الإشكال  الخامس

الخامس : ربما يقال أنّ النَجَس ـ بفتحتين ـ والنَجِس ـ بفتحة وكسرة ـ بمعنىً واحد ، أو أ نّه يحمل المصدر على الذات للمبالغة ، إلاّ أ نّه عند صدور الآية الشريفة ونزولها لا يدرى ماذا كان معنى النجس ـ بفتحتين ـ ، فلا دليل لنا على أ نّه المراد من النجس هو القذارة الظاهرية والعينيّة كالكلب ، بل يحتمل أن يكون المراد القذارة المعنوية ، كما وعليها القرينة فيما نحن فيه ، فإنّه لو كان المراد القذارة العينيّة ، فإنّها لا تضرّ إدخالها في الحرم الشريف ، فمنديل ملطخ بدم يجوز إدخاله في الحرم ، ما دام لم ينجس المسجد ولم يوجب هتك حرمته .

وأ مّا القذارة المعنوية فلتصويرها مجال ، فإنّ هؤلاء المشركين لا يعرفون صاحب البيت ولا يعتقدون به ، فكيف يقربوا المسجد الحرام وبيت الله المقدّس ؟

فتدلّ الآية حينئذ على النجاسة الحكميّة والمعنوية .

وربما هذا الإشكال لا يمكن الذبّ عنه ، ويمكن تقريره بوجه آخر ، وهو : إنّ الآية لا تدل على ّالنجاسة الذاتية ، وإن ذهب المشهور إلى ذلك ، على أنّ النجس مصدر ، ولا يحمل على الذات إلاّ بنحو الادّعاء والتجوّز كزيد عدل ، وإنّ المشركين عين النجاسة ، بمعنى القذارة ـ أي المعنى اللغوي ـ والشارع قد تصرّف في بعض المصاديق كالكلب المعلّم فإنّه عند العرف لا يعدّ قذراً ، ولكنّ الشارع جعله نجساً وحكم عليه بالقذارة خلافاً للعرف ، كما أنّ المخاط عند العرف قذراً ولكنّ الشارع حكم بطهارته ، فالشارع يتحكّم في المصاديق والمفاهيم العرفية كما في البيع والزّنا ، فالمشرك عند الشارع قذر فاستعمل في معناه اللغوي ، إلاّ أ نّه بتصرّف من الشارع ، فاُشكل عليه بأنّ النجاسة المعنوية والخبث الباطني ليس بمعنى النجاسة الذاتية ، وصحيح أنّ الشارع من حقّه أن يتدخّل في تحديد المفاهيم والمصاديق العرفية
كما في البيع ، ولكنّ القذارة عند العرف على قسمين :

فتارة قذر خارجي كالغائط والبول ، واُخرى معنوي ليس له وجود خارجي ، ففي استعمال أهل اللغة : نجّسته الذنوب واستقذرته المعاصي ، فإنّ النجاسة والقذارة هنا ليست حسيّة ، بل هي معنوية وباطنية ، والمشركون نجس بالمعنى الثاني أي القذارة الباطنيّة ، ويدلّ عليها ذيل الآية الشريفة ( فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ )[1] ، فمن كان قذراً في المعنى والباطن فإنّه لا يدخل المسجد الحرام الذي هو محلّ الطيّبين ، وهذا إذا لم يكن هو الصريح أو الظاهر فإنّه محتمل على كلّ حال ، فلا يؤخذ بالآية الشريفة .

وربما يجاب أنّ المنافق أشدّ من الكفر كما ورد في كثير من الروايات ، والحال المنافق يدخل المسجد الحرام ، فتأمل .

عود  على  بدء :

من الآيات التي استدلّ بها على نجاسة الكفّار قوله تعالى : ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ )[2] .

