النظرة الرابعة

الانسان في صورته العرفانيّة

 

إنّ تعريف الانسان ـ ذلک الكائن الذي لا يزال مجهولاً في حقيقته ـ في علم المنطق أنّه (حيوان ناطق ) فانّه من الحدّ التام والتعريف بجنسه القريب (الحيوان ) وفصله (الناطق ) الذي يميّزه عن الجمادات وعن باقي الحيوانات ، إلّا انّه عند الحكماء والعرفاء يعرّف بتعريف آخر، فانّ فيه قوّة لو تبدّلت ووصلت إلى فعليّة لكان إنساناً حقيقيّاً، وإلّا فانّه في عداد الأنعام بل أضلّ ـ كما في التعبير القرآني ـ وتلک القوّة إتصافه بالصفات الالهيّة والربوبيّة بتهذيب النفس وترويض الروح وصيقلتها بمحاسن الأخلاق ومكارمها ومحامد الآداب في الأقوال والأفعال .

والأخلاق ـ جمع الخُلق بالضم ـ تعني السيرة والصورة الباطنيّة للانسان والتي تعني (الملكة الراسخة التي توجب صدور الفعل بسهولة من دون روَيّة وتفكّر) والأدب من منشآت الأخلاق ، وانّه عبارة (عن حسن الهيئة الظاهريّة بحسن شرعي أو عقلي أو فطري أو عقلاني ) والأخلاق منها حسنة ومنها قبيحة ، والإنسان إمّا أن يكون مؤدّباً في أفعاله وأقواله أو غير مؤدّب .

فالانسان في واقعه لو اتّصف بالصفات الالهيّة ، وتخلّق بأخلاق الله سبحانه خالقه وصانعه وربّه ، واستخلفه في أسمائه الحسنى وصفاته العليا كان إنساناً حقيقةً ، وإلّا فكما قال أميرالمؤمنين علي  7: «فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان »[1]  وكما قال سبحانه وتعالى : (أُولئِکَ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِکَ هُمُ

الْغَافِلُونَ )[2] .

 

وما كان أُخوة يوسف  7 حين سرقوه وألقوه في غيابة الجبّ إلّا كالذئاب الضارية كما رأى ذلک يوسف في منامه قبل أن يأخذوه بخديعة (أن يرتع ويلعب معنا).

وما حشر الانسان يوم القيامة إلّا بصورة ملكاته النفسيّة ، ممّا يحمل من الفضائل أو الرذائل (وَإِذَا آلْوُحُوشُ حُشِرَتْ )[3]  فربّ إنسان يحشر يوم القيامة

بصورة حيوان ضاري أو وحشي كأسد، وربّما يراه في دنياه من كان من أهل الكشف والشهود، وهذا ما يسمّى بتجسيم الأعمال كما ذهب إليه بعض الأعلام :

قال الصدر الشيرازي في كتابه (الشواهد الربوبيّة : ص183): (الأعمال مستتبعة للملكات في الدنيا بوجه والملكات مستتبعة للأعمال في الآخرة بوجه ).

فالانسان إذا كان في الدنيا نوع من الأنواع وله مصاديق ـ كما في علم المنطق ـ فانّه في الآخرة وفي عالم المعنى : جنس له أنواع ، وهي الصور الجوهريّة المتحقّقة من الملكات النفسيّة التابعة من صقع النفس .

فكلّ واحد ما بعد الطبيعة ومتافيزيقياً له صورته المتبلورة من ملكاته الراسخة في النفس ، وأمّا علم الانسان وعمله ، فانّ العلم يشخّص روحه ، وأمّا عمله فانّه يشخّص بدنه الاُخروي ، وإن كان يحشر بروحه وبدنه الدنيوي معاً، لما نعتقد من المعاد الروحاني والجسماني كما ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة .

وأمّا العرفان ، فانّه وإن إختلف الأعلام في تعريفه وبيان حدوده لغة ومصطلحاً، إلّا انّه ما نذهب إليه يعني (التوحيد الصمدي ) وهو كمال السير والسلوک العلمي والعملي وبلوغ الغاية القصوى لمن كان عارفاً بالله، فيكون مثله كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي اُكُلها كلّ حين باذن ربّها.

عن الإمام الرضا عن أميرالمؤمنين علي  8: «طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ، ولم ينس ذكر الله بما تسمع اُذناه ، ولم يحرّك صدره بما أعطى غيره »[4] .

 

قال أميرالمؤمنين علي  7: «بالاخلاص يكون الخلاص » وقال  7 : «أخلص تنل ».

قال الامام الصادق  7 في قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[5]

«ليس يعني أكثرهم عملاً، وإنّما الاصابة خشية الله والنيّة الصادقة ، ثمّ قال : الابقاء على العمل حتّى يخلص أشدّ من العمل ، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدک أحد إلّا الله عزّوجلّ »[6] .

 

قال الامام الباقر 7: «ما أخلص عبد الايمان بالله أربعين يوماً ـ أو قال : ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً ـ إلّا زهده الله في الدنيا وبصّره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه »[7] .

 

فالعمدة في العبادات النيّة ، والعمدة في النيّات الإخلاص ، والاخلاص له مراتب سبع :