2 شعبان

1435

عطفاً على ما سبق:

في بيان مقولة الفاضل المقداد في معرفة الجهة في القبلة بأنّ جهة الكعبة للبعيد عن مكة المكرمة هو أن يؤخذ خط مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب الإعتداليين ويمرّ بسطح الكعبة، فالمصلي حينئذٍ يفرض من نظره خطاً يخرج إلى ذلك الخط فإن وقع على زاوية قائمة تذال هو الإستقبال ـ وهو الإستقبال الموضوعي بالجملة وإن كان على زاوية حادة أو منفرجة فهو إلى ما بين المشرق والمغرب والذي يحكم فيه أيضاً بصحة صلاته عند العجز عن إستقبال الكعبة وجهتها، وهو الإستقبال الحكمي وفي الجملة. فأشكل السيد الحكيم+ بأن لازم ذلك أن يكون جميع البلاد الشمالية بالإضافة إلى مكة قبلتها نقطة الجنوب لا مجاله ودائماً حيث أنّ الخط الخارج من موقف ونظر المصلي إلى الخط المذكور ما بين المشرق والمغرب القاطع له على زوايا قوائم بإعتبار كروية الأرض هو خط نصف النهار المفروض ما بين نقطتين الجنوب والشمال، إلّا أنّ السيد الخوئي أشكل على ذلك بأنّ هذا الإشكال في غير محلّه لأنّ موقف المصلّي عند توجهه نحو الخط الإعتدالي المذكور لا يلزم أن يكون نقطة الشمال، بل يمكن أن يقف ما بين الشمال والشرق، أو بينه وبين الغرب ، أي في خطوط طولية على غرار خط نصف النهار، فإنّه لما لكل مصلٍ مشرقاً ومغرباً بإعتبار موقفه بإعتبار خطه الأفقي كذلك له خط نصف النهار والزوال بإعتبار موقفه ومكانه ويحصل من تقاطع الخط الخارج منه مع الخط الإعتدالي بين المشرق والمغرب زوايا قوائم كما لا يخفى، وغاية ما في الأمر أن بعض الزوايا يكون ضلعاها حينئذٍ أكبر من الأُخرى، فلا ينحر حصول الزاوية القائمة بما فرضه المعترض ـ السيد الحكيم ـ كي تكون القبلة نقطة الجنوب دائماً وهذا ظاهر.

ولكن يبدو لي أنّه وقع خلط بين العلمين بين خط النصف النهاري المساوي والخط النصف النهاري الأرضي، فإنّه بناء على الأول فلا مجالة يمرّ الخط الزوالي وخط نصف النهار بنقطتي الجنوب والشمال وتقسم السماء إلى قسمين مشرقي ومغربي كما صغرنا دائرة نصف النهار بإعتبار موقفه ومكانه، فعلى الأول تكون من يقف في الشمال مطلقاً فإنّه عند إلتقاء خطه العمودي نصف النهار مع خطه الأفقي الخط الإعتدالي بين المشرق والمغرب فإنّه لا مجالة سيكون نقطة الجنوب أمامه دائماً، ولكن على القول الثاني فإنّه لا ينحصر أن تكون النقطة المقابلة هي الجنوب دائماً بل عند إستقبالها تكون هي التالية وإلا فربما تكون النقاط المقابلة في الشرق الجنوب أو الغرب الجنوبي، فتأمل.

ثم السيد الخوئي أشكل على الفاضل المقداد أولاً: بأنّ ما ذكره من تفسير الجهة مما لا دليل عليه، فإنّ الإجتزاء في تحقق الإستقبال الموضوعي بالإتجاه نحو أي نقطة من نقاط الخط الإعتدالي على نحو تتشكل منه زاوية قائمة لم يثبت بدليل شرعي، فهي دعوى البرهان وعلى مدعيها الإثبات.

وثانياً: الإشكال من جهة إطلاق العلامة والكيفية فلا يصدق في كل البلاد، فإنّ الإتجاه نحو الخط الإعتدالي بنحو الزاوية القائمة قد يستوجب الإنحراف عن الكعبة بدرجات كثيرة، بحيث لو كانت الزاوية حادة ومنفرجة كان الإتجاه إلى الكعبة أقرب ممّا لو كانت قائمة، ولا سيما في البلدان الواقعة في شرقي مكة أو غربها كجدة ونحوها، التي تكون قبلتها نقطة المشرق والمغرب تحقيقاً، فحينئذ ما ذكره الفاضل لا يطرد في كل البلاد وعلى سبيل الإطلاق كي لا يعني.

