارى : ( إنَّ المَسيحَ ابْنُ اللهَ ) . قوله تعالى بعد حكاية ( إنَّهُمْ اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ أرْباباً مِنْ دونِ اللهِ ... سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ ) .
الثاني : الأخبار الدالّة على ذلك ، منها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي ابن جعفر ، عن أخيه موسى (عليه السلام) ، قال : سألته عن فراش اليهودي ... وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ... وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق ... وما رواه الكليني ... سألته عن مؤاكلة المجوسي . وما رواه علي ابن جعفر ... ثمّ يذكر الروايات الاُخرى التي مرّت علينا فلا نعيد روماً للاختصار ، ثمّ قال : وفيه نظر ، أمّا الاحتجاج بالآيتين فلما عرفت على أنّ إثبات كونهم مشركين بالمعنى المقصود في الآية لا يخلو عن إشكال ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالشرك من اعتقد لله شريكاً في الإلهية ، ويجوز أن يكون إطلاق الشرك عليهم في قوله تعالى : ( سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) ، بمعنى آخر كما هو الظاهر ، فلا يعمّ الاستدلال . وقيل : وقد ورد في أخبارنا أنّ معنى اتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله امتثالهم أوامرهم ونواهيهم لا اعتقادهم أ نّهم آلهة ، وربّما كان في الآيات المتضمّنة العطف المشركين على أهل الكتاب وبالعكس بالواو ، إشعار بالمغايرة .
وأمّا الأخبار ، فلكونها معارضة بأقوى منها دلالة ، فحملها على الاستحباب غير بعيد ، ويدلّ على هذا الحمل بعض الأخبار الآتية . قال الشهيد الثاني : أكثر أخبار النجاسة يلوح منها إرادة الكراهة ، فإنّ النهي عن المصافحة والاجتماع على الفراش الواحد لا بدّ من حمله على الكراهة ، إذ لا خلاف في جوازه ، والأمر بغسل اليد من المصافحة مع كون الغالب انتفاء الرطوبة محتاج إلى الحمل على خلاف الظاهر أيضاً ، وهذا كلّه يوجب ضعف دلالتها فيقرب فيها ارتكاب التأويل ، وذلك بحمل نواهيها على الكراهة وأوامرها على الاستحباب ، وإطلاق النهي عن الصلاة في الثوب قبل الغسل أيضاً يحتاج إلى التأويل على أنّ الأخبار الدالّة على النهي من مؤاكلتهم ، أو الأكل عن طعامهم ، أو الأكل عن إنائهم ، أو شرب سؤرهم ، غير دالّة على نجاستهم ، لعدم انحصار علّة شيء ممّا ذكر في النجاسة ، إلاّ أن يثبت عدم القائل بالفصل .
وأمّا حجّة القول بطهارة أهل الكتاب فهي الأصل وظاهر قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حَلٌّ لَكُمْ ) ، والعرف قاض في مثله بالعموم والاعتبار الذي ذكروها في عموم المفرد المعرّف باللام جار ها هنا ، فيجب الحمل على العموم ، إذ لا قرينة على إرادة نوع خاصّ ، وإذا ثبت العموم والغالب في الطعام المصنوع المباشرة بالأيدي مع قبوله الانفعال من حيث الرطوبة ، يلزم طهارة المباشرة لاستلزام أكل الطهارة . والأخبار الكثيرة منها : صحيحة إبراهيم بن محمود ، قال : قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك ... الخ ، ومنها صحيحة إبراهيم ابن محمود الاُخرى أيضاً ، قال : سألت الرضا (عليه السلام) : الخيّاط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم أ نّه يبول ولا يتوضّأ ، ما تقول في عمله ؟ قال : لا بأس . ومنها : صحيحة عيسى بن القاسم : سألت أبا عبد الله عن مؤاكلة اليهودي ... الخ ، ومنها : صحيحة إسماعيل بن جابر : ما تقول في طعام أهل الكتاب ... الخ ، ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) ، قال : سألت عن آنية أهل الذمّة ... الخ ، ومنها : حسنة الكاهلي ، سأله عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي يدعونه إلى طعامهم ، فقال : أمّا أنا فلا أدعوه ولا اؤاكله ، فإنّي لأكره أن اُحرّم عليكم شيئاً يصنعونه في بلادكم . ومنها : رواية زكريا بن إبراهيم ، قال : دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) ، فقلت : إنّي رجل من أهل الكتاب ، وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانية ، وأنا معهم في بيت واحد لم اُفارقهم بعد ، فآكل من طعامهم ؟ فقال لي : يأكلون لحم الخنزير ؟ قلت : لا ، ولكنّهم يشربون الخمر . فقال لي : كل معهم واشرب . ومنها : صحيحة علي بن جعفر ، قال : سألته عن اليهودي والنصراني يضع يده في الماء ... الخ . ومنها : موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : سألته عن الرجل ، هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب على أ نّه يهودي ؟ فقال : نعم ، قلت : فمن ذاك الماء الذي يشرب منه ؟ قال : نعم .
هذا غاية
ما يمكن أن يحتجّ به للطهارة ، ويرد على التعلّق بالآية ، أمّا
أوّلا : فلأ نّا لا نسلّم أنّ المراد بالطعام مطلق المأكول ،
لجواز أن يكون المراد به الحنطة
بناءً على
أنّ استعمال لفظ الطعام في البُرّ حقيقة أو غلب استعماله فيه ، قال صاحب المجمل :
قال بعض أهل اللغة : الطعام : البرّ خاصّة ، وذكر حديث
أبي سعيد .. وسلّمنا أنّ الآية بظاهرها عامّة ، إلاّ
أنّ الأخبار ناطقة بتخصيصه ، منها : ما رواه الصدوق عن هشام بن
سالم في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، في
قوله : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا
الكِتابَ ) ، قال : العدس والحمّص وغير
ذلك ... يذكر المصنّف هنا إشكالا ويجيب ، فراجع . ثمّ
يقول : ويرد على التعليق بالأخبار أ نّه يجوز حملها على التقيّة
جمعاً بينها وبين ما يعارضها من الأخبار السابقة الموافقة لعمل أكثر الأصحاب
المخالفة لجمهور العامّة ، وربما كان في بعض الأخبار إشعار بذلك .
والتحقيق : أ نّه لولا الشهرة العظيمة بين العلماء وادّعاء جماعة منهم الإجماع على نجاسة أهل الكتاب ، كان القول بطهارتهم متّجهاً لصراحة الأخبار الدالّة على الطهارة على كثرتها في المطلوب ، وبُعد حمل الكلّ على التقيّة ، وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة ، فإنّه حمل قريب ، خصوصاً إذا تأيّد ببعض القرائن كما مرّ ، على أنّ شيئاً منها غير دالّ على النجاسة ، وإن حمل على الإيجاب والتحريم ، إلاّ أن يثبت عدم القائل بالفصل ، فتدبّر جدّاً ، وعليك بالاحتياط . انتهى كلامه رفع الله مقامه . فهو يميل إلى طهارة أهل الكتاب وإن قال بالاحتياط فكأ نّه استحبابي ، كما جاء هذا المعنى أيضاً عند السيّد الخوئي في منهاج الصالحين .
وقال صاحب الحدائق الناضرة[37] : وأمّا ما استدلّ به على القول بالطهارة فوجوه :
الأوّل : أصالة الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة .
الثاني : قوله عزّ وجلّ : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) ، فإنّه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصها بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر ، لاندراجها في الطيّبات ، ولأنّ بعدها ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) شامل للجميع قطعاً ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر ، فإنّ سائر الكفّار كذلك .
الثالث : الأخبار ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم ، سأل عن مواكلة اليهودي والنصراني ... وفي الصحيح عن إبراهيم بن أبي محمود في سؤال الإمام الرضا (عليه السلام) عن الجارية النصرانية ، وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود أيضاً ... وصحيحة إسماعيل بن جابر ... وحسنة الكاهلي ... ورواية زكريا ابن إبراهيم ... وصحيحة علي بن جعفر ... ورواية عمّار الساباطي ... ثمّ قال بعد نقله الروايات ـ ولم نذكرها إذ مرّت علينا ذلك بالتفصيل ، فلا نعيد ـ فقال : أمّا الاستدلال بالأصل كما ذكروه فيجب الخروج عنه بالدليل ، وهو ما قدّمناه من الآية والروايات ، وأمّا الاستدلال بالآية فإنّ الظاهر من الأخبار المؤيّدة بكلام جملة من أفاضل أهل اللغة ، هو تخصيص ذلك بالحنطة وغيرها من الحبوب ، إمّا حقيقة أو تغليباً بحيث غلب استعماله فيها . ثمّ يذكر الروايات الدالّة على أنّ المراد من الطعام الحنطة والحبوب ، كما ينقل مقولة أهل اللغة في ذلك كصاحب مجمل اللغة وصاحب الصحاح وفي المغرب ، ونقل ابن الأثير في النهاية عن الخليل ، وقال الفيومي في المصباح المنير ، وفي شمس العلوم ... ثمّ قال : بقي الكلام هنا في الأخبار ومعارضتها بالأخبار المتقدّمة ، الحقّ عندي هو الترجيح لأخبار النجاسة ، وذلك من وجوه :
الأوّل : اعتضادها بظاهر القرآن الكريم وقوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ...
الثاني : كون أخبار الطهارة موافقة لمذهب العامّة بلا خلاف ، فتكون للتقيّة ...
الثالث : اعتضاد أخبار النجاسة باتّفاق الأصحاب إلاّ الشاذّ النادر الذي لا يعبأ بمخالفته ، قال في المعالم : ثمّ إنّ مصير جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلى القول بالتنجيس مقتض للاستيحاش في الذهاب إلى خلافه ، بل قد ذكرنا أنّ جماعة ادّعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف . ثمّ ينقل ما قاله المحقّق السبزواري في ذخيرته كما قدّمناه ثمّ يقول في جوابه : أمّا ما ذكره من التأييد بالشهرة العظيمة فجيّد كما ذكرنا ومؤيّد لما اخترناه ، وأمّا ما ذكره من اتّجاه القول بالطهارة لولا ما ذكره لبعد الحمل على التقيّة وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة ـ كما ذهبنا إليه ـ فهو وإن سبقه إليه السيّد في المدارك ـ كما عليه كثير من فقهائنا المعاصرين ـ إلاّ أ نّه اجتهاد محض في مقابلة النصوص ، وجرأة تامّة على أهل الخصوص ، لما عرفت من أ نّهم (عليهم السلام) قد قرّروا قواعد لاختلاف الأخبار ومهّدوا ضوابط في هذا المضمار ، ومن جملتها العرض على مذهب العامّة والأخذ بخلافه ، والعامّة هنا كما عرفت متّفقون على القول بالطهارة ، أو هو مذهب المعظم منهم بحيث لا يعتدّ بخلاف غيرهم فيه ، والأخبار المذكورة مختلفة باعترافهم ، فعدولهم بآرائهم من غير دليل عليه من سنّة ولا كتاب ، جرأة واضحة لذوي الألباب . ثمّ لمّا كان صاحب الحدائق من الأخباريين في مرامه الفقهي ، فإنّه بطبيعة الحال يتهجّم على الاُصوليين وينتهز الفرصة على ذلك ، كما نجده هنا حيث يشنّ هجوماً على الفضلاء الأطياب ، فراجع .
من الأعلام الذي يذهب إلى نجاسة أهل الكتاب صاحب الجواهر (قدس سره) ، فإنّه يدخلهم ضمن المشركين في الآية ، كما يذكر أخباراً في الباب ويقول : وما دلّ نجاسة خصوص اليهود والنصارى أيضاً من المعتبرة ، وهي وإن كان في مقابلها أخبار دالّة على الطهارة ، وفيها الصحيح وغيره ، بل هي أوضح من تلك دلالة ، بل لولا معلومية الحكم بين الإمامية ـ بأنّ مطلق الكفّار نجس ـ وظهور بعضها في التقيّة ; لاتّجه العمل بها ، لكن لا ينبغي أن يصغى إليها في مقابلة ما تقدّم ، وإن أطنب بعض الأصحاب في البحث عنها ، وتجشّم محامل لها ، يرجع الطرح عليها فضلا عن التقيّة .
كما أ نّه لا ينبغي الإصغاء للاستدلال على الطهارة أيضاً بقوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) بعد ورود الأخبار المعتبرة وفيها الصحيح والموثّق وغيرها بإرادة العدس والحبوب والبقول من الطعام ، سيّما مع تأييدها ـ بقول أهل اللّغة ، فيذكر بعضها ، كما مرّ ـ وأخيراً يقول : وكيف كان فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم .
وأمّا سيّدنا الحكيم (قدس سره) ، فإنّه يذكر طهارة أهل الكتاب كما جاء ذلك في المستمسك[38] ، قائلا بعد بيان الاستدلال بالآية على مطلق الكفّار ومناقشته وبيان بعض الروايات الدالّة على نجاستهم : هذا ولكن يعارض النصوص المذكورة ـ في نجاسة الكفّار ـ نصوص اُخرى ، منها : ما ورد في جواز الصلاة في الثياب التي يعملها المجوس وأهل الكتاب كصحيح معاوية : سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن الثياب السابريّة يعملها المجوس وهم أخباث يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها واُصلّي فيها ؟ قال (عليه السلام) : نعم ، قال معاوية : فقطعت له قميصاً وخطته وفتلت له إزاراً ورداء من السابري ، ثمّ بعثت بها إليه في يوم الجمعة حين ارتفع النهار ، فكأ نّه عرف ما اُريد فخرج بها إلى الجمعة . ونحوه غيره . وقد عقد لها في الوسائل باباً في كتاب الطهارة[39] ، لكن حملها (قدس سره)على صورة عدم العلم بتنجيسهم لها وهو غير بعيد ، كما يشهد به ما ذكر في جملة من أ نّهم يشربون الخمر ويأكلون الميتة ، ولا إشكال في نجاستهما ، فلو كانت شاملة لصورة العلم بالملاقاة برطوبة كانت دالّة على طهارة الميتة والخمر أيضاً . ويشير إلى ذلك ما في صحيح ابن سنان : سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر : إنّي اُعير الذمّي ثوباً ، وأنا أعلم أ نّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اُصلّي فيه ؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أ نّه نجس ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أ نّه نجس ، ومن ذلك يظهر عدم دلالة ما تضمّن جواز الصلاة في الثوب الذي يشترى من اليهود والنصارى والمجوس قبل أن يغسل على طهارتهم . ومنها : ما تضمّن جواز مؤاكلتهم مثل صحيح العيص ... ودلالتها على الطهارة أيضاً غير ظاهرة لقرب احتمال كون الملحوظ في جهة السؤال مجرّد المؤاكلة لا المساورة ، ولا ينافيه ما ذكر من غسل اليد لاحتمال كونه دخيلا في ذلك بما أ نّه من آداب الجلوس على المائدة ، لا من حيث كونه دخيلا في طهارة السؤر .
