أصول (70)

14 جمادى الثانية

1440 هـ

يقع الكلام بعد بيان مفهوم التعارض بين الدليلين وما يخرج عن التعارض بإعتبار الجمع الدلالي العرفي كما مرّ تفصيل ذلك في بحث من بحوث التعارض كما تعرض اليد الاعلام وهو القول بإنقلاب النسبة وعدمه، ذلك فيما إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين، فهل تلاحظ الظهورات الأولية لكل من الأدلة المتعارضة، أو لابدّ من ملاحظة الإثنين منها، وعلاج التعارض بينهما أولاً، ثم تلاحظه النسبة بين أحدهما والثالث المعارض له، وهكذا في المعارضات الأخرى إن كانت، ولازمه إنقلاب النسبة من العموم من وجه والتعارض في مورد الإجتماع إلى العموم المطلق في المرحلة الثانية أو بالعكس كما سيتبين إن شاء الله تعالى ذهب شيخنا الأعظم قدس سره في فرائد الأصول (2: 794 ـ 800) وصاحب الكفاية المحقق الخراساني في كفاية الأصول: (ص452) إلى عدم إنقلاب النسبة، بل يلاحظ التعارض بين أكثر من دليلين بإعتبار الظهورات الأدلية لكل دليل، وذلك لعدم الدليل والوجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الدليل الآخر على الدليل الثالث، فإنّه ترجيح بلا مرجّح.

وذهب بعض الأعلام المعاصرين إلى صحة إنقلاب النسبة، ولا بأس من التعرض إلى مقولته حتى يتبين تحرير محلّ النزاع وما هو المختار.

فذهب إلى أنّ تحقيق هذا البحث وإنقلاب النسبة يستلزم ذكر مقدمتين.

المقدمة الأولى: اعلم ان لكل لفظ مستعمل ومفيد له دلالات ثلاث:

الأولى: الإرادة التصويرية: وهي كون دلالة اللفظ يوجب بنفسه إنتقال الذهن إلى المعنى مباشرةً، وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللفظ والمتكلّم بل اللفظ بنفسه يوجب إنتقال الذهن إلى المعنى ولو مع العلم بعدم إرادة اللافظ والمتكلم ذلك كما لو كان نائماً ومسلوب الإرادة أو نصب قرينة على إرادة غير هذا المعنى المتبادر إلى الذهن في الوهلة الأولى، كما لو قال: رأيت أسداً يرمي فإنّه أراد الرجل الشجاع ولكن بمجرد سماع كلمة الأسد فإنّ المخاطب المستمع ينتقل ذهنه إلى معنى الأسد بحسب الوضع السادس وهو الحيوان المفترس، فهذه الدلالة بعد العلم بالوضع من قبل الواضع فإنّها غير منفكة عن اللفظ أبداً، ولا تحتاج إلى شيء من الأشياء، وهي التي تسمى عند المشهور من علماء المنطق بالدلالة الوضعية في مقابل الدلالة العقلية والدلالة الطبعيّة، والمراد من الوضع هو عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى، بنحو ينتقل الذهن بمجرد سماع اللفظ إلى معناه الموضوع له، وسمى البعض هذه الدلالة الوضعية بالدلالة الانسيّة لأنس الذهن بالمعنى لكثرة استعمال اللفظ فيه وليس بالوضع بما هو وضع فتأمل، فإنّ الإنس أنما كان نتيجة الوضع.

الثانية: الإراة الإستعمالية أي دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالإرادة الإستعمالية بمعنى أنها المتكلم أراد تعميم هذا المعنى واستعمله فيه، وهذه الدلالة تسمى عند المشهور وعند القوم بالدلالة التصديقية والقسم الأول وعند العلم المعاصر بالدلالة الوضعية، وأيّاً كان فإن هذه الدلالة تتوقف على إحراز كون المكلم إنّما هو يصدد التفهيم للمعنى من لفظه وأراد ذلك ومع الشك في إرادته فإنّه ليس للفظ هذه الدلالة التصديقية أو الوضعية، هذا فضلاً عمّا لو علم بعدم الإرادة للمعنى، كما لو علم كون المتكلم نائماً فلا ارادة له في الإستعمال وكذلك فيما إذا نصب قرينة متصلة على خلاف مراده الإستعمالي، فإن كلمة (يرمي) في قولنا: (رأيت أسداً يرمي) فإنها لا تكون دالةً أن المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس كما هو الظاهر.

الثالثة: الإرادة الجدية، وهي دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالإرادة الجدية وهو القسم الثاني من الدلالة التصديقية، وهي موضوع الحجية في ظواهر كلام المتكلم والمسمى بحجية الظواهر إلّا أنه بدليل بناء العقلاء بما هم عقلاء ويعبّر عنها تارة باصالة الجد وأخرى باصالة الجهة.

ثم هذه الدلالة والإرادة الجدية متوقفة على عدم نصب قرينة متصلة على تدل على خلاف المراد الإستعمالي للمتكلم بناء على التطابق بين المراد الإستعمالي والمراد الجدّي.

مثال ذلك: إذا قال اكرم العلماء من دون نصب قرينة متصلة فإنّ عموم العلماء يشمل كل أفراد العلماء سواء العادل أمر الفاسق فمراده الإستمالي العموم وكذلك المراد الجدي لاصالة التطابق بين الإرادتين.

وأمّا إذا قال: اكرم العلماء إلّا الفساق منهم، فإنّ المراد الإستعمالي والجدي هو اكرام العدول منهم دون الفساق هذا في القرينة المتصلة وأمّا القرينة المنفصلة فقد اختلف الأعلام في ذلك فقيل كالمتصلة وإن لم تكن مانعة عن تعلق الإرادة الإستعمالية كالقرينة المتصلة، إلّا أنها كاشفة عن عدم تعلق الإرادة الجدية، فكما أنّ الإستثناء في قولنا: (أكرم العلماء إلّا الفساق منهم) قرينة على عدم كون المولى بصدد تصميم جميع الأفراد في هذا الإستعمال العام، فكذلك قولنا: (لا تكرم العالم الفاسق )فإنه يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية من المولى  باكرام جميع أفراد العلماء في قوله (اكرم العلماء) فهذه الدلالة الثالثة التصديقية من القسم الثاني متوقفة على عدم نصب القرينة المتصلة والمنفصلة.

المقدمة الثانية: أن التعارض بين دليلين لا يتحقق إلّا بإعتبار كون كل واحد منهما حجة في نفسه ودليلاً يؤخذ به لولا وجود المعارضة، ولولا هذا المعنى وهو الحجية في نفس الدليل بما هو دليل لما وقعت المعارضة بين الدليلين، إذ لا تعارض بين ما هو حجة وبين ما هو ليس بحجة كما هو واضح.

وحينئذٍ بضم هذه المقدمة إلى المقدمة الأولى يلزم صحة القول بإنقلاب النسبة، بيان ذلك يأتينا إن شاء الله تعالى.