وخلاصة الكلام: إنّ ما ذكر من الوجوه في تفسير الجهة لا يرجع غلى محصل ولا يمكن المساعدة عليها، فتأمل.

مقولة المحقق الأردبيلي:

ذهب المحقق الإردبيلي إلى أنّ الخطابات الشرعية نزلت منزلة المتفاهم العرفي، فالمراد من جهة الكعبة للبعيد هو مطلق التوبة والإستقبال، فلا يعتبر الدقة في أمر القبلة، وما حالة الإكحال أمر السيد عبده بإستقبال بلد من البلدان النائية فإنّه لا ريب في كونه ممتثلاً لأمر الولي بمجرد التوبة إلى تلك البلد من غير حاجة إلى رصد وعلامات وغيرها، من القضايا المختصة معرفتها بأهل الهيئة وأصحاب الفن، والمستبعد والممتنع تكليف عامة الناس من النساء والرجال ـ خصوصاً السواد منهم بما عند علماء الهيئة الذي لا يعرفه إلّا الأوحدي منهم هذا أولاً.

وثانياً: إختلاف العلامات التي تصبوها وخلو النصوص عن التصريح بشيء من ذلك في مقام السؤال والجواب بين الإمام× وأصحابه عدا مورد واحد وهو في الجدي من الأمر تارة بجعله بين الكتفين وأخرى بجعله على اليمين، فإنّه يرد عليه أولاً: إختلاف التعبير، وثالثاً ضعف السند وإرساله، وثالثاً أنه مختص بالعراقي، والحال نحتاج إلى معرفة القبلة في أمور كثيرة أخرى عن الصلاة التي هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، وربما من مصاديق الرّد أن تكون فاسدة لترك الإستقبال فيها، ورابعاً: توجه أهل مسجد قبا في أثناء الصلاة لمّا بلغهم إنحراف النبي ‘ وغير ذلك من الشواهد الدالة على أنّ الدين سهلة سمحة فما يدل على شدة التوسعة في أمر القبلة وعدم وجوب شيء مما ذكره هؤلاء المدققون في معرفة جهة القبلة.

وأشكل السيد الحكيم على ذلك وذهب إلى أنّ الإكتفاء فيه بمجرد التوبة في الجملة ممنوع إلّا أن تقوم قرينة عليه، نعم تعذر العلم بها غالباً أو صعوبته يجوز الرجوع غلى الظن، ولكن هذا لا يكون دليلاً على التوسّع في معنى الإستقبال كما عند المقدس الأردبيلي+.

والله سبحانه أعلم، ولكن السيد الخوئي قوى ما ذهب إليه المحقق الأردبيلي وقال أنّه في غاية الجودة والمتانة، ولكنها لا تقتضي الإلتزام بالجهة والإستنباط غلى الساعة العرفية، بل القبلة بالإضافة إلى الجميع هي نفي الكعبة تحقيقاً، ومع ذلك لا تبتني على التدقيق ولا تتوقف على رصد وعلامات كما ذكره+، بل هي بمثابة بعرفها كل أحد ويسهل تناولها للجميع ثم يذكر الوجه في ذلك نقلاً عن إستاذه المحقق النائيني+ فراجع (المستمسك: 5: 180 ـ 182) و(التنقيح: 11: 430 ـ 432).

وفي نهاية المطاف يذهب سيدنا الخوئي+ إلى أنّ التحصل من جميع ما ذكر: أنّ الكعبة بعينها قبلة لعامة الناس سواء فيه القريب والبعيد كما تقتضيه ظواهر النصوص في الآيات والروايات وهذا على النحو الذي بينه وبين السيد الخوئي أمر يسهل شيء له للجميع من دون إنتمائه على التحقيق والتدقيق، فلا وجه للعدول عن مقتضى ظواهر النصوص إلى الجهة العرفية أو المسامحية التي لم يتضح المراد منها ولا دليل عليها، فلم نتعلق معنى محصلاً لشيء من ذلك، وراء ما ذكرناه كما عرفت بما لا نريد عليه، إنتهى كلامه.

رفع الله مقامه.

والمختار: أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة كمن كان في المسجد الحرام، وقبلة البعيد كفاية المحاذاة العرفية التسامحيّة، وأنّها تنفع مع البعيد والله العالم.