أقول : ويبعد ذلك جدّاً ، فإنّ لازم المؤاكلة تلاقي الأيدي والرطوبات غالباً ، كما أنّ السؤال ليس عن آداب الأكل والجلوس على المائدة ، إنّما في مقام حكم المؤاكلة من حيث الطهارة والنجاسة ، لا سيّما والمخالفين يقولون بالطهارة في مطلق المشركين ، فالسؤال عن أهل الكتاب بالخصوص ، إلاّ أن يقال : ذلك من التقية . وهو بعيد أيضاً ، كما يشهد الحال على ذلك .
ثمّ قال السيّد (قدس سره) : ومنها : ما دلّ على جواز الأكل من طعام أهل الكتاب وآنيتهم والوضوء من سؤرهم كصحيح إسماعيل بن جابر ... وخبر زكريا بن إبراهيم ... وصحيح ابن مسلم ... وموثّق عمّار ... وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود الاُولى ... وصحيحته الاُخرى ... وصحيحة علي بن جعفر ـ ولم نذكر الروايات لأ نّها مرّت علينا ، فراجع . ثمّ قال : ـ ولكن يمكن أن يناقش ـ فذكر مناقشات في دلالة الروايات ، ومناقشاته قابلة للنقاش كما هو واضح ، ولهذا قال : وكيف كان نقول : إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص ـ ولو للجمع بينها وبين ما دلّ على النجاسة ـ فهو المتعيّن . وإن لم يمكن ذلك لبعد المحامل المذكورة وإباء أكثر النصوص عنها ، فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل ـ كما عرفت ـ بل للإجملاع المحقّق ـ كما قيل ـ ... ثمّ يردّ مخالفة ابن الجنيد وابن أبي عقيل والشيخ المفيد في رسالته الغريّة والشيخ في النهاية ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ فيقول : والعمدة في الحكم عندهم الإجماع ، واحتمال أنّ هذا الإجماع حدث في العصر المتأخّر عن عصر المعصومين (عليهم السلام) . فلا يقدح بالعمل بنصوص الطهارة ، بعيد جدّاً ، فإنّ كثرة الابتلاء بموضوع الحكم ممّا يمنع التفكيك بين الأزمنة في وضوحه وخفائه ، بحيث يكون بناء أصحاب الأئمّة على الطهارة ، وخفي ذلك على من تأخّر عنهم ، فتوهّموا بناءهم على النجاسة فبنوا عليها تبعاً لهم . وبالجملة : الوثوق النوعي المعتبر في حجّية الخبر لا يحصل في أخبار الطهارة بعد هذا الإجماع .
أقول : بعد استعراض الإجماعات المنقولة في هذه المسألة نرى أ نّها من الإجماع المدركي لا التعبّدي الكاشف عن قول المعصوم (عليه السلام) ، فليس بحجّة بعد رجوعنا إلى المستندات والمدارك من النصوص الشرعية ، ولا يبعد أن يكون الإجماع عند المتأخّرين دون المتقدّمين من أصحاب الأئمة في خصوص هذه المسألة ، لأ نّهم ابتلوا بعصور خطرة وشرسة ضد الشيعة والتشيّع ، ممّا كان يؤدّي الأمر أن يخالفوا العامّة في معظم الأشياء ، ومنها طهارة الكفّار ، فخالفوهم حتّى في الكتابي الذي كان يحكم عليه بالطهارة ما لم يعلم بنجاسته ـ أي نجاسته كانت عرضية وليست عينية وذاتيّة ـ وأخيراً بعد النقض والإبرام يقول السيّد الحكيم (قدس سره) : ومن ذلك تعرف أنّ الأقوى ما عليه الأصحاب من النجاسة لولا ما يقتضيه النظر في روايات نكاح الكتابية متعة أو مطلقاً[40] ، فإنّها على كثرتها واشتهارها وعمل الأصحاب بها لم تتعرّض للتنبيه على نجاستها ، فإن الملابسات والملامسات التي تكون بين الزوج والزوجة لا تمكن مع نجاسة الزوجة ، ولم يتعرّض في تلك النصوص للإشارة إلى ذلك ، فلاحظها وتدبّر . بل الذي يظهر من مجمع البيان المفروغية عن حلّ طعام الكتابي إذا لم يكن محتاجاً إلى التذكية ، وأنّ الخلاف في طهارة ما هو محتاج إلى التذكيّة من اللحوم والشحوم ، فراجع ، والله سبحانه وليّ التوفيق . انتهى كلامه .
وقال سيّدنا الخوئي (قدس سره)[41] ، بعد الاستدلال بالآية الشريفة ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، ومناقشة الاستدلال قائلا ـ بعد بيان أنّ المشرك ومنكر الله والناصبي يحكم عليهم بالنجاسة ، وأ نّه لا خلاف في ذلك ـ : وأ مّا غير هذه الفرق الثلاث من أصناف الكفّار كأهل الكتاب فقد وقع الخلاف في طهارتهم ، وهي التي نتكلّم عنها في المقام ، فقد يستدلّ على نجاسة الكافر بجميع أصنافه بقوله : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، وبما أنّ أهل الكتاب قسم من المشركين لقوله تعالى حكايةً عن اليهود : ( عَزيرُ ابْنُ اللهِ ) ، ( سُبْحانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) فتدلّ الآية المباركة على نجاسة أهل الكتاب كالمشركين .
وقد اُجيب عن ذلك باُمور ونوقش فيها بوجوه لا يهمّنا التعرّض لها ، ولا لما اُورد عليها من المناقشات ، بل يصحّ في الجواب أن يقال : أنّ النجس عند المتشرّعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه ، إلاّ أ نّه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة لجواز أن لا تثبت النجاسة ـ بهذا المعنى الاصطلاحي ـ على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلا ، وذلك للتدرّج في بيان الأحكام ، بل الظاهر أ نّه في الآية المباركة بالمعنى اللّغوي وهو القذارة ، وأيّ قذارة أعظم وأشدّ من قذارة الشرك ؟ وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إنّ النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه ، فلا حرمة في دخول الكفّار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم ـ بهذا المعنى ـ وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر ، لأنّ القذارة الفكرية مبغوضة عند الله سبحانه ، والكافر عدوّ الله وهو يعبد غيره ، فكيف يرضى صاحب البيت بدخول عدوّه على بيته ؟ وكيف يناسب دخول الكافر بيتاً يعبد فيه صاحبه وهو يعبد غيره ؟
أقول : مقولته الأخيرة (قدس سره) أشبه بالخطاب الحماسي من البرهان القياسي ، فإنّه لو تَمّ ، لقيل بأنّ الله الطاهر جلّ جلاله ، كما لا يرضى أن يدخل بيته القذر الباطني والفكري والعقائدي ، فكذلك لا يرضى بالقذارة العينيّة الحسّية ، فإنّه يحرم تنجيس المسجد وهتك حرمته ، وأيّ هتك أعظم من دخول من كان تجسيداً للنجاسة العينيّة ، وأنّ الظاهر عنوان الباطن ، فتأمّل .