أشار إلى هذا المعنى المحقّق السبزواري[3] ، إلاّ أ نّه قال : وفيه نظر ، لأ نّا لا نسلّم أنّ الرجس بمعنى النجس لغةً وعرفاً ، ولم يثبت كونه حقيقة شرعية فيه ، قال المحقّق : لا يقال : الرّجس العذاب رجوعاً إلى أهل التفسير ، لأ نّا نقول : حقيقة اللفظ يعطي ما ذكرناه فلا يستند إلى مفسّر برأيه ، ولأنّ الرجس اسمٌ لما يكره ، فهو يقع على موارده بالتواطؤ فيحمل على الجميع عملا بالإطلاق ، وفيه نظر . فإنّ كون حقيقة اللفظ معطيّة لما ذكره محلّ تأمّل ، فإنّ الرجس لغةً يجيء لمعان ، منها : القذر والعمل المؤدّي إلى العذاب والشكّ والعقاب والغضب والمأثم ، وكلّ ما استقذر من عمل ، وإثبات أ نّه حقيقة في البعض مجاز في غيره ، يحتاج إلى دليل ، مع ما قيل من أنّ المتبادر من سوق الآية إرادة الغضب والعذاب كما ذكره أكثر المفسّرين على أنّ النجس بالمعنى الشرعي ليس من جملة تلك المعاني ، فلا ينفع الاشتراك المعنوي ، سلّمنا ، لكنّ إطلاقه على ما يكره لا يقتضي وجوب حمله على جميع موارده على سبيل العموم ، لأنّ صدق المطلق لا يقتضي صدق جميع أفراده ، انتهى كلامه .

وجاء في مدارك الأحكام[4] : واحتجّ عليه ـ على نجاسة الكفّار ـ بقوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ )[5] والإضمار ـ بتقدر ذو كما مرّ ـ خلاف الأصل ، والإخبار عن الذات بالمصادر شائع إذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : رجل عدل .

وقوله تعالى : ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ )[6] ثمّ قال : لا يقال : الرجس : العذاب رجوعاً إلى أهل التفسير ، لأ نّا نقول : حقيقة اللفظ تعطي ما ذكرناه ، فلا يستند إلى مفسّر برايه ، ولأنّ الرجس إسم لما يكره ، فهو يقع على موارده بالتواطؤ فيحمل على الجميع عملا بالإطلاق[7] .

وفيهما معاً نظر : أمّا الأوّل ، فلأنّ النجس لغة المستقذر ، قال الهروي في تفسير الآية : يقال لكلّ مستقذر نجس . والمستقذر أعمّ من النجس بالمعنى المصطلح عليه
عند الفقهاء ، والواجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية عند انتفاء المعنى الشرعي ، وهو غير ثابت هنا ، سلّمنا أنّ المراد بالنجس المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، لكنّ اللازم من ذلك نجاسة المشرك خاصّة وهو أخصّ من المدّعى ـ لقد ذكرنا هذا الإشكال وأجبنا عنه بوجوه كما مرّ ـ إذ من المعلوم أنّ من أفراد الكافر ما ليس بمشرك قطعاً ، فلا يصحّ لإثبات الحكم على وجه العموم .

وأ مّا الثاني ، فلأنّ الرجس لغةً يجيء لمعان : منها : القذر والعمل المؤدّي إلى العذاب والشكّ والعقاب والغضب . والظاهر أنّ إطلاقه على سبيل الاشتراك اللفظي ، فيكون مجملا محتاجاً في تعيين المراد منه إلى القرينة ، على أنّ المتبادر من سوق الآية إرادة الغضب والعذاب كما ذكره أكثر المفسّرين .

وقوله : إنّ الرجس اسمٌ لما يكره فهو يقع على موارده بالتواطؤ فيحمل على الجميع عملا بالإطلاق ، غير جيّد . أمّا أولا : فلأنّ إطلاق اسم الرجس على ما يكره لم يذكره أحد ممّا وصل إلينا كلامه من أهل اللغة ، ولا نقله ناقل من أهل التفسير ، فلا يمكن التعلّق به . وأمّا ثانياً : فلأنّ إطلاقه على ما يكره لا يقتضي وجوب حمله على جميع موارده التي يقع عليها اللفظ بطريق التواطؤ ، لانتفاء ما يدلّ على العموم . انتهى موضع الحاجة من كلامه .

ومن الآيات التي يستدلّ بها على نجاسة الكفّار ـ كما جاء ذلك في كتاب جامع أخبار الشيعة[8] ـ قوله تعالى : ( سَيَحْلِفونَ بِاللهِ لَكُمْ إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضوا عَنْهُمْ فَأعْرِضوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأواهُمْ جَهَنَّم جَزاء بِما كانوا يَكْسِبونَ )[9] .


[1]التوبة : 28 .

[2]الأنعام : 125 .

[3]ذخيرة المعاد :150 ، الطبعة الحجرية .

[4]مدارك الأحكام 2 : 294 .

[5]التوبة : 28 .

[6]الأنعام : 125 .

[7]المعتبر 1 : 69 .

[8]جامع أخبار الشيعة 2 : 112 ، المطبعة العلمية ـ قم .

[9]التوبة : 95 .

الفصل السادس