ثمّ قال السيّد (قدس سره) : وثانياً : إنّ الشرك له مراتب متعدّدة لا يخلو منها غير المعصومين (عليهم السلام) وقليل من المؤمنين ، ومعه كيف يمكن الحكم بنجاسة المشرك بما له من المراتب المتعددة ؟ فإنّ لازمه الحكم بنجاسة المسلم المرائي في عمله ، حيث إنّ الرياء في العمل من الشرك ، وهذا كما ترى لا يمكن الالتزام به ، فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبة خاصّة منه وهي ما يقابل أهل الكتاب .
أقول : لا شكّ أنّ للشرك مراتباً ، فإنّه من الكلي المشكك ذي المراتب الطولية والعرضية ، إلاّ أنّ المراد من المرتبة الخاصّة منه ، ليس ما يقابل أهل الكتاب ، بل المراد الشرك في العقيدة ، فهو أعمّ ، قد خرج منه الشرك العملي ، وقد مرّ تفصيل هذا البحث في المقدّمة ، وحينئذ يكون المراد الشرك في العقيدة ، وهو يعمّ الكتابي أيضاً ، لا سيّما لو تمسّكنا بالآيات التي تُشير إلى ذلك كقول اليهود : العزير ابن الله ، والنصارى ، المسيح بن الله ، وقوله سبحانه وتعالى : ( سُبْحانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) .
ثمّ قال السيّد (قدس سره) : وثالثاً : إنّ ظاهر الآيات الواردة في بيان أحكام الكفر والشرك ـ ومنها هذه الآية ـ أنّ لكلّ من المشرك وأهل الكتاب أحكاماً ما تخصّه ـ مثلا ـ لا يجوز للمشرك السكنى في بلاد المسلمين ويجب عليه الخروج منها ، وأمّا أهل الكتاب فلا بأس أن يسكنوا في بلادهم مع الالتزام بأحكام الجزية والتبعيّة للمسلمين ، فحكمهم حكم المسلمين ، وغير ذلك ممّا يفترق فيه المشرك عن أهل الكتاب ، ومنه تبرّيه سبحانه من المشركين دون أهل الكتاب ، ومعه كيف يمكن أن يقال إنّ المراد من المشركين في الآية أعمّ من أهل الكتاب ؟ فإنّ ظاهرها أنّ المشرك في مقابل أهل الكتاب .
أقول : الظاهر العموم للإطلاق ، ومجرّد احتمال التفرقة بين المشرك والكافر في المورد وإن كان في موارد اُخرى لا يكفي ـ لا سيّما إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ـ ثمّ سبحانه يتبرّأ من المشرك وكذلك من الكتابي كما في سورة الحمد في قوله تعالى : ( غَيْرِ المَغْضوبِ ) المفسّر باليهود ( وَلا الضَّالِّينَ ) المفسّر بالنصارى ، فتدبّر .
ثمّ قال السيّد (قدس سره) : فالإنصاف أنّ الآية لا دلالة لها على نجاسة المشركين فضلا عن دلالتها على نجاسة أهل الكتاب .
وهذا يعني ما قاله أبناء العامّة من القذارة الباطنية والعرضية ، لا العينيّة والظاهرية الذاتيّة ، إلاّ أنّ السيّد المحقّق (قدس سره) قال : إلاّ أ نّك عرفت أنّ نجاسة المشركين مورد التسالم القطعي بين أصحابنا ، قلنا بدلالة الآية أم لم نقل ، ـ وقد أشرنا إلى هذا المعنى في أوّل الفصل ـ كما أنّ نجاسة الناصب ومنكري الصانع ممّا لا خلاف فيه ، فلا بدّ من التكلّم في نجاسة غير هذه الأصناف الثلاثة من الكفّار ، ويقع الكلام أولا في نجاسة أهل الكتاب ، ثمّ نعقبه بالتكلّم في نجاسة بقيّة الأصناف . فيذكر الروايات الدالّة على النجاسة ومعارضتها بالدالّة على الطهارة وترجيحها والجمع بينهما .
فقال (قدس سره) ورفع الله مقامه[42] : المشهور بين المتقدّمين والمتأخّرين : نجاسة أهل الكتاب . بل لعلّها تعدّ عندهم من الاُمور الواضحة ، حتّى أنّ بعضهم ـ على ما في مصباح الفقيه ـ ألحق المسألة بالبديهيات التي رأى التكلّم فيها تضييعاً للعمر العزيز ، وخالفهم في ذلك بعض المتقدّمين وجملة من محقّقي المتأخّرين حيث ذهبوا إلى طهارة أهل الكتاب ، والمتّبع دلالة الأخبار ، فلنقُل ـ أوّلا ـ الأخبار المستدلّ بها على نجاسة أهل الكتاب ، ثمّ نعقبها بذكر الأخبار الواردة في طهارتهم ، ليرى أ يّهما أرجح في مقام المعارضة . فمنها : حسنة سعيد الأعرج ، ولا إشكال في سندها ، كما إنّ دلالتها تامّة ; لأنّ ظاهر السؤال من سؤرهم نظير السؤال عن سؤر بقية الحيوانات إنّما هو السؤال عن حكم التصرّف فيه بأنحاء التصرّفات ، وقد صرّح بالسؤال عن أكله وشربه في رواية الصدوق ـ ثمّ يذكر الروايات الاُخرى ويناقشها سنداً ودلالة ـ ثمّ قال : هذا تمام الكلام في الأخبار المستدلّ بها على نجاسة أهل الكتاب ، وقد عرفت المناقشة في أكثرها ، ولكن في دلالة بعضها على المدّعى غنىً وكفاية ، بحيث لو كنّا وهذه الأخبار لقلنا بنجاسة أهل الكتاب لا محالة ، إلاّ أنّ في قبالها عدّة روايات معتبرة فيها صحاح وغير صحاح دلّت بصراحتها على طهارتهم ، وإليك نصّها ، فمنها : صحيحة العيص بن القاسم ... ومفهومها عدم جواز مؤاكلتهم إذا كان من طعامهم أو لم يتوضؤوا ، ومن ذلك يظهر أنّ المنع حينئذ مستند إلى نجاسة طعامهم أو نجاسة أبدانهم العرضية الحاصلة من ملاقاة شيء من الأعيان النجسة كلحم الخنزير وغيره ... وكيف كان فالصحيحة بصراحتها دلّت على طهارة أهل الكتاب بالذات وجواز المؤاكلة معهم في طعام المسلمين إذا توضّؤوا ـ أي غسلوا ـ إذ لولا طهارتهم لم يكن وجه لجواز مؤاكلتهم سواء توضّؤوا أم لم يتوضّؤوا . وعليه فيكون المنع عن المؤاكلة من طعامهم مستنداً إلى نجاستهم العرضية لا محالة . ثمّ يذكر الروايات الاُخرى الدالّة على ذلك كما مرّ . ثم قال : وبعد ذلك لا بدّ من ملاحظة المعارضة بينها وبين الأخبار الواردة في نجاستهم . فنقول : مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين حمل أخبار النجاسة على الكراهة ، لأنّ الطائفة الثانية صريحة أو كالصريحة في طهارتهم ، والطائفة الاُولى ظاهرة في نجاسة أهل الكتاب لأنّ العمدة في تلك الطائفة موثّقة سعيد الأعرج أو حسنته المشتملة على قوله (عليه السلام) : « لا » ، وصحيحة علي بن جعفر المتضمّنة لقوله (عليه السلام) : « فيغسله ثمّ يغتسل » ، وهما كما ترى ظاهرتان في النجاسة وقابلتان للحمل على الاستحباب والكراهة ، وأ مّا الطائفة الثانية التي منها صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة ، فهي كالصريح في أنّ النهي عن مؤاكلة أهل الكتاب تنزيهي وليست بحرام ، فتدلّ على طهارتهم بالصراحة ، ومعه لا مناص من رفع اليد عن ظاهر الاُولى بصراحة الثانية كما جرى على ذلك ديدن الفقهاء (قدس سرهم) في جميع الأبواب الفقهية عند تعارض النص والظاهر ـ لأنّ النصّ من العلم ، والظاهر من الظنّ ، والظنّ حجّة فيما لم يكن العلم كما هو واضح ـ ومن هنا ذهب صاحب المدارك والسبزواري (قدس سرهما) إلى ذلك وحملا الطائفة الاُولى على الكراهة واستحباب التنزّه .
إلاّ أنّ معظم الأصحاب لم يرضوا بهذا الجمع ، بل طرحوا أخبار الطهارة ـ على كثرتها ـ وعملوا على طبق الطائفة الثانية . والمستند لهم في ذلك ـ على ما في الحدائق (ومرّ تفصيله) ـ أمران : الأوّل : دعوى أنّ أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله عزّ من قائل : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، وأخبار النجاسة موافقة له ، وقد بيّنا في محلّه أنّ موافقة الكتاب من المرجّحات ، و (يدفعه) : ما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً من منع دلالة الآية المباركة على نجاسة المشركين فضلا عن نجاسة أهل الكتاب . وثانيهما : أنّ أخبار النجاسة مخالفة للعامّة لأنّ معظم المخالفين لولا كلّهم يعتقدون طهارة أهل الكتاب ، وقد ورد في روايات أئمتنا (عليهم السلام) الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من المتعارضين ، ومقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة أهل الكتاب وحمل أخبار الطهارة على التقيّة ـ ويذكر السيّد هجوم صاحب الحدائق على من لم يذهب إلى ذلك في هذا المقام ـ ثمّ يقول : ولا يخفى أنّ رواياتنا وإن تضمّنت الأمر بعرض الأخبار الواردة على مذهب المخالفين والأخذ بما يخالفه ، إلاّ أ نّه يختصّ بصورة المعارضة ، وأين التعارض بين قوله (عليه السلام)(لا) في أخبار النجاسة ، وبين تصريحه (عليه السلام) بالكراهة والتنزيه في نصوص الطهارة ؟ فهل ترى من نفسك أ نّهما متعارضان ؟ فإذا لم يكن هناك معارضة ، فلماذا تطرح نصوص الطهارة على كثرتها ؟ ثمّ يدفع حمل الأخبار على التقيّة في مقام الحكم وفي مقام العمل ، فراجع . ثمّ يقول : وعلى الجملة إنّ القاعدة تقتضي العمل بأخبار الطهارة وحمل أخبار النجاسة على الكراهة واستحباب التنزّه عنهم ، كما إنّ في نفس الأخبار الواردة في المقام دلالة واضحة على ارتكاز طهارة أهل الكتاب في أذهان المتشرّعة في زمانهم (عليهم السلام) ، وإنّما كانوا يسألونهم عن حكم مؤاكلتهم أو غيرها لأ نّهم مظنّة النجاسة العرضية ... فيذكر السيّد الروايات الدالّة على ذلك ، ثمّ قال : ـ وبذلك ظهر أنّ طهارة أهل الكتاب كانت ارتكازية عند الرواة إلى آخر عصر الأئمّة (عليهم السلام) ، وإنّما كانوا يسألونهم عمّا يعمله أهل الكتاب أو يساوره من أجل كونهم مظنّة النجاسة العرضية ، ومن هنا يشكل الإفتاء على طبق أخبار النجاسة ، إلاّ أنّ الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل ، لأنّ معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين على نجاسة أهل الكتاب فالاحتياط اللزومي ممّا لا مناص عنه في المقام .
أقول : ولمثل هذا الإستيحاش من مخالفة معظميّة الأصحاب أو المشهور أو مخالفة الإجماعات المنقولة أو المتواترة نرى كثيراً من الفقهاء من يتوقّف عن الإفتاء بالصّراحة في مخالفة المشهور ، إلاّ من كان كابن إدريس الحلي ، فإنّه يحاول أن يكسر الطوق ، ولا يخاف من لومة اللاّئم وهجمة الناقم ، وكثيراً ما يحارب أمثال هؤلاء في حياتهم ، لحجاب المعاصرية من قبل خصومهم ، إلاّ أ نّه بعد رحلتهم ، فإنّهم يذكرون بتبجيل واحترام وتقديس ، حتّى يوسم ابن إدريس بفحل الفحول ، وللحروب رجالها .
هذا ولتعميم الفائدة وترسيخ المعنى والتحليق في الأجواء العلمية مع عبائر علمائنا الأعلام ، لا بأس أن أذكر ما قاله الشيخ عبد النّبي العراقي (قدس سره)[43] ، بعد أن ذكر الآية والروايات الدالّة على النجاسة ونجاسة أهل الكتاب ، قال : وإن أمكن المناقشة في دلالة بعضها ، لكنّ العمدة أنّ في مقابل تلك الأخبار عدّة أخبار دالّة على الطهارة ، وهي أكثر عدداً منها ، وأصحّ سنداً منها ، وأوضح دلالة منها ، ولا غرو علينا في نقل نبذة منها ـ فينقل بعض الروايات التي ذكرنا معظمها حسب التتبّع ـ فيقول : إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في طهارتهم ، هذا ولكن مع قطع النظر عن المناقشة في سند البعض أو الدلالة المذكورة في كتب الأصحاب ، إنّ تلك الأخبار الدالّة على الطهارة كما أشرنا ، وإن كانت أكثر وأوضح دلالة من الدالّة على النجاسة ، لكنّه لا بدّ أن تحمل على التقيّة ، إذ مذاهب العامّة برمّتهم على الطهارة ، فحينئذ لو بني على المعارضة ، فلا بدّ من الأخذ بأخبار النجاسة وطرح أخبار الطهارة من جهات عديدة :
الاُولى : أ نّها موافقة لمذاهب العامّة ، وأخبار النجاسة مخالفة لهم برمّتهم ، حتّى أ نّهم في أغلب المسائل قد اختلفوا فيها ، وفي تلك المسألة لم أجد فيهم مخالفاً ، لا قبل اتّفاقهم على المذاهب الأربعة ولا بعدهم .
أقول : أوّلا : إنّما يؤخذ في الأخبار المتعارضة بما يخالف العامّة ـ حسب الأخبار العلاجية ـ فيما لا يمكن الجمع العرفي بينها ، فإنّه يرجع حينئذ إلى المراجحات الداخلية أو الخارجية ، ومنها ما يوافق كتاب الله ، ومنها ما يخالف العامّة ، فإنّ الرشد في خلافهم ، أمّا إذا أمكن الجمع ، فالجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، فحينئذ يرجع إلى الجمع ، لا سيّما لو كان عليه شاهداً من الكتاب أو السنّة أو العقل أو الإجماع ، وما نحن فيه قد جمعنا بين الأخبار المتعارضة كما مرّ تفصيله ، فلا مجال للرجوع إلى المرجّحات ، ومن ثمَّ عند التساوي نقول بالتساقط والرجوع إلى الاُصول العملية ، أو بالتخيير على اختلاف المباني ، كما هو في محلّه في علم اُصول الفقه . وثانياً : عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود ، فإنّه يدّعي أ نّه لم يجد فيهم مخالفاً ، والحال قد مرّ علينا في الفصل الأوّل اختلاف القوم أيضاً في نجاسة الكفّار أو طهارتهم وإن كان المشهور عندهم الثاني ، فتأمّل .
ثمّ قال الشيخ المحقّق : والثانية : أنّ أخبار النجاسة موافق للكتاب كما عرفت بأ نّه ناطق بالنجاسة ، وأخبار الطهارة مخالفة للكتاب .
أقول : قد ذكرنا بالتفصيل أنّ المراد من المشرك عابد الصنم ومن كان منكراً للاُلوهية بالأولوية ، وأ مّا أهل الكتاب فقد خرج بالدليل باعتبار الروايات الدالّة على ذلك ، هذا أوّلا . وثانياً : لقد مرّ علينا الإشكالات الخمسة على الاستدلال بالآية الشريفة ، لا سيّما خامسها ، حيث من الصعب الذبّ عنه ، فيلزم إجمال الاستدلال ، ومعه لا يمكن أن يتمسّك به على نجاسة الكفّار ذاتاً . وثالثاً إنّما تكون أخبار النجاسة في خصوص الكتابي موافق للكتاب لو ثبت دخوله تحت عنوان المشرك في الآية بالخصوص ، وأنّى لكم إثبات ذلك فدونه خرط القتاد كما مرّ .
ثمّ قال : والثالثة : أنّ أخبار النجاسة هو المشهور وأخبار الطهارة شاذّ نادر .
أقول : سبحان الله ، فإنّه ينقض كلامه في نفس الصفحة وقبل سطور حيث قال : (إنّ تلك الأخبار الدالّة على الطهارة كما أشرنا وإن كانت أكثر وأوضح دلالة من الدالّة على النجاسة) فإذا كانت أكثر يا هذا ، كيف تكون شاذّة ونادرة ؟ !
هذا أوّلا ، وثانياً : ربّ مشهور لا أصل له ، كما إنّ الشهرة الفتوائية ليست بحجّة ، كما إنّه في مقام التعارض يلزم أن يؤخذ قوله (عليه السلام) : « خذ ما اشتهر بين أصحابك » قبل الرجوع إلى مخالفة العامّة ، أضف إلى ذلك ، أ نّه يمكن الجمع العرفي كما ذكرنا بحمل أخبار النجاسة على التنزيه والكراهة ، ومعه لا مجال للرجوع إلى المرجّحات ، فإن الجمع مهما أمكن أولى .
ثمّ قال : والرابعة : موافقة الاحتياط ، والطهارة مخالفة له .
أقول : ربّما الاحتياط في ترك الاحتياط كما لو لزم العسر والحرج ، سيّما فيما لو اضطرّ إلى مراودة أهل الكتاب في بلادهم ، فليس كل احتياط واجب إلاّ مع العلم الإجمالي ، نعم الاحتياط العقلي فإنّه حسنٌ على كلّ حال ، ولكن ما لم يستوجب الوسوسة والعسر والحرج ، ثمّ الكلام في إثبات أصل الحكم الشرعي التوقيفي التعبّدي ، ومثل هذا الاحتياط لا دليل عليه ، سوى الاستحسانات العقلية التي لا دليل عليها .
ثمّ في الوجه الخامس يستعمل الشيخ كصاحب الحدائق اُسلوباً خطابياً حماسيّاً ، وكأ نّه في مقام الخطابة ، وبظنيّاته يريد أن يُثير الانتفاضة في نفوس الجماهير ، على أنّ أخبار الطهارة مخالفة للإجماع ، والحال ليس كذلك كما مرّ بيانه بالتفصيل فلا نعيد ، إلاّ أ نّه نذكر ما قاله في الوجه الخامس ، حتّى يعرف المطالع كيف إنّ بعض الأعلام يستعمل الاُسلوب الخطابي في مقام البرهان والاستدلال ، فيقول (قدس سره) : والخامسة : أنّ أخبار الطهارة مخالفة للإجماع ، بل مخالفة لتواتر الإجماعات ، بل مخالفة لضرورة المذهب ، كما عرفت عن حاشية المدارك ، وأخبار النجاسة موافقة لها ، بل لم يوجد القائل بالطهارة بين الإمامية ـ اُنظر هذا الإدّعاء الكبير ولا تعجب ! ! ـ وعليه تلك الأخبار الدالّة على الطهارة قد أعرض عنها الأصحاب فلا يشملها دليل الحجّية حتى يقع التعارض ، فلا تعارض مع أخبار النجاسة حتى يحتاج إلى ملاحظة المرجّحات ، ـ إسمع هذا الاُسلوب الخطابي ـ أترى أنّ هؤلاء أعلام الدين واُمناء الرحمن وأولياء أيتام آل محمّد (صلى الله عليه وآله) وعمد السماوات ونوّاب الحجّة (عليه السلام) وخلفاء الرحمة بنصّ الرسول لم يقفوا على تلك الأخبار ، ولم يطّلعوا عليها مع أ نّها بواسطتهم وصلت إلينا ، وعليه فتلك الأخبار الدالّة على الطهارة بأيّ مكانة كانت سنداً ودلالة لا اعتبار بها لإعراض المذهب عنها ، وقد أشرنا بأ نّه ليس في المذهب مخالف أصلا حتّى أنّ الذي نسب إليه الخلاف أيضاً كلامه في مقام آخر ، لا النسبة ، بل كلّ واحد يتكلّم في شيء غير مرتبط بالمقام حتّى لو كان له ربط أيضاً يكون من جهة اُخرى ، ككون الماء قليلا ، وإنّه يرى عدم انفعاله ، أو ذكر في صدر كلامه وبعده ما يدلّ أنّ القائل يريد شيئاً آخر كالشيخ ، وكيف كان لا يعتنى بخلاف من خالف على فرض وجوده ، سبقه الإجماعات ولحقهم كذلك ، فالحقّ أنّ أهل الكتاب من الكفّار كسائر الفرق .
ونقول : بل الحقّ أ نّهم خرجوا بالدليل وليس كسائر الفرق .
ثمّ قال : وأمّا المجوس فهل أ نّهم من أهل الكتاب أم لا ؟ فيه خلاف . والحقّ كما عليه المشهور : أ نّهم من أهل الكتاب ، ولا ينافي في كونهم كذلك مع كونهم مشركين بعد ارتفاع كتابهم كاليهود والنصارى ، ثمّ يذكر المصنّف حكم رطوبات الكافر وأجزائه سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لا ، وأ نّها محكومة بالنجاسة مطلقاً ، ثمّ قال : هذا وإنّي بعد ذلك ظفرت بطرفة شيء في رسالة بعض من لا حظّ له من العلم في طهارة أهل الكتاب من أعظم الدليل على طهارتهم جواز تزويج الكتابية ـ كما أشار إلى ذلك سيّدنا الخوئي (قدس سره) ـ وجواز اتّخاذها ظئراً وجواز إعارتهم الثوب وأثاث البيت ثمّ لبسه بعد الاسترداد بدون غسل ، وجواز مخالطتهم كما عن الأئمّة (عليهم السلام) وخواصّهم من الخاصّة والعامّة مع قضاء العادة بابتلائهم بمشاورتهم ، وحكم قضاء العادة ببقاء ما في أيديهم عند الملاقاة ، ومن جواز تغسيل الكتابي للميّت المسلم عند فقد المماثل والمحرم ، وجواز أخذ الطعام بنصّ الكتاب ، إلى غير ذلك من الخطابيات . ثمّ ينقض هذه الوجوه بما لا يشفي الغليل حيث لا برهان ولا دليل ، إنّما وقع فيما نسب إلى غيره من الخطابيات ، فراجع .
هذا وقد ظهر ممّا ذكرنا طهارة الكتابي وإن كان الأحوط الاجتناب عنه ، ومثل هذا الاحتياط يقول به كثير من أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين ومتأخّريهم ، كالسيّد الطباطبائي (قدس سره)[44] ، فقال : والنصوص المعتبرة بنجاسة أهل الكتاب مستفيضة وبفحواها يستدلّ على نجاسة غيرهم من أصناف الكفّار ، إلاّ أ نّها معارضة بروايات اُخر معتبرة الأسانيد ، لكنّها موافقة للتقيّة مخالفة للإجماعات المحكيّة والشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً ، بل إجماع البتّة ، كيف لا ويعدّ نجاستهم عوامّ العامّة والخاصّة فضلا من فضلائهم من خصائص الإمامية ، فحملها على التقيّة متعيّن البتّة مع إشعار بعض أخبار الطهارة بها ، ففي الحسن : « أمّا أنا فلا أدعوه ولا اُواكله وإنّي لأكره أن اُحرّم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم » ، ويؤيّده مصير الاسكافي إليها ، ثمّ يذكر السيّد المخالفين للإجماع ويبرّر مخالفتهم كما مرّ تكراراً ومراراً ، على أنّ مخالفة المفيد لنا في الغريّة غير معلومة لذكره الكراهة وظهورها في المعنى المصطلح في زمانه غير معلوم ، فيحتمل الحرمة ، وكذا مخالفة العماني ـ ابن أبي عقيل ـ لتصريحه بطهارة أسآرهم ، ويحتمل إرادة ماء القليل من السؤر ، كما قيل إنّه المصطلح بين الفقهاء من لفظ السؤر حينما ذكروه ، وأمّا الشيخ (الطوسي) في النهاية فعبارته فيها صريحة في النجاسة ، وإن أتى بعدها بما ربّما ينافيها ، لكنّها مأوّلة بتأويلات غير بعيدة تركن النفس إليها ، بعد إرادة الجمع بينه وبين العبارة الصريحة في النجاسة ، وعلى تقدير مخالفة هؤلاء المذكورين لا يمكن القدح في الإجماعات المستفيضة المحكية بخروجهم البتة كما مرّ غير مرّة ، وحيث قد عرفت انحصار أدلّة نجاسة الكفّار في الإجماع وفحوى الأخبار ... انتهى موضع الحاجة من كلامه .
لكنّ حمل روايات الطهارة على التقيّة مردود كما مرّ بيانه بالتفصيل ، كما إنّ مخالفة الإجماع المدركي لا يقدح ، إلاّ أ نّه يبقى الاستيحاش منه والتخوّف ، لا سيّما إذا كان مقبولا ومنقولا في كلّ طبقات الفقهاء ـ كما في ما نحن فيه ـ فكيف يجرأ الفقيه أن يُفتي بالصراحة خلاف المئات بل الاُلوف من الفقهاء الأعلام وأصحابنا الكرام ، فلا بدّ أن يخضع أمام هذا الحشد الهائل ، ويقول بالاحتياط كما ذهبنا إليه ، بعد القول بطهارة أهل الكتاب .
وممّن قال بطهارتهم من القدماء الشيخان ـ الطوسي والمفيد عليهما الرحمة ـ والقديمان ـ ابن الجنيد وابن أبي عقيل ـ ومن المتأخّرين صاحب المدارك والمحدّث الجليل الكاشاني في الوافي والمفاتيح ، والمحقّق الخراساني في الجزء الأوّل من (اللمعات النيّرة في شرح تكملة التبصرة) ، إلاّ أ نّه صرّح في آخر كلامه بعد تقوية أدلّة الطهارة أنّ الفتوى على خلافهم جسارة وجرأة ، والاحتياط طريق النجاة . والشيخ علي بن الحسين العاملي في توفيق المسائل على ما حكي عنه ، والسيّد الحكيم كما جاء في رسالة الإسلام العدد 201 تحت عنوان فتاوى تهمّك فقال : الكتابي طاهر إذا كان طاهراً من النجاسات التي يساورها ـ كالبول والمني والدم والخنزير وغيرها ـ والشيخ يوسف الشاهرودي في مدارك العروة ، والشيخ محمّد رضا آل ياسين في بلغة الراغبين ، والسيّد محسن الأمين العاملي في الدرّ الثمين وحاشية التبصرة ، والسيّد عبد الحسين نور الدين صاحب الكلمات الثلاث ، وصدر الدين الصدر ، والسيّد محمّد تقي آل بحر العلوم ، وحكي القول بالطهارة عن السيّد عبد الأعلى السبزواري ، والشيخ محمّد صالح الجزائري في رسالته الخطّية ، والسيّد محسن آل طاهر الموسوي في البيان في الحجّة والبرهان ، والشيخ عباس الصفائي القمي في شرحه الخطّي على العروة الوثقى .
ويقول الشيخ محمّد جواد مغنية[45] : قد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد : الشيخ محمّد رضا آل ياسين في النجف الأشرف ، والسيّد صدر الصدر في قم ، والسيّد محمّد محسن الأمين في لبنان ، قد أفتوا جميعاً بطهارة الكتابي وأسرّوا بذلك إلى من يثقون به ، ولم يعلنوا خوفاً من المهوّسين ، وأنا على يقين بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة ، ولكنّهم يخشون أهل الجهل ... وقد حكى الشيخ حسن بن الشهيد الثاني عن والده : أنّ روايات الطهارة أوضح دلالة ، ثمّ قال : إنّ روايات الطهارة واضحة الدلالة ، والأصل معها عضد قوي .
والمحقّق الأردبيلي[46] ، بعد أن ذكر أخبار الباب والإجماع على النجاسة ، قال : وبالجملة ، لو لم يتحقّق الإجماع فالحكم بنجاسة جميع الكتابيين والمرتدّين والخوارج والغلاة والنواصب من إشكال .
ومن القائلين بطهارة الكتابي سيّدنا اللنگرودي[47] في كتابه « لبّ اللباب في طهارة أهل الكتاب » .
ومن القائلين سيّدنا الخوئي[48] ، كما مرّ تفصيل ذلك ، وإن قال : ويشكل الإفتاء على طبق أخبار النجاسة ، إلاّ أنّ الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل ; لأنّ معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين على نجاسة أهل الكتاب ، فالاحتياط اللزومي ممّا لا مناص عنه في المقام . ولكن لو كان من المرتكز عند أصحاب الأئمّة طهارتهم كما أشار صاحب مجمع البيان إلى ذلك ، وإن كان سؤالهم باعتبار ما يمارسونه من النجاسات كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، فيكون اشتهار القول بنجاستهم أمر حادث في عصر الغيبة الكبرى ، فلم تكن الشهرة متّصلة بزمنهم (عليهم السلام) حتّى تكون حجّة ، وكيف يتوجّه إلى القول بالنجاسة بمجرّد اشتهاره عند المتقدّمين والمتأخّرين ، ويرفع اليد عن الأخبار الظاهرة والصريحة على طهارة أهل الكتاب ؟ ثمّ عمل المشهور ليس جابراً لضعف الخبر مطلقاً ، كما هو ثابت في محلّه .
فلا قيمة للشهرة كما لا أثر للإجماع فإنّه غير ظاهر ، فضلا عن كون النجاسة أمراً بديهياً ضرورياً ـ كما قيل ـ عند فقهاء أصحابنا الإمامية ، فبعد ذهاب ثلّة من القدماء وجملة من المتأخرين إلى طهارتهم ، كيف يدعى الإجماع على نجاستهم ؟ ! أضف إلى أ نّه من الإجماع المدركي المظنون الذي لا يغني من الحقّ شيئاً .
كما إنّ مسألتنا كمسألة اشتهار نجاسة ماء البئر وانفعاله ووجوب نزح المقدّرات عند وقوع شيء من النجاسات ، مع أ نّه اشتهر عند المتأخّرين خلاف ذلك بعدم الانفعال واستحباب نزح المقدّرات ، فإجماعهم في مسألة البئر كان يستند إلى الإجماع والشهرة لما عندهم من المستندات من الروايات الدالّة بظاهرها على وجوب النزح ، وكذلك القول بنجاسة أهل الكتاب لم يكن تعبّدياً ، إنّما استناداً إلى ظاهر الكتاب والسّنة ، وهو كما ترى .
فاجتهاد القدماء في فهمهم نجاسة ماء البئر بالملاقاة ووجوب النزح من خلال الأخبار ، لم يكن حجّة على من تأخّر عنهم ، فاستظهر المتأخّرون من أخبار الباب عدم النجاسة ، واستحباب النزح بعد أن تجرّأ أحدهم في فتح باب المخالفة ، إلى أن اشتهرت الطهارة في عصرنا هذا ، فكذلك ما نحن فيه ، ولا يعني أنّ اُولئك الأوائل قد قلّدوا القدماء حتّى يكون ذلك قدحاً بهم ، بل من شدّة الاحتياط كان لا يجرأ على مخالفة المشهور بما يخطر على باله ، وبما يفهمه من الأدلّة .
وممّا يدلّ على طهارة الكتابي ـ كما مرّ ـ جواز استمتاع الكتابية بالنكاح المنقطع وملك اليمين ، وجواز اتّخاذها ظئراً ، وجواز تغسيل الكتابي أو الكتابية للميّت المسلم أو المسلمة عند فقد المماثل والمحرم ، وجواز اشتراط ضيافة مارّة العساكر على أهل الذمّة ، وغير ذلك ممّا تدلّ بوضوح على طهارتهم ، لأنّ أمثال تلك الاُمور يستلزمها المسّ واللمس برطوبة ، وإلاّ فإنّه يلزم الحمل على الفرد النادر الذي هو بحكم المعدوم .
وقد ناقشنا الأدلّة الدالة على نجاستهم وثبت عدم تماميّتها في ذلك ، وبهذا تمّ المطلوب من القول بطهارة أهل الكتاب ذاتاً وإن كان الأحوط الاجتناب عنهم .
[1]الوسائل 6 : 340 ، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 6 .
[2]بحار الأنوار 100 : 56 ، طبع طهران .
[3]الأنعام : 121 ، ويوسف : 106 .
[4]آل عمران : 111 ـ 112 .
[5]ثمّ ذكرنا الروايات الدالّة بظاهرها على نجاسة أهل الكتاب ، إلاّ أ نّه ذكرنا مناقشتها وعدم دلالتها على ذلك ، ومعارضتها بما هو أوضح دلالة ، وإنّ طهارة أهل الكتاب كان عند الرواة مفروغاً عنه ، إنّما السؤال في طهارتهم العرضية من جهة ملاقاتهم وعدم اجتنابهم الخمر ولحم الخنزير وما شابه ، ولولا ذلك لكان السؤال لغواً من قبل الرواة .
[6]سورة المائدة ، الآية 5 .
[7]الممتحنة : 10 .
[8]البقرة : 221 .
[9]راجع : الوسائل ، الجزء 1 ، باب ما يحرم بالكفر ونحوه . وكذلك المجلّد الثالث والسابع . وراجع تفسير الميزان 2 : 203 .
[10]الوسائل ، الجزء 1 ، باب من أبواب من ما يحرم بالكفر ونحوه . والجزء 5 ، باب 7 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه .
[11]الوسائل ، الجزء 15 ، الباب 76 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 1 ـ 4 .
[12]قرب الإسناد : 39 و 62 .
[13]المبسوط 2 : 38 .
[14]الوسائل ، الجزء 10 ، الباب 19 من أبواب غسل الميّت .
[15]الوسائل 2 : 1019 ، الباب 14 ، الحديث 5 .
[16]المصدر نفسه : الحديث 6 .
[17]المصدر نفسه : الحديث 8 .
[18]الوسائل ، الجزء 17 ، الباب 18 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث 3 .
[19]معجم رجال الحديث 19 : 28 .
[20]قال سيّدنا الخوئي (قدس سره) : نعم ، الظاهر أ نّه ثقة ، وذلك لأنّ صفوان قد شهد بأنّ كتاب موسى ابن بكر ممّا لا يختلف فيه أصحابنا . وقد روى محمّد بن يعقوب بسنده عن ابن سماعة قال : دفع إليّ صفوان كتاباً لموسى بن بكر عن علي بن سعيد عن زرارة ، قال (صفوان) : هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا .
[21]الوسائل 2 ، 1020 ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 10 .
[22]الوسائل 2 : 1020 ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 11 .
[23]الوسائل 16 : 385 ، الباب 54 من كتاب الأطعمة والأشربة ، الحديث 4 .
[24]الوسائل 16 : 385 ، الباب 54 ، الحديث 3 .
[25]راجع ذلك في الوسائل 16 : الباب 51 ـ 54 من كتاب الأطعمة والأشربة .
[26]مفاتيح الشرايع 1 : 70 .
[27]الأعراف : 190 .
[28]المائدة : 5 .
[29]الوسائل 3 : 519 .
[30]النهاية : 52 ، طبع وانتشار قدس ـ قم .
[31]جامع المدارك في شرح المختصر النافع 1 : 201 ، طبع مؤسسة إسماعيليان ـ قم .
[32]مدارك الأحكام 2 : 295 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم .
[33]النهاية : 586 .
[34]التوبة : 31 .
[35]الحبل المتين : 99 .
[36]ذخيرة المعاد : 150 .
[37]الحدائق الناضرة 5 : 169 .
[38]مستمسك العروة الوثقى 1 : 370 ، طبعة مكتبة السيّد النجفي العامّة ـ قم .
[39]الوسائل ، كتاب الطهارة ، الباب 73 من أبواب النجاسات .
[40]الوسائل ، الباب 2 ـ 8 من أبواب ما يحرم بالكفر من كتاب النكاح ، وباب 13 من أبواب المتعة .
[41]التنقيح 2 : 43 .
[42]التنقيح 2 : 45 .
[43]المعالم الزلفى 1 : 339 .
[44]رياض المسائل 1 : 85 ، الطبعة الحجرية .
[45]فقه الإمام الصادق 1 : 34 .
[46]مجمع الفائدة 1 : 322 .
[47]من مشايخنا في الرواية دام ظله وشافاه الله وعافاه .
[48]التنقيح 3 : 56 .
![]() |
![]() |
![